ج9.وج10.الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه
التأويل أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي
أولا: ج9. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه
التأويل أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي
" صفحة رقم 342 "
بالبيت فافعل ، فقال : ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
واحتبس عندهم فأرجف بأنهم قتلوه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لا نبرح
حتى نناجز القوم ، ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة وكانت سمرة . قال
جابر بن عبد الله : لو كنت أبصر لأريتكم مكانها . وقيل :
( 1046 ) كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالساً في أصل الشجرة وعلى ظهره
غصن من أغصانها . قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائماً على رأسه وبيدي غصن من
الشجرة أذب عنه . فرفعت الغصن عن ظهره ، فبايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا
يفروا ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أنتم اليوم خير أهل الأرض
) وكان عدد المبايعين ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين ، وقيل : ألفاً وأربعمائة ،
وقيل : ألفاً وثلثمائة ) فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ ( من الإخلاص وصدق الضمائر
فيما بايعوا عليه ) فَأنزَلَ السَّكِينَةَ ( أي : الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على
قلوبهم ) وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ( وقرىء : ( وآتاهم ) وهو فتح خيبر غب
انصرافهم من مكة . وعن الحسن : فتح هجر ، وهو أجلّ فتح : اتسعوا بثمرها زماناً )
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ( هي مغانم خيبر ، وكانت أرضاً ذات عقار
وأموال ، فقسمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عليهم ، ثم أتاه عثمان
بالصلح فصالحهم وانصرف بعد أن نحر بالحديبية وحلق .
" صفحة رقم 343 "
) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ
هَاذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (
الفتح : ( 20 ) وعدكم الله مغانم . . . . .
) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ( وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم
القيامة ) فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ ( المغانم يعني مغانم خيبر ) وَكَفَّ أَيْدِىَ
النَّاسِ عَنْكُمْ ( يعني أيدي أهل خيبر وحلفاؤهم من أسد وغطفان حين جاؤوا لنصرتهم
، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا . وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح ) وَلِتَكُونَ (
هذه الكفة ) لّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ ( وعبرة يعرفون بها أنهم من الله
تعالى بمكان ، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم . وقيل : رأى رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) فتح مكة في منامه ، ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وحي ، فتأخر ذلك
إلى السنة القابلة ، فجعل فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة ) وَيَهْدِيَكُمْ
صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( ويزيدكم بصيرة ويقيناً ، وثقة بفضل الله .
) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً (
الفتح : ( 21 ) وأخرى لم تقدروا . . . . .
) وَأُخْرَى ( معطوفة على هذه ، أي : فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى ) لَمْ
تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ( وهي مغانم هوازن في غزوة حنين ، وقال : لم تقدروا عليها
لما كان فيها من الجوالة ) قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ( أي قدر عليها واستولى
وأظهركم عليها وغنمكموها . ويجوز في ) أُخْرَى ( النصب بفعل مضمر ، يفسر ) قَدْ
أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ( تقديره : وقضى الله أخرى قد أحاط بها . وأما ) لَمْ
تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ( فصفة لأخرى ، والرفع على الابتداء لكونها موصوفة بلم تقدروا
، وقد أحاط بها : خبر المبتدأ ، والجرّ بإضمار رب . فإن قلت : قوله تعالى : )
وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ ( ( الفتح : 20 ) كيف موقعه ؟ قلت : هو كلام
معترض . ومعناه : ولتكون الكفة آية للمؤمنين فعل ذلك . ويجوز أن يكون المعنى :
وعدكم المغانم ، فعجل هذه الغنيمة وكف الأعداء لينفعكم بها ، ولتكون آية للمؤمنين
إذا وجدوا وعد الله بها صادقاً ، لأنّ صدق الإخبار عن الغيوب معجزة وآية ، ويزيدكم
بذلك هداية وإيقاناً .
) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الاٌّ دْبَارَ ثُمَّ لاَ
يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (
الفتح : ( 22 - 23 ) ولو قاتلكم الذين . . . . .
) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ ( من أهل مكة ولم يصالحوا . وقيل : من
حلفاء أهل خيبر لغلبوا وانهزموا ) سُنَّةَ اللَّهِ ( في موضع المصدر المؤكد ، أي :
سن الله غلبة أنبيائه سنه ، وهو قوله تعالى : ) لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( (
المجادلة : 21 ) .
" صفحة رقم 344 "
) وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ
مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيراً (
الفتح : ( 24 ) وهو الذي كف . . . . .
) أَيْدِيهِمْ ( أيدي أهل مكة ، أي : قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعد ما
خولكم الظفر عليهم والغلبة ، وذلك يوم الفتح . وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله ،
على أنّ مكة فتحت عنوة لا صلحاً . وقيل : كان ذلك في غزوة الحديبية لما روى
( 1047 ) أنّ عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) من هزمه وأدخله حيطان مكة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أظهر الله
المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت . وقرىء : ( تعملون ) بالتاء والياء .
) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ
مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ
مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ
مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ
تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (
الفتح : ( 25 ) هم الذين كفروا . . . . .
وقرىء : ( والهدي ) والهدى : بتخفيف الياء وتشديدها ، وهو ما يهدى إلى الكعبة :
بالنصب عطفاً على الضمير المنصوب في صدّوكم . أي : صدّوكم وصدّوا الهدى وبالجر
عطفاً على المسجد الحرام ، بمعنى : وصدّوكم عن نحر الهدى ) مَعْكُوفاً أَن
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( محبوساً عن أن يبلغ ، وبالرفع على : وصدّ الهدى . ومحله :
مكانه الذي يحل فيه نحره ، أي يجب . وهذا دليل لأبي حنيفة على أن المحصر محل هدية
الحرم . فإن قلت : فكيف حل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن معه وإنما نحر
هديهم بالحديبية ؟ قلت : بعض الحديبية من الحرم . وروى أن مضارب رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) كانت في الحل ، ومصلاه في الحرم . فإن قلت : فإذن قد نحر في الحرم ،
فلم قيل : ) مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( ؟ قلت : المراد المحل المعهود
وهو مني ) لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ ( صفة للرجال والنساء جميعاً . و ) ءانٍ ( بدل
اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في تعلموهم . والمعرة : مفعلة ، من عره بمعنى
عراه إذا دهاه ما يكره ويشق عليه . و ) يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( متعلق
بأن تطؤهم ، يعني : أن تطئوهم غير عالمين بهم . والوطء والدوس : عبارة عن الإيقاع
والإبادة . قال :
" صفحة رقم 345 "
وَوَطِئْتَنَا وَطْأَ عَلَى حَنَق
وَطْأَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهَرْمِ
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1048 ) ( وأن آخر وطأة وطئها الله بِوَجٍّ ) والمعنى : أنه كان بمكة قوم من
المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم ولا معروفي الأماكن : فقيل : ولولا
كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم ، فتصيبكم
بإهلاكهم مكروه ومشقة : لما كف أيديكم عنهم ، وحذف جواب ( لولا ) لدلالة الكلام
عليه . ويجوز أن يكون ) لَوْ تَزَيَّلُواْ ( كالتكرير للولا رجال مؤمنون ،
لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون ) لَعَذَّبْنَا ( هو الجواب . فإن قلت : أي معرة
تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون . قلت : يصيبهم وجوب الدية والكفارة ، وسوء قالة
المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والمأثم إذا جرى
منهم بعض التقصير . فإن قلت : قوله تعالى : ) لّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ
مَن يَشَاء ( تعليل لماذا ؟ قلت : لما دلت عليه الآية وسيقت له : من كف الأيدي عن
أهل مكة ، والمنع من قتلهم ؛ صوناً لمن بين أظهرهم من المؤمنين ، كأنه قال : كان
الكف ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته ؛ أي : في توفيقه لزيادة الخير والطاعة
مؤمنيهم . أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم ) لَوْ تَزَيَّلُواْ ( لو
تفرقوا وتميز بعضهم من بعض : من زاله يزيله . وقرىء : ( لو تزايلوا ) .
) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا
وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً (
الفتح : ( 26 ) إذ جعل الذين . . . . .
) إِذْ ( يجوز أن يعمل فيه ما قبله . أي : لعذبناهم أو صدوهم عن المسجد الحرام
" صفحة رقم 346 "
في ذلك الوقت ، وأن ينتصب بإضمار اذكر . والمراد بحمية الذين كفروا وسكينة
المؤمنين والحمية الأنفة والسكينة والوقار ما روى
( 1049 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزل بالحديبية بعثت قريش سهيل
بن عمرو القرشي وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الأخيف ، على أن يعرضوا على
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلى له قريش مكة من
العام القابل ثلاثة أيام ، ففعل ذلك ، وكتبوا بينهم كتاباً ، فقال عليه الصلاة
والسلام لعلي رضي الله عنه : ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ) ، فقال سهيل وأصحابه
: ما نعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللَّهم ، ثم قال : ( اكتب هذا ما صالح عليه
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أهل مكة ) فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله
ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله
أهل مكة ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( اكتب ما يريدون ، فأنا أشهد أني رسول الله
وأنا محمد بن عبد الله ، فهمَّ المسلمون أن يأبوا ذلك ويشمئزوا منه ، فأنزل الله
على رسوله السكينة فتوقروا وحلموا . و ) كَلِمَةَ التَّقْوَى ( بسم الله الرحمن الرحيم
ومحمد رسول الله : قد اختارها الله لنبيه وللذين معه أهل الخير ومستحقيه ومن هم
أولى بالهداية من غيرهم . وقيل : هي كلمة الشهادة . وعن الحسن رضي الله عنه : كلمة
التقوى هي الوفاء بالعهد . ومعنى إضافتها إلى التقوى : أنها سبب التقوى وأساسها .
وقيل : كلمة أهل التقوى . وفي مصحف الحرث بن سويد صاحب عبد الله : ( وكانوا أهلها
وأحق بها ) ، وهو الذي دفن مصحفه أيام الحجاج .
) لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ
لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً
قَرِيباً (
( 1050
الفتح : ( 27 ) لقد صدق الله . . . . .
رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد
دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا ، فقصّ الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا
وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) حق ، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث :
والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا
" صفحة رقم 347 "
المسجد الحرام ، فنزلت . ومعنى : ) صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا ( صدقه في
رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علواً كبيراً فحذف الجارّ وأوصل
الفعل ، كقوله تعالى : ) صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ( ( الأحزاب :
23 ) . فإن قلت : بم تعلق ) بِالْحَقِّ ( ؟ قلت : إمّا بصدق ، أي : صدقه فيما رأى
، وفي كونه وحصوله صدقاً ملتبساً بالحق : أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وذلك
ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص ، وبين من في قلبه مرض ، ويجوز أن
يتعلق بالرؤيا حالاً منها أي : صدقه الرؤيا ملتبساً بالحق ، على معنى أنها لم تكن
من أضغاث الأحلام . ويجوز أن يكون ) بِالْحَقِّ ( قسماً : إمّا بالحق الذي هو نقيض
الباطل . أو بالحق الذي هو من أسمائه . و ) لَتَدْخُلُنَّ ( جوابه . وعلى الأوّل
هو جواب قسم محذوف . فإن قلت : ما وجه دخول ) إِن شَاء اللَّهُ ( في أخبار الله عز
وجل ؟ قلت : فيه وجوه : أن يعلق عدته بالمشيئة تعليماً لعباده أن يقولوا في عداتهم
مثل ذلك ، متأدّبين بأدب الله ، ومقتدين بسنته . وأن يريد : لتدخلنّ جميعاً إن شاء
الله ولم يمت منكم أحداً ، أو كان ذلك على لسان ملك ، فأدخل الملك إن شاء الله .
أو هي حكاية ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه وقصّ عليهم . وقيل :
هو متعلق بآمنين ) فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ ( من الحكمة والصواب في تأخير
فتح مكة إلى العام القابل ) فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ ( أي من دون فتح مكة )
فَتْحاً قَرِيباً ( وهو فتح خيبر ، لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح
الموعود .
) هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (
الفتح : ( 28 ) هو الذي أرسل . . . . .
) بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ ( بدين الإسلام ) لِيُظْهِرَهُ ( ليعليه ) عَلَى
الدّينِ كُلّهِ ( على جنس الدين كله ، يريد : الأديان المختلفة من أديان المشركين
والجاحدين من أهل الكتاب : وقد حقق ذلك سبحانه ، فإنك لا ترى ديناً قط إلا
وللإسلام دونه العز والغلبة . وقيل : هو عند نزول عيسى حين لا يبقى على وجه الأرض
كافر . وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات . وفي هذه الآية تأكيد لما وعد من الفتح
وتوطين لنفوس المؤمنين على أنّ الله تعالى سيفتح لهم من البلاد ويقيض لهم من
الغلبة على الأقاليم ما يستقلون إليه من فتح مكة ) وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (
على أنّ ما وعده كائن . وعن الحسن رضي الله عنه : شهد على نفسه أنه سيظهر دينك .
" صفحة رقم 348 "
) مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ
اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ
مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (
الفتح : ( 29 ) محمد رسول الله . . . . .
) مُحَمَّدٌ ( إما خبر مبتدأ ، أي : هو محمد بن لتقدّم قوله تعالى : ) هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ( ( الفتح : 28 ) وإما مبتدأ ، ورسول الله : عطف بيان
. وعن ابن عامر أنه قرأ : رسول الله ، بالنصب على المدح ) وَالَّذِينَ مَعَهُ (
أصحابه ) أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( جمع شديد ورحيم .
ونحوه ) أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( (
المائدة : 54 ) ، ) وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( ( التوبة : 73 ) ، ) بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءوفٌ رَّحِيمٌ ( ( التوبة : 128 ) وعن الحسن رضي الله عنه : بلغ من تشدّدهم على
الكفار : أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس
أبدانهم ؛ وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه
، والمصافحة لم تختلف فيها الفقهاء . وأما المعانقة فقد كرهها أبو حنيفة رحمه الله
، وكذلك التقبيل . قال لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئاً من
جسده . وقد رخص أبو يوسف في المعانقة . ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا
التشدّد وهذا التعطف : فيتشدّدوا على من ليس على ملتهم ودينهم ويتحاموه ، ويعاشروا
إخوتهم في الإسلام متعطفين بالبر والصلة . وكف الأذى . والمعونة ، والاحتمال ،
والأخلاق السجيحة ووجه من قرأ : ( أشداء ، ورحماء ) بالنصب : أن ينصبهما على المدح
، أو على الحال بالمقدّر في ) مَعَهُ ( ، ويجعل ) تَرَاهُمْ ( الخبر ) سِيمَاهُمْ
( علامتهم . وقرىء : ( سيماؤهم ) وفيها ثلاث لغات : هاتان . والسيمياء ، والمراد
بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود ، وقوله تعالى : ) مّنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ( يفسرها ، أي : من التأثير الذي يؤثره السجود ، وكان كل من العليين :
عليّ بن الحسين زين العابدين ، وعليّ بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك ، يقال له :
ذو الثفنات ؛ لأنّ كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير . وقرىء
: ( من أثر السجود ) و ( من آثار السجود ) ، وكذا عن سعيد بن جبير : هي السمة في
الوجه . فإن قلت : فقد جاء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 349 "
:
( 1051 ) ( لا تعلبوا صوركم ) ، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً قد أثر في
وجهه السجود فقال : إن صورة وجهك أنفك ، فلا تعلب وجهك ، ولا تشن صورتك . قلت :
ذلك إذا اعتمد بجبهته على الأرض لتحدث فيه تلك السمة . وذلك رياء ونفاق يستعاذ
بالله منه ، ونحن فيما حدث في جبهة السجاد الذي لا يسجد إلا خالصاً لوجه الله
تعالى . وعن بعض المتقدّمين : كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ، ونرى أحدنا الآن
يصلي فيرى بين عينيه ركبة البعير ، فما ندري أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض وإنما
أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق . وقيل : هو صفرة الوجه من خشية الله . وعن الضحاك :
ليس بالندب في الوجوه ، ولكنه صفرة . وعن سعيد بن المسيب : ندى الطهور وتراب الأرض
. وعن عطاء رحمه الله : استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل ، كقوله :
( 1052 ) ( من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ) ) ذَلِكَ ( الوصف )
مّثْلُهُمْ ( أي وصفهم العجيب الشأن في الكتابين جميعاً ، ثم ابتدأ فقال : )
كَزَرْعٍ ( يريد : هم كزرع . وقيل : تم الكلام عند قوله : ) ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى
التَّوْرَاةِ ( ثم ابتديء : ( ومثلهم في الإنجيل كزرع ) ويجوز أن يكون ذلك إشارة
مبهمة أوضحت بقوله : ) كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ( كقوله تعالى : ) وَقَضَيْنَآ
إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( (
الحجر : 66 ) . وقرىء : ( الأنجيل ) بفتح الهمزة ) شَطْأَهُ ( فراخه . يقال : أشطا
الزرع إذا فرخ . وقرىء : ( شطأه ) بفتح الطاء . وشطاه ، بتخفيف الهمزة : وشطاءه
بالمدّ . وشطه ،
" صفحة رقم 350 "
بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها . وشطوه ، بقلبها واواً ) فَآزَرَهُ ( من
المؤازرة وهي المعاونة . وعن الأخفش : أنه أفعل . وقرىء : ( فأزره ) بالتخفيف
والتشديد ، أي : فشدّ أزره وقوّاه . ومن جعل ) ءازَرَ ( أفعل ، فهو في معنى
القراءتين ) فَاسْتَغْلَظَ ( فصار من الدقة إلى الغلظ ) فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
( فاستقام على قصبه جمع ساق . وقيل : مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات
الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبي بكر ،
فآزره بعمر ، فاستغلظ بعثمان ، فاستوى على سوقه بعليّ . وهذا مثل ضربه الله لبدء
أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوى واستحكم ، لأنّ النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) ، قام وحده . ثم قوّاه الله بمن آمن معه كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع
ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزرّاع . فإن قلت : قوله : ) لِيَغِيظَ
بِهِمُ الْكُفَّارَ ( تعليل لماذا ؟ قلت : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم
وترقيهم في الزيادة والقوّة ، ويجوز أن يعلل به ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
ءامَنُواْ ( لأنّ الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في
الدنيا غاظهم ذلك . ومعنى ) مِنْهُم ( البيان ، كقوله تعالى : ) فَاجْتَنِبُواْ
الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( ( الحج : 30 ) .
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( 1053 ) ( من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد فتح مكة ) .
" صفحة رقم 351 "
( سورة الحجرات )
مدنية ، وآياتها 18 ( نزلت بعد المجادلة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (
الحجرات : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . .
قدّمه وأقدمه : منقولان بتثقيل الحشو والهمزة ، مِنْ قَدَمَهُ إذا تقدّمه ، في
قوله تعالى : ) يَقْدُمُ قَوْمَهُ ( ( هود : 98 ) ونظيرهما معنى ونقلاً : سلفه
وأسلفه . وفي قوله تعالى : ) لاَ تُقَدّمُواْ ( من غير ذلك مفعول : وجهان ، أحدهما
: أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدّم . والثاني : أن لا يقصد قصد مفعول
ولا حذفه ، ويتوجه بالنهي إلى نفس التقدمة ، كأنه قيل : لا تقدموا على التلبس بهذا
الفعل ، ولا تجعلوه منكم بسبيل كقوله تعالى : ) هُوَ الَّذِى لاَ إِلَاهَ ( ( غافر
: 68 ) ويجوز أن يكون من قدّم بمعنى تقدّم ، كوجه وبين . ومنه مقدّمة الجيش خلاف
ساقته ، وهي الجماعة المتقدّمة منه . وتعضده قراءة من قرأ : ( لا تقدموا ) بحذف
إحدى تاءي تتقدموا ، إلا أن الأوّل أملأ بالحسن وأوجه ، وأشدّ ملاءمة لبلاغة
القرآن ، والعلماء له أقبل . وقرىء : ( لا تقدموا ) من القدوم ، أي لا تقدموا إلى
أمر من أمور الدين قبل قدومها ، ولا تعجلوا عليهما . وحقيقة قولهم : جلست بين يدي
فلان ، أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه ، فسميت الجهتان
يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً ، كما يسمى الشيء باسم غيره
إذا جاوره وداناه في غير موضع ، وقد جرت هذه العبارة هاهنا على سنن ضرب من المجاز
، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلاً . ولجريها هكذا فائدة جليلة ليست
" صفحة رقم 352 "
في الكلام العريان : وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر
من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة : والمعنى : أن لا تقطعوا أمراً
إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا إما عاملين بالوحي المنزل . وإما
مقتدين برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعليه يدور تفسير ابن عباس رضي الله
عنه . وعن مجاهد : لا تفتاتوا على الله شيئاً حتى يقصه على لسان رسوله . ويجوز أن
يجري مجرى قولك : سرني زيد وحسن حاله ، وأعجبت بعمرو وكرمه . وفائدة هذا الأسلوب :
الدلالة على قوّة الاختصاص ، ولما كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الله
بالمكان الذي لا يخفى : سلك له ذلك المسلك . وفي هذا تمهيد وتوطئة لما نقم منهم
فيما يتولوه من رفع أصواتهم فوق صوته : لأنّ من أحظاه الله بهذه الأثرة واختصه هذا
الاختصاص القوي : كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت ،
ويخافت لديه بالكلام . وقيل :
( 1054 ) بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلاً
وعليهم المنذر بن عمرو الساعدي ، فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل . إلا
الثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة ، فاعتزيا لهم إلى بني عامر
، لأنهم أعز من بني سليم ، فقتلوهما وسلبوهما ، ثم أتوا رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) فقال : ( بئسما صنعتم كانا من سليم ، والسلب ما كسوتهما ) فوداهما رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ونزلت ، أي : لا تعملوا شيئاً من ذات أنفسكم حتى تستأمروا
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن مسروق :
( 1055 ) دخلت على عائشة في اليوم الذي يشك فيه ، فقالت للجارية : اسقه عسلاً ،
فقلت : إني صائم ، فقالت : قد نهى الله عن صوم هذا اليوم . وفيه نزلت . وعن الحسن
:
" صفحة رقم 353 "
( 1056 ) أنّ أناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت ، وأمرهم رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) أن يعيدوا ذبحاً آخر . وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، إلا أن
تزول الشمس . وعند الشافعي : يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة . وعن
الحسن أيضاً : لما استقرّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة أتته الوفود
من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل ، فنهوا أن يبتدؤه بالمسألة حتى يكون هو المبتديء
وعن قتادة : ذكر لنا أنّ ناساً كانوا يقولون : لو أنزل فيه كذا لكان كذا ، فكره
الله ذلك منهم وأنزلها . وقيل : هي عامة في كل قول وفعل ؛ ويدخل فيه أنه إذا جرت
مسألة في مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يسبقوه بالجواب ، وأن لا يمشي
بين يديه إلا لحاجة ، وأن يستأني في الافتتاح بالطعام ) وَاتَّقَوْاْ ( فإنكم إن
اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهى عنها وعن جميع ما تقتضي مراقبة الله
تجنبه ، فإن التقيّ حذر لا يشافه أمراً إلا عن ارتفاع الريب وانجلاء الشك في أن لا
تبعة عليه فيه ، وهذا كما تقول لمن يقارف بعض الرذائل : لا تفعل هذا وتحفظ مما
يلصق بك العار . فتنهاه أوّلاً عن عين ما قارفه ، ثم تعم وتشيع وتأمره بما لو
امتثل فيه أمرك لم يرتكب تلك الفعلة وكل ما يضرب في طريقها ويتعلق بسببها ) إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ ( لما تقولون ) عَلِيمٌ ( بما تعملون ، وحق مثله أن يتقى ويراقب .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن
تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ (
الحجرات : ( 2 ) يا أيها الذين . . . . .
إعادة النداء عليهم : استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد ، وتطرية
الإنصات لكل حكم نازل ، وتحريك منهم لئلا يفترقوا ويغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به
عند حضور مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الأدب الذي المحافظة عليه تعود
عليهم بعظيم الجدوى في دينهم . وذلك لأنّ في إعظام صاحب الشرع إعظام ما ورد به ،
ومستعظم الحق لا يدعه استعظامه أن يألو عملاً بما يحدوه عليه . وارتداعاً عما يصده
عنه ،
" صفحة رقم 354 "
وانتهاء إلى كل خير ، والمراد بقوله : ) لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِىّ ( أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ
الذي يبلغه بصوت ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم ، وجهره باهراً
لجهركم ؛ حتى تكون مزيته عليكم لائحة ، وسابقته واضحة ، وامتيازه عن جمهوركم كشية
الأبلق غير خاف ، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم . وبقوله : ولا
تجهروا له بالقول : إنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من
رفع الصوت ، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم ، وأن تتعمدوا في
مخاطبته القول اللبين المقرّب من الهمس الذي يضادّ الجهر ، كما تكون مخاطبة المهيب
المعظم ، عاملين بقوله عز اسمه : ) وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ ( ( الفتح : 9 )
وقيل معنى : ) وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ (
لا تقولوا له : يا محمد ، يا أحمد ، وخاطبوه بالنبوّة . قال ابن عباس :
( 1057 ) لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ، والله لا
أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله ، وعن عمر رضي الله عنه :
( 1058 ) أنه كان يكلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كأخي السرار لا يسمعه حتى
يستفهمه /
( 1059 ) وكان أبو بكر إذا قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفد : أرسل
إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر : ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة
، لأنّ ذلك كفر ، والمخاطبون مؤمنون ، وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من
جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء ، فيتكلف الغض منه ، وردّه إلى
حدّ يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزيز والتوقير ، ولم يتناول النهى
أيضاً رفع الصوت الذي لا يتأذى به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو ما كان
منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدوّ أو ما أشبه
" صفحة رقم 355 "
ذلك ، ففي الحديث ، أنه قال عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم
الناس يوم حنين :
( 1060 ) ( اصرخ بالناس ) وكان العباس أجهر الناس صوتاً . يروى : أنّ غارة أتتهم
يوماً فصاح العباس يا صباحاه ، فأسقطت الحوامل لشدّة صوته . وفيه يقول نابغة بني
جعدة : زَجْرَ أَبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إِذَا
أَشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بِالْغَنَمِ
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه ، وفي قراءة
ابن مسعود ( لا ترفعوا بأصواتكم ) والباء مزيدة محذوّ بها حذر التشديد في قول
الأعلم الهذلي : رَفَعْتُ عَيْنِي بِالْحِجَا
زِ إِلى أُنَاسٍ بِالمَنَاقِبْ
وليس المعنى في هذه القراءة أنهم نهوا عن الرفع الشديد ، تخيلاً أن يكون ما دون
الشديد مسوغاً لهم ، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة ، واستجفاؤهم
فيما كانوا يفعلون . وعن ابن عباس :
( 1061 ) نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وكان في أذنه وقر ، وكان جمهوري الصوت ،
فكان إذا تكلم رفع صوته ، وربما كان يكلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيتأذى
بصوته . وعن أنس
( 1062 ) أن هذه الآية لما نزلت : فقد ثابت ، فتفقده رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) فأخبر بشأنه ، فدعاه ، فسأله فقال : يا رسول الله ، لقد أنزلت إليك هذه
الآية ، وإني رجل جهير
" صفحة رقم 356 "
الصوت ، فأخاف أن يكون عملي قد حبط ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( لست هناك ، إنك تعيش بخير وتموت بخير ، وإنك من أهل الجنة ) . وأمّا ما يروى عن
الحسن : أنها نزلت فيمن كان يرفع صوته من المنافقين فوق صوت رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، فمحمله والخطاب للمؤمنين : على أن ينهى المؤمنون ليندرج المنافقون
تحت النهي ، ليكون الأمر أغلظ عليهم وأشق . وقيل : كان المنافقون يرفعون أصواتهم
ليظهروا قلة مبالاتهم ، فيقتدي بهم ضعفة المسلمين . وكان التشبيه في محل النصب ،
أي : لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض . وفي هذا : أنهم لم ينهوا عن الجهر
مطلقاً ، حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر
مخصوص مقيد بصفة ، أعني : الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ،
وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوّة وجلالة مقدارها ، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن
رتبتها ) أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ( منصوب الموضع ، على أنه مفعول له ، وفي
متعلقه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بمعنى النهي ،
" صفحة رقم 357 "
فيكون المعنى : انتهوا عما نهيتهم عنه لحبوط أعمالكم ، أي : لخشية حبوطها على
تقدير حذف المضاف ، كقوله تعالى : ) يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( (
النساء : 176 ) والثاني : أن يتعلق بنفس الفعل ، ويكون المعنى : أنهم نهوا عن
الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط ، لأنه لما كان بصدد الأداء إلى الحبوط : جعل كأنه
فعل لأجله ، وكأنه العلة والسبب في إيجاده على سبيل التمثيل ، كقوله تعالى : )
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً ( ( القصص : 8 ) فإن قلت : لخص الفرق بين الوجهين . قلت
: تلخيصه أن يقدر الفعل في الثاني مضموماً إليه المفعول له ، كأنهما شيء واحد ، ثم
يصب النهي عليهما جميعاً صباً . وفي الأوّل يقدر النهي موجهاً على الفعل على حياله
، ثم يعلل له منهياً عنه . فإن قلت : بأي النهيين تعلق المفعول له ؟ قلت : بالثاني
عند البصريين ، مقدراً إضماره عند الأوّل ، كقوله تعالى : ) اتُونِى أُفْرِغْ
عَلَيْهِ قِطْراً ( ( الكهف : 96 ) وبالعكس عند الكوفيين ، وأيهما كان فمرجع
المعنى إلى أنّ الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل : وقراءة ابن
مسعود : ( فتحبط أعمالكم ) أظهر نصاً بذلك ؛ لأنّ ما بعد الفاء لا يكون إلا مسبباً
عما قبله ، فيتنزل الحبوط من الجهر منزلة الحلول من الطغيان في قوله تعالى : )
فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى ( ( طه : 81 ) والحبوط من حبطت الإبل : إذا أكلت
الخضر فنفخ بطونها ، وربما هلكت . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1063 ) وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حَبَطاً أو يُلِمُ ومن أخواته ، حبجت الإبل
) إذا أكلت العرفج فأصابها ذلك . وأحبض عمله : مثله أحبطه . وحبط الجرح وحبر : إذا
غفر ، وهو نكسه وتراميه إلى الفساد : جعل العمل السيء في إضراره بالعمل الصالح
كالداء والحرص لمن يصاب به ، أعاذنا الله من حبط الأعمال وخيبة الآمال .
" صفحة رقم 358 "
وقد دلت الآية على أمرين هائلين ، أحدهما : أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما
يحبط عمله . والثاني : أن في آثامه ما لا يدري أنه محبط ، ولعله عند الله كذلك ؛
فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشي في طريق شائك لا يزال يحترز ويتوقى ويتحفظ .
) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ
الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
عَظِيمٌ (
الحجرات : ( 3 ) إن الذين يغضون . . . . .
) امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( من قولك : امتحن فلان لأملا كذا
وجرب له ، ودرب للنهوض به . فهو مضطلع به غير وان عنه . والمعنى أنهم صبر على
التقوى ، أقوياء على احتمال مشاقها . أو وضع الامتحان موضع المعرفة ؛ لأنّ تحقق
الشيء باختباره ، كما يوضع الخبر موضعها ، فكأنه قيل : عرف الله قلوبهم للتقوى ،
وتكون اللام متعلقة بمحذوف ، واللام هي التي في قولك : أنت لهذا الأمر ، أي كائن
له ومختص به قال : أَنْتَ لَهَا أَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ الْبَشَر
أَعَدَّاءٌ مَنْ لِلْيَعْمُلاَتِ عَلَى الْوَجَى
وهي مع معمولها منصوبة على الحال . أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف
الصعبة لأجل التقوى ، أي لتثبت وتظهر تقواها ، ويعلم أنهم متقون ؛ لأن حقيقة
التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها . وقيل أخلصها للتقوى . من
قولهم : امتحن الذهب وفتنه ، إذا أذابه فخلص إبريزه من خبشه ونقاه . وعن عمر رضي
الله عنه : أذهب الشهوات عنها . والامتحان : افتعال ، من محنه ، وهو اختبار بليغ
أو بلاء جهيد . قال أبو عمرو : كل شيء جهدته فقد محنته . وأنشد : أَتَتْ رَذَايَا
بَادِياً كِلاَلُهَا
قَدْ مَحَنَتْ وَاضْطَرَبَتْ آطَالُهَا
قيل : أنزلت في الشيخين رضي الله عنهما ، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به
أخا السرار . وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم
" صفحة رقم 359 "
اسماً لأنّ المؤكدة . وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً . والمبتدأ :
اسم الإشارة ، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم ، وإيراد الجزاء
نكرة : مبهماً أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين
وقروا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من خفض أصواتهم ، وفي الإعلام بمبلغ عزة
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقدر شرف منزلته ، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب
الرافعون أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء .
) إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ
يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ
خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (
الحجرات : ( 4 ) إن الذين ينادونك . . . . .
والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام . ومن لابتداء الغاية
، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان . فإن قلت : فرق بين الكلامين بين ما تثبت فيه
وما تسقط عنه . قلت : الفرق بينهما أنّ المنادي والمنادى في أحدهما يجوز أن
يجمعهما الوراء ، وفي الثاني : لا يجوز لأنّ الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية .
ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد ، والذي يقول :
ناداني فلان من وراء الدار . لا يريد وجه الدار ولا دبرها ، ولكن أي قطر من
أقطارها الظاهرة كان مطلقاً بغير تعيين واختصاص ، والإنكار لم يتوجه عليهم من قبل
أنّ النداء وقع منهم في أدبار الحجرات أو في وجوهها ، وإنما أنكر عليهم أنهم نادوه
من البرّ والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض ، من غير قصد إلى جهة دون جهة .
والحجرة : الرقعة والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض ، من غير قصد إلى جهة دون جهة
. والحجرة : الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها ، وحظيرة الإبل تسمى
الحجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة ، وجمعها : الحجرات بضمتين ، (
والحجرات ) بفتح الجيم ، والحجرات بسكينها . وقرىء بهنّ جميعاً ، والمراد : حجرات
نساء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت لكل واحد منهنّ حجرة . ومناداتهم
من ورائها يحتمل أنهم قد تفرّقوا على الحجرات متطلبين له ، فناداه بعض من وراء هذه
، وبعض من وراء تلك ،
" صفحة رقم 360 "
وأنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها ، وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان
فيها ، ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولمكان حرمته .
والفعل وإن كان مسنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم ، وكان الباقون راضين
، فكأنهم تولوه جميعاً ، فقد ذكر الأصم : أنّ الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن
حابس . والإخبار عن أكثرهم بأنهم لا يعقلون : يحتمل أن يكون فيهم من قصد بالمحاشاة
. ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل ،
فإنَّ القلة تقع موقع النفي في كلامهم . وروي :
( 1064 ) أن وفد بني تميم أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقت الظهيرة وهو
راقد ، فجعلوا ينادونه : محمد اخرج إلينا ، فاستيقظ فخرج ونزلت :
( 1065 ) وسئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنهم فقال : ( هم جفاة بني تميم ،
لولا أنهم من أشدّ الناس قتالاً للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم ) فورود
الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى على الناظر : من بينات إكبار محل
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإجلاله : منها مجيئها على النظم المسجل على
الصائحين به بالسفه والجهل ، لما أقدموا عليه . ومنها لفظ الحجرات وإيقاعها كناية
عن موضع خلوته . ومقيله مع بعض نسائه . ومنها : المرور على لفظها بالاقتصار على
القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم . ومنها : التعريف باللام دون الإضافة . ومنها
: أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات
، تهوينا للخطب على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وتسلية له ، وإماطة لما
تداخله من إيحاش تعجرفهم وسوء أدبهم ، وهلم جرا : من أوّل السورة إلى
" صفحة رقم 361 "
آخرها هذه الآية ، فتأمّل كيف ابتدىء بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى ا لله
ورسوله متقدّمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد ، ثم أردف ذلك النهي عما هو من
جنس التقديم من رفع الصوت والجهر . كأن الأوّل بساط للثاني ووطأه لذكره ما هو ثناء
على الذين تحاموا ذلك فغضوا أصواتهم ، دلالة على عظيم موقعه عند الله ، ثم جيء على
عقب ذلك بما هو أطم وهجنته أتم : من الصياح برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في
حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر ، كما يصاح بأهون الناس قدراً ، لينبه على
فظاعة من أجروا إليه وجسروا عليه ؛ لأنّ من رفع الله قدره على أن يجهر له بالقول
حتى خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخي السرار ، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي
بلغ من التفاحش مبلغاً ؛ ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب وتقتبس محاسن الآداب ،
كما يحكى عن أبي عبيد ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال :
ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج من وقت خروجه ) أَنَّهُمْ صَبَرُواْ ( في موضع
الرفع على الفاعلية ؛ لأنّ المعنى : ولو ثبت صبرهم . والصبر : حبس النفس عن أن
تنازع إلى هواها . قال الله تعالى : ) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُم ( ( الكهف : 28 ) وقولهم : صبر عن كذا ، محذوف منه المفعول ،
وهو النفس ، وهو حبس فيه شدَّة ومشقة على المحبوس ، فلهذا قيل للحبس على اليمين أو
القتل : صبر . وفي كلام بعضهم : الصبر مرّ لا يتجرّعه إلا حرّ . فإن قلت : هل من
فرق بين ) حَتَّى تَخْرُجَ ( وإلى أن تخرج ؟ قلت : إنّ ( حتى ) مختصة بالغاية
المضروبة . تقول : أكلت السمكة حتى رأسها ، ولو قلت : حتى نصفها ، أو صدرها : لم
يجز ، و ( إلى ) عامّة في كل غاية ، فقد أفادت ( حتى ) بوضعها : أنّ خروج رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم غاية قد ضربت لصبرهم ، فما كان لهم أن يقطعوا
أمراً دون الانتهاء إليه . فإن قلت : فأي فائدة في قوله : ) إِلَيْهِمْ ( ؟ قلت :
فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم ، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أنّ
خروجه إليهم ) لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ( في ( كان ) إما ضمير فاعل الفعل المضمر
بعد لو ، وإما ضمير مصدر ) صَبَرُواْ ( ، كقولهم : من كذب كان شراً له ) وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( بليغ الغفران والرحمة واسعهما ، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن
هؤلاء إن تابوا وأنابوا .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ
أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ
مِّنَ الاٌّ مْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَانَ
وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيَانَ أُوْلَائِكَ هُمُ الرَاشِدُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 7 )
الحجرات : ( 6 ) يا أيها الذين . . . . .
" صفحة رقم 362 "
( 1066 ) بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمّه
وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ، فصلى بالناس وهو سكران صلاة
الفجر أربعاً ، ثم قال : هل أزيدكم ، فعزله عثمان عنهم مصدّقاً إلى بني المصطلق ،
وكانت بينه وبينهم إحنة ، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له ، فحسبهم مقاتليه ،
فرجع وقال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : قد ارتدوا ومنعوا الزكاة ، فغضب
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهمّ أن يغزوهم . فبلغ القوم فوردوا وقالوا :
نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم فقال : ( لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلاً
هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم ، ثم ضرب بيده على كتف علي رضي الله
عنه . وقيل : بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلوات متهجدين ، فسلموا إليه
الصدقات ، فرجع . وفي تنكير الفاسق والنبأ : شياع في الفساق والأنباء ، كأنه قال :
أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ . فتوقفوا فيه وتطلبوا الأمر وانكشاف الحقيقة ، ولا
تعتمدوا قول الفاسق ( لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع
منه . والفسوق : الخروج من الشيء والانسلاخ منه . يقال : فسقت الرطبة عن قشرها .
ومن مقلوبه : فقست البيضة ، إذا كسرتها وأخرجت ما فيها . ومن مقلوبه أيضاً : قفست
الشيء إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصباً له عليه ، ثم استعمل في
" صفحة رقم 363 "
الخروج عن القصد والانسلاخ من الحق . قال رؤبة : فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِهَا
جَوَائِرَا ;
وقرأ ابن مسعود : ( فتثبتوا ) والتثبت والتبين : متقاربان ، وهما طلب الثبات
والبيان والتعرّف ، ولما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والذين معه
بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب ، وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا
في الندرة . قيل : إن جاءكم بحرف الشك وفيه أنّ على المؤمنين أن يكونوا على هذه
الصفة ، لئلا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور ) ءانٍ ( مفعول له ، أي : كراهة
إصابتكم ) تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ ( حال ، كقوله تعالى : ) وَرَدَّ اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ ( ( الأحزاب : 25 ) يعني جاهلين بحقيقة الأمر
وكنه القصة . والإصباح : بمعنى الصيرورة . والندم : ضرب من الغم ، وهو : أن تغتمّ
على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع ، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزام ،
لأنه كلما تذكر المتندّم عليه راجعه من الندام : وهو لزام الشريب ودوام صحبته .
ومن مقلوباته : أدمن الأمر أدامه . ومدن بالمكان : أقام به . ومنه : المدينة وقد
تراهم يجعلون الهم صاحباً ونجياً وسميراً وضجيعاً ، وموصوفاً بأنه لا يفارق صاحبه
. الجملة المصدّرة بلولا تكون كلاماً مستأنفاً ، لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن
متصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع ، أو البارز
المجرور . وكلاهما مذهب سديد . والمعنى : أن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم
تغييرها . أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها : وهي أنكم تحاولون منه أن يعمل في
الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأى ، واستصواب فعل المطواع لغيره التابع له
فيما يرتثيه ، المحتذى على أمثلته ؛ ولو فعل ذلك ) لَعَنِتُّمْ ( أي لوقعتم في
العنت والهلاك . يقال :
" صفحة رقم 364 "
فلان يتعنت فلاناً ، أي : يطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك . وقد أعنت العظم : إذا هيض
بعد الجبر . وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد . وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط
منهم ، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم
الذين استثناهم بقوله تعالى : ) وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ
( أي إلى بعضكم ، ولكنه أغنت عن ذكر البعض : صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من
إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة ، التي لا يفطن لها إلا الخواص . وعن بعض المفسرين
: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . وقوله : ) أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ (
والخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أي : أولئك المستثنون هم الراشدون
يصدق ما قلته . فإن قلت : ما فائدة تقديم خبر إن على اسمها ؟ قلت : القصد إلى
توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن الله منهم من استتباع رأي رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) لارائهم ، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه . فإن قلت : فلم قيل )
يُطِيعُكُمْ ( دون : أطاعكم ؟ قلت : للدلالة على أنه كان في أرادتهم استمرار عمله
على ما يستصوبونه . وأنه كلما عنّ لهم رأى في أمر كان معمولاً عليه ، بدليل قوله :
) فِى كَثِيرٍ مّنَ الاْمْرِ ( كقولك : فلان يقري الضيف ويحمي الحريم ، تريد : أنه
مما اعتاده ووجد منه مستمرّاً . فإن قلت : كيف موقع ) وَلَاكِنَّ ( وشريطتها
مفقودة : من مخالفة ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً ؟ قلت : هي مفقودة من حيث
اللفظ ، حاصلة من حيث المعنى ؛ لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة
المتقدّم ذكرهم ، فوقعت ، لكنّ في حاق موقعها من الاستدراك . ومعنى تحبيب الله
وتكريهه للطف والإمداد بالتوفيق ، وسبيله الكتابة كما سبق ، وكل
" صفحة رقم 365 "
ذي لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبي عليه أن الرجل لا يمدح بغير فعله ؛ وحمل الآية
على ظاهرها يؤدّي إلى أن يثني عليهم بفعل الله ، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل
فيهم ) وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ( ( آل عمران : 188
) فإن قلت : فإنّ العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه ، وذلك فعل الله ، وهو مدح مقبول
عند الناس غير مردود . قلت : الذي سوّغ ذلك لهم أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة
المنظر في الغالب ، يسفر عن مخبر مرضى وأخلاق محمودة ومن ثم قالوا : أحسن ما في
الدميم وجهه ، فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته ، ولكن لدلالته على غيره ، على أن
من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به ، وقصر المدح على
النعت بأمّهات الخير : وهي الفصاحة والشجاعة والعدل والعفة ، وما يتشعب منها ويرجع
إليها ، وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد وغير ذلك مما ليس
للإنسان فيه عمل غلطاً ومخالفة عن المعقول و ) الْكُفْرِ ( تغطية نعم الله تعالى
وغمطها بالجحود . و ) الْفُسُوقُ ( الخروج عن قصد الإيمان ومحجته بركوب الكبائر )
وَالْعِصْيَانَ ( ترك الانقياد والمضي لما أمر به الشارع . والعرق العاصي : العاند
. واعتصت النواة : اشتدّت . والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من
الرشادة وهي الصخرة . قال أبو الوازع : كل صخرة وشادة . وأنشد : وَغَيْرُ
مُقَلَّدٍ وَمُوَشَّمَات
صَلينَ الضَّوْءَ مِنْ صُمِّ الرَّشَادِ
و ) فَضْلاً ( مفعول له ، أو مصدر من غير فعله فإن قلت : من أين جاز وقوعه
" صفحة رقم 366 "
مفعولاً له ، والرشد فعل القوم ، والفضل فعل الله تعالى ، والشرط أن يتحد الفاعل .
قلت : لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه ، مسندة إلى اسمه تقدست
أسماؤه : صار الرشد كأنه فعله ، فجاز أن ينتصب عنه أو لا ينتصب عن الراشدون ، ولكن
عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى ، والجملة التي هي ) أُوْلَئِكَ هُمُ
الرشِدُونَ ( اعتراض . أو عن فعل مقدر ، كأنه قيل : جرى ذلك ، أو كان ذلك فضلاً من
الله . وأما كونه مصدراً من غير فعله ، فأن يوضع موضع رشداً ؛ لأنّ رشدهم فضل من
الله لكونهم موفقين فيه ، والفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام ) وَاللَّهُ
عَلِيمٌ ( بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل ) حَكِيمٌ ( حين يفضل
وينعم بالتوفيق على أفاضلهم .
) وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا
فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى
تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (
الحجرات : ( 9 ) وإن طائفتان من . . . . .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
( 1066 ) وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار
فبال
" صفحة رقم 367 "
الحمار ، فأمسك عبد الله بن أبيّ بأنفه وقال : خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه .
فقال عبد الله بن رواحة : والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك وروى : حماره أفضل
منك ، وبول حماره أطيب من مسكك ؛ ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وطال
الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا ، وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج ، فتجالدوا
بالعصي ، وقيل : بالأيدي والنعال والسعف ، فرجع إليهم رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) وأصلح بينهم ، ونزلت . وعن مقاتل : قرأها عليهم فاصطلحوا . والبغي :
الاستطالة والظلم وإباء الصلح . والفيء : الرجوع ، وقد سمى به الظل والغنيمة ؛
لأنّ الظل يرجع بعد نسخ الشمس ، والغنيمة : ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين
، وعن أبي عمرو : ( حتى تفيء ) بغير همز ؛ ووجهه أنّ أبا عمرو خفف الأولى من
الهمزتين الملتقيتين فلطفت على الراوي تلك الخلسة فظنه قد طرحها . فإن قلت : ما
وجه قوله : ) اقْتَتَلُواْ ( والقياس اقتتلتا ، كما قرأ ابن أبي عبلة ( أو اقتتلا
) كما قرأ عبيد بن عمير على تأويل الرهطين أو النفرين ؟ قلت : هو مما حمل على
المعنى دون اللفظ ؛ لأنّ الطائفتين في معنى القوم والناس . وفي قراءة عبد الله (
حتى يفيئوا إلى أمر الله ) فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط . وحكم الفئة الباغية :
وجوب قتالها ما قاتلت . وعن ابن عمر : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدته من أمر هذه
الآية إن لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله عز وجل . قاله بعد أن اعتزل ،
فإذا كافت وقبضت عن الحرب أيديها تركت ، وإذا تولت اعمل بما روى عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) أنه قال :
( 1067 ) ( يا ابن أم عبد ، هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمّة ؟ ) قال
: الله ورسوله أعلم قال : لا يجهر على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها
ولا يقسم فيؤها ) ولا تخلوا الفئتان من المسلمين في اقتتالهما : إما أن يقتتلا على
سبيل البغى منهما جميعاً ، فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين
ويثمر
" صفحة رقم 368 "
المكافة والموادعة ، فإن لم تتحاجزا ولم تصطلحا وأقامتا على البغي : صير إلى
مقاتلتهما ، وإما أن يلتحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما . وكلتاهما عند
أنفسهما محقة ، فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة ، وإطلاعهما
على مراشد الحق . فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا
من اتباع الحق بعد وضوحه لهما ، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين . وإما أن تكون
إحداهما الباغية على الأخرى ؛ فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب ، فإن
فعلت أصلح بينهما وبين المبغى عليها بالقسط والعدل ، وفي ذلك تفاصيل : إن كانت الباغية
من قلة العدد بحيث لا منعة لها : ضمنت بعد الفيئة ما جئت ؛ وإن كانت كثيرة ذات
منعة وشوكة ، لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله ؛ فإن كان يفتي بأن الضمان
يلزمها إذا فاءت . وأمّا قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها ،
فما جنته ضمنته عند الجميع ، فمحمل الإصلاح بالعدل في قوله تعالى : )
فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ( على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ
التنزيل ، وعلى قول غيره : وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد ، والذي ذكروا
أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات : ليس بحسن الطباق للمأمور
به من أعمال العدل ومراعاة القسط . فإن قلت : فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون
الأوّل ؟ قلت : لأنّ المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين معاً أو
راكبتي شبهة ، وأيتهما كانت ؛ فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما :
إصلاح ذات البين ، وتسكين الدهماء بإرادة الحق والمواعظ الشافية ، ونفي الشبهة ؛
إلا إذا أصرتا ، فحينئذٍ تجب المقاتلة . وأما الضمان فلا يتجه ، وليس كذلك إذا بغت
إحداهما ؛ فإنّ الضمان متجه على الوجهين المذكورين ) وَأَقْسِطُواْ ( أمر باستعمال
القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين ، والقول فيه مثله في
الأمر باتقاء الله على عقب النهي عن التقديم بين يديه ، والقسط بالفتح : الجور من
القسط : وهو اعوجاج في الرجلين . وعود قاسط : يابس . وأقسطته الرياح . وأمّا القسط
بمعنى العدل ، فالفعل منه : أقسط ، وهمزته للسلب ، أي : أزال القسط وهو الجور .
) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (
الحجرات : ( 10 ) إنما المؤمنون إخوة . . . . .
هذا تقرير لما ألزمه من تولى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين ،
وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق : ما إن لم يفضل
" صفحة رقم 369 "
الأخوّة ولم يبرز عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غايتها . ثم قد جرت عادة الناس
على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد ، لزم السائر أن يتناهضوا في
رفعه وإزاحته ، ويركبوا الصعب والذلول مشياً بالصلح وبثاً للسفراء بينهما ، إلى أن
يصادف ما وهي من الوفاق من يرقعه ، وما استشن من الوصال من يبله ؛ فالأخوة في
الدين أحق بذلك وبأشدّ منه . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1068 ) ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يعيبه ، ولا يتطاول عليه
في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ، ولا يؤذيه بقتار قدره ) ثم قال : ( احفظوا
، ولا يحفظ منكم إلا قليل ) . فإن قلت : فلم خص الاثنان بالذكر دون الجمع ؟ قلت :
لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان ؛ فإذا لزمت المصالحة بين الأقل كانت بين
الأكثر ألزم ؛ لأنّ الفساد في شقاق الجمع أكثر منه في شقاق الاثنين ، وقيل :
المراد بالأخوين الأوس والخزرج ، وقرىء : ( بين إخوتكم وإخوانكم ) والمعنى : ليس
المؤمنون إلا إخوة ، وأنهم خلص لذلك متمحضون ، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبية ،
وأبي لطف حالهم في التمازج والاتحاد أن يقدموا على ما يتولد منه التقاطع ، فبادروا
قطع ما يقع من ذلك إن وقع واحسموه ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( فإنكم إن فعلتم لم
تحملكم التقوى إلا على التواصل والائتلاف ، والمسارعة إلى إماطة ما يفرط منه ،
وكان فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم ، واشتمال رأفته عليكم حقيقاً بأن تعقدوا به
رجاءكم .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن
يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ
خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاٌّ
لْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الايمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ
فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (
الحجرات : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
القوم : الرجال خاصة ؛ لأنهم القوّام بأمور النساء . قال الله تعالى : ) الرّجَالُ
قَوَّامُونَ
" صفحة رقم 370 "
عَلَى النّسَاء ( ( النساء : 34 ) وقال عليه الصلاة والسلام :
( 1069 ) ( النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه ) والذابون هم الرجال ، وهو في الأصل
جمع قائم ، كصوّم وزوّر : في جمع صائم وزائر . أو تسمية بالمصدر . عن بعض العرب :
إذا أكلت طعاماً أحببت نوماً وأبغضت قوماً . أي قياماً ، واختصاص القوم بالرجال :
صريح في الآية وفي قول زهير : أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ ;
وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط
للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن ، وتنكير
القوم والنساء يحتمل معنيين : أن يراد : لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض ؛
وأن تقصد إفادة الشياع ، وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية ، وإنما لم يقل
: رجل من رجل ، ولا امرأة من امرأة على التوحيد ، إعلاماً بإقدام غير واحد من
رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية ، واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه ،
ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى ويستضحك على قوله ، ولا يأتي ما عليه من
النهي والإنكار ، فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمل الوزر ، وكذلك كل من يطرق سمعه
فيستطيبه ويضحك به ، فيؤدي ذلك وإن أوجده واحد إلى تكثر السخرة وانقلاب الواحد
جماعة وقوماً . وقول تعالى : ) عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ ( كلام
مستأنف قد ورد
" صفحة رقم 371 "
مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه ، وإلا فقد كان حقه أن
يوصل بما قبله بالفاء . والمعنى وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند
الله خيراً من الساخر ، لأنّ الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال ولا علم لهم
بالخفيات ، وإنما الذي يزن عند الله ؛ خلوص الضمائر وتقوى القلوب ، وعلمهم من ذلك
بمعزل ، فينبغي أن لا يجترىء أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال
، أو ذا عاهة في بدنه ، أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً
ممن هو على ضدّ صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهانة بمن عظمه الله ،
ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمر بن شرحبيل : لو رأيت
رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه : خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه . وعن عبد الله بن مسعود
: البلاء موكل بالقول ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلباً . وفي قراءة عبد الله
: ( عسوا أن يكونوا ) وعسين أن يكن ، فعسى على هذه القراءة هي ذات الخبر كالتي في
قوله تعالى : ) فَهَلْ عَسَيْتُمْ ( ( محمد : 22 ) وعلى الأولى التي لا خبر لها
كقوله تعالى : ) وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا ( ( البقرة : 216 ) . واللمز :
الطعن والضرب باللسان . وقرىء : ( ولا تلمزوا ) بالضم . والمعنى : وخصوا أيها
المؤمنون أنفسكم بالانتهاء من عيبها والطعن فيها ، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن
لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم ، ففي الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) :
( 1070 ) ( اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس )
" صفحة رقم 372 "
وعن الحسن رضي الله عنه في ذكر الحجاج : أخرج إلى بنانا قصيرة قلما عرقت فيها
الأعنة في سبيل الله ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول : يا أبا سعيد يا أبا سعيد ،
وقال لما مات : اللَّهم أنت أمته فاقطع سنته ، فإنه أتانا أخيفش أعيمش يخطر في
مشيته ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي ، فوقه
الله وتحته مائة ألف أو يزيدون ، لا يقول له قائل : الصلاة أيها الرجل الصلاة أيها
الرجل ، هيهات دون ذلك السيف والسوط . وقيل : معناه لا يعب بعضكم بعضاً ، لأنّ
المؤمنين كنفس واحدة ، فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه . وقيل : معناه لا
تفعلوا ما تلمزون به ، لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة .
والتنابز بالألقاب : التداعي بها : تفاعل من نبزه ، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون
ويقال : النبز والنزب : لقب السوء والتلقيب المنهي عنه ، وهو ما يتداخل المدعوّ به
كراهة لكونه تقصيراً به وذمّاً له وشيئاً ، فأما ما يحبه مما يزينه وينوّه به فلا
بأس به . روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1071 ) ( من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه ) ولهذا كانت التكنية
من السنة والأدب الحسن . قال عمر رضي الله عنه : أشيعوا الكنى فإنها منبهة . ولقد
لقب أبو بكر بالعتيق والصدّيق ، وعمر بالفاروق ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بسيف
الله ، وقلَّ من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب ، ولم تزل هذه
الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من
غير نكير . روي عن الضحاك أن قوماً من بني تميم استهزؤوا ببلال وخباب وعمار وصهيب
" صفحة رقم 373 "
وأبي ذرّ وسالم مولى حذيفة . فنزلت . وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسخر من
زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة . وعن ابن عباس أن أمّ سلمة ربطت حقويها
بسبنيّة وسدلت طرفها خلفها وكانت تجرّه ، فقالت عائشة لحفصة : انظري ما تجرّ خلفها
كأنه لسان كلب . وعن أنس : عيرت نساء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمّ سلمة
بالقصر . وعن عكرمة عن ابن عباس
( 1072 ) أن صفية بنت حييّ أتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : إن
النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) : ( هلا قلت إن أبي هرون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد ) ، روي :
( 1073 ) أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر ، وكانوا يوسعون له في مجلس رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليسمع ؛ فأتى يوماً وهو يقول : تفسحوا لي ، حتى انتهى
إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فقال لرجل : تنح ، فلم يفعل ، فقال
: من هذا ؟ فقال الرجل : أنا فلان ، فقال : بل أنت ابن فلانة ، يريد : أمّاً كان
يعير بها في الجاهلية ، فخجل الرجل فنزلت ، فقال ثابت : لا أفخر على أحد في الحسب
بعدها أبداً ) الاسْمُ ( هاهنا بمعنى الذكر ، من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم
أو باللؤم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته . وحقيقته : ما سما من ذكره وارتفع بين
الناس . ألا ترى إلى قولهم : أشاد بذكره ؛ كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين
بسبب ارتكاب هذه
" صفحة رقم 374 "
الجرائر أن يذكروا بالفسق . وفي قوله : ) بَعْدَ الاْيمَانِ ( ثلاثة أوجه : أحدها
استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره ، كما تقول : بئس
الشأن بعد الكبرة الصبوة والثاني : أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود : يا
يهودي يا فاسق ، فنهوا عنه ، وقيل لهم : بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق
واليهودية بعد إيمانه ، والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز .
والثالث : أن يجعل من فسق غير مؤمن ، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة :
بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ
وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (
الحجرات : ( 12 ) يا أيها الذين . . . . .
يقال : جنبه الشر إذا أبعده عنه ، وحقيقته : جعله منه في جانب ، فيعدى إلى مفعولين
. قال الله عز وجل : ) وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ ( (
إبراهيم : 35 ) ثم يقال في مطاوعه : اجتنب الشر فتنقص المطاوعة مفعولاً . والمأمور
باجتنابه هو بعض الظن ، وذلك البعض موصوف بالكثرة : ألا ترى إلى قوله : ) إِنَّ
بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ ( ؟ فإن قلت : بَيِّن الفصل بيْنَ ) كَثِيراً ( ، حيث جاء
نكرة وبينه لو جاء معرفة . قلت : مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية ، وإنّ في الظنون
ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين . لئلا يجترىء أحد على ظنّ إلا بعد
نظر وتأمّل ، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة ، مع استشعار للتقوى والحذر ؛ ولو
عرف لكان الأمر باجتناب الظنّ منوطاً بما يكثر من دون ما يقل ، ووجب أن يكون كل
ظنّ متصف بالكثرة مجتنباً ، وما اتصف منه بالقلة مرخصاً في تظننه . والذي يميز
الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها : أنّ كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر
: كان حراماً واجب الاجتناب ؛ وذلك إذا كان المظنون به ممن
" صفحة رقم 375 "
شوهد منه الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظنّ الفساد والخيانة به
محرّم ، بخلاف من اشتهره الناس يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث . عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) :
( 1074 ) ( إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء ) وعن
الحسن : كنا في زمان الظنُّ بالناس حرام ، وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت ، وظنّ
بالناس ما شئت . وعنه : لا حرمة لفاجر . وعنه : إن الفاسق إذا أظهر فسقه وهتك ستره
هتكه الله ، وإذا استتر لم يظهر الله عليه لعله أن يتوب . وقد روي :
( 1075 ) من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له . والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه
العقاب . ومنه قيل لعقوبته : الأثام ، فعال منه : كالنكال والعذاب والوبال ، قال :
لَقَدْ فَعَلَتْ هاذِي النَّوَى بِيَ فَعْلَة
أَصَابَ النَّوَى قَبْلَ المَمَاتِ أَثَامُهَا
والهمزة فيه عن الواو ، كأنه يثم الأعمال : أي يكسرها بإحباطه . وقرىء : ( ولا
تحسسوا ) بالحاء والمعنيان متقاربان . يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه :
تفعل من الجس ، كما أن التلمس بمعنى التطلب من اللمس ، لما في اللمس من الطلب .
وقد جاء بمعنى الطلب في قوله تعالى : ) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء ( والتحسس :
التعرّف من الحس ، ولتقاربهما قيل لمشاعر الإنسان : الحواس بالحاء والجيم ،
والمراد النهي عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه . وعن مجاهد
. خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 376 "
:
( 1076 ) أنه خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهنّ . قال : يا معشر من آمن
بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ، لا تتبعوا عورات المسلمين : فإن من تتبع عورات
المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته . وعن زيد بن وهب : قلنا لابن
مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة بن أبي معيط تقطر لحيته خمراً ؟ فقال ابن مسعود :
إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به . غابه واغتابه : كغاله
واغتاله . والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال : وهي ذكر السوء في الغيبة
( 1077 ) سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الغيبة فقال : ( أن تذكر أخاك
بما يكره . فإن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته ) وعن ابن عباس رضي
الله عنهما : الغيبة إدام كلاب الناس ) أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ( تمثيل وتصوير لما
يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه . وفيه مبالغات شتى : منها
الاستفهام الذي معناه التقرير . ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً
بالمحبة . ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك
. ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، حتى جعل الإنسان أخاً
. ومنها أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتاً . وعن قتادة : كما تكره إن
وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها ، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي . وانتصب ) مَيْتًا (
على الحال من اللحم . ويجوز أن ينتصب عن الأخ . وقرىء : ( ميِّتا ) ولما قرّرهم عز
وجل بأنّ أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه ، عقب ذلك بقوله تعالى : )
فَكَرِهْتُمُوهُ ( معناه : فقد كرهتموه واستقرّ ذلك . وفيه معنى الشرط ، أي : إن
صحّ هذا فكرهتموه ، وهي الفاء الفصيحة ، أي : فتحققت بوجوب الإقرار عليكم وبأنكم
لا تقدرون على دفعه وإنكاره : لإباء البشرية عليكم أن تجحدوه كراهتكم له وتقذركم
منه ، فليتحقق أيضاً أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في
" صفحة رقم 377 "
أعراض المسلمين . وقرىء : ( فكرهتموه ) أي : جبلتم على كراهته . فإن قلت : هلا
عدّى بإلى كما عدّى في قوله : ) وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ( ( الحجر : 7 )
وأيهما القياس ؟ قلت : القياس تعدّيه بنفسه ، لأنه ذو مفعول واحد قبل تثقيل حشوه ،
تقول : كرهت الشيء ، فإذا ثقل استدعى زيادة مفعول . وأما تعدّيه بإلى ، فتأوّل
وإجراء لكره مجرى بغض ، لأنّ بعض منقول من بغض إليه الشيء فهو بغيض إليه ، كقولك :
حب إليه الشيء فهو حبيب إليه . والمبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه
من عباده ، أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفواً عنه بالتوبة . أو
لأنه بليغ في قبول التوبة ، منزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط ، لسعة كرمه .
والمعنى : واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه ، فإنكم
إن اتقتيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليك بثواب المتقين التائبين . وعن ابن عباس :
( 1078 ) أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما ، فنام عن شأنه
يوماً ، فبعثاه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يبغي لهما إداماً ، وكان
أسامة على طعام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ما عندي شيء ، فأخبرهما
سلمان بذلك ، فعند ذلك قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، فلما راحا إلى
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ،
فقالا : ما تناولنا لحماً فقال : إنكما قد اغتبتما فنزلت .
) ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (
الحجرات : ( 13 ) يا أيها الناس . . . . .
) مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( من آدم وحوّاء . وقيل : خلقنا كل واحد منكم من أب وأمّ ،
فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلى به الآخر سواء بسواء ، فلا وجه للتفاخر
والتفاضل في النسب . والشعب : الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب ،
وهي : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة ؛ فالشعب يجمع
القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن تجمع الأفخاذ ،
والفخذ تجمع الفصائل : خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصى بطن ، وهاشم
فخذ ،
" صفحة رقم 378 "
والعباس فصيلة ، وسميت الشعوب ؛ لأنّ القبائل تشعبت منها . وقرىء : ( لتتعارفوا )
ولتعارفوا بالإدغام . ولتعرفوا ، أي لتعلموا كيف تتناسبون . ولتتعرفوا . والمعنى :
أن الحكمة التي من أجلها رتبكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض . فلا
يعتزى إلى غير آبائه ، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد ، وتدعوا التفاضل في
الأنساب . ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله
تعالى فقال : ) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( وقرىء : ( أنّ )
بالفتح ، كأنه قيل : لم لا يتفاخر بالأنساب ؟ فقيل : لأنّ أكرمكم عند الله أتقاكم
لا أنسبكم . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1079 ) أنه طاف يوم فتح مكة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( الحمد لله الذي
أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها ، يا أيها الناس ، إنما الناس رجلان : مؤمن تقي
كريم على الله ، وفاجر شقيّ هين على الله ) ثم قرأ الآية . وعنه عليه السلام :
( 1080 ) ( من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله ) . وعن ابن عباس : كرم الدنيا
الغني ، وكرم الآخرة التقوى . وعو يزيد بن شجرة :
( 1081 ) مرّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سوق المدينة فرأى غلاماً أسود
يقول : من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم ، فاشتراه رجل فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
يراه عند كل صلاة ، ففقده يوماً فسأل عنه صاحبه ، فقال : محموم ، فعاده ثم سأل عنه
بعد ثلاثة أيام فقال : هو لما به ، فجاءه وهو في ذمائه . فتولى غسله ودفنه ، فدخل
على المهاجرين
" صفحة رقم 379 "
والأنصار أمر عظيم ، فنزلت .
) قَالَتِ الاٌّ عْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ
أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ (
الحجرات : ( 14 ) قالت الأعراب آمنا . . . . .
الإيمان : هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس . والإسلام : الدخول في السلم .
والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين . ألا ترى إلى قوله تعالى : )
وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( فاعلم أنّ ما يكون من الإقرار
باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام ، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان .
فإن قلت : ما وجه قوله تعالى : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ
أَسْلَمْنَا ( والذي يقتضه نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا
أسلمنا . أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم ؟ قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلاً
، ودفع ما انتحلوه ، فقيل : قل لم تؤمنوا . وروعى في هذا النوع من التكذيب أدب حسن
حين لم يصرّح بلفظه ، فل يقل : كذبتم ، ووضع ) لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( الذي هو نفي ما
ادعوا إثباته موضعه ، ثم نبه على ما فعل من وضعه موضع كذبتم في قوله في صفة
المخلصين ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ( الحجرات : 15 ) تعريضاً بأن هؤلاء
هم الكاذبون ، ورب تعريض لا يقاومه التصريح ، واستغنى بالجملة التي هي لم : )
تُؤْمِنُواْ ( عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤدّاه
النهي عن القول بالإيمان ، ثم وصلت بها الجملة المصدّرة بكلمة الاستدراك محمولة
على المعنى ، ولم يقل : ولكن أسلمتم ، ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى ، كما كان
قولهم : ) مِنَ ( كذلك ، ولو قيل : ولكن أسلمتم ، لكان خروجه في معرض التسليم لهم
والاعتداد بقولهم وهو غير معتدّ به . فإن قلت : قوله : ) وَلَمَّا يَدْخُلِ
الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( بعد قوله تعالى : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( يشبه
التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة . قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : )
لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( هو تكذيب دعواهم ، وقوله : ) وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ
فِى قُلُوبِكُمْ
" صفحة رقم 380 "
( توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم ) وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا (
حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم ؛ لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في )
قُولُواْ ( وما في ( لما ) من معنى التوقع : دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد )
لاَ يَلِتْكُمْ ( لا ينقصكم ولا يظلمكم . يقال : ألته السلطان حقه أشدّ الألت ،
وهي لغة غطفان . ولغة أسد وأهل الحجاز : لاته ليتا . وحكى الأصمعي عن أمّ هشام
السلولية أنها قالت : الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ، ولا تصمه الأصوات . وقرىء
باللغتين ( لا يلتكم ) ولا يألتكم . ونحوه في المعنى ) فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئاً ( ( الأنبياء : 47 ) . ومعنى طاعة الله ورسوله : أن يتوبوا عما كانوا عليه
من النفاق ويعقدوا قلوبهم على الإيمان ويعملوا بمقتضياته ، فإن فعلوا ذلك تقبل
الله توبتهم ، ووهب لهم مغفرته . وأنعم عليهم بجزيل ثوابه . وعن ابن عباس رضي الله
عنهما أنّ نفراً من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة ، فأظهروا الشهادة ،
وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارها ، وهم يغدون ويروحون على رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك
بالأثقال والذراري ، يريد الصدقة ويمنون عليه ، فنزلت .
) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ
يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (
الحجرات : ( 15 ) إنما المؤمنون الذين . . . . .
ارتاب : مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة . والمعنى : أنهم آمنوا ثم لم يقع
في نفوسهم شك فيما آمنوا به ، ولا اتهام لمن صدّقوه واعترفوا بأنّ الحق منه . فإن
قلت : ما معنى ثم هاهنا وهي التراخي وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارناً للإيمان
لأنه وصف فيه ، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن
وانتفاء الريب ؟ قلت : الجواب على طريقين ، أحدهما أنّ من وجد منه الإيمان ربما
اعترضه الشيطان أو بعض المضلين بعد ثلج الصدر فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه ،
أو نظر هو نظراً غير سديد ويسقط به على الشك ثم يستمرّ على ذلك راكباً رأسه لا
يطلب له مخرجاً ، فوصف المؤمنون حقاً بالبعد عن هذه الموبقات . ونظيره قوله : )
ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( ( فصلت : 30 ) والثاني : أنّ الإيقان وزوال الريب لما كان
ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدّم الإيمان ، تنبيهاً على مكانه ؛ وعطف على
الإيمان بكلمة التراخي إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً
جديداً . ) وَجَاهِدُواْ ( يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدوّ المحارب أو
الشيطان أو الهوى . وأن يكون جاهد مبالغة في جهد . ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس
: الغزو ، وأن يتناول العبادات بأجمعها ، وبالمجاهدة بالمال : نحو ما
" صفحة رقم 381 "
صنع عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة ، وأن يتناول الزكوات وكل ما يتعلق بالمال
من أعمال البر التي يتحامل فيها الرجل على ماله لوجه الله تعالى ) أُوْلَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ ( الذين صدقوا في قولهم آمنا ، ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد ،
أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وإيمان حق وجدّ وثبات .
) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (
الحجرات : ( 16 ) قل أتعلمون الله . . . . .
يقال : ما علمت بقدومك ، أي : ما شعرت به ولا أحطت به . ومنه قوله تعالى : )
أَتُعَلّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ( وفيه تجهيل لهم .
) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ
إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلايمَانِ إِنُ
كُنتُمْ صَادِقِينَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (
الحجرات : ( 17 ) يمنون عليك أن . . . . .
يقال : منّ عليه بيد أسداها إليه ، كقولك : أنعم عليه وأفضل عليه . والمنة :
النعمة التي لا يستثيب مسديها من يزلها إليه ؛ واشتقاقها من المنّ الذي هو القطع ،
لأنه إنما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير ، من غير أن يعمد لطلب مثوبة . ثم
يقال : منّ عليه صنعه ، إذا اعتده عليه منة وإنعاماً . وسياق هذه الآية فيه لطف
ورشاقة ، وذلك أنّ الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاماً ، ونفى أن يكون كما
زعموا إيماناً ؛ فلما منوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان منهم قال
الله سبحانه وتعالى لرسوله عليه السلام : إنّ هؤلاء يعتدّون عليك بما ليس جديراً
بالاعتداد به من حدثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام . فقل لهم : لا تعتدّوا على
إسلامكم ، أي حدثكم المسمى إسلاماً عندي لا إيماناً . ثم قال : بل الله يعتد عليكم
أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم أنكم أرشدتم إليه
ووفقتم له إن صحّ زعمكم وصدقت دعواكم ، إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم
بخلافه . وفي إضافة الإسلام إليهم وإيراد الإيمان غير مضاف : ما لا يخفى على
المتأمل ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، تقديره : إن كنتم صادقين في
ادعائكم الإيمان ، فللَّه المنة عليكم . وقرىء : ( إن هداكم ) بكسر الهمزة . وفي
قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : إذ هداكم . وقرىء : ( تعلمون ) بالتاء والياء ،
وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم ، يعني أنه عزّ وجل يعلم كل مستتر في
العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم ، لا يخفى عليه منه شيء ، فكيف
يخفى عليه ما في
" صفحة رقم 382 "
ضمائركم ولا يظهر على صدقكم وكذبكم ، وذلك أنّ خاله مع كل معلوم واحدة لا تختلف .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1082 ) ( من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه ) .
" صفحة رقم 383 "
( سورة ق )
مكية ( إلا آية 38 فمدنية )
وآياتها 45 ( نزلت بعد المرسلات )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ
فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً
ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ (
ق : ( 1 - 3 ) ق والقرآن المجيد
الكلام في ) ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ ( نحوه في ) ص وَالْقُرْءانِ ذِى
الذّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ( ص : 1 2 ) سواء بسواء ، لالتقائهما في
أسلوب واحد . والمجيد : ذو المجد والشرف على غيره من الكتب ، ومن أحاط علماً
بمعانيه وعمل بما فيه : مجد عند الله وعند الناس ، وهو بسبب من الله المجيد ، فجاز
اتصافه بصفته . قوله بل عجبوا : ) أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ ( إنكار لتعجبهم
مما ليس بعجب ، وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالتهم
وأمانته ، ومن كان على صفته لم يكن إلا ناصحاً لقومه مترفرفاً عليهم ، خائفاً أن
ينالهم سوء ويحل بهم مكروه ، وإذا علم أنّ مخوفاً أظلهم ، لزمه أن ينذرهم ويحذرهم
، فكيف بما هو غاية المخاوف ونهاية المحاذير ، وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من
البعث ، مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وعلى
اختراع كل شيء وإبداعه ، وإقرارهم بالنشأة الأولى ، ومع شهادة العقل بأنه لا بدّ
من الجزاء . ثم عوّل على أحد الإنكارين بقوله تعالى : ) فَقَالَ الْكَافِرُونَ
هَاذَا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا ( دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في
الاستبعاد وأحق بالإنكار ، ووضع الكافرون موضع الضمير للشهادة على أنهم في قولهم
هذا مقدمون على الكفر العظيم . وهذا إشارة إلى الرجع ؛ وإذا منصوب بمضمر ؛ معناه :
أحين نموت ونبلى نرجع ؟ ) ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( مستبعد مستنكر ، كقولك : هذا
قول بعيد . وقد
" صفحة رقم 384 "
أبعد فلان في قوله . ومعناه : بعيد من الوهم والعادة . ويجوز أن يكون الرجع بمعنى
المرجوع . وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به
من البعث ، والوقف قبله على هذا التفسير حسن . وقرىء : ( إذا متنا ) على لفظ الخبر
، ومعناه : إذا متنا بعد أن نرجع ، والدال عليه ) ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( . فإن قلت
: فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع ؟ قلت : ما دل عليه المنذر من
المنذر به ، وهو البعث .
) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاٌّ رْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (
ق : ( 4 ) قد علمنا ما . . . . .
) قَدْ عَلِمْنَا ( ردّ لاستبعادهم الرجع ، لأن من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص
الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم ، كان قادراً على رجعهم أحياء كما
كانوا . عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1083 ) ( كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب ) ، وعن السدي : ) مَا تَنقُصُ الاْرْضَ
مِنْهُمْ ( ما يموت فيدفن في الأرض منهم ) كِتَابٌ حَفِيظٌ ( محفوظ من الشياطين
ومن التغير ، وهو اللوح المحفوظ . أو حافظ لما أودعه وكتب فيه .
) بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ (
ق : ( 5 ) بل كذبوا بالحق . . . . .
) بَلْ كَذَّبُواْ ( إضراب أتبع الإضراب الأوّل ، للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو
أفظع من تعجبهم ؛ وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات في أوّل
وهلة من غير تفكر ولا تدبر ) فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ ( مضطرب . يقال : مرج
الخاتم في أصبعه وجرج ؛ فيقولون تارة : شاعر ، وتارة : ساحر ، وتارة : كاهن ، لا
يثبتون على شيء واحد : وقرىء : ( لما جاءهم ) بكسر اللام وما المصدرية ، واللام هي
التي في قولهم لخمس خلون ، أي : عند مجيئه إياهم ، وقيل : ) الْحَقّ ( : القرآن .
وقيل : الإخبار بالبعث .
) أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (
ق : ( 6 ) أفلم ينظروا إلى . . . . .
) أَفَلَمْ يَنظُرُواْ ( حين كفروا بالبعث إلى آثار قدرة الله في خلق العالم )
بَنَيْنَاهَا ( رفعناها بغير عمد ) مِن فُرُوجٍ ( من فتوق : يعني أنها ملساء سليمة
من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل ، كقوله تعالى : ) هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ
( ( الملك : 3 ) .
" صفحة رقم 385 "
) وَالاٌّ رْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا
مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (
ق : ( 7 - 8 ) والأرض مددناها وألقينا . . . . .
) مَدَدْنَاهَا ( دحوناها ) رَوَاسِىَ ( جبالاً ثوابت لولا هي لتكفأت ) مِن كُلّ
زَوْجٍ ( من كل صنف ) بَهِيجٍ ( يبتهج به لحسنه ) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى ( لتبصر به
وتذكر كل ) عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( راجع إلى ربه ، مفكر في بدائع خلقه . وقرىء : (
تبصرة وذكرى ) بالرفع ، أي : خلقها تبصرة .
) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ
وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً
لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَالِكَ الْخُرُوجُ (
ق : ( 9 - 11 ) ونزلنا من السماء . . . . .
) مَاء مُّبَارَكاً ( كثير المنافع ) وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( وحب الزرع الذي من شأنه
أن يحصد ، وهو ما يقتات به من نحو الحنطة والشعير وغيرهما ) بَاسِقَاتٍ ( طوالاً
في السماء : وفي قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : باصقات ، بإبدال السين
صاداً لأجل القاف ) نَّضِيدٌ ( منضود بعضه فوق بعض : إما أن يراد كثرة الطلع
وتراكمه ؛ أو كثرة ما فيه من الثمر ) رِزْقاً ( على أنبتناها رزقاً ، لأنّ الإنبات
في معنى الرزق . أو على أنه مفعول له ، أي : أنبتناها لنرزقهم ) كَذالِكَ
الْخُرُوجُ ( كما حييت هذه البلدة الميتة ، كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم ، والكاف
في محل الرفع على الابتداء .
) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الاٌّ يْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ
كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (
ق : ( 12 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
أراد بفرعون قومه كقوله تعالى : ) مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ( ( يونس : 83 )
لأنّ المعطوف عليه قوم نوح ، والمعطوفات جماعات ) كُلٌّ ( يجوز أن يراد به كل واحد
منهم ، وأن يراد جميعهم ، إلا أنه وحد الضمير الراجع إليه على اللفظ دون المعنى )
فَحَقَّ وَعِيدِ ( فوجب وحل وعيدي ، وهو كلمة العذاب . وفيه تسلية لرسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ، وتهديد لهم .
) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاٌّ وَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ (
ق : ( 15 ) أفعيينا بالخلق الأول . . . . .
عيى بالأمر : إذا لم يهتد لوجه عمله ، والهمزة للإنكار . والمعنى : أنا لم نعجز
كما علموا عن الخلق الأول ، حتى نعجز عن الثاني ، ثم قال : هم لا ينكرون قدرتنا
على الخلق الأوّل ، واعترافهم بذلك في طيه الاعتراف بالقدرة على الإعادة ) بَلْ
هُمْ فِى لَبْسٍ ( أي في خلط وشبهة . قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم . ومنه قول علي
رضي الله عنه :
" صفحة رقم 386 "
يا حار ، إنه لملبوس عليك ، اعرف الحق تعرف أهله . ولبس الشيطان عليهم : تسويله
إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة ، فتركوا لذلك القياس الصحيح : أن من
قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر . فإن قلت : لم نكر الخلق الجديد ، وهلا
عرّف الخلق الأول ؟ قلت : قصد في تنكيره إلى خلق جديد له شأن عظيم وحال شديد . حق
من سمع به أن يهتم به ويخاف ، ويبحث عنه ولا يقعد على لبس في مثله .
) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (
ق : ( 16 ) ولقد خلقنا الإنسان . . . . .
الوسوسة : الصوت الخفي . ومنها : وسواس الحلى . ووسوسة النفس : ما يخطر ببال
الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس . والباء مثلها في قولك : صوت بكذا وهمس به
. ويجوز أن تكون للتعدية والضمير للإنسان ، أي : ما تجعله موسوساً ، وما مصدرية ،
لأنهم يقولون : حدّث نفسه بكذا ، كما يقولون : حدثته به نفسه . قال : وَاكْذِبِ
النَّفْسَ إِذَا حَدَّثْتَهَا
" صفحة رقم 387 "
;
) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ( مجاز ، والمراد : قرب علمه منه ، وأنه يتعلق
بمعلومه منه ومن أحواله تعلقاً لا يخفى عليه شيء من خفياته ، فكأن ذاته قريبة منه
، كما يقال : الله في كل مكان ، وقد جل عن الأمكنة . وحبل الوريد : مثل في فرط
القرب ، كقولهم : هو مني مقعد القابلة ومعقد الإزار . وقال ذو الرمة : وَالْمَوْتُ
أَدْنَى لي مِنَ الْوَرِيدِ ;
والحبل : العرق ، شبه بواحد الحبال ، ألا ترى إلى قوله :
كَأَنْ وَرِيدَيْهِ رشاءا خُلُبِ ;
والوريدان : عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوتين ، يردان من
الرأس إليه . وقيل : سمي وريداً لأنّ الروح ترده . فإن قلت : ما وجه إضافة الحبل
إلى الوريد ، والشيء لا يضاف إلى نفسه ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن تكون
الإضافة للبيان ، كقولهم : بعير سانية . والثاني : أن يراد حبل العاتق فيضاف إلى الوريد
، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد ) كما لو قيل : حبل العلياء مثلاً .
) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ
مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (
ق : ( 17 ) إذ يتلقى المتلقيان . . . . .
) إِذْ ( منصوب بأقرب ، وساغ ذلك لأنّ المعاني تعمل في الظرف متقدّمة ومتأخرة ،
والمعنى : أنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس وما لا شيء أخفى منه ، وهو أقرب من
الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به ، إيذاناً بأن استحفاظ الملكين
أمر هو غني عنه ؛ وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيان ؟ وإنما ذلك لحكمة
اقتضت ذلك : وهي ما في كتبة الملكين وحفظهما ، وعرض صحائف العمل يوم يقوم الأشهاد
. وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة الله بعمله . من زيادة لطف له في الانتهاء عن
السيئات والرغبة في الحسنات . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 388 "
:
( 1084 ) ( أنّ مقعد ملكيك على ثنيتيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادهما ، وأنت
تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله تعالى ولا منهما ) ويجوز أن يكون تلقي
الملكين بياناً للقرب ، يعني : ونحن قريبون منه مطلعون على أحواله مهيمنون عليه ،
إذ حفظتنا وكتبتنا موكلون به ، والتلقي : التلقن بالحفظ والكتبة . والقعيد :
المقاعد ، كالجليس بمعنى المجالس ، وتقديره : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من
المتلقيين ، فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه ، كقوله : . . . كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي
بَرِيًّا . . . . . . . . .
) رَقِيبٌ ( ملك يرقب عمله ) عَتِيدٌ ( حاضر ، واختلف فيما يكتب الملكان ، فقيل :
يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه . وقيل : لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر به
. ويدل عليه قوله عليه السلام :
( 1085 ) ( كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب
الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً ، وإذا عمل
سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ) وقيل :
إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه . وقرىء : ( ما يلفظ ) على
البناء للمفعول .
) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا
سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ
غِطَآءَكَ
" صفحة رقم 389 "
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (
ق : ( 19 ) وجاءت سكرة الموت . . . . .
لما ذكر إنكارهم البعث واحتج عليهم بوصف قدرته وعلمه ، أعلمهم أن ما أنكروه وجحدوه
هم لاقوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة ، ونبه على اقتراب ذلك بأن عبر عنه
بلفظ الماضي . وهو قوله : ) وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ( ) وَنُفِخَ
فِى الصُّورِ ( ، وسكرة الموت : شدّته الذاهبة بالعقل . والباء في بالحق للتعدية ،
يعني : وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله . أو
حقيقة الأمر وجلية الحال : من سعادة الميت وشقاوته . وقيل : الحق الذي خلق له
الإنسان ، أن كل نفس ذائقة الموت . ويجوز أن تكون الباء مثلها في قوله : ) تَنبُتُ
بِالدُّهْنِ ( ( المؤمنون : 20 ) أي وجاءت ملتبسة بالحق ، أي : بحقيقة الأمر . أو
بالحكمة والغرض الصحيح ، كقوله تعالى : ) خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
بِالْحَقّ ( ( الأنعام : 73 ) وقرأ أبو بكر وابن مسعود رضي الله عنهما ( سكرة الحق
بالموت ) على إضافة السكرة إلى الحق والدلالة على أنها السكرة التي كتبت على
الإنسان وأوجبت له ، وأنها حكمة . والباء للتعدية ؛ لأنها سبب زهوق الروح لشدتها ،
أو لأنّ الموت يعقبها ؛ فكأنها جاءت به . ويجوز أن يكون المعنى : جاءت ومعها الموت
. وقيل سكرة الحق سكرة الله ، أضيفت إليه تفظيعاً لشأنها وتهويلاً . وقرىء : (
سكرات الموت ) ) ذَلِكَ ( إشارة إلى الموت ، والخطاب للإنسان في قوله : ) وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الإِنْسَانَ ( ( الحجر : 26 ) على طريق الالتفات . أو إلى الحق والخطاب
للفاجر ) تَحِيدُ ( تنفر وتهرب . وعن بعضهم : أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك فقال :
الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فحكاه لصالح بن كيسان فقال : والله ما
سنّ عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب ، هو للكافر . ثم حكاهما للحسين بن
عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال : أخالفهما جميعاً : هو للبر والفاجر ) ذَلِكَ
يَوْمَ الْوَعِيدِ ( على تقدير حذف المضاف ، أي : وقت ذلك يوم الوعيد ، والإشارة
إلى مصدر نفخ ) سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ملكان : أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر
يشهد عليه بعمله . أو ملك واحد جامع بين الأمرين ، كأنه قيل : معها ملك يسوقها
ويشهد عليها ؛ ومحل ) مَّعَهَا سَائِقٌ ( النصب على الحال من كل لتعرّفه بالإضافة
إلى ما هو في حكم المعرفة . قرىء : ( لقد كنت ) عنكِ غطائكِ فبصركِ ، بالكسر على
خطاب النفس ، أي : يقال لها لقد كنتِ . جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده كله أو
غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً ؛ فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت الغفلة
عنه وغطاؤها فيبصر ما لم يبصره من الحق . ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته :
حديداً لتيقظه .
" صفحة رقم 390 "
) وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ (
ق : ( 23 ) وقال قرينه هذا . . . . .
) وَقَالَ قَرِينُهُ ( هو الشيطان الذي قيض له في قوله : ) نُقَيّضْ لَهُ
شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( ( الزخرف : 36 ) يشهد له قوله تعالى : ) قَالَ
قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( ( ق : 27 ) . ) هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ
( هذا شيء لديّ وفي ملكتي عتيد لجهنم . والمعنى : أن ملكاً يسوقه وآخر يشهد عليه ،
وشيطاناً مقروناً به ، يقول : قد أعتدته لجهنم وهيأته لها بإغوائي وإضلالي . فإن
قلت : كيف إعراب هذا الكلام ؟ قلت : إن جعلت ) مَا ( موصوفة ، فعتيد : صفة لها :
وإن جعلتها موصولة ، فهو بدل ، أو خبر بعد خبر . أو خبر مبتدأ محذوف .
) أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ
مُّرِيبٍ الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى
الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (
ق : ( 24 - 26 ) ألقيا في جهنم . . . . .
) أَلْقِيَا ( خطاب من الله تعالى للملكين السابقين : السائق والشهيد : ويجوز أن
يكون خطاباً للواحد على وجهين : أحدهما قول المبرد : أن تثنية الفاعل نزلت منزلة
تثنية الفعل لاتحادهما ، كأنه قيل : ألق ألق : للتأكيد . والثاني : أنّ العرب أكثر
ما يرافق الرجل منهم اثنان ، فكثر على ألسنتهم أن يقولوا : خليليّ وصاحبيّ ، وقفا
وأسعدا ، حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين عن الحجاج أنه كان يقول : يا حرسي ،
اضربا عنقه . وقرأ الحسن ( ألقين ) بالنون الخفيفة . ويجوز أن تكون الألف في )
أَلْقِيَا ( بدلاً من النون : إجراء للوصل مجرى الوقف ) عَنِيدٍ ( معاند مجانب
للحق معاد لأهله ) مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ ( كثير المنع للمال على حقوقه ، جعل ذلك
عادة له لا يبذل منه شيئاٌ قط . أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله يحول بينه
وبينهم . قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يمنع بني أخيه من الإسلام ، وكان
يقول : من دخل معكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت ) مُعْتَدٍ ( ظالم متخط للحق )
مُرِيبٍ ( شاك في الله وفي دينه ) الَّذِى جَعَلَ ( مبتدأ مضمن معنى الشرط ، ولذلك
أجيب بالفاء . ويجوز أن يكون ) الَّذِى جَعَلَ ( منصوباً بدلاً من ) كُلَّ
كَفَّارٍ ( ويكون ) فَأَلْقِيَاهُ ( تكريراً للتوكيد .
) قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَلٍ بَعِيدٍ (
ق : ( 27 ) قال قرينه ربنا . . . . .
فإن قلت : لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الأولى ؟ قلت : لأنها استؤنفت
كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى
وفرعون . فإن قلت : فأين التقاول هاهنا ؟ قلت : لما قال قرينه : ) هَاذَا مَا
لَدَىَّ عَتِيدٌ
" صفحة رقم 391 "
( وتبعه قوله : ) قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( وتلاه : ) لاَ
تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ ( ( ق : 28 ) : علم أنّ ثم مقاولة من الكافر ، لكنها طرحت
لما يدل عليها ، كأنه قال : رب هو أطغاني ، فقال قرينه : ربنا ما أطغيته . وأمّا
الجملة الأولى فواجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول
، أعني مجيء كل نفس مع الملكين : وقول قرينه ما قال له : ) مَا أَطْغَيْتُهُ ( ما
جعلته طاغياً ، وما أوقعته في الطغيان ، ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى كقوله
تعالى : ) وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( ( إبراهيم : 22 ) .
) قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا
يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (
ق : ( 28 ) قال لا تختصموا . . . . .
) قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ ( استئناف مثل قوله : ) قَالَ قرِينُهُ ( ( ق : 27 )
كأن قائلاً قال : فماذا قال الله ؟ فقيل : قال لا تختصموا . والمعنى : لا تختصموا
في دار الجزاء وموقف الحساب ، فلا فائدة في اختصامكم ولا طائل تحته ، وقد أوعدتكم
بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي ، فما تركت لكم حجة عليَّ ، ثم قال :
لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي فأعفيكم عما أوعدتكم به ) وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ
لّلْعَبِيدِ ( ( البقرة : 195 ) فأعذب من ليس بمستوجب للعذاب . والباء في )
بِالْوَعِيدِ ( مزيدة مثلها في ) وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ ( أو معدية ، على أن ( قدّم ) مطاوع بمعنى ( تقدّم ) ويجوز أن يقع
الفعل على جملة قوله : ) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّامٍ
لِّلْعَبِيدِ ( ولأن بالوعيد حالاً ، أي : قدّمت إليكم هذا ملتبساً بالوعيد
مقترناً به . أو قدّمته إليكم موعداً لكم به . فإن قلت : إنّ قوله : ) وَقَدْ
قَدَّمْتُ إِلَيْكُم ( واقع موقع الحال من ) لاَ تَخْتَصِمُواْ ( والتقديم بالوعيد
في الدنيا والخصومة في الآخرة واجتماعها في زمان واحد واجب . قلت : معناه ولا
تختصموا وقد صح عندكم أني قدمت إليكم بالوعيد ، وصحة ذلك عندهم في الآخرة ، فإن
قلت :
" صفحة رقم 392 "
كيف قال : ) بِظَلَّامٍ ( على لفظ المبالغة ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون
من قولك : هو ظالم لعبده ، وظلام لعبيده . والثاني : أن يراد لو عذبت من لا يستحق
العذاب لكنت ظلاماً مفرط الظلم . فنفى ذلك .
) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاّتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (
ق : ( 30 ) يوم نقول لجهنم . . . . .
قرىء : ( نقول ) بالنون والياء . وعن سعيد بن جبير : يوم يقول الله لجهنم . وعن
ابن مسعود والحسن : يقال . وانتصاب اليوم بظلام أو بمضمر . نحو : أذكر وأنذر .
ويجوز أن ينتصب بنفخ ، كأنه قيل : ونفخ في الصور يوم نقول لجهنم . وعلى هذا يشار
بذلك إلى يوم نقول ، ولا يقدّر حذف المضاف . وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل
الذي يقصد به تصوير المعنى في القلب وتثبيته ، وفيه معنيان ، أحدهما : أنها تمتلىء
مع اتساعها وتباعد أطرافها حتى لا يسعها شيء ولا يزاد على امتلائها ، لقوله تعالى
: ) لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ ( ( السجدة : 13 ) والثاني : أنها من السعة بحيث يدخلها
من يدخلها وفيها موضع للمزيد . ويجوز أن يكون ) هَلْ مِن مَّزِيدٍ ( استكثاراً
للداخلين فيها واستبداعاً للزيادة
" صفحة رقم 393 "
عليهم لفرط كثرتهم . أو طلباً للزيادة غيظاً على العصاة . والمزيد : إما مصدر
كالمحيد والمميد ، وإما اسم مفعول كالمبيع .
) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ
مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ
فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (
ق : ( 31 ) وأزلفت الجنة للمتقين . . . . .
) غَيْرَ بَعِيدٍ ( نصب على الظرف ، أي : مكاناً غير بعيد . أو على الحال ،
وتذكيره لأنه على زنة المصدر ، كالزئير والصليل ؛ والمصادر يستوي في الوصف بها
المذكر والمؤنث . أو على حذف الموصوف ، أي : شيئاً غير بعيد ، ومعناه التوكيد ،
كما تقول : هو قريب غير بعيد ، وعزيز غير ذليل . وقرىء : ) تُوعَدُونَ ( بالتاء
والياء ، وهي جملة اعتراضية . و ) لِكُلّ أَوَّابٍ ( بدل من قوله للمتقين ، بتكرير
الجارّ كقوله تعالى : ) لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ( (
الأعراف : 75 ) ، وهذا إشارة إلى الثواب . أو إلى مصدر أزلفت . والأوّاب : الرجاع
إلى ذكر الله تعالى ، والحفيظ : الحافظ لحدوده تعالى . و ) مَّنْ خَشِىَ ( بدل بعد
بدل تابع لكل . ويجوز أن يكون بدلاً عن موصوف أوّاب وحفيظ ، ولا يجوز أن يكون في
حكم أوّاب وحفيظ ؛ لأنّ من لا يوصف به ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي وحده .
ويجوز أن يكون مبتدأ خبره : يقال لهم ادخلوها بسلام ، لأنّ ) مَّنْ ( في معنى
الجمع . ويجوز أن يكون منادى كقولهم : من لا يزال محسناً أحسن إليّ ، وحذف حرف
النداء للتقريب ) بِالْغَيْبِ ( حال من المفعول ، أي : خشيه وهو غائب لم يعرفه ،
وكونه معاقباً إلا بطريق الاستدلال . أو صفة لمصدر خشى ، أي خشية خشية ملتبسة
بالغيب ، حيث خشى عقابه وهو غائب ، أو خشية بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه ،
وقيل : في الخلوة حيث لا يراه أحد . فإن قلت : كيف قرن بالخشية اسمه الدال على سعة
الرحمة ؟ قلت : للثناء البليغ على الخاشي وهو خشيته ، مع علمه أنه الواسع الرحمة .
كما أثنى عليه بأنه خاش ، مع أنّ المخشى منه غائب ، ونحوه : ) وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ( ( المؤمنون : 60 ) فوصفهم بالوجل
مع كثرة الطاعات . وصف القلب بالإنابة وهي الرجوع إلى الله تعالى ؛ لأنّ الاعتبار
بما ثبت منها في القلب . يقال لهم : ) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ( أي سالمين من العذاب
وزوال النعم . أو مسلماً عليكم يسلم عليكم الله وملائكته ) ذَلِكَ يَوْمُ
الُخُلُودِ ( أي يوم تقدير الخلود ، كقوله تعالى : ) فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( (
الزمر : 73 ) أي مقدرين الخلود ) وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( هو ما لم يخطر ببالهم ولم
" صفحة رقم 394 "
تبلغه أمانيهم ، حتى يشاؤه . وقيل : إن السحاب تمرّ بأهل الجنة فتمطرهم الحور ،
فتقول : نحن المزيد الذي قال الله عز وجل : ) وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( .
) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً
فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ (
ق : ( 36 ) وكم أهلكنا قبلهم . . . . .
(فنقبوا ) وقرىء بالتخفيف : فخرقوا في البلاد ودوّخوا . والتنقيب : التنقير عن
الأمر والبحث والطلب . قال الحرث بن حلزة : نَقَّبُوا فِي الْبِلاَد مِنْ حَذَرِ
الْمَو
تِ وَجَالُوا فِي الأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ
ودخلت الفاء للتسبيب عن قوله : ) هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ( أي : شدّة بطشهم
أبطرتهم وأقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه . ويجوز أن يراد : فنقب أهل مكة في
أسفارهم ومسايرهم في بلاد القرون ، فهل رأوا لهم محيصاً حتى يؤملوا مثله لأنفسهم ،
والدليل على صحته قراءة من قرأ : ( فنقبوا ) على الأمر ، كقوله : ) فَسِيحُواْ فِى
الاْرْضِ ( ( التوبة : 2 ) وقرىء بكسر القاف مخففة من النقب وهو أن يتنقب خف
البعير . قال : مَا مَسَّهَا مِنْ نَقَبٍ وَلاَ دَبَرْ ;
والمعنى : فنقبت أخفاف إبلهم . أو : حفيت أقدامهم ونقبت ، كما تنقب أخفاف الإبل
لكثرة طوفهم في البلاد ) هَلْ مِن مَّحِيصٍ ( من الله ، أو من الموت .
) إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
وَهُوَ شَهِيدٌ (
ق : ( 37 ) إن في ذلك . . . . .
) لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( أي قلب واع ؛ لأنّ من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له .
وإلقاء السمع : الإصغاء ) وَهُوَ شَهِيدٌ ( أي حاضر بفطنته . لأنّ من لا يحضر ذهنه
فكأنه غائب ، وقد ملح الإمام عبد القاهر في قوله لبعض من يأخذ عنه :
مَا شِئْتَ مِنْ زَهْزَهَةٍ وَالْفَتَى
بِمُصْقِلاَبَاذٍ لِسَقْيِ الزُّرُوعِ
أو : وهو مؤمن شاهد على صحته وأنه وحي من الله ، أو وهو بعض الشهداء في قوله تعالى
: ) لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( ( البقرة : 143 ) وعن قتادة وهو شاهد
على
" صفحة رقم 395 "
صدقه من أهل الكتاب لوجود نعته عنده وقرأ السدي وجماعة ( ألقى السمع ) على البناء
للمفعول . ومعناه : لمن ألقى غيره السمع وفتح له أذنه فحسب ولم يحضر ذهنه وهو حاضر
الذهن متفطن . وقيل : ألقى سمعه أو السمع منه .
) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ الَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن
مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (
ق : ( 38 - 43 ) ولقد خلقنا السماوات . . . . .
اللغوب الإعياء . وقرىء بالفتح بزنة القبول والولوع قيل نزلت في اليهود لعنت
تكذيبا لقولهم خلق الله السماوات والأرض في ستة ايام أولها الأحد وآخرها الجمعة
واستراح يوم السبت واستلق على عرشه وقالوا ان الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة
انما وقع من اليهود ومنهم اخذ ) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ( أي اليهود
ويأتون به من الكفر والتشبيه . وقيل : فاصبر على ما يقول المشركون من إنكارهم
البعث ؛ فإنّ من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منهم . وقيل : هي
منسوخة بآية السيف . وقيل : الصبر مأمور به في كل حال ) بِحَمْدِ رَبّكَ ( حامداً
ربك ، والتسبيح محمول على ظاهره أو على الصلاة ، فالصلاة ) قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ ( الفجر ) وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( الظهر والعصر ) وَمِنَ الَّيْلِ (
العشاآن . وقيل التهجد ) وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( التسبيح في آثار الصلوات ،
والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة . وقيل النوافل بعد المكتوبات . وعن علي رضي
الله عنه : الركعتان بعد المغرب . وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1086 ) ( من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين ) وعن ابن
" صفحة رقم 396 "
عباس رضي الله عنهما : الوتر بعد العشاء . والأدبار : جمع دبر . وقرىء : ( وأدبار
) من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت . ومعناه : ووقت انقضاء السجود ، كقولهم : آتيك
خفوق النجم ) وَاسْتَمِعْ ( يعني واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة . وفي
ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به والمحدّث عنه ، كما يروى عن النبي ( صلى الله
عليه وسلم )
( 1087 ) أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل : ( يا معاذاً اسمع ما أقول لك ) ، ثم
حدّثه بعد ذلك . فإن قلت : بم انتصب اليوم ؟ قلت : بما دل عليه ) ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ ( أي : يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور . ويوم يسمعون : بدل من )
يَوْمَ يُنَادِ ( و ) الْمُنَادِ ( إسرافيل ينفخ في الصور وينادي : أيتها العظام
البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إنّ الله يأمركن أن
تجتمعن لفصل القضاء . وقيل : إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي بالحشر ) مِن مَّكَانٍ
قَرِيبٍ ( من صخرة بيت المقدس ، وهي أقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلاً ، وهي
وسط الأرض . وقيل : من تحت أقدامهم . وقيل : من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة :
أيتها العظام البالية ، و ) الصَّيْحَةَ ( النفخة الثانية ) بِالْحَقّ ( متعلق
بالصيحة ، والمراد به البعث والحشر للجزاء .
) يَوْمَ تَشَقَّقُ الاٌّ رْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ
(
ق : ( 44 ) يوم تشقق الأرض . . . . .
وقرىء : ( تشقق ) وتشقق بإدغام التاء في الشين ، وتشقق على البناء للمفعول ، وتنشق
) سِرَاعاً ( حال من المجرور ) عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( تقديم الظرف يدل على الاختصاص
، يعني : لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن
عن شأن ، كما قال تعالى : ) مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ
واحِدَةٍ ( ( لقمان : 28 ) .
) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ
بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (
ق : ( 45 ) نحن أعلم بما . . . . .
) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ( تهديد لهم وتسلية لرسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) بِجَبَّارٍ ( كقوله تعالى : ) بِمُسَيْطِرٍ ( حتى تقسرهم على
الإيمان ، إنما أنت داع وباعث . وقيل : أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم .
ويجوز أن يكون من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه ، أي : ما أنت بوال عليهم
تجبرهم على الإيمان . وعلى بمنزلته في قولك : هو
" صفحة رقم 397 "
عليهم ، إذا كان واليهم ومالك أمرهم ) مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( كقوله تعالى : )
إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( ( النازعات : 45 ) لأنه لا ينفع إلا فيه
دون المصر على الكفر .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1088 ) ( من قرأ سورة ق هوّن الله عليه تارات الموت وسكراته ) .
" صفحة رقم 398 "
( سورة الذاريات )
مكية وآياتها 60 ( نزلت بعد الأحقاف )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالذَارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ
لَوَاقِعٌ (
الذاريات : ( 1 - 6 ) والذاريات ذروا
) وَالذرِيَاتِ ( الرياح لأنها تذور التراب وغيره . قال الله تعالى : ( تذروه
الرياح ) وقرىء بإدغام التاء في الذال ) فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً ( السحاب ، لأنها
تحمل المطر . وقرىء : ( وقراً ) بفتح الواو على تسمية المحمول بالمصدر . أو على
إيقاعه موقع حملاً ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً ( الفلك . ومعنى ( يسراً ) : جريا ذا
يسر ، أي ذا سهولة ) فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً ( الملائكة ، لأنها تقسم الأمور من
الأمطار والأرزاق وغيرها . وتفعل التقسيم مأمورة بذلك . وعن مجاهد : تتولى تقسيم
أمر العباد : جبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة . وملك الموت لقبض الأرواح ،
وإسرافيل للنفخ . وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر : سلوني قبل أن لا
تسألوني ، ولن تسألوا بعدي مثلي ، فقام ابن الكوّاء فقال : ما الذريات ذروا ؟ قال
: الرياح . قال : فالحاملات وقرا ؟ قال السحاب . قال : فالجاريات يسراً ؟ قال :
الفلك . قال فالمقسمات أمراً ؟ قال : الملائكة وكذا عن ابن عباس . وعن الحسن (
المقسمات ) السحاب ، يقسم الله بها أرزاق العباد ، وقد حملت على الكواكب السبعة ،
ويجوز أن يراد : الرياح لا غير ؛ لأنها تنشىء السحاب وتقله وتصرفه ، وتجري في الجو
جرياً سهلاً ، وتقسم الأمطار بتصريف السحاب . فإن قلت : ما معنى الفاء على
التفسيرين ؟ قلت : أمّا على الأوّل فمعنى التعقيب فيها أنه تعالى أقسم بالرياح ،
فبالسحاب الذي تسوقه ، فبالفلك التي تجريها بهبوبها ، فبالملائكة التي تقسم
الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر ومنافعه . وأمّا على الثاني ، فلأنها
تبتدىء بالهبوب ، فتذرو التراب والحصباء ، فتنقل السحاب ، فتجري في الجوّ باسطة له
فتقسم
" صفحة رقم 399 "
المطر ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ ( جواب القسم ، وما موصولة أو مصدرية ، والموعود :
البعث . ووعد صادق : كعيشة راضية . والدين : الجزاء . والواقع : الحاصل .
) وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ
عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (
الذاريات : ( 7 ) والسماء ذات الحبك
) الْحُبُكِ ( الطرائق ، مثل حبك الرمل والماء : إذا ضربته الريح ، وكذلك حبك
الشعر : آثار تثنيه وتكسره . قال زهير : مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُه
رِيحٌ خَرِيقٌ لِضَاحِي مَائِهِ حُبُكُ
والدرع محبوكة : لأنّ حلقها مطرق طرائق . ويقال : إنّ خلقه السماء كذلك . وعن
الحسن : حبكها نجومها . والمعنى : أنها تزينها كما تزين الموشى طرائق الوشي . وقيل
: حبكها صفاتها وإحكامها ، من قولهم : فرس محبوك المعاقم ؛ أي محكمها . وإذا أجاد
الحائك الحياكة قالوا : ما أحسن حبكه ، وهو جمع حباك ، كمثال ومثل . أو حبيكة ،
كطريقة وطرق . وقرىء : ( الحبك ) بوزن القفل . والحبك ، بوزن السلك . والحبك ،
بوزن الجبل . والحبك بوزن البرق . والحبك بوزن النعم . والحبك بوزن الإبل )
إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( قولهم في الرسول : ساحر وشاعر ومجنون ، وفي
القرآن : شعر وسحر وأساطير الأولين . وعن الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً ،
إنما هو متناقض مختلف . وعن قتادة : منكم مصدّق ومكذب ، ومقرّ ومنكر ) يُؤْفَكُ
عَنْهُ ( الضمير للقرآن وللرسول ، أي : يصرف عنه ، من صرف الصرف الذي لا صرف أشد
منه وأعظم ؛ كقوله : لا يهلك على الله إلا هالك . وقيل : يصرف عنه من صرف في سابق
علم الله ، أي : علم فيما لم يزل أنه مأفوك عن الحق لا يرعوى . ويجوز أن يكون
الضمير لما توعدون أو للدين : أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق ، ثم
أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه ، فمنهم شاك ، ومنهم جاحد . ثم قال :
يؤفك عن الإقرار
" صفحة رقم 400 "
بأمر القيامة من هو المأفوك . ووجه آخر : وهو أن يرجع الضمير إلى قول مختلف وعن
مثله في قوله : يَنْهَوْنَ عَنْ أَكْلٍ وَعَنْ شُرْبِ ;
أي : يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب . وحقيقته : يصدر تناهيهم في السمن عنهما
، وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف . وقرأ سعيد بن جبير ( يؤفك عنه ) من أفك ،
على البناء للفاعل . أي : من أفك الناس عنه وهم قريش ، وذلك أنّ الحي كانوا يبعثون
الرجل ذا العقل والرأي ليسأل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فيقولون له :
احذره ، فيرجع فيخبرهم . وعن زيد بن علي : يأفك عنه من أفك ، أي : يصرف الناس عنه
من هو مأفوك في نفسه . وعنه أيضاً : يأفك عنه من أفك ؛ أي : يصرف الناس عنه من هو
أفاك كذاب . وقرىء : ( يؤفن عنه من أفن ) أي : يحرمه من رحم ، من أفن الضرع إذا
نهكه حلباً .
) قُتِلَ الْخَرَاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْألُونَ أَيَّانَ
يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ
هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (
الذاريات : ( 10 - 14 ) قتل الخراصون
) قُتِلَ الْخَرصُونَ ( دعاء عليهم ، كقوله تعالى : ) قُتِلَ الإِنسَانُ مَا
أَكْفَرَهُ ( ( عبس : 17 ) وأصله الدعاء بالقتل والهلاك ، ثم جرى مجرى : لعن وقبح
. والخرّاصون : الكذابون المقدرون ما لا يصح ، وهم أصحاب القول المختلف ، واللام
إشارة إليهم ، كأنه قيل : قتل هؤلاء الخراصون . وقرىء : ( قتل الخراصين ) أي : قتل
الله ) فِى غَمْرَةٍ ( في جهل يغمرهم ) سَاهُونَ ( غافلون عما أمروا به )
يُسْئَلُونَ ( فيقولون : ( أيان يوم الدين ) أي متى يوم الجزاء . وقرىء بكسر
الهمزة وهي لغة . فإن قلت : كيف وقع أيان ظرفاً لليوم ، وإنما تقع الأحيان ظروفاً
للحدثان ؟ قلت : معناه : أيان وقوع يوم الدين . فإن قلت : فبم انتصب اليوم الواقع
في الجواب ؟ قلت : بفعل مضمر دل عليه السؤال ، أي : يقع يوم هم على النار يفتنون ،
ويجوز أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى غير متمكن وهي الجملة . فإن قلت : فما محله
مفتوحاً ؟ قلت : يجوز أن يكون محله نصباً بالمضمر الذي هو يقع ؛ ورفعا على هو يوم
هم على النار يفتنون . وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع ) يُفْتَنُونَ ( يحرقون ويعذبون .
ومنه الفتين : وهي الحرّة ؛ لأن حجارتها كأنها محرقة ) ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ( في
محل الحال ،
" صفحة رقم 401 "
أي : مقولاً لهم هذا القول ) هَاذَا ( مبتدأ ، و ) الَّذِى ( خبره ، أي : هذا
العذاب هو الذي ) كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( ويجوز أن يكون هذا بدلاً من
فتنتكم ؛ أي : ذوقوا هذا العذاب .
) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيْلِ
مَا يَهْجَعُونَ وَبِالاٌّ سْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى أَمْوَالِهِمْ
حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ (
الذاريات : ( 15 - 19 ) إن المتقين في . . . . .
) ءاخِذِينَ مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ ( قابلين لكل ما أعطاهم راضين به ، يعني أنه
ليس فيما آتاهم إلا ما هو ملتقى بالقبول مرضى غير مسخوط ، لأن جميعه حسن طيب .
ومنه قوله تعالى : ) وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ( ( التوبة : 104 ) أي يقبلها
ويرضاها ) مُحْسِنِينَ ( قد أحسنوا أعمالهم ، وتفسير إحسانهم ما بعده ) مَا (
مزيدة . والمعنى : كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل إن جعلت قليلاً ظرفاً ،
ولك أن تجعله صفة للمصدر ، أي : كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً . ويجوز أن تكون ) مَا
( مصدرية أو موصولة ؛ على : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ، أو ما يهجعون فيه ،
وارتفاعه بقليلاً على الفاعلية . وفيه مبالغات لفظ الهجوع ، وهو الفرار من النوم .
قال : قَدْ حَصَتِ الْبَيْضَةُ رَأْسِي فَمَا
أَطْعَمُ نَوْماً غَيْرَ تَهْجَاعِ
" صفحة رقم 402 "
وقوله : ) قَلِيلاً ( و ) مِّنَ الَّيْلِ ( لأن الليل وقت السبات والراحة ، وزيادة
) مَا ( المؤكدة لذلك : وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا في
الاستغفار ، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم . وقوله : ) هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (
فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين ، فكأنهم المختصون به
لاستدامتهم له وإطنابهم فيه . فإن قلت : هل يجوز أن تكون ما نافية كما قال بعضهم ،
وأن يكون المعنى : أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ، ويحيونه كله ؟ قلت : لا ، لأن
ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . تقول : زيداً لم أضرب ، ولا تقول :
زيداً ما ضربت : السائل : الذي يستجدي ) وَالْمَحْرُومِ ( الذي يحسب غنياً فيحرم
الصدقة لتعففه . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1089 ) ( ليس المسكين الذي تردّه الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان والتمرة
والتمرتان ) قالوا : فما هو ؟ قال : ( الذي لا يجد ولا يتصدق عليه ) وقيل : الذي
لا ينمى له مال . وقيل : المحارف الذي لا يكاد يكسب .
) وَفِى الاٌّ رْضِ ءَايَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ
تُبْصِرُونَ (
الذاريات : ( 20 - 21 ) وفي الأرض آيات . . . . .
) وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ ( تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره حيث هي مدحوّة
كالبساط لما فوقها كما قال : ) الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً ( ( طه :
53 ) وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها والماشين في مناكبها ، وهي مجزأة : فمن
سهل وجبل وبر وبحر : وقطع متجاورات : من صلبة ورخوة ، وعذاة وسبخة ؛ وهي كالطروقة
تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار بالثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح
تسقى بماء واحد ) وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْكُلِ ( ( الرعد : 4 )
وكلها موافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم ، وما فيها من
العيون المتفجرة والمعادن المفننة والدواب المنبثة في برها وبحرها المختلفة الصور
والأشكال والأفعال : من الوحشي والإنسي والهوام ، وغير ذلك ) لّلْمُوقِنِينَ (
الموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة ، فهم نظارون
بعيون باصرة وأفهام نافذة ، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها ، فازدادوا إيماناً مع
إيمانهم ، وإيقاناً إلى إيقانهم ) وَفِى أَنفُسِكُمْ ( في
" صفحة رقم 403 "
حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع
الخلق : ما تتحير فيه الأذهان ، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وخصت به من
أصناف المعاني ، وبالألسن ، والنطق ، ومخارج الحروف ، وما في تركيبها وترتيبها
ولطائفها : من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة المدبر ، دع الأسماع
والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له ، وما سوّى في الأعضاء من
المفاصل للانعطاف والتثنى . فإنه إذا جسا شيء منها جاء العجز ، وإذا استرخى أناخ
الذل ، فتبارك الله أحسن الخالقين .
) وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالاٌّ
رْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (
الذاريات : ( 22 - 23 ) وفي السماء رزقكم . . . . .
) وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ ( هو المطر ؛ لأنه سبب الأقوات . وعن سعيد بن جبير :
هو الثلج وكل عين دائمة منه . وعن الحسن : أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه :
فيه والله رزقكم ، ولكنكم تحرمونه لخطاياكم ) وَمَا تُوعَدُونَ ( الجنة : هي على
ظهر السماء السابعة تحت العرش . أو أراد : أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدون به
في العقبى كله مكتوب في السماء . قرىء : ( مثل ما ) بالرفع صفة للحق ، أي حق مثل
نطقكم ، وبالنصب على : إنه لحق حقاً مثل نطقكم . ويجوز أن يكون فتحاً لإضافته إلى
غير متمكن . وما مزيدة بنص الخليل ، وهذا كقول الناس : إن هذا لحق ، كما أنك ترى
وتسمع ، ومثل ما إنك ههنا . وهذا الضمير إشارة إلى ما ذكر من أمر الآيات والرزق
وأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ أو إلى ما توعدون . وعن الأصمعي : أقبلت من
جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع . قال
: من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن . فقال : اتل عليّ ، فتلوت )
وَالذرِيَاتِ ( فلما بلغت قوله تعالى : ) وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ ( قال : حسبك
، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر ، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما
وولى ، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف ، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق ، فالتفت
فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر ، فسلم عليّ واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية
صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ، ثم قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت : فورب
السماء والأرض إنه لحق ، فصاح وقال : يا سبحان الله ، من ذا الذي أغضب الجليل حتى
حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين ؛ قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه .
" صفحة رقم 404 "
) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ
عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى
أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ
تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ
بِغُلَامٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ
الْعَلِيمُ (
الذاريات : ( 24 - 30 ) هل أتاك حديث . . . . .
) هَلْ أَتَاكَ ( تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، وإنما عرفه بالوحي . والضيف للواحد والجماعة كالزور والصوم ؛ لأنه
في الأصل مصدر ضافه ، وكانوا اثني عشر ملكاً . وقيل : تسعة عاشرهم جبريل . وقيل
ثلاثة : جبريل ، وميكائيل ، وملك معهما . وجعلهم ضيفاً ؛ لأنهم كانوا في صورة
الضيف : حيث أضافهم إبراهيم . أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك . وإكرامهم : أنّ
إبراهيم خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، وعجل لهم القرى أو أنهم في أنفسهم مكرمون
. قال الله تعالى : ) بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( ( الأنبياء : 26 ) . ) إِذْ
دَخَلُواْ ( نصب بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم ؛ وإلا فبما في ضيف من معنى
الفعل . أو بإضمار أذكر ) سَلَاماً ( مصدر سادّ مسدّ الفعل مستغنى به عنه . وأصله
: نسلم عليكم سلاماً ، وأمّا ) سَلَامٌ ( معدول به إلى الرفع على الابتداء . وخبره
محذوف ، معناه : عليكم سلام ، للدلالة على ثبات السلام ، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن
مما حيوه به ، أخذا بأدب الله تعالى . وهذا أيضاً من إكرامه لهم . وقرئا مرفوعين .
وقرىء : ( سلاما ) قال ( سلما ) والسلم : السلام . وقرىء ( سلاما قال سلم ) )
قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام . أو أراد : أنهم ليسوا
من معارفه أو من جنس الناس الذين عهدهم ، كما لو أبصر العرب قوماً من الخزر أو رأى
لهم حالاً وشكلاً خلاف حال الناس وشكلهم ، أو كان هذا سؤالاً لهم ، كأنه قال :
أنتم قوم منكرون ، فعرفوني من أنتم ) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ ( فذهب إليهم في خفية
من ضيوفه ؛ ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يبادره بالقرى من غير أن يشعر به
الضيف ، حذراً من أن يكفه ويعذره . قال قتادة : كان عامة مال نبي الله إبراهيم :
البقر ) فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( . والهمزة في ) أَلا تَأْكُلُونَ ( للإنكار :
أنكر عليهم ترك الأكل . أو حثهم عليه ) فَأَوْجَسَ ( فأضمر . وإنما خافهم لأنهم لم
يتحرّموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءاً . وعن ابن عباس : وقع في نفسه أنهم
ملائكة أرسلوا للعذاب . وعن عون بن شداد : مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى
لحق بأمّه ) بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( أي يبلغ ويعلم . وعن الحسن :
" صفحة رقم 405 "
عليم : نبيّ ، والمبشر به إسحاق ، وهو أكثر الأقاويل وأصحها ؛ لأن الصفة صفة سارّة
لا هاجر ، وهي امرأة إبراهيم وهو بِعلها . وعن مجاهد : هو إسماعيل ) فِى صَرَّةٍ (
في صيحة ، من : صر الجندب ، وصرّ القلم والباب ، ومحله النصب على الحال ، أي :
فجاءت صارّة . قال الحسن : أقبلت إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم ، لأنها
وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء ، وقيل : فأخذت في صرة ، كما تقول : أقبل
يشتمني . وقيل : صرتها قولها : أوه . وقيل : يا ويلتا . وعن عكرمة : رنتها )
فَصَكَّتْ ( فلطمت ببسط يديها . وقيل : فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب )
عَجُوزٌ ( أنا عجوز ، فكيف ألد ) كَذَلِكِ ( مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به ) قَالَ
رَبُّكِ ( أي إنما نخبرك عن الله ، والله قادر على ما تستبعدين . وروى أنّ جبريل
قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة .
) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ
إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ
مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ
وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ (
الذاريات : ( 31 ) قال فما خطبكم . . . . .
لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله رسلاً في بعض الأمور ) قَالَ
فَمَا خَطْبُكُمْ ( أي : فما شأنكم وما طلبكم ) إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( إلى
قوم لوط ) حِجَارَةً مّن طِينٍ ( يريد : السجيل ، وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر ،
حتى صار في صلابة الحجارة ) مُّسَوَّمَةً ( معلمة ، من السومة ، وهي العلامة على
كل واحد منها اسم من يهلك به . وقيل : أعلمت بأنها من حجارة العذاب . وقيل :
بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا . سماهم مسرفين ، كما سماهم عادين ،
لإسرافهم وعدوانهم في عملهم : حيث لم يقنعوا بما أبيح لهم . الضمير في ) فِيهَا (
للقرية ، ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة . وفيه دليل على أنّ الإيمان والإسلام
واحد ، وأنهما صفتا مدح . قيل : هم لوط وابنتاه . وقيل : كان لوط وأهل بيته الذين
نجوا ثلاثة عشرة . وعن قتادة : لو كان فيها أكثر من ذلك لأنجاهم ، ليعلموا أن
الإيمان محفوظ لا ضيعة على أهله عند الله ) ءَايَةً ( علامة يعتبر بها الخائفون
دون القاسية قلوبهم . قال ابن جريج : هي صخر منضود فيها . وقيل : ماء أسود منتن .
) وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
" صفحة رقم 406 "
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (
الذاريات : ( 38 - 39 ) وفي موسى إذ . . . . .
) وَفِى مُوسَى ( عطف على ) وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ ( أو على قوله : ) وَتَرَكْنَا
فِيهَا ءايَةً ( على معنى : وجعلنا في موسى آية كقوله : عَلَفْتُهَا تِبْناً
وَمَاءً بَارِداً ;
) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ( فأزورّ ، وأعرض ، كقوله تعالى : ) وَنَأَى بِجَانِبِهِ
( ( فصلت : 51 ) وقيل : فتولى بما كان يتقوّى به من جنوده وملكه . وقرىء : ( بركنه
) ، بضم الكاف ) وَقَالَ سَاحِرٌ ( أي هو ساحر
الذاريات : ( 40 ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم . . . . .
) مُلِيمٌ ( آت بما يلام عليه من كفره وعناده ، والجملة مع الواو حال من الضمير في
فأخذناه . فإن قلت : كيف وصف نبي الله يونس صلوات الله عليه بما وصف به فرعون في
قوله تعالى : ) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ( ( الصافات : 142 ) ؟ قلت
: موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافهما تختلف مقادير اللوم ، فراكب الكبيرة ملوم
على مقدارها ، وكذلك مقترف الصغيرة . ألا ترى إلى قوله تعالى ) وَعَصَوْاْ
رُسُلَهُ ( ( هود : 59 ) ، ) وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ ( ( طه : 121 ) لأنّ الكبيرة
والصغيرة يجمعهما اسم العصيان ، كما يجمعهما اسم القبيح والسيئة .
) وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن
شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (
الذاريات : ( 41 ) وفي عاد إذ . . . . .
) الْعَقِيمَ ( التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر ، وهي ريح الهلاك .
واختلف فيها : فعن علي رضي الله عنه : النكباء . وعن ابن عباس : الدبور . وعن ابن
المسيب : الجنوب . الرميم : كل ما رم أي بلى وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك .
) وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْاْ عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُواْ
مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ (
الذاريات : ( 43 ) وفي ثمود إذ . . . . .
) حَتَّى حِينٍ ( تفسيره قوله : ) تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
( ( هود : 65 ) ) فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ ( فاستكبروا عن امتثاله . وقرىء
: ( الصعقة ) وهي المرّة ، من مصدر صعقتهم الصاعقة : والصاعقة النازلة نفسها )
وَهُمْ يَنظُرُونَ ( كانت نهاراً يعاينونها . وروى أن العمالقة كانوا معهم في
الوادي ينظرون إليهم وما ضرَّتهم ) فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ ( كقوله تعالى
: ) فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( ( العنكبوت : 37 ) وقيل : هو من
قولهم : ما يقوم به ، إذا عجز عن دفعه ) مُنتَصِرِينَ ( ممتنعين من العذاب .
) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ (
الذاريات : ( 46 ) وقوم نوح من . . . . .
) وَقَوْمَ ( قرىء : بالجر على معنى : وفي قوم نوح وتقوّيه قراءة عبد الله : وفي
قوم نوح . وبالنصب على معنى : وأهلكنا قوم نوح ؛ لأنّ ما قبله يدل عليه . أو واذكر
قوم نوح .
" صفحة رقم 407 "
) وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالاٌّ رْضَ
فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (
الذاريات : ( 47 ) والسماء بنيناها بأيد . . . . .
) بِأَيْدٍ ( بقوّة . والأيد والآد . القوّة . وقد آد يئيد وهو أيد ) وَإِنَّا
لَمُوسِعُونَ ( لقادرون ، من الوسع وهو الطاقة . والموسع : القوى على الإنفاق .
وعن الحسن : لموسعون الرزق بالمطر . وقيل : جعلنا بينها وبين الأرض سعة ) فَنِعْمَ
الْمَاهِدُونَ ( فنعم الماهدون نحن .
) وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (
الذاريات : ( 49 ) ومن كل شيء . . . . .
) وَمِن كُلّ شَىْء ( أي من كل شيء من الحيوان ) خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( ذكراً
وأنثى . وعن الحسن : السماء والأرض ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والبر
والبحر ، والموت والحياة ؛ فعدّد أشياء وقال : كل اثنين منها زوج ، والله تعالى
فرد لا مثل له ) لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( أي فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش
الأرض وخلق الأزواج إراده أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه .
) فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ
تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ إِنِّء لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ
مُّبِينٌ (
الذاريات : ( 50 - 51 ) ففروا إلى الله . . . . .
) فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( أي إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ، ووحدوه ولا
تشركوا به شيئاً ، وكرّر قوله : ) إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( عند
الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أنّ
العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما . ألا
ترى إلى قوله تعالى : ) لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن
قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا ( ( الأنعام : 158 ) والمعنى : قل
يا محمد : ففرّوا إلى الله .
" صفحة رقم 408 "
) كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ
سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (
الذاريات : ( 52 ) كذلك ما أتى . . . . .
) كَذَلِكَ ( الأمر ، أي مثل ذلك ، وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً
ومجنوناً ، ثم فسر ماأجمل بقوله ) مَآ أَتَى ( ولا يصح أن تكون الكاف منصوبة بأتى
؛ لأنّ ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . ولو قيل : لم يأت ، لكان صحيحاً
، على معنى : مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلا قالوا ) أَتَوَاصَوْاْ
بِهِ ( الضمير للقول ، يعنى : أتواصى الأوّلون والآخرون بهذا القول حتى قالوه
جميعًا متفقين عليه ) بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( أي لم يتواصوا به لأنهم لم
يتلاقوا في زمان واحد ، بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان ، والطغيان هو الحامل
عليه .
) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ (
الذاريات : ( 54 ) فتول عنهم فما . . . . .
) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( فأعرض عن الذين كرّرت عليهم الدعوة فلم يجيبوا ، وعرفت
عنهم العناد واللجاج ، فلا لوم عليك في إعراضك بعد ما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في
البلاغ والدعوة ، ولا تدع التذكير والموعظة بأيام الله ) فَإِنَّ الذّكْرَى
تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( أي تؤثر في الذين عرف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان
. أو يزيد الداخلين فيه إيماناً . وروى أنه لما نزلت ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( حزن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واشتد ذلك على أصحابه ، ورأوا أنّ الوحي قد
انقطع وأنّ العذاب قد حضر ، فأنزل الله . وذكر .
) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (
الذاريات : ( 56 ) وما خلقت الجن . . . . .
أي : وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة ، ولم أرد من جميعهم إلا إياها . فإن
قلت : لو كان مريداً للعبادة منهم لكانوا كلهم عباداً ؟ قلت : إنما أراد منهم أن
يعبدوه
" صفحة رقم 409 "
مختارين للعبادة لا مضطرين إليها ، لأنه خلقهم ممكنين ، فاختار بعضهم ترك العبادة
كونه مريداً لها ، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم .
) مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (
الذاريات : ( 57 ) ما أريد منهم . . . . .
يريد : أنّ شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، فإنّ ملاك العبيد إنما يملكونهم
ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم ، فإمّا مجهز في تجارة ليفي ربحا . أو
مرتب في فلاحة ليغتلّ أرضاً . أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته . أو محتطب . أو محتش
. أو طابخ . أو خابز ، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب
المعيشة وأبواب الرزق ، فأمّا مالك ملك العبيد وقال لهم : اشتغلوا بما يسعدكم في
أنفسكم ، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم ، وأنا غنيّ عنكم وعن
مرافقكم ، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي ، فما هو إلا أنا وحدي
( المتين ) الشديد القوة . قرىء : بالرفع صفة لذو وبالحر صفة للقوة على تأويل
الإعتذار والمعنى في صفة بالقوة المتانة أنه القادر البليغ الإقتدار على كل شيء (
الرازق ) وفي :
( 1090 ) قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إني أنا الرازق .
) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ
يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى
يُوعَدُونَ (
الذاريات : ( 59 ) فإن للذين ظلموا . . . . .
الذنوب : الدلو العظيمة ، وهذا تمثيل ، أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا
ذنوب ولهذا ذنوب . قال : لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوب
فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ
ولما قال عمرو بن شاس : وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَة
فَحُقَّ لشَاسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
" صفحة رقم 410 "
قال الملك : نعم وأذنبة . والمعنى : فإنّ الذين ظلموا رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) بالتكذيب من أهل مكة لهم نصيب من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من
القرون . وعن قتادة : سجلاً من عذاب الله مثل سجل أصحابهم ) مِن يَوْمِهِمُ ( من
يوم القيامة . وقيل : من يوم بدر .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1091 ) من قرأ سورة والذاريات أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في
الدنيا .
" صفحة رقم 411 "
( سورة الطور )
مكية ، وهي تسع وأربعون ، وقيل : ثمان وأربعون آية
( نزلت بعد السجدة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِى رَقٍّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ
لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ
الْجِبَالُ سَيْراً (
الطور : ( 1 - 10 ) والطور
) وَالطُّورِ ( : الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين . والكتاب المسطور في
الرق المنشور ، والرق : الصحيفة . وقيل : الجلد الذي يكتب فيه الكتاب الذي يكتب
فيه الأعمال . قال الله تعالى : ) وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا
يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ( ( الإسراء : 13 ) وقيل : هو ما كتبه الله لموسى وهو يسمع
صرير القلم . وقيل : اللوح المحفوظ . وقيل القرآن ، ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين
جنس الكتب ، كقوله تعالى : ) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( ( الشمس : 7 ) . )
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( الضراح في السماء الرابعة . وعمرانه : كثرة غاشيته من
الملائكة . وقيل : الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار والمجاورين ) وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ ( السماء ) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( المملوء . وقيل : الموقد ، من
قوله تعالى : ) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ ( ( التكوير : 6 ) وروى أن الله تعالى
يجعل يوم القيامة البحار كلها ناراً تسجر بها نار جهنم . وعن علي رضي الله عنه أنه
سأل يهودياً : أين موضع النار في كتابكم ؟ قال : في البحر . قال علي : ما أراه إلا
صادقاً ، لقوله تعالى ) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( . ) لَوَاقِعٌ ( لنازل . قال
جبير بن مطعم :
( 1092 ) أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أكلمه في الأسارى فألفيته في صلاة
الفجر يقرأ
" صفحة رقم 412 "
سورة الطور ، فلما بلغ ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( أسلمت خوفاً من أن ينزل
العذاب ) تَمُورُ السَّمَاء ( تضطرب وتجيء وتذهب . وقيل : المور تحرك في تموّج ،
وهو الشيء يتردد في عرض كالداغصة في الركبة .
) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم
بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا
فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (
الطور : ( 11 ) فويل يومئذ للمكذبين
غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب . ومنه قوله تعالى : ) وَكُنَّا نَخُوضُ
مَعَ الُخَائِضِينَ ( ( المدثر : 45 ) ، ) وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ( (
التوبة : 69 ) الدع : الدفع العنيف ، وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم
، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزخاً في
أقفيتهم . وقرأ زيد بن عليّ ( يدعون ) من الدعاء أي يقال لهم : هلموا إلى النار ،
وادخلوا النار ) دَعًّا ( مدعوعين ، يقال لهم : هذه النار ) أَفَسِحْرٌ هَاذَا (
يعني كنتم تقولون للوحي هذا سحر ، أفسحر هذا ؟ يريد : أهذا المصدق أيضاً سحر ؟
ودخلت الفاء لهذا المعنى ) أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ( كما كنتم لا تبصرون في
الدنيا ، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر ، وهذا تقريع
وتهكم ) سَوَآءٌ ( خبر محذوف ، أي : سواء عليكم الأمران : الصبر وعدمه ، فإن قلت :
لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : ) إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
( ؟ قلت : لأنّ الصبر إنما يكون له مزية على الجزع ، لنفعه في العاقبة بأن يجازي
عليه الصابر جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا
منفعة ، فلا مزية له على الجزع .
) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ
رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ
هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ
وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (
الطور : ( 17 - 20 ) إن المتقين في . . . . .
) فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ( في آية جنات وأي نعيم ، بمعنى الكمال في الصفة . أو في
جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة . وقرىء : ( فاكهين ) فكهين وفاكهون :
من نصبه حالاً جعل الظرف مستقراً ، ومن رفعه خبراً جعل الظرف لغواً ، أي : متلذذين
) بِمَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ ( . فإن قلت : علام عطف قوله ؟ ) وَوَقَاهُمْ
رَبُّهُمْ ( ؟ قلت : على قوله :
" صفحة رقم 413 "
) فِي جَنَّاتِ ( أو على ) رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ ( على أن تجعل ما مصدرية ؛ والمعنى
: فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم . ويجوز أن تكون الواو للحال وقد
بعدها مضمرة . يقال لهم : ) كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( أكلا وشرباً ) هَنِيئَاً ( أو
طعاماً وشراباً هنيئاً ، وهو الذي لا تنغيص فيه . ويجوز أن يكون مثله في قوله :
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مخَامِر
لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
أعني : صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل مرتفعاً به ما استحلت كما
يرتفع بالفعل ، ، كأنه قيل : هناء عزة المستحل من أعراضنا ، وكذلك معنى )
هَنِيئَاً ( ههنا : هناءكم الأكل والشرب . أو هناءكم ما كنتم تعملون ؛ أي : جزاء
ما كنتم تعملون . والباء مزيدة كما في ) كَفَى بِاللَّهِ ( ( الرعد : 43 ) والباء
متعلقة بكلوا واشربوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب . وقرىء : ( بعيس عين ) .
) وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ كُلُّ
امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا
يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ (
الطور : ( 21 - 24 ) والذين آمنوا واتبعتهم . . . . .
) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( معطوف على ) حُورٌ عِينٌ ( أي : قرناهم بالحور وبالذين
آمنوا ، أي : بالرفقاء والجلساء منهم ، كقوله تعالى : ) إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
مُّتَقَابِلِينَ ( ( الحجر : 47 ) فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة
الإخوان المؤمنين ) وَأَتْبَعْنَاهُم ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1093 ) ( إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقرّبهم عينه ) ثم
تلا هذه الآية . فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، ومزاوجة الحور
العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم . ثم قال : )
ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ ( أي بسبب إيمان عظيم
رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم
" صفحة رقم 414 "
وإن كانوا لا يستأهلونها ، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم .
فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان ؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم
المنزلة . ويجوزأن يراد : إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان
لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم . وقرىء : ( وأتبعتهم ذريتهم وأتبعتهم ذريتهم
) . وذرياتهم : وقرىء : ( ذرياتهم ) بكسر الذال . ووجه آخر : وهو أن يكون )
وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( مبتدأ خبره ) بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ
ذُرّيَّتَهُمْ ( وما بينهما اعتراض ) وَمَا أَلَتْنَاهُمْ ( وما نقصناهم . يعني :
وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا من الثواب والتفضل ، وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء
. وقيل معناه : وما نقصناهم من ثوابهم شيئاً نعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم ، إنما
ألحقناهم بهم على سبيل التفضل . قرىء : ( ألتناهم ) وهو من بابين : من ألت يألت ،
ومن ألات يليت ، كأمات يميت . وآلتناهم ، من آلت يؤلت ، كآمن يؤمن . ولتناهم ، من
لات يليت . وولتناهم ، من ولت يلت . ومعناهنّ واحد ) كُلٌّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ
رَهَينٌ ( أي مرهون ، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به
، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه ، فإن عمل صالحاً فكها وخلصها ، وإلا أوبقها )
وَأَمْدَدْنَاهُم ( وزدناهم في وقت بعد وقت ) يَتَنَازَعُونَ ( يتعاطون ويتعاورون
هم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم ) كَأْساً ( خمراً ) لاَّ لَغْوٌ فِيهَا ( في
شربها ) وَلاَ تَأْثِيمٌ ( أي لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث وما لا طائل
تحته كفعل المتنادمين في الدنيا على الشراب في سفههم وعربدتهم ، ولا يفعلون ما
يؤثم به فاعله ، أي : ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف من الكذب والشتم
والفواحش ، وإنما يتكلمون بالحكم والكلام الحسن متلذذين بذلك ، لأنّ عقولهم ثابتة
غير زائلة ، وهم حكماء علماء . وقرىء : ( لا لغو فيها ولا تأثيم ) ) غِلْمَانٌ
لَّهُمْ ( أي مملوكون لهم مخصوصون بهم ) مَّكْنُونٌ ( في الصدف ، لأنه رطباً أحسن
وأصفى . أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة . وقيل لقتادة : هذا
الخادم فكيف المخدوم ؟ فقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1094 ) ( والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على
سائر الكواكب ، وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 1095 ) ( إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه :
" صفحة رقم 415 "
لبيك لبيك ) .
) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا
قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ
السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ
(
الطور : ( 25 ) وأقبل بعضهم على . . . . .
) يَتَسَآءَلُونَ ( يتحادثون ويسأل بعضهم بعضاً عن أحواله وأعماله وما استوجب به
نيل ما عند الله ) مُشْفِقِينَ ( أرقاء القلوب من خشية الله . وقرىء : ( ووقانا )
بالتشديد ) عَذَابَ السَّمُومِ ( عذاب النار ووهجها ولفحها . والسموم : الريح
الحارّة التي تدخل المسام فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة ) مِن قَبْلُ ( من
قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه ، يعنون في الدنيا ) نَدْعُوهُ ( نعبده ونسأله
الوقاية ) إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ ( المحسن ) الرَّحِيمِ ( العظيم الرحمة الذي إذا
عبد أثاب وإذا سئل أجاب . وقرىء : ( أنه ) بالفتح ، بمعنى : لأنه .
) فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ (
الطور : ( 29 ) فذكر فما أنت . . . . .
) فَذَكِّرْ ( فأثبت على تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبطنك قولهم : كاهن أو مجنون
، ولا تبال به فإنه قول باطل متناقض : لأنّ الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة
نظر ، والمجنون مغطى على عقله . وما أنت بحمد الله وإنعامه عليك بصدق النبوّة
ورجاحة العقل أحد هذين .
) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ
فَإِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ
بِهَاذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ
يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أَمْ
خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ
السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ
أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ
مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ
أَمْ تَسْألُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ
الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يُشْرِكُونَ (
الطور : ( 30 ) أم يقولون شاعر . . . . .
وقرىء : ( يتربص به ريب المنون ) ، على البناء للمفعول . وريب المنون . ما يقلق
النفوس ويشخص بها من حوادث الدهر . قال :
" صفحة رقم 416 "
أَمِنَ المَنُونِ وَرَيْبِهِ تتَوَجَّعُ ;
وقيل : المنون الموت ، وهو في الأصل فعول ؛ من منه إذا قطعه ؛ لأن الموت قطوع ؛
ولذلك سميت شعوب قالوا : ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء
: زهير والنابغة ) مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ ( أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي )
أَحْلَامُهُمْ ( عقولهم وألبابهم . ومنه قولهم : أحلام عاد . والمعنى : أتأمرهم
أحلامهم بهذا التناقض في القول ، وهو قولهم : كاهن وشاعر ، مع قولهم مجنون . وكانت
قريش يدعون أهل الأحلام والنهي ) أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( مجاوزون الحدّ في
العناد مع ظهور الحق لهم . فإن قلت : ما معنى كون الأحلام آمرة ؟ قلت : هو مجاز
لأدائها إلى ذلك ، كقوله تعالى : ) أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا
يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا ( ( هود : 87 ) وقرىء : ( بل هم قوم طاغون ) ) تَقَوَّلَهُ (
اختلقه من تلقاء نفسه ) بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ( فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه
المطاعن ، مع علمهم ببطلان قولهم ، وأنه ليس بمتقول لعجز العرب عنه ، وما محمد إلا
واحد من العرب . وقرىء بحديث مثله على الإضافة ، والضمير لرسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، ومعناه : أن مثل محمد في فصاحته ليس بمعوز في العرب ، وإن قدر محمد
على نظمه كان مثله قادراً عليه ، فليأتوا بحديث ذلك المثل : ) أَمْ خَلَقُواْ ( أم
أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم ) مِنْ غَيْرِ شَىْء ( من غير مقدّر )
أَمْ هُمُ ( الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق ( بل لا يؤمنون ) أي إذا
سئلوا من خلقكم وخلق السموات والأرض ؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون ، لا
يوقنون . وقيل : أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب ؟ وقيل : أخلقوا من غير أب
وأم ؟ ) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ ( الرزق حتى يرزقوا النبوّة من شاؤا . أو :
أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة ؟ ) أَمْ هُمُ
الْمُسَيْطِرُونَ ( الأرباب الغالبون ، حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على
إرادتهم ومشيئتهم ؟ وقرىء ( المصيطرون ) بالصاد ) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ ( منصوب إلى
السماء يستمعون صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى
يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون ؟
) بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم . المغرم : أن يلتزم
الإنسان ما ليس عليه ، أي : لزمهم مغرم ثقيل فدحهم فزهدهم ذلك في أتباعك ؟ ) أَمْ
عِندَهُمُ الْغَيْبُ ( أي
" صفحة رقم 417 "
اللوح المحفوظ ) فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( ما فيه حتى يقولوا لا نبعث ، وإن بعثنا لم
نعذب ) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ( وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) وبالمؤمنين ) فَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( إشارة إليهم أو أريد بهم كل من
كفر بالله ) هُمُ الْمَكِيدُونَ ( هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم
. وذلك أنهم قتلوا يوم بدر . أو المغلوبون في الكيد ، من كايدته فكدته .
) وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ
مَّرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ
يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ (
الطور : ( 44 ) وإن يروا كسفا . . . . .
الكسف : القطعة ، وهو جواب قولهم : ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ
عَلَيْنَا كِسَفًا ( ( الإسراء : 92 ) يريد : أنهم لشدّة طغيانهم وعنادهم لو
أسقطناه عليهم لقالوا : هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض يمطرنا ، ولم يصدقوا أنه كسف
ساقط للعذاب . وقرىء : ( حتى يلقوا ) ويلقوا ) يُصْعَقُونَ ( يموتون . وقرىء : (
يصعقون ) . يقال . صعقه فصعق ، وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق ) وَإِنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( وإن . لهؤلاء الظلمة ) عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ ( دون يوم
القيامة : وهو القتل ببدر ، والقحط سبع سنين ، وعذاب القبر . وفي مصحف عبد الله :
دون ذلك قريباً .
) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
حِينَ تَقُومُ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (
الطور : ( 48 ) واصبر لحكم ربك . . . . .
) لِحُكْمِ رَبّكَ ( بإمهالهم وما يلحقك فيه من المشقة والكلفة ) فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنَا ( مثل ، أي : بحيث نراك ونكلؤك . وجمع العين لأنّ الضمير بلفظ ضمير
الجماعة . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ( ( طه : 39 ) .
وقرىء : ( بأعينا ) ، بالإدغام ) حِينَ تَقُومُ ( من أي مكان قمت . وقيل : من
منامك ) وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل . وقرىء : (
وأدبار النجوم ) ، بالفتح بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت ، والمراد الأمر
بقول : سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات . وقيل التسبيح : الصلاة إذا قام من نومه
، ومن الليل : صلاة العشاءين ، وأدبار النجوم : صلاة الفجر .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1096 ) ( من قرأ سورة الطور كان حقاً على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في
جنته ) .
" صفحة رقم 418 "
( سورة النجم )
مكية ( إلا آية 32 فمدينة ) وآياتها 62 وقيل 61 آية
( نزلت بعد الإخلاص )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ
الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالاٍّ فُقِ الاٌّ عْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى مَا كَذَبَ
الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً
أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ
ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (
النجم : ( 1 ) والنجم إذا هوى
(النجم ) : الثريا ، وهو اسم غالب لها . قال : إذَا طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاء
إبْتَغَى الرَّاعِي كِسَاءَ
أو جنس النجوم . قال : فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ
يريد النجوم ) إِذَا هَوَى ( إذا غرب أو انتثر يوم القيامة . أو النجم الذي يرجم
به إذا هوى : إذا انقض . أو النجم من نجوم القرآن ، وقد نزل منجماً في عشرين سنة ،
إذا هوى : إذا نزل . أو النبات إذا هوى : إذا سقط على الأرض . وعن عروة بن الزبير
: ( 1098 ) أنّ عتبة بن أبي لهب وكانت تحته بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
أراد الخروج إلى
" صفحة رقم 419 "
الشام ، فقال : لآيتين محمداً فلأوذينه ؛ فأتاه فقال : يا محمد ، هو كافر بالنجم
إذا هوى ، وبالذي دنا فتدلى ، ثم تفل في وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وردّ عليه ابنته وطلقها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : اللهم سلط عليه
كلباً من كلابك ، وكان أبو طالب حاضراً ، فوجم لها وقال : ما كان أغناك يا ابن أخي
عن هذه الدعوة ا فرجع عتبة إلى أبيه ، فأخبره ، ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلاً
، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : إن هذه أرض مسبعة ، فقال أبو لهب لأصحابه
: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة ، فإني أخاف على ابني دعوة محمد ، فجمعوا
جمالهم وأناخوها حولهم ؛ وأحدقوا بعتبة ، فجاء الأسد يتشمم وجوههم ، حتى ضرب عتبة
فقتله . وقال حسان : مَنْ يَرْجِعُ الْعَامَ إِلى أَهْلِه
فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِع
) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) : والخطاب لقريش ،
وهو جواب القسم ، والضلال : نقيض الهدى ، والغي نقيض الرشد ، أي : هو مهتد راشد
وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي ، وما أتاكم به من القرآن ليس
بمنطق يصدر عن هواه ورأيه ، وإنما هو وحي من عند الله يوحي إليه . ويحتج بهذه
الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء ، ويجاب بأنّ الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد
، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحياً لا نطقاً عن الهوى ) شَدِيدُ الْقُوَى (
ملك شديد قواه ، والإضافة غير حقيقية ، لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ،
وهو جبريل عليه السلام ، ومن قوّته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود ،
وحملها على جناحه ، ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين
، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف ، ورأى إبليس يكلم عيسى
عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة ، فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل
بالهند ) ذُو مِرَّةٍ ( ذو حصافة في عقله ورأيه ومتانة في دينه ) فَاسْتَوَى (
فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي ؛
وكان ينزل في صورة دحية ، وذلك :
( 1098 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحب أن يراه في صورته التي جبل
عليها ، فاستوى له
" صفحة رقم 420 "
في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق . وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء في
صورته الحقيقية غير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مرتين : مرة في الأرض ، ومرة في
السماء ) ثُمَّ دَنَا ( من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فَتَدَلَّى ( فتعلق
عليه في الهواء . ومنه : تدلت الثمرة ، ودلى رجليه من السرير . والدوالي : الثمر
المعلق . قال : تَدَلَّى عَلَيْهَا بَيْنَ سِبٍّ وَخِيطَةٍ
ويقال : هو مثل القرلى : إن رأى خيراً تدلى ، وإن لم يره تولى ) قَابَ قَوْسَيْنِ
( مقدار قوسين عربيتين : والقاب والقيب ؛ والقاد والقيد ، والقيس : المقدار . وقرأ
زيد بن علي : قاد . وقرىء : ( قيد ) وقدر . وقد جاء التقدير بالقوس والرمح ،
والسوط ، والذراع ، والباع ، والخطوة ، والشبر ، والفتر ، والأصبع . ومنه : ( 1099
) ( لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين ) . وفي الحديث : ( 1100 ) ( لقاب قوس
أحدكم من الجنة وموضع قدّه خير من الدنيا وما فيها ) والقدّ : السوط . ويقال :
بينهما خطوات يسيرة . وقال :
" صفحة رقم 421 "
وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِنْ حَزِيمَةَ أَصْبُعَا
فإن قلت : كيف تقدير قوله : ) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ ( ؟ قلت : تقديره فكان
مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين ، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو على في قوله :
وقد جعلتني من حزيمة أصبعا أي : ذا مقدار مسافة أصبع ) أَوْ أَدْنَى ( أي على
تقديركم ، كقوله تعالى : ) أَوْ يَزِيدُونَ ( ( الصافات : 147 ) . ) إِلَى
عَبْدِهِ ( إلى عبد الله ، وإن لم يجر لاسمه عزّ وجل ذكر ، لأنه لا يلبس ؛ كقوله :
) عَلَى ظَهْرِهَا ( ( فاطر : 45 ) . ) مَا أَوْحَى ( تفخيم للوحي الذي أوحي إليه
: قيل أوحي إليه ( إنّ الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى
تدخلها أمتك ) ) مَا كَذَبَ ( فؤاد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما رآه ببصره من
صورة جبريل عليه السلام ، أي : ما قال فؤاده لما رآه : لم أعرفك ، ولو قال ذلك
لكان كاذباً ، لأنه عرفه ، يعني : أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ، ولم يشك في أنّ ما
رآه حق وقرىء : ( ما كذب ) أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته )
أَفَتُمَارُونَهُ ( من المراء وهو الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مري الناقة ،
كأن كل واحد من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه . وقرىء : ( أفتمرونه ) أفتغلبونه في
المراء ، من ماريته فمريته ، ولما فيه من معنى الغلبة عدّى بعلى ، كما تقول :
غلبته على كذا : وقيل : أفتمرونه : أفتجدونه . وأنشدوا :
لَئِنْ هَجَوْتَ أَخَاً صِدْقٍ وَمَكْرُمَة لَقَدْ مَرَيْتَ أخاً مَا كَانَ
يَمْرِيكاً
وقالوا : يقال مريته حقه إذا جحدته ، وتعديته بعلى لا تصح إلا على مذهب التضمين )
نَزْلَةً أُخْرَى ( مرة أخرى من النزول ، نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة ،
لأنّ
" صفحة رقم 422 "
الفعلة اسم للمرّة من الفعل ، فكانت في حكمها ، أي : نزل عليه جبريل عليه السلام
نزلة أخرى في صورة نفسه ، فرآه عليها ، وذلك ليلة المعراج . قيل : في سدرة المنتهى
: هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش : ثمرها كقلال هجر ، وورقها كآذان
الفيول ، تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في كتابه ، يسير الراكب في ظلها
سبعين عاماً لا يقطعها . والمنتهى : بمعنى موضع الانتهاء ، أو الانتهاء ، كأنها في
منتهى الجنة وآخرها . وقيل : لم يجاوزها أحد ، وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم ،
ولا يعلم أحد ما وراءها . وقيل : تنتهي إليها أرواح الشهداء ) جَنَّةُ الْمَأْوَى
( الجنة التي يصير إليها المتقون : عن الحسن . وقيل : تأوى إليها أرواح الشهداء .
وقرأ علي وابن الزبير وجماعة ( جنة المأوى ) أي ستره بظلاله ودخل فيه . وعن عائشة
: أنها أنكرته وقالت : من قرأ به فأجنه الله ) مَا يَغْشَى ( تعظيم وتكثير لما
يغشاها ، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله
وجلاله : أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف . وقد قيل : يغشاها الجم
الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1101 ) ( رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله ) . وعنه عليه
الصلاة والسلام :
( 1102 ) يغشاها رفرف من طير خضر . وعن ابن مسعود وغيره : يغشاها فراش من ذهب ( ما
زاغ ) بصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وما طغى ) أي أثبت ما رأى اثباتا
مستيقناً صحيحاً ، من غير أن يزيغ بصره عنه أو يتجاوزه ، أو ما عدل عن رؤية
العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها ، وما طغى : وما جاوز ما أمر برؤيته ) لَقَدْ
رَأَى ( والله لقد رأى ) مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ ( الآيات التي هي كبراها وعظماها ،
يعني : حين رقى ربه إلى السماء فأري عجائب الملكوت .
" صفحة رقم 423 "
) أَفَرَءَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاٍّ خْرَى
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاٍّ نثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِىَ
إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ
بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاٌّ نفُسُ
وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (
النجم : ( 19 - 23 ) أفرأيتم اللات والعزى
) اللَّاتَ وَالْعُزَّى ( أصنام كانت لهم ، وهي مؤنثات ؛ فاللات كانت لثقيف
بالطائف . وقيل : كانت بنخلة تعبدها قريش ، وهي فعلة من لوى ؛ لأنهم كانوا يلوون
عليها ويعكفون للعبادة . أو يلتوون عليها : أي يطوفون . وقرىء ( اللات ) بالتشديد
. وزعموا أنه سمي برجل كان يلت عنده السمن بالزيت ويطعمه الحاج . وعن مجاهد : كان
رجل يلت السويق بالطائف ، وكانوا يعكفون على قبره ، فجعلوه وثناً ، والعزى كانت
لغطفان وهي سمرة ، وأصلها تأنيث الأعز .
( 1103 ) وبعث إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خالد بن الوليد فقطعها ،
فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها ، واضعة يدها على رأسها ، فجعل يضربها
بالسيف حتى قتلها وهو يقول : يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لاَ سُبْحَانَك
إني رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهانَك
ورجع فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عليه الصلاة والسلام تلك العزى
ولن تعبد أبداً . ومناة :
" صفحة رقم 424 "
صخرة كانت لهذيل وخزاعة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لثقيف . وقرىء : ( ومناءة
) وكأنها سميت مناة لأنّ دماء النسائك كانت تمنى عندها ، أي : تراق ، ومناءة مفعلة
من النوء ، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها . و ) الاْخْرَى ( ذمّ
، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله تعالى : ) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ
لاِخْرَاهُمْ ( ( الأعراف : 38 ) أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم . ويجوز أن تكون
الأوّلية والتقدّم عندهم للات والعزى . كانوا يقولون إنّ الملائكة وهذه الأصنام
بنات الله ، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى مع وأدهم البنات
، فقيل لهم ) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( ويجوز أن يراد : أنّ اللات
والعزى ومناة إناث ، وقد جعلتموهنّ لله شركاء ، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث
وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم ، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله
وتسمونهنّ آلهة ) قِسْمَةٌ ضِيزَى ( جائرة ، من ضازه يضيزه إذا ضامه ، والأصل :
ضوزى . ففعل بها ما فعل ببيض ؛ لتسلم الياء . وقرىء : ( ضئزى ) من ضأزه بالهمز .
وضيزى : بفتح الضاد ) هِىَ ( ضمير الأصنام ، أي ما هي ) إِلاَّ أَسْمَاء ( ليس
تحتها في الحقيقة مسميات ، لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشدّه
منافاة لها . ونحوه قوله تعالى : ) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء
سَمَّيْتُمُوهَا ( ( يوسف : 40 ) أو ضمير الأسماء وهي قولهم ، اللات والعزى ومناة
، وهم يقصدون بهذه الأسماء الآلهة ، يعني : ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتموها
بهواكم وشهوتكم ، ليس لكم من الله على صحة تسميتها برهان تتعلقون به . ومعنى )
سَمَّيْتُمُوهَا ( سميتم بها ، يقال : سميته زيداً ، وسميته بزيد ( إن يتبعون )
وقرىء بالتاء ) إِلاَّ الظَّنَّ ( إلا توهم أنّ ما هم عليه حق ، وأنّ آلهتهم
شفعاؤهم ، وما تشتهيه أنفسهم ، ويتركون ما جاءهم من الهدى والدليل على أنّ دينهم
باطل .
) أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الاٌّ خِرَةُ والاٍّ ولَى (
النجم : ( 24 - 25 ) أم للإنسان ما . . . . .
) أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى ( هي أم المنقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، أي
: ليس للإنسان ما تمنى ، والمراد طمعهم في شفاعة الآلهة ، وهو تمنّ على الله في
غاية البعد ، وقيل : هو قولهم : ) وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى
عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( ( فصلت : 50 ) وقيل : هو قول الوليد بن المغيرة ( لأوتين مالاً
وولدا ) وقيل هو تمنى بعضهم أن يكون هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فللَّه
الآخرة والأولى أي هو مالكهما ، فهو يعطي منهما من يشاء ويمنع من يشاء ، وليس لأحد
أن يتحكم عليه في شيء منهما .
) وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً
إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ
" صفحة رقم 425 "
وَيَرْضَى (
النجم : ( 26 ) وكم من ملك . . . . .
يعني : أنّ أمر الشفاعة ضيق وذلك أنّ الملائكة مع قربتهم وزلفاهم وكثرتهم واغتصاص
السموات بجموعهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئاً قط ولم تنفع ،
إلا إذا شفعوا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه
ويراه أهلاً لأن يشفع له ، فكيف تشفع الأصنام إليه بعبدتهم .
) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ
تَسْمِيَةَ الاٍّ نثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ
الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَن مَّن
تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ
مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن
سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (
النجم : ( 27 - 30 ) إن الذين لا . . . . .
) لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ ( أي كل واحد منهم ) تَسْمِيَةَ الاْنثَى ( لأنهم
إذا قالوا : الملائكة بنات الله ، فقد سموا كل واحد منهم بنتاً وهي تسمية الأنثى )
بِهِ مِنْ عِلْمٍ ( أي بذلك وبما يقولون . وفي قراءة أبيّ : ( بها ) ، أي :
بالملائكة . أو التسمية ) لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا ( يعني إنما يدرك الحق
الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقن لا بالظنّ والتوهم ) فَأَعْرَضَ (
عن دعوة من رأيته معرضاً عن ذكر الله وعن الآخرة ولم يرد إلا الدنيا ، ولا تتهالك
على إسلامه ، ثم قال : ) إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ( أي إنما يعلم الله من
يجيب ممن لا يجيب ، وأنت لا تعلم ، فخفض على نفسك ولا تتعبها ، فإنك لا تهدي من
أحببت ، وما عليك إلا البلاغ . وقوله تعالى : ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ
الْعِلْمِ ( اعتراض أو فأعرض عنه ولا تقابله ، إنّ ربك هو أعلم بالضال والمهتدي ،
وهو مجازيهما بما يستحقان من الجزاء .
) وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ
أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ
إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ
الاٌّ رْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ
أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (
النجم : ( 31 ) ولله ما في . . . . .
قرىء : ( ليجزي ) ويجزى ، بالياء والنون فيهما . ومعناه : أنّ الله عز وجل إنما
خلق العالم وسوّى هذا الملكوت لهذا الغرض : وهو أن يجازي المحسن من الملكفين والمسيء
منهم . ويجوز أن يتعلق بقوله : ) هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ( ( النجم : 30 ) لأن نتيجة العلم بالضال والمهتدي
جزاؤهما ) بِمَا عَمِلُواْ ( بعقاب ما عملوا من السوء . و ) بِالْحُسْنَى (
بالمثوبة الحسنى وهي الجنة . أو بسبب ما عملوا من السوء وبسبب
" صفحة رقم 426 "
الأعمال الحسنى ) كَبَائِرَ الإثْمِ ( أي الكبائر من الإثم ؛ لأن الإثم جنس يشتمل
على كبائر وصغائر ، والكبائر : الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة . وقيل :
التي يكبر عقابها بالإضافة إلى ثواب صاحبها ) وَالْفَوَاحِشَ ( مافحش من الكبائر ،
كأنه قال : والفواحش منها خاصة : وقرىء : ( كبير الإثم ) أي : النوع الكبير منه
وقيل : هو الشرك بالله . واللمم : ما قل وصغر . ومنه : اللمم المس من الجنون ،
واللوثة منه . وألم بالمكان إذا قل فيه لبثه . وألم بالطعام : قل منه أكله : ومنه
: لِقَاءُ أَخِلاَّءِ الصَّفَاِ لِمَامُ ;
والمراد الصغائر من الذنوب ، ولا يخلو قوله تعالى : ) إِلاَّ اللَّمَمَ ( من أن
يكون استثناء منقطعاً أو صفة ، كقوله تعالى : ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ
إِلاَّ اللَّهُ ( ( الأنبياء : 22 ) كأنه قيل : كبائر الإثم غير اللمم ، وآلهة غير
الله : وعن أبي سعيد الخدري : اللمم هي النظرة ، والغمزة ، والقبلة : وعند السدّي
: الخطرة من الذنب : وعن الكلبي : كل ذنب لم يذكر الله عليه حدّاً ولا عذاباً :
وعن عطاء : عادة النفس الحين بعد الحين ) إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ (
حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ، والكبائر بالتوبة ) فَلاَ تُزَكُّواْ
أَنفُسَكُمْ ( فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير وعمل الطاعات : أو إلى
الزكاء والطهارة من المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله الزكي منكم
والتقي أوّلاً وآخراً قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم
. وقيل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا ، فنزلت :
وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء : فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل
الصالح من الله وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح : لم يكن من المزكين أنفسهم ،
لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر .
) أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ
الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن
لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ
يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ
عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاٍّ خْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ
هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاٍّ ولَى وَثَمُودَ فَمَآ
أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ
" صفحة رقم 427 "
هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (
النجم : ( 33 ) أفرأيت الذي تولى
) وَأَكْدَى ( قطع عطيته وأمسك ، وأصله : إكداء الحافر ، وهو أن تلقاه كدية : وهي
صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر ، ونحوه : أجبل الحافر ، ثم استعير فقيل : أجبل
الشاعر إذا أفحم . روى :
( 1104 ) أن عثمان رضي الله عنه كان يعطي ما له في الخير ، فقال له عبد الله بن
سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة : يوشك أن لا يبقي لك شيء ، فقال عثمان : إن
لي ذنوباً وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه ، فقال عبد الله
: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن
العطاء . فنزلت . ومعنى ) تَوَلَّى ( ترك المركز يوم أحد ، فعاد عثمان إلى أحسن من
ذلك وأجمل ) فَهُوَ يَرَى ( فهو يعلم أن ما قاله له أخوه من احتمال أو زاره حق )
وَفَّى ( قرىء مخففاً ومشدّداً ، والتشديد مبالغة في الوفاء . أو بمعنى : وفر وأتم
، كقوله تعالى : ) فَأَتَمَّهُنَّ ( ( البقرة : 124 ) وإطلاقه ليتناول كل وفاء
وتوفية ، من ذلك : تبليغه الرسالة ، واستقلاله بأعباء النبوّة ، والصبر على ذبح
ولده وعلى نار نمروذ ، وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه ، وأنه كان يخرج كل يوم
فيمشي فرسخاً يرتاد ضيفاً ، فإن وافقه أكرمه ، وإلا نوى الصوم . وعن الحسن : ما
أمره الله بشيء إلا وفى به . وعن الهزيل بن شرحبيل : كان بين نوح وبين إبراهيم
يؤخذ الرجل بجريرة غيره ، ويقتل بأبيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد
بسيده ؛ فأوّل من خالفهم إبراهيم . وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً ،
فلما قذف في النار قال له جبريل وميكائيل : ألك حاجة ؟ فقال . أمّا إليكما فلا .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1105 ) وفّى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار ، وهي صلاة الضحى . وروى :
( 1106 ) ألا أخبركم لم سمى الله خليله ) الَّذِى وَفَّى ( ؟ كان يقول إذا أصبح
" صفحة رقم 428 "
وأمسى : ) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ( إلى ) حِينٍ تُظْهِرُونَ ( (
الروم : 17 ) وقيل : وفي سهام الإسلام : وهي ثلاثون : عشرة في التوبة ( التائبون .
. ) وعشرة في الأحزاب : ) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ( وعشرة في المؤمنين ( الأحزاب :
33 ) ) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( ( المؤمنون : 1 ) وقرىء : ( في صحف ) ،
بالتخفيف ) أَلاَّ تَزِرُ ( أن مخففة من الثقيلة . والمعنى : أنه لا تزر ، والضمير
ضمير الشأن ، ومحل أن وما بعدها : الجر بدلاً من ما في صحف موسى . أو الرفع على :
هو أن لا تزر ، كأن قائلاً قال : وما في صحف موسى وإبراهيم ، فقيل : أن لا تزر )
إِلاَّ مَا سَعَى ( إلا سعيه . فإن قلت : أما صح في الأخبار : الصدقة عن الميت ،
والحج عنه ، وله الإضعاف ؟ قلت : فيه جوابان ، أحدهما : أن سعى غيره لما لم ينفعه
إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً صالحاً وكذلك الإضعاف كأن سعى غيره
كأنه سعى نفسه ، لكونه تابعاً له وقائماً بقيامه . والثاني ؛ أن سعي غيره لا ينفعه
إذا عمله لنفسه ، ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم
مقامه ) ثُمَّ يُجْزَاهُ ( ثم يجزى العبد سعيه ، يقال : جزاه الله عمله وجزاه على
عمله ، بحذف الجار وإيصال الفعل . ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسره بقوله :
) الْجَزَاء الاوْفَى ( أو أبدله عنه ، كقوله تعالى : ) وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى
الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( ( الأنبياء : 3 ) ، ) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (
قرىء بالفتح على معنى : أن هذا كله في الصحف ، وبالكسر على الابتداء ، وكذلك ما
بعده . والمنتهى : مصدر بمعنى الانتهاء ، أي : ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه ،
كقوله تعالى : ) إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( ( فاطر : 18 ) . ) أَضْحَكَ وَأَبْكَى
( خلق قوتي الضحك والبكاء ) إِذَا تُمْنَى ( إذا تدفق في الرحم ، يقال : منى وأمنى
. وعن الأخفش : تخلق من منى الماني ، أي قدر المقدّر : قرىء : ( النشأة ) النشاءة
بالمد . وقال : ( عليه ) لأنهاواجبة عليه في
" صفحة رقم 429 "
الحكمة ، ليجازى على الإحسان والإساءة ) وَأَقْنَى ( وأعطى القنية وهي المال الذي
تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك ) الشّعْرَى ( مرزم الجوزاء : وهي التي تطلع
وراءها ، وتمسى كلب الجبار ، وهما شعريان الغميصاء والعبور وأراد العبور . وكانت
خزاعة تعبدها ، سنّ لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم ، وكانت قريش تقول لرسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) : أبو كبشة ، تشبيهاً له به لمخالفته إياهم في دينهم ،
يريد : أنه رب معبودهم هذا . عاد الأولى : قوم هود ، وعاد الأخرى : إرم . وقيل :
الأولى القدماء ؛ لأنهم أوّل الأمم هلاكاً بعد قوم نوح ، أو المتقدمون في الدنيا
الأشراف . وقرىء : ( عاد لولي ) وعاد لولى ، بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة
أولى ونقل ضمتها إلى لام التعريف ( وثمودا ) وقرىء : وثمود ) أَظْلَمَ وَأَطْغَى (
لأنهم كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكون به حراك ، وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون
صبيانهم أن يسمعوا منه ، وما أثر فيهم دعاؤه قريباً من ألف سنة )
وَالْمُؤْتَفِكَةَ ( والقرى التي ائتفكت بأهلها ، أي : انقلبت ، وهم قوم لوط ،
يقال : أفكه فائتفك : وقرىء : ( والمؤتفكات ) ) أَهْوَى ( رفعها إلى السماء على
جناج جبريل ، ثم أهواها إلى الأرض أي : أسقطها ) مَا غَشَّى ( تهويل وتعظيم لما صب
عليها من العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود .
) فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى هَاذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الاٍّ وْلَى
أَزِفَتِ الاٌّ زِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (
النجم : ( 55 ) فبأي آلاء ربك . . . . .
) فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ( تتشكك ، والخطاب لرسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، أو للإنسان على الإطلاق ، وقد عدد نعماً ونقماً وسماها كلها آلاء من
قبل ما في نقمة من المزاجر والمواعظ للمعتبرين ) هَاذَا ( القرآن ) نَذِيرٌ مّنَ
النُّذُرِ الاْوْلَى ( أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم .
أو هذا الرسول منذر من المنذرين الأولين ، وقال : الأولى على تأويل الجماعة )
أَزِفَتِ الاْزِفَةُ ( قربت الموصوفة بالقرب من قوله تعالى : ) اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ ( ( القمر : 1 ) ، ) لَيْسَ لَهَا ( نفس ) كَاشِفَةٌ ( أي مبينة متى
تقوم ، كقوله تعالى : ) لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ( ( الأعراف : 187
) أو ليس لها نفس
" صفحة رقم 430 "
كاشفة ، أي : قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله ، غير أنه لا يكشفها . أو ليس لها
الآن نفس كاشفة بالتأخير ، وقيل الكاشفة مصدر بمعنى الكشف : كالعافية . وقرأ طلحة
( ليس لها مما يدعون من دون الله كاشفة وهي على الظالمين ساءت الغاشية ) .
) أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ
وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ (
النجم : ( 59 - 62 ) أفمن هذا الحديث . . . . .
) أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ ( وهو القرآن ) تَعْجَبُونَ ( إنكاراً )
وَتَضْحَكُونَ ( استهزاء ) وَلاَ تَبْكُونَ ( والبكاء والخشوع حق عليكم . وعن رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1107 ) أنه لم ير ضاحكاً بعد نزولها . وقرىء : ( تعجبون تضحكون ) ، بغير واو )
وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ( شامخون مبرطمون . وقيل : لاهون لاعبون . وقال بعضهم
لجاريته : اسمدي لنا ، أي غني لنا ) فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ ( ولا
تعبدوا الآلهة .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1108 ) ( من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به
بمكة ) .
" صفحة رقم 431 "
( سورة القمر )
مكية ( إلا الآيات 44 و 45 و 46 فمدنية )
وآياتها 55 ( نزلت بعد الطارق )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ
وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ
وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (
القمر : ( 1 ) اقتربت الساعة وانشق . . . . .
انشقاق القمر من آيات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعجزاته النيرة . عن أنس
بن مالك رضي الله عنه :
( 1109 ) أن الكفار سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آية فانشق القمر مرتين
. وكذا عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما ، قال ابن عباس :
( 1110 ) انفلق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت وقال ابن مسعود :
( 1111 ) رأيت حراء بين فلقتي القمر . وعن بعض الناس : أن معناه ينشق يوم القيامة
. وقوله : ) وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ
( يردّه ، وكفى به رادّاً ، وفي قراءة حذيفة ( وقد انشق القمر ) أي : اقتربت
الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن
" صفحة رقم 432 "
القمر قد انشق ، كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه . وعن حذيفة أنه
خطب بالمدائن ثم قال :
( 1112 ) ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم . مستمر : دائم
مطرد ، وكل شيء قد انقادت طريقته ودامت حاله ، قيل فيه : قد استمرّ . لما رأوا
تتابع المعجزات وترادف الآيات : قالوا : هذا سحر مستمرّ . وقيل : مستمرّ قوي محكم
، من قولهم : استمر مريره . وقيل : هو من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته ، أي :
مستبشع عندنا ، مرّ على لهواتنا ، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ المر الممقر .
وقيل : مستمر مارّ ، ذاهب يزول ولا يبقى ، تمنية لأنفسهم وتعليلاً . وقرىء : ( وإن
يروا ) ) وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ ( وما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره
) وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ( أي كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقرّ عليها ،
وإن أمر محمد سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق ، أو باطل وسيظهر لهم عاقبته . أو
وكل أمر من أمرهم وأمره مستقر ، أي : سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة في
الدنيا ، وشقاوة أو سعادة في الآخرة . وقرىء : بفتح القاف ، يعني ( كل أمر ذو
مستقرّ ) أي : ذو استقرار . أو ذو موضع استقرار أو زمان استقرار . وعن أبي جعفر ؛
مستقر ، بكسر القاف والجرّ عطفاً على الساعة ، أي : اقترتب الساعة واقترب كل أمر
مستقر يستقر ويتبين حاله .
) وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الاٌّ نبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ
فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ
نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاٌّ جْدَاثِ كَأَنَّهُمْ
جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا
يَوْمٌ عَسِرٌ (
القمر : ( 4 - 8 ) ولقد جاءهم من . . . . .
) مّنَ الاْنبَاء ( من القرآن المودع أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة ، وما
وصف من عذاب الكفار ) مُزْدَجَرٌ ( ازدجار أو موضع ازدجار . والمعنى : هو في نفسه
موضع الازدجار ومظنة له ، كقوله تعالى : ) لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ ( ( الأحزاب : 21 ) أي هو أسوة . وقرىء : ( مزجر ) بقلب تاء الإفتعال
زايا وإدغام الزاي فيها ) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ( بدل من ماء . أو على : هو حكمة .
وقرىء بالنصب حالاً من ما . فإن قلت : إن
" صفحة رقم 433 "
كانت ما موصوفة ساغ لك أن تنصب حكمة حالا ، فكيف تعمل إن كانت موصوفة ؟ وهو الظاهر
. قلت : تخصصها الصفة ؛ فيحسن نصب الحال عنها ) فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ ( نفي أو
إنكار . وما منصوبة ، أي فأي غناء تغني النذر ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( لعلمك أن
الإنذار لا يغني فيهم . نصب ) يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِىَ ( بيخرجون ، أو بإضمار
اذكر . وقرىء : بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة عنها ، والداعي إسرافيل أو جبريل ،
كقوله تعالى : ) يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ ( ( ق : 41 ) ) إِلَى شَىْء نُّكُرٍ (
منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة . وقرىء : ( نكر
) بالتخفيف ؛ ونكر بمعنى أنكر ) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ ( حال من الخارجين فعل
للأبصار وذكر ، كماتقول : يخشع أبصارهم . وقرى : ( خاشعة ) على : تخشع أبصارهم .
وخشعاً ، على : يخشعن أبصارهم ، وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث ، وهم طيء .
ويجوز أن يكون في ) خُشَّعاً ( ضميرهم ، وتقع ) أَبْصَارَهُمْ ( بدلاً عنه . وقرىء
( خشع أبصارهم ) ، على الابتداء والخبر ، ومحل الجملة النصب على الحال . كقوله :
وَجَدْتُهُ حاضِرَاهُ الْجُودُ وَالْكَرَمُ
وخشوع الأبصار : كناية عن الذلة والانخزال ، لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في
عيونهما . وقرىء : ( يخرجون من الأجداث ) من القبور ) كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ
مُّنتَشِرٌ ( الجراد مثل في الكثرة والتموّج . يقال في الجيش الكثير المائج بعضه
في بعض : جاؤا كالجراد ، وكالدبا منتشر في كل مكان لكثرته ) مُّهْطِعِينَ إِلَى
الدَّاعِىَ ( مسرعين مادّي أعناقهم إليه . وقيل : ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم
. قال :
تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدِ وَقَدْ أَرَى وَنِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ
وَمُهْطِعُ
) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ
وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ
السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الاٌّ رْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى
المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ
تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَةً
فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر ( 7 )
القمر : ( 9 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
" صفحة رقم 434 "
) قَبْلَهُمْ ( قبل أهل مكة ) فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا ( يعني نوحاً . فإن قلت : ما
معنى قوله تعالى : ) فَكَذَّبُواْ ( بعد قوله : ) كَذَّبَتْ ( ؟ قلت : معناه :
كذبوا فكذبوا عبدنا أي : كذبوه تكذيباً على عقب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن مكذب
تبعه قرن مكذب . أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا ، أي : لما كانوا مكذبين
بالرسل جاحدين للنبوّة رأساً : كذبوا نوحًا ؛ لأنه من جملة الرسل ) مَّجْنُونٍ (
هو مجنون ) وَازْدُجِرَ ( وانتهروه بالشتم والضرب والوعيد بالرجم في قولهم )
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ ( ( الشعراء : 116 ) وقيل : هو من جملة قيلهم ،
أي : قالوا هو مجنون ، وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه وطارت بقلبه . قرىء :
( أني ) بمعنى : فدعا بأني مغلوب ، وإني : على إرادة القول ، فدعا فقال : إني
مغلوب غلبني قومي ، فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس من إجابتهم لي ) فَانتَصِرْ ( فانتقم
منهم بعذاب تبعثه عليهم ، وإنما دعا بذلك بعد ما طم عليه الأمروبلغ السيل الزبا ،
فقد روى : أنّ الواحد من أمّته كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشياً عليه . فيفيق وهو
يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . وقرىء : ( ففتحنا ) مخففاً ومشدّداً ،
وكذلك وفجرنا ) مُّنْهَمِرٍ ( منصب في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً )
وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً ( وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ
من قولك : وفجرنا عيون الأرض ونظيره في النظم ) وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ( (
مريم : 4 ) . ) فَالْتَقَى المَاء ( يعني مياه السماء والأرض . وقرىء : ( الماآن )
، أي : النوعان من الماء السماوي والأرضي . ونحوه قولك : عندي تمران ، تريد :
ضربان من التمر : برني ومعقلي . قال :
" صفحة رقم 435 "
لَنَا إبْلاَنِ فِيهِمَا مَا علمْتُمُ
وقرأ الحسن ( الماوان ) ، بقلب الهمزة واواً ، كقولهم : علباوان ) عَلَى أَمْرٍ
قَدْ قُدِرَ ( على حال قدرها الله كيف شاء . وقيل : على حال جاءت مقدّرة مستوية :
وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء . وقيل : على أمر
قد قدر في اللوح أنه يكون ، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان ) عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ
وَدُسُرٍ ( أراد السفينة ، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منا بها
وتودي مؤداها . بحيث لا يفصل بينها وبينها . ونحوه :
. . . . . . . . . وَلَاكِن قمِيصِي مَسْرُودَةٌ مِنْ حَدِيدِ
أراد : ولكن قميصي درع ، وكذلك :
وَلَوْ فِي عُيُونِ النَّازِيَاتِ بِأَكْرُعِ
أراد : ولو في عيون الجراد . ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة ، أو
بين الدرع والجراد وهاتين الصفتين : لم يصح ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه . والدسر
: جمع دسار : وهو المسمار ، فعال من دسره إذا دفعه ؛ لأنه يدسر به منفذه ) جَزَاء
( مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده ، أي فعلنا ذلك جزاء ، ) لّمَن
كَانَ كُفِرَ ( وهو نوح عليه السلام ، وجعله مكفوراً لأنّ النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) نعمة من الله ورحمة . قال الله تعالى : ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ
رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ ( ( الأنبياء : 107 ) فكان نوح عليه السلام نعمة مكفورة ،
ومن هذا المعنى ما يحكى أنّ رجلاً قال للرشيد : الحمد لله عليك ، فقال : ما معنى
هذا الكلام ؟ قال : أنت نعمة حمدت الله عليها . ويجوز أن يكون على تقدير حذف الجار
وإيصال الفعل . وقرأ قتادة ( كفر ) أي جزاء للكافرين . وقرأ الحسن ( جزاء ) ،
بالكسر : أي مجازاة . الضمير في ) تَّرَكْنَاهَا ( للسفينة . أو للفعلة ، أي :
جعلناها آية يعتبر
" صفحة رقم 436 "
بها . وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة . وقيل : على الجودى دهراً طويلاً ،
حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة . والمدكر : المعتبر . وقرىء : ( مذتكر ) على الأصل
. ومذكر ، بقلب التاء ذالاً وإدغام الذال فيها . وهذا نحو : مذجر . والنذر : جمع
نذير وهو الإنذار ) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ ( أي سهلناه
للأدكار والاتعاظ ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد )
فَهَلْ مِن ( متعظ . وقيل : ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ، فهل من
طالب لحفظه ليعان عليه . ويجوز أن يكون المعنى : ولقد هيأناه للذكر ، من يسر ناقته
للسفر : إذا رحلها ، ويسر فرسه للغزو ، إذا أسرجه وألجمه . قال : وَقمت إِلَيْهِ بِاللِّجَامِ
مُيَسِّرا
هُنَالِكَ يَجْزِيني الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ
ويروى : أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل لا يتلوها أهلها إلا نظراً ولا
يحفظونها ظاهراً كما القرآن .
) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ
ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ
إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ
هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (
القمر : ( 18 - 22 ) كذبت عاد فكيف . . . . .
) وَنُذُرِ ( وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله . أو إنذار أتى في تعذيبهم لمن بعدهم
) فِى يَوْمِ نَحْسٍ ( في يوم شؤم . وقرىء : ( في يوم نحس ) كقوله : ) فِى
أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ( . ( فصلت : 16 ) . ) مُّسْتَمِرٌّ ( قد استمر عليهم ودام
حتى أهلكهم . أو استمر عليهم جميعاً كبيرهم وصغيرهم ، حتى لم يبق منهم نسمة ، وكان
في أربعاء في آخر الشهر لا تدور . ويجوز أن يريد بالمستمر : الشديد المرارة
والبشاعة ) تَنزِعُ النَّاسَ ( تقلعهم عن أماكنهم ، وكانوا يصطفون آخذين أيديهم
بأيدي بعض . ويتدخلون في الشعاب ، ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتكبهم وتدق
رقابهم ) كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ( يعني أنهم كانوا يتساقطون على
الأرض أمواتاً وهم جثث طوال عظام ، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولهابلا فروع ، منقعر :
منقلع : عن مغارسه . وقيل : شبهوا بأعجاز النخل ، لأنّ الريح كانت تقطع رؤوسهم
فتبقى أجساداً بلا رؤوس . وذكر صفة ) نَخْلٍ ( على اللفظ ، ولو حملها على المعنى
لأنث ، كما قال : ) أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( ( الحاقة : 7 ) .
) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاٌّ شِرُ إِنَّا مُرْسِلُواْ
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ
" صفحة رقم 437 "
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ
فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ
الْمُحْتَظِرِ وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
(
القمر : ( 26 - 32 ) سيعلمون غدا من . . . . .
) أَبَشَراً مّنَّا واحِداً ( نصب بفعل مضمر يفسره ) نَّتَّبِعُهُ ( وقرىء : (
أبشر منا واحد ) على الابتداء . ونتبعه : خبره ، والأوّل أوجه للاستفهام . كان
يقول : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق ، وسعر : ونيران ، جمع سعير ، فعكسوا
عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذن كما تقول . وقيل : الضلال : الخطأ والبعد عن
الصواب . والسعر : الجنون . يقال : ناقة مسعورة . قال : كَأَنَّ بِهَا سُعْرًا
إذَا الْعِيسُ هَزَّهَا
ذَمِيلٌ وَإِرْخَاءٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ
فإن قلت : كيف أنكروا أن يتبعوا بشراً منهم واحداً ؟ قلت : قالوا أبشراً : إنكاراً
لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر وهم
الملائكة ، وقالوا : ) مِّنَّا ( لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى ، وقالوا :
) واحِداً ( إنكاراً لأن تتبع الأمّة رجلاً واحداً . أو أرادوا واحداً من أفنائهم
ليس بأشرفهم وأفضلهم ، ويدل عليه قولهم : ) أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن
بَيْنِنَا ( أي أنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوّة )
أَشِرٌ ( بطر متكبر ، حمله بطره وشطارته وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك )
سَيَعْلَمُونَ غَداً ( عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة ) مَّنِ الْكَذَّابُ
الاْشِرُ ( أصالح أم من كذبه . وقرىء : ( ستعلمون ) بالتاء على حكاية ما قال لهم
صالح مجيباً لهم . أو هو كلام الله تعالى على سبيل الالتفات . وقرىء : ( الأشر )
بضم الشين ، كقولهم حدث وحدث . وحذر وحذر ، وأخوات لها . وقرىء : ( الأشر ) وهو
الأبلغ في الشرارة . والأخير والأشر : أصل قولهم : هو خير منه وشر منه ، وهو أصل
مرفوض ، وقد حكى ابن الأنباري قول العرب : هو أخير وأشر ، وما أخيره وما أشره )
مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ ( باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا ) فِتْنَةً
لَّهُمْ ( امتحاناً لهم وابتلاء ) فَارْتَقِبْهُمْ ( فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون
) وَاصْطَبِرْ ( على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمري ) قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ( مقسوم
بينهم : لها شرب يوم ولهم شرب يوم . وإنما
" صفحة رقم 438 "
قال : بينهم ، تغليباً للعقلاء ( محتضر ) محضور لهم أو للناقة . وقيل : يحضرون
الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها ) صَاحِبَهُمْ ( قدار بن سالف أحيمر ثمود )
فَتَعَاطَى ( فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له ، فأحدث العقر بالناقة .
وقيل فتعاطى الناقة فعقرها ، أو فتعاطى السيف ) صَيْحَةً واحِدَةً ( صيحة جبريل .
والهشيم ؛ الشجر اليابس المتهشم المتكسر ( والمحتظر ) الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر
به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم . وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو
موضع الاحتظار ، أي ( الحظيرة ) .
) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً
إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ
نَجْزِى مَن شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى
وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ فَذُوقُواْ عَذَابِى
وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ (
القمر : ( 33 - 40 ) كذبت قوم لوط . . . . .
) حَاصِباً ( ريحا تحصبهم بالحجارة ، أي : ترميهم ) بِسَحَرٍ ( بقطع من الليل ،
وهو السدس الأخير منه . وقيل : هما سحران ، فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر ،
والآخر عند انصداعه ، وأنشد : مَرَّتْ بِأَعْلَى السَّحَرَيْنِ تَذْأَلُ ;
وصرف لأنه نكرة . ويقال : لقيته سحرا أذا لقيته في سحر يومه ) نِعْمَتَ ( إنعاماً
، مفعول له ) مَن شَكَرَ ( نعمة الله بإيمانه وطاعته ) وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ ( لوط
عليه السلام ) بَطْشَتَنَا ( أخذتنا بالعذاب ) فَتَمَارَوْاْ ( فكذبوا )
بِالنُّذُرِ ( متشاكين ) فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ( فمسحناها وجعلناها كسائر
الوجه لا يرى لها شق . روى أنهم لما عالجوا باب لوط عليه السلام ليدخلوا قالت
الملائكة خلهم يدخلوا ، ) إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ ( ( هود :
81 ) فصفقهم جبريل عليه السلام بجناحه صفقة فتركهم يتردّدون لا يهتدون إلى الباب
حتى أخرجهم لوط ) فَذُوقُواْ ( فقلت لهم : ذوقوا على ألسنة الملائكة ) بُكْرَةً (
أوّل النهار وباكره ، كقوله : ( مشرقين ) ، و ( مصبحين ) . وقرأ زيد بن علي رضي
الله عنهما : ( بكرة ) ، غير منصرفة ، تقول : أتيته بكرة وغدوة بالتنوين . إذا
أردت التنكير ، وبغيره إذا عرّفت
" صفحة رقم 439 "
وقصدت بكرة نهارك وغدوته ) عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ ( ثابت قد استقرّ عليهم إلى أن
يفضى بهم إلى عذاب الآخرة . فإن قلت : ما فائدة تكرير قوله ) فَذُوقُواْ عَذَابِى
وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( ؟
قلت : فائدته أن يجدّدوا عند استماع كل نبإ من أنباء الأوّلين ادكاراً واتعاظاً ،
وأن يستأفنوا تنبهاً واستيقاظاً ، إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه ، وأن يقرع
لهم العصا مرات ، ويقعقع لهم الشن تارات ؛ لئلا يغلبهم السهو ولا تستولى عليهم
الغفلة ، وهكذا حكم التكرير ، كقوله : ) فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( (
الرحمن : 13 ) عند كل نعمة عدّها في سورة الرحمن ، وقوله : ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لّلْمُكَذّبِينَ ( ( المرسلات : 15 ) عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات ، وكذلك
تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب . مصورة للأذهان ،
مذكورة غير منسية في كل أوان .
) وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا كُلِّهَا
فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (
القمر : ( 41 ) ولقد جاء آل . . . . .
) النُّذُرُ ( موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به
المرسلون . أو جمع نذير وهو الإنذار ) بِأايَاتِنَا كُلِّهَا ( بالآيات التسع )
أَخْذَ عِزِيزٍ ( لا يغالب ) مُّقْتَدِرٍ ( لا يعجزه شيء .
) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (
القمر : ( 43 - 46 ) أكفاركم خير من . . . . .
) أَكُفَّارُكُمْ ( يا أهل مكة ) خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ ( الكفار المعدودين :
قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، أي أهم خير قوّة وآلة ومكانة في الدنيا . أو
أقل كفراً وعناداً يعني : أنّ كفاركم مثل أولئك بل شر منهم ) أَمْ ( أنزلت عليكم
يا أهل مكة ) بَرَاءةٌ ( في الكتب المتقدّمة . أنّ من كفر منكم وكذب الرسل كان
آمناً من عذاب الله ، فأمنتم بتلك البراءة ) نَحْنُ جَمِيعٌ ( جماعة أمرنا مجتمع )
مُّنتَصِرٌ ( ممتنع لا نرام ولا نضام . وعن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر ،
فتقدَّم في الصف وقال : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه ، فنزلت ) سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ ( عن عكرمة :
( 1113 ) لما نزلت هذه الآية قال عمر : أي جمع يهزم ، فلما رأى رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 440 "
يثب في الدرع ويقول : ( سيهزم الجمع ) عرف تأولها ) وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( أي
الأدبار كما قال : كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ;
وقرىء : ( الأدبار ) ) أَدْهَى ( أشدّ وأفظع . والداهية : الأمر المنكر الذي لا
يهتدي لدوائه ) وَأَمَرُّ ( من الهزيمة والقتل والأسر . وقرىء : ( سنهزم الجمع ) .
) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ
عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ
بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (
القمر : ( 47 - 50 ) إن المجرمين في . . . . .
) فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ( في هلاك ونيران . أو في ضلال عن الحق في الدنيا ، ونيران
في الآخرة ) مَسَّ سَقَرَ ( كقولك : وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب ؛ لأنّ النار إذا
أصابتهم بحرهاولفحتهم بإيلامها ، فكأنها تمسهم مساً بذلك ، كما يمس الحيوان ويباشر
بما يؤذى ويؤلم . وذوقوا : على إرادة القول . وسقر : علم لجهنم . من سقرته النار
وصقرته إذا لوحته . قال ذو الرمّة :
إذَا ذَابَتِ الشَّمْسُ اتقى صَقَرَاتِهَا
بِأَفْنَانِ مَرْبُوعِ الصَّرِيمَةِ مُعْبِلِ
وعدم صرفها للتعريف والتأنيث ) كُلّ شَىْء ( منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر
" صفحة رقم 441 "
وقرىء : ( كل شيء ) بالرفع ( والقدر والقدر ) التقدير . وقرىء بهما ، أي : خلقنا
كل شيء مقدّراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة . أو مقدّراً مكتوباً في
اللوح . معلوماً قبل كونه ، قد علمنا حاله وزمانه ) وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ
واحِدَةٌ ( إلا كلمة واحدة سريعة التكوين ) كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( أراد قوله كن ،
يعني أنه إذا أراد تكوين شيء لم يلبث كونه .
) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَكُلُّ شَىْءٍ
فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ (
القمر : ( 51 - 53 ) ولقد أهلكنا أشياعكم . . . . .
) أَشْيَاعَكُمْ ( أشباهكم في الكفر من الأمم ) فِى الزُّبُرِ ( في دواوين الحفظة
) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ( من الأعمال ومن كل ما هو كائن ) مُّسْتَطَرٌ (
مسطور في اللوح .
) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ
مُّقْتَدِرِ (
القمر : ( 54 ) إن المتقين في . . . . .
(ونهر ) وأنهار ، اكتفى باسم الجنس . وقيل : هو السعة والضياء من النهار . وقرىء :
بسكون الهاء . ( ونهْر ) جمع نهر ، كأسد وأسد ) فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ( في مكان
مرضيّ . وقرىء : ( في مقاعد صدق ) ) عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( مقرّبين عند مليك
مبهم أمره في الملك والاقتدار ، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته ، فأي منزلة أكرم
من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1114 ) ( من قرأ سورة القمر في كل غب بعثه الله يوم القيامة ووجهه مثل القمر
ليلة البدر ) .
" صفحة رقم 442 "
( سورة الرحمن )
مدنية وآياتها 78 ( نزلت بعد الرعد )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) الرَّحْمَانُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ
وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ
وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ وَالاٌّ رْضَ
وَضَعَهَا لِلاٌّ نَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاٌّ كْمَامِ
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 1 ) الرحمن
عدّد الله عز وعلا آلاءه ، فأراد أن يقدّم أوّل شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه
وأصناف نعمائه ، وهي نعمة الدين ، فقدّم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها
وأقصى مراقيها : وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، لأنه أعظم وحي الله رتبة ،
وأعلاه منزلة ، وأحسنه في أبواب الدين أثراً ، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها
والعيار عليها ، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ، ثم أتبعه إياه : ليعلم أنه إنما
خلقه للدين ، وليحيط علماً بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله ، وكأن الغرض في
إنشائه كان مقدّماً عليه وسابقاً له ، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من
البيان ، وهو المنطق الفصيح
" صفحة رقم 443 "
المعرب عما في الضمير ، ) الرَّحْمَانُ ( مبتدأ ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار
مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد
فقر ، أعزك بعد ذل ، كثرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر من
إحسانه ؟ ) بِحُسْبَانٍ ( بحساب معلوم وتقدير سويّ ) يجريان ( في بروجهما
ومنازلهما . وفي ذلك منافع للناس عظيمة : منها علم السنين والحساب ) النُّجُومِ
وَالنَّجْمِ ( والنبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول ) وَالشَّجَرُ ( الذي
له ساق . وسجودهما : انقيادههما لله فيما خلقا له ، وأنهما لا يمتنعان ، تشبيهاً
بالساجد من المكلفين في انقياده . فإن قلت : كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمان ؟
قلت : استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي ، لما علم أن الحسبان حسبانه ،
والسجود له لا لغيره ، كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه ، والنجم والشجر يسجدان له
، فإن قلت : كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول ، ثم جيء به بعد ؟ قلت : بكت بتلك
الجمل الأول واردة على سنن التعديد ، ليكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تقريع
الذين أنكروا الرحمن وآلاءه ، كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها
عليه في المثال الذي قدّمته ، ثم ردّ الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب
وصله للتناسب والتقارب بالعاطف . فإن قلت : أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط
بينهما العاطف ؟ قلت : إنّ الشمس والقمر سماويان ، والنجم والشجر أرضيان ، فبين
القبيلين تناسب من حيث التقابل ، وأنّ السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين ،
وأن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله ، فهو مناسب لسجود النجم
والشجر وقيل : ) عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( جعله علامة وآية . وعن ابن عباس رضي الله
عنه : الإنسان آدم . وعنه أيضاً : محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن
مجاهد النجم : نجوم السماء ) وَالسَّمَاء رَفَعَهَا ( خلقها مرفوعة مسموكة ، حيث
جعلها منشأ أحكامه ، ومصدر قضاياه ، ومتنزل أوامره ونواهيه ، ومسكن ملائكته الذين
يهبطون بالوحي على أنبيائه ؛ ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه ) وَوَضَعَ
الْمِيزَانَ ( وفي قراءة عبد الله ( وخفض الميزان ) . وأراد به كل ما توزن به
الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس ، أي خلقه موضوعاً مخفوضاً
على الأرض : حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل
في أخذهم وإعطائهم ) أَلاَّ تَطْغَوْاْ ( لئلا تطغوا . أو هي أن المفسرة . وقرأ
عبد الله ( لا تطغوا ) بغير أن ، على إرادة القول ) وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ
بِالْقِسْطِ ( وقوّموا وزنكم بالعدل ) وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ ( ولا تنقصوه
: أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة ، وعن الخسران الذي هو
تطفيف ونقصان . وكرّر لفظ الميزان : تشديداً للتوصية به ، وتقوية للأمر باستعماله
والحث
" صفحة رقم 444 "
عليه . وقرىء : ( والسماء ) بالرفع . ( ولا تخسروا ) بفتح التاء وضم السين وكسرها
وفتحها . يقال : خسر الميزان يخسره ويخسره ، وأمّا الفتح فعلى أن الأصل : ولا
تخسروا في الميزان ، فحذف الجار وأوصل الفعل . و ) وَضَعَهَا ( خفضها مدحوّة على
الماء ) لِلاْنَامِ ( للخلق ، وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة . وعن الحسن :
الإنس والجنّ ، فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها ) فَاكِهَةٍ ( ضروب مما يتفكه به ،
و ) الاْكْمَامِ ( كل ما يكم أي يغطى من ليفة وسعفة وكفّراة وكله منتفع به كما
ينتفع بالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه . وقيل الأكمام أوعية التمرة الواحد كم بكسر
الكاف و ( العصف ) ورق الزرع وقيل التبن ) وَالرَّيْحَانُ ( الرزق وهو اللب : أراد
فيها ما يتلذذ به من الفواكه والجامع بين التلذذ والتغذي وهو ثمر النخل ، وما
يتغذى به وهو الحب . وقرىء : ( والريحان ) ، بالكسر . ومعناه : والحب ذو العصف
الذي هو علف الأنعام ، والريحان الذي هو مطعم الناس . وبالضم على : وذو الريحان ،
فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : معناه وفيها الريحان الذي يشم ، وفي
مصاحف أهل الشأم : والحب ذو العصف والريحان ، أي : وخلق الحب والريحان : أو وأخص
الحب والريحان . ويجوز أن يراد : وذا الريحان ، فيحذف المضاف ويقام المضاف إليه
مقامه ، والخطاب في ) رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( للثقلين بدلالة الأنام عليهما .
وقوله : ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ( ( الرحمن : 31 ) .
) خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ
مِّن نَّارٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 14 ) خلق الإنسان من . . . . .
الصلصال : الطين اليابس له صلصلة . والفخار : الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف .
فإن قلت : قد اختلف التنزيل في هذا ، وذلك قوله عزّ وجلّ : ) مّنْ حَمَإٍ
مَّسْنُونٍ ( ( الحجر : 26 28 33 ) ، ) مّن طِينٍ لاَّزِبٍ ( ( الصافات : 11 ) )
مّن تُرَابٍ ( ( آل عمران : 59 ) . قلت : هو متفق في المعنى ، ومفيد أنه خلقه من
تراب : جعله طيناً ، ثم حمأ مسنون ، ثم صلصالا . و ) الْجَانَّ ( أبو الجن . وقيل
: هو إبليس . والمارج : اللهب الصافي الذي لا دخان فيه . وقيل : المختلط بسواد
النار ، من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط . فإن قلت : فما معنى قوله : ) مّن نَّارٍ
( ؟ قلت : هو بيان لمارج ، كأنه قيل : من صاف من نار . أو مختلط من نار أو أراد من
نار مخصوصة ، كقوله تعالى : ) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ( ( الليل : 14 ) .
) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 17 ) رب المشرقين ورب . . . . .
قرىء : ( رب المشرقين ورب المغربين ) بالجر بدلاً من ( ربكما ) وأراد مشرقي
" صفحة رقم 445 "
الصيف والشتاء ومغربهما .
) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ
فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ
وَالمَرْجَانُ فَبِأَىِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 19 - 23 ) مرج البحرين يلتقيان
) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ( أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقين ، لا
فصل بين الماءين في مرأى العين ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ ( حاجز من قدرة الله تعالى
) لاَّ يَبْغِيَانِ ( لا يتجاوزان حدّيهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة .
قرىء : ( يُخرَج ) ويَخْرُج من أُخرج . وخرج . ويُخرِج : أي الله عز وجل اللؤلؤَ
والمرجانَ بالنصب . ونخرج بالنون . واللؤلؤ : الدرّ . والمرجان : هذا الخرز الأحمر
وهو البسذ . وقيل : اللؤلؤ كبار الدرّ . والمرجان : صغاره . فإن قلت : لم قال : (
منهما ) وإنما يخرجان من الملح ؟ قلت : لما التقيا وصارا كالشيء الواحد : جاز أن
يقال : يخرجان منهما ، كما يقال يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ولكن
من بعضه . وتقول : خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله ، بل من دار واحدة
من دوره . وقيل : لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب .
) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاٌّ عْلَامِ فَبِأَىِّ
ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 24 ) وله الجوار المنشآت . . . . .
) الْجَوَارِ ( السفن . وقرىء : ( الجوار ) بحذف الياء ورفع الراء ، ونحوه : لَهَا
ثَنَايَا أَرْبَعٌ حِسَان
وَأَرْبَعٌ فَكُلُّهَا ثَمَانُ
و ) الْمُنشَئَاتُ ( المرفوعات الشُرُع . وقرىء : بكسر الشين : وهي الرافعات الشرع
أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهنّ . والأعلام : جمع علم ، وهو الجبل الطويل .
) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ
فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 26 ) كل من عليها . . . . .
) عَلَيْهَا ( على الأرض ) وَجْهُ رَبّكَ ( ذاته ، والوجه يعبر به عن الجملة
والذات ،
" صفحة رقم 446 "
ومساكين مكة يقولون : أين وجه عربي كريم ينقذني من الهوان ، و ) ذُو الْجَلْالِ
وَالإكْرَامِ ( صفة الوجه . وقرأ عبد الله : ( ذي ) على : صفة ربك . ومعناه : الذي
يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم . أو الذي يقال له : ما أجلك وأكرمك .
أو من عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده ، وهذه الصفة من عظيم صفات الله ؛
ولقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1115 ) ( ألظوا ) بياذا الجلال والإكرام ) وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 1116 ) أنه مر برجل وهو يصلي ويقول : يا ذا الجلال والإكرام ، فقال : ( قد
استجيب لك ) . فإن قلت : ما النعمة في ذلك ؟ قلت : أعظم النعمة وهي مجيء وقت الجزاء
عقيب ذلك .
) يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ
فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 29 ) يسأله من في . . . . .
كل من أهل السموات والأرض مفتقرون إليه ، فيسأله أهل السموات ما يتعلق بدينهم ،
وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ( أي كل وقت
وحين يحدث أموراً ويجدد أحوالاً ، كما روى :
" صفحة رقم 447 "
( 1117 ) عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه تلاها فقيل له : وما ذلك الشأن
؟ فقال : ( من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ، ويرفع قوماً ويضع آخرين ) وعن ابن
عيينه : الدهر عند الله تعالى يومان ، أحدهما : اليوم الذي هو مدّة عمر الدنيا
فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع . والآخر : يوم القيامة
، فشأنه فيه الجزاء والحساب . وقيل : نزلت في اليهود حين قالوا : إنّ الله لا يقضي
يوم السبت شيئاً . وسأل بعض الملوك وزيره عنها فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يفكر
فيها ، فقال غلام له أسود : يا مولاي ، أخبرني ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي
، فأخبره فقال له : أنا أفسرها للملك فأعلمه ، فقال : أيها الملك شأن الله أن يولج
الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي
، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً ، ويبتلى معافاً ويعافى مبتلى ، ويعز ذليلاً ويذل
عزيزاً ويفقر غنياً ويغني فقيراً ؛ فقال الأمير : أحسنت وأمر الوزير أن يخلع عليه
ثياب الوزارة فقال : يا مولاي هذا من شأن الله . وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا
الحسين ابن الفضل وقال له : أشكلت على ثلاث آيات ، دعوتك لتكشفها لي : قوله تعالى
: ) فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( ( المائدة : 31 ) وقد صح أنّ الندم توبة
وقوله تعالى : ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ( وقد صح أنّ القلم قد جف بما هو
كائن إلى يوم القيامة . وقوله تعالى : ) وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا
سَعَى ( ( النجم : 39 ) فما بال الأضعاف ؟ فقال الحسين : يجوز أن لا يكون الندم
توبة في تلك الأمّة . ويكون توبة في هذه الأمّة ؛ لأنّ الله تعالى خص هذه الأمّة
بخصائص لم يشاركهم فيها الأمم ، وقيل إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ، ولكن
على حمله ، وأما قوله : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) فمعناه : ليس له إلا ما
سعى عدلاً ، ولي أن أجزيه بواحدة ألفاً فضلاً ، وأما قوله : ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِى شَأْنٍ ( فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتدئها : فقام عبد الله وقبل رأسه وسوّغ
خراجه .
" صفحة رقم 448 "
) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 31 ) سنفرغ لكم أيها . . . . .
) سَنَفْرُغُ لَكُمْ ( مستعار من قول الرجل لمن يتهدده : سأفرغ لك ، يريد :
سأتجرّد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك ، حتى لا يكون لي شغل سواه ، والمراد :
التوفر على النكاية فيه والانتقام منه ، ويجوز أن يراد : ستنتهي الدنيا وتبلغ
آخرها ، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق التي أرادها بقوله : ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى
شَأْنٍ ( فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل
، وقرىء : ( سيفرغ لكم ) ، أي : الله تعالى ، ( وسأفرغ لكم ) و ( سنفرغ ) بالنون )
، مفتوحاً مكسوراً وفتح الراء ، و ( سيفرَغ ) بالياء مفتوحاً ومضموماً مع فتح
الراء ، وفي قراءة أبيّ ( سنفرغ إليكم ) بمعنى : سنقصد إليكم ، والثقلان : الإنس
والجن ، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض .
) يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ
أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ
بِسُلْطَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا
شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 33 - 36 ) يا معشر الجن . . . . .
) يا معشر الْجِنَّ وَالإِنسَ ( كالترجمة لقوله : أيها الثقلان ) إِنِ
اسْتَطَعْتُمْ ( أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي ، فافعلوا
، ثم قال : لا تقدرون على النفوذ ) إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ( يعني بقوّة وقهر وغلبة ،
وأنى لكم ذلك ، ونحوه : ) وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ وَلاَ فِى
السَّمَاء ( ( العنكبوت : 22 ) وروى : أنّ الملائكة عليهم السلام تنزل فتحيط بجميع
الخلائق ، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا ، فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة
أحاطت به . قرىء : ( شواظ ونحاس ) ، كلاهما بالضم والكسر ؛ والشواظ : اللهب الخالص
. والنحاس : الدخان ؛ وأنشد : تُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ لَمْ يَجْعَلِ
اللَّهُ فِيهِ نُحَاسَا ;
وقيل : الصفر المذاب يصب على رؤوسهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا خرجوا من
قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر . وقرىء : ( ونحاس ) ، مرفوعاً عطفاً على شواظ .
ومجروراً عطفاً على تار . وقرىء : ( ونحس ) جمع نحاس ، وهو الدخان ، نحو لحاف ولحف
. وقرىء : ( ونحس ) أي : ونقتل بالعذاب . وقرىء : ( نرسل عليكم شواظاً من نار
ونحاساً ) ) فَلاَ تَنتَصِرَانِ ( فلا تمتنعان .
" صفحة رقم 449 "
) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَىِّ
ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ
وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 37 - 40 ) فإذا انشقت السماء . . . . .
) وَرْدَةً ( حمراء ) كَالدّهَانِ ( كدهن الزيت ، كما قال : كالمهل ، وهو درديّ
الزيت ، وهو جمع دهن . أو اسم ما يدهن به كالخزام والإدام . قال : كَأَنَّهُمَا
مَزَادَتَا مُتَعَجِّل
فَرِيَّانِ لَمَّا تُدْهَنَا بِدِهَانِ
وقيل : الدهان الأديم الأحمر . وقرأ عمرو بن عبيد ( وردة ) بالرفع ، بمعنى : فحصلت
سماء وردة ، وهو من الكلام الذي يسمى التجريد ، كقوله : فَلَئِنْ بَقِيتُ
لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَة
تَحْوِي الْغَنَائِمَ أَو يَمْوتَ كَرِيمُ
) إِنسٌ ( بعض من الإنس ) وَلاَ جَانٌّ ( أريد به : ولا جن : أي : ولا بعض من الجن
، فوضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن ، كما يقال : هاشم ، ويراد ولده . وإنما
وحد ضمير الإنس في قوله : ) عَن ذَنبِهِ ( لكونه في معنى البعض . والمعنى : لا
يسألون لأنهم يعرفون بسيما المجرمين وهي سواد الوجوه وزرقة العيون . فإن قلت : هذا
خلاف قوله تعالى : ) فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ( الحجر : 92 )
وقوله : ) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( ( الصافات : 24 ) . قلت : ذلك يوم طويل وفيه
مواطن فيسألون في موطىء ولا يسألون في آخر : قال قتادة : قد كانت مسألة ، ثم ختم
على أفواه القوم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . وقيل لا يسأل عن ذنبه
ليعلم من جهته ، ولكن يسأل سؤال توبيخ . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد ( ولا جأن )
فراراً من التقاء الساكنين ، وإن كان على حده .
) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاٌّ قْدَامِ
فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ
بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ فَبِأَىِّ
ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 41 - 45 ) يعرف المجرمون بسيماهم . . . . .
) فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ ( عن الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدمه في
سلسلة من وراء ظهره وقيل تسحبهم الملائكة : تارة تأخذ بالنواصي ؛ وتارة تأخذ
بالأقدام ) حَمِيمٍ ءانٍ ( ماء حار قد انتهى حرّه ونضجه ، أي : يعاقب عليهم بين
التصلية بالنار وبين شرب الحميم . وقيل : إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم
. وقيل : إن وادياً من أودية
" صفحة رقم 450 "
جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال ، فيغمسون فيه حتى تنخلع
أوصالهم ؛ ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً . وقرىء : ( يطوّفون ) من
التطويف . ويطوّفون ، أي : يتطوّفون ويطافون . وفي قراءة عبد الله : ( هذه جهنم
التي كنتما بها تكذبان تصليان لا تموتان فيها ولا تحييان يطوفون بينهما ) ونعمة
الله فيما ذكره من هول العذاب : نجاة الناجي منه برحمته وفضله ، وما في الإنذار به
من اللطف .
) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 46 ) ولمن خاف مقام . . . . .
) مَقَامَ رَبّهِ ( موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة ) يَوْمَ
يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( ( المطففين : 6 ) ونحوه : ) لِمَنْ خَافَ
مَقَامِى ( ( إبراهيم : 14 ) ويجوز أن يراد بمقام ربه : أن الله قائم عليه ؛ أي :
حافظ مهيمن من قوله تعالى : ) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ ( ( الرعد : 33 ) فهو يراقب ذلك فلا يجسر على معصيته . وقيل : هو مقحم
كما تقول : أخاف جانب فلان ، وفعلت هذا لمكانك . وأنشد : ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا
وَنَفَيْتُ عَنْه
مَقَامَ الذئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ
يريد : ونفيت عنه الذئب . فإن قلت : لم قال : ) جَنَّتَانِ ( ؟ قلت : الخطاب
للثقلين ؛ فكأنه قيل : لكل خائفين منكما جنتان : جنة للخائف الإنسي ، وجنة للخائف
الجني . ويجوز أن يقال : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي ؛ لأن التكليف دائر
عليهما وأن يقال : جنة يثاب بها ، وأخرى تضم إليها على وجه التفضل ، كقوله تعالى :
) لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ( ( يونس : 26 ) خص الأفنان
بالذكر : وهي الغصنة التي تتشعب من فروع الشجرة : لأنها هي التي تورق وتثمر ،
فمنها تمتد الظلال ، ومنها تجتني الثمار . وقيل : الأفنان ألوان النعم ما تشتهي
الأنفس وتلذ الأعين . قال : وَمِنْ كُلِّ أَفْنَانِ اللَّذَاذَةِ وَالصَّبَا
لَهَوْتُ لَهَوْتُ بِهِ وَالْعَيْشُ أَخْضَرُ نَاضِرُ
) عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( حيث شاءوا في الأعالي والأسافل . وقيل : تجريان من جبل
من
" صفحة رقم 451 "
مسك . وعن الحسن : تجريان بالماء الزلال : إحداهما التسنيم ، والأخرى : السلسبيل )
زَوْجَانِ ( صنفان : قيل : صنف معروف وصنف غريب ) مُتَّكِئِينَ ( نصب على المدح
للخائفين . أو حال منهم ، لأنّ من خاف في معنى الجمع ) بَطَائِنُهَا مِنْ
إِسْتَبْرَقٍ ( من ديباج ثخين ، وإذا كانت البطائن من الإستبرق ، فما ظنك بالظهائر
؟ وقيل : ظهائرها من سندس . وقيل : من نور ) وَلَداً ( قريب يناله القائم والقاعد
والنائم . وقرىء : ( وجنى ) ، بكسر الجيم .
) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ
جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ
وَالْمَرْجَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَآءُ
الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 56 ) فيهن قاصرات الطرف . . . . .
) فِيهِنَّ ( في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى
. أو في الجنتين ، لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس ) قَاصِراتُ الطَّرْفِ ( نساء
قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ : لا ينظرن إلى غيرهم . لم يطمث الإنسيات منهنّ أحد من
الإنس ، ولا الحثيات أحد من الجن وهذا دليل عى أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس ،
وقرىء : ( لم يطمثهنّ ) بضم الميم . قيل : هنّ في صفاء الياقوت وبياض المرجان
وصغار الدر : أنصع بياضاً . قيل : إنّ الحوراء تلبس سبعين حلة ، فيرى مخ ساقها من
ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء ) هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ ( في
العمل ) إِلاَّ الإحْسَانُ ( في الثواب . وعن محمد بن الحنفية : هي مسجلة للبر
والفاجر . أي : مرسلة ، يعني : أنّ كل من أحسن أُحسن إليه ، وكل من أَساء أسيء
إليه .
) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
مُدْهَآمَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ
نَضَّاخَتَانِ فَبِأَىءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 62 ) ومن دونهما جنتان
) وَمِن دُونِهِمَا ( ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين ) جَنَّتَانِ (
لمن دونهم من أصحاب اليمين ) مُدْهَامَّتَانِ ( قد ادهامّتا من شدّة الخضرة ) نَضَّاخَتَانِ
( فوّارتان بالماء . والنضخ أكثر من النضح ، لأنّ النضح غير معجمة مثل الرش ، فإن
قلت : لم
" صفحة رقم 452 "
عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها ؟ قلت : اختصاصاً لهما وبياناً لفضلهما ،
كأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران ، كقوله تعالى : ) وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ
( ( البقرة : 98 ) أو لأنّ النخل ثمره فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء ، فلم
يخلصا للتفكه . ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رماناً
أو رطباً : لم يحنث ، وخالفه صاحباه .
) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ
مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ
يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ فَبِأَىِّ
ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَالِ
وَالإِكْرَامِ (
الرحمن : ( 70 - 78 ) فيهن خيرات حسان
) خَيْراتٌ ( خيرات فخففت ، كقوله عليه السلام :
( 1118 ) ( هينون لينون ) وأما ( خير ) الذي هو بمعنى أخير ، فلا يقال فيه خيرون
ولا خيرات . وقرىء : ( خيرات ) على الأصل . والمعنى : فاضلات الأخلاق حسان الخلق )
مَّقْصُوراتٌ ( قصرن في خدورهنّ . يقال : امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة مخدرة . وقيل
: إنّ الخيمة من خيامهنّ درّة مجوّفة ) قَبْلَهُمْ ( قبل أصحاب الجنتين ، دل عليهم
ذكر الجنتين ) مُتَّكِئِينَ ( نصب على الاختصاص . والرفرف : ضرب من البسط . وقيل
البسط وقيل الوسائد ، وقيل كل ثوب عريض رفرف . ويقال لأطراف البسط فضول الفسطاط :
رفارف . ورفرف السحاب : هيدبه والعبقري : منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنه بلد
الجن ؛ فينسبون إليه كل شيء عجيب . وقرىء : ( رفارف خضر ) بضمتين . وعباقرى ،
كمدائني : نسبة إلى عباقري في اسم البلد : وروى أبو حاتم : عباقرى ، بفتح القاف
ومنع الصرف ، وهذا لا وجه لصحته . فإن قلت : كيف تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن
الأوليين حتى قيل : ومن دونهما ؟ قلت : مدهامّتان ، دون ذواتا أفنان . ونضاختان
دون : تجريان . وفاكهة دون : كل فاكهة . وكذلك صفة الحور والمتكأ . وقرىء : ( ذو
الجلال ) صفة ، للاسم .
" صفحة رقم 453 "
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1119 ) ( من قرأ سورة الرحمن أدّى شكر ما أنعم الله عليه ) .
" صفحة رقم 454 "
( سورة الواقعة )
مكية ( إلا آيتي 81 و 82 فمدنيتان )
وآياتها 96 وقيل 97 آية ( نزلت بعد طه )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ
رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الاٌّ رْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ
هَبَآءً مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (
الواقعة : ( 1 - 7 ) إذا وقعت الواقعة
) وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( كقولك : كانت الكائنة ، وحدثت الحادثة ، والمراد
القيامة : وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة ، فكأنه قيل : إذا وقعت التي لا بدّ من
وقوعها ، ووقوع الأمر : نزوله . يقال : وقع ما كنت أتوقعه ، أي : نزل ما كنت أترقب
نزوله . فإن قلت : بم انتصب إذا ؟ قلت : بليس . كقولك يوم الجمعة ليس لي شغل . أو
بمحذوف ، يعني : إذا وقعت كان كيت وكيت : أو بإضمار اذكر ) كَاذِبَةٌ ( نفس كاذبة
، أي : لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله وتكذب في تكذيب الغيب ؛ لأنّ كل نفس
حينئذٍ مؤمنة صادقة مصدّقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات ، كقوله تعالى : )
فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ( ( غافر : 84
) ، ) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( ( الشعراء :
201 ) ، ) وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتَّى
تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ( ( الحج : 55 ) واللام مثلها في قوله تعالى : )
يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى ( ( الفجر : 24 ) أو : ليس لها نفس تكذبها
وتقول لها : لم تكوني كما لها اليوم نفوس كثيرة يكذبنها ، يقلن لها : لن تكوني .
أو هي من قولهم : كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم ، إذا شجعته على مباشرته وقالت
له : إنك تطيقه وما فوقه فتعرّض له ولا تبال به ، على معنى : أنها وقعة لا تطاق
شدّة وفظاعة . وأن لا نفس حينئذٍ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور وتزين
له احتمالها وإطاقتها ، لأنهم يومئذٍ أضعف من ذلك وأذل . ألا ترى إلى قوله تعالى :
) كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ( ( القارعة : 4 ) والفراش مثل في الضعف . وقيل : )
كَاذِبَةٌ ( مصدر كالعاقبة بمعنى التكذيب ، من قولك : حمل على قرنه فما كذب ، أي :
فما جبن وما
" صفحة رقم 455 "
تثبط . وحقيقته : فما كذب نفسه فيما حدثته به . من إطاقته له وإقدامه عليه . قال
زهير : . . . . . . . . . . . . . . . . . . إذَا
مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أَقْرَانِهِ صَدَقَا
أي : إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد ) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ( على : هي
خافضة رافعة ، ترفع أقواماً وتضع آخرين : إما وصفاً لها بالشدّة ؛ لأنّ الواقعات
العظام كذلك : يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتضع ناس ، وإما لأنّ الأشقياء يحطون إلى
الدركات ، والسعداء يرفعون إلى الدرجات ؛ وإما أنها تزلزل الأشياء وتزيلها عن
مقارّها ، فتخفض بعضاً وترفع بعضاً : حيث تسقط السماء كسفاً وتنتثر الكواكب وتنكدر
وتسير الجبال فتمرّ في الجوّ مرّ السحاب ، وقرىء : ( خافضة رافعة ) بالنصب على
الحال ) رُجَّتِ ( حرّكت تحريكاً شديداً حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء )
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ ( وفتت حتى تعود كالسويق ، أو سيقت من بس العنم إذا ساقها .
كقوله : ) وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ ( ( النبأ : 20 ) ، ( منبثاً ) متفرقاً . وقرىء
بالتاء أي : منقطعاً . وقرىء : ( رجت وبست ) أي : ارتجت وذهبت . وفي كلام بنت الخس
: عينها هاج ، وصلاها راج . وهي تمشي تفاج . فإن قلت : بم انتصب إذا رجت ؟ قلت :
هو بدل من إذا وقعت . ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة . أي : تخفض وترفع وقت رج الأرض
، وبس الجبال لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض ) أَزْواجاً (
أصنافاً ، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض : أزواج .
) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ
الْمَشْأمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأمَةِ (
الواقعة : ( 8 - 9 ) فأصحاب الميمنة ما . . . . .
) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم ) وَأَصْحَابُ
الْمَشْئَمَةِ ( الذي يؤتونها بشمائلهم . أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة
الدنية ، من قولك : وفلان
" صفحة رقم 456 "
مني باليمين ، فلان مني بالشمال : إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة ؛ وذلك لتيمنهم
بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل ، ولتفاؤلهم بالسانح وتطيّرهم من البارح ، ولذلك
اشتقوا لليمين الاسم من اليمن ، وسموا الشمائل الشؤمى . وقيل : أصحاب الميمنة
وأصحاب المشأمة : أصحاب اليمن والشؤم ؛ لأنّ السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم ،
والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم . وقيل : يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار
ذات الشمال .
) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَائِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِى جَنَّاتِ
النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الاٌّ خِرِينَ عَلَى
سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لاَّ
يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ
الْمَكْنُونِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً
وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً (
الواقعة : ( 10 - 26 ) والسابقون السابقون
) وَالسَّابِقُونَ ( المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه وشقوا الغبار في
طلب مرضاة الله عز وجل وقيل : الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ، ثم
داوم عليه حتى خرج من الدنيا ؛ فهذا السابق المقرَّب ، ورجل ابتكر عمره بالذنب
وطول الغفلة ، ثم تراجع بتوبة ؛ فهذا صاحب اليمين ، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه
، ثم يزل عليه حتى خرج من الدنيا ، فهذا صاحب الشمال ما أصحاب الميمنة . ما أصحاب
المشأمة ؟ تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة . والمعنى : أي شيء هم ؟
والسابقون السابقون ، يريد : والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم ، كقوله وعبد
الله عبد الله . وقول أبي النجم :
" صفحة رقم 457 "
وشعري شعري
كأنه قال : وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وبراعته ، وقد جعل السابقون تأكيداً
. وأولئك المقرّبون : خبراً وليس بذاك : ووقف بعضهم على : والسابقون ؛ وابتدأ
السابقون أولئك المقرّبون ، والصواب أن يوقف على الثاني ، لأنه تمام الجملة ، وهو
في مقابلة : ما أصحاب الميمنة ، وما أصحاب المشأمة ) المقربون ( الذين قربت
درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم . وقرىء : ( في جنة النعيم ) والثلة :
الأمة من الناس الكثيرة . قال : وَجَاءَتْ إلَيْهِمْ ثُلَّةٌ خِنْدِفِيَّة
بِجَيْشٍ كَتَيَّارٍ مِن السَّيّلِ مُزْبِدِ
وقوله عز وجل : ) وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( كفى به دليلاً على الكثرة ، وهي من
الثل وهو الكسر ، كما أنّ الأمّة من الأمّ وهو الشج ، كأنها جماعة كسرت من الناس
وقطعت منهم . والمعنى : أنّ السابقين من الأوّلين كثير ، وهم الأمم من لدن آدم
عليه السلام إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( وهم
أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . وقيل : ) مّنَ الاْوَّلِينَ ( من متقدّمي هذه
الأمة ، و ) مّنَ الاْخِرِينَ ( من متأخريها . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1120 ) ( الثلثان جميعاً من أمّتي ) . فإن قلت : كيف قال : وقليل من الآخرين ،
ثم قال : ) وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( ؟ قلت : هذا في السابقين وذلك في أصحاب
اليمين ؛ وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعاً . فإن قلت : فقد روى أنها لما
نزلت شق ذلك على المسلمين ، فما زال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يراجع ربه
حتى نزلت ) ثَالِثُ مّنَ الاْوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( ( الواقعة :
39 40 ) . قلت : هذا لا يصح لأمرين ، أحدهما : أنّ هذه الآية واردة في السابقين
وروداً ظاهراً ، وكذلك الثانية في أصحاب اليمين . ألا ترى كيف عطف أصحاب اليمين
ووعدهم ، على السابقين ووعدهم ، والثاني : أنّ النسخ في الأخبار غير جائز وعن
الحسن رضي الله عنه : سابقو الأمم أكثر من سابقي أمّتنا ، وتابعو الأمم مثل
" صفحة رقم 458 "
تابعي هذه الأمّة . وثلة : خبر مبتدإ محذوف ، أي : هم ثلة ) مَّوْضُونَةٍ ( مرمولة
بالذهب ، مشبكة بالدرّ والياقوت ، قد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع . قال
الأعشى : وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ مَوْضُونَة
وقيل : متواصلة ، أدنى بعضها من بعض . ) مُتَّكِئِينَ ( حال من الضمير في على ،
وهو العامل فيها ، أي : استقرّوا عليها متكئين ) مُّتَقَابِلِينَ ( لا ينظر بعضهم
في أقفاء بعض . وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب ) مُّخَلَّدُونَ ( مبقون
أبداً على شكل الولدان وحدّ الوصافة لا يتحوّلون عنه . وقيل : مقرّطون ، والخلدة :
القرط . وقيل : هم أولاد أهل الدنيا : لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ، ولا سيئات
فيعاقبوا عليها . روى عن علي رضي الله عنه وعن الحسن . وفي الحديث : ( 1121 ) (
أولاد الكفار خدّام أهل الجنة ) . الأكواب : أوان بلا عرى وخراطيم ، والأباريق ،
ذوات الخراطيم ) لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ( أي بسببها ، وحقيقته : لا يصدر
صداعهم عنها . أو لا يفرّقون عنها . وقرأ مجاهد : ( لا يصدعون ) ، بمعنى : لا
يتصدعون لا يتفرقون ، كقوله : ) يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( ( الروم : 43 )
ويصدعون ، أي : لا يصدع بعضهم بعضاً ، لا يفرّقونهم ) يَتَخَيَّرُونَ ( يأخذون
خيره وأفضله ) يَشْتَهُونَ ( يتمنون . وقرىء :
" صفحة رقم 459 "
( ولحوم طير ) قرىء : ( وحور عين ) بالرفع على : وفيها حور عين ، كبيت الكتاب :
إِلاَّ رَوَاكِدُ جَمْرُهُنَّ هَبَاء
وَمُشَجَّجٌ . . . . . . . . . . . .
أو للعطف على ولدان ، وبالجر : عطفاً على جنات النعيم ، كأنه قال : هم في جنات
النعيم ، وفاكهة ولحم وحور . أو على أكواب ، لأن معنى ) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ) بأكواب ( ينعمون بأكواب ، وبالنصب على : ويؤتون حورا )
جَزَاء ( مفعول له ، أي : يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم ) سَلَاماً سَلَاماً (
إما بدل من ) قِيلاً ( بدليل قوله ) لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ
سَلَاماً ( ( مريم : 62 ) وإما مفعول به لقيلا ، بمعنى : لا يسمعون فيها إلا أن
يقولوا سلاما سلاما . والمعنى : أنهم يفشون السلام بينهم ، فيسلمون سلاماً بعد
سلام . وقرىء : ( سلام سلام ) ، على الحكاية .
) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ
مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ
مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ
إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لاًّصْحَابِ الْيَمِينِ
ثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ خِرِينَ (
الواقعة : ( 27 ) وأصحاب اليمين ما . . . . .
السدر : شجر النبق . والمخضود : الذي لا شوك له ، كأنما خضد شوكه . وعن مجاهد :
الموقر الذي تثنى أغصانه كثرة حمله ، من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب . والطلح :
شجر الموز . وقيل : هو شجر أم غيلان ، وله نوار كثير طيب الرائحة . وعن السدي :
شجر يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل . وعن علي رضي الله عنه أنه قرأ
: ( وطلع ) ( فقال ) ، وما شأن الطلح ، وقرأ قوله : ) لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ( (
ق : 10 ) فقيل له : أو تحوّلها ؟ فقال : آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحوّل . وعن
ابن عباس نحوه . والمنضود : الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه ؛ فليست له ساق
بارزة ) وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( ممتدّ
" صفحة رقم 460 "
منبسط لا يتقلص ، كظلّ ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ) مَّسْكُوبٍ ( يسكب لهم أين
شاؤوا وكيف شاؤوا لا يتعنون فيه . وقيل : دائم الجرية لا ينقطع . وقيل : مصبوب
يجري على الأرض في غير أخدود ) لاَّ مَقْطُوعَةٍ ( هي دائمة لا تنقطع في بعض
الأوقات كفواكه الدنيا ) وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ( لا تمنع عن متناولها بوجه ، ولا يحظر
عليها كما يحظر على بساتين الدنيا . وقرىء : ( فاكهة كثيرة ) ، بالرفع على : وهناك
فاكهة ، كقوله : وحور عين ) وَفُرُشٍ ( جمع فراش . وقرىء : ( وفرش ) بالتخفيف )
مَّرْفُوعَةٍ ( نضدت حتى ارتفعت . أو مرفوعة على الأسرة . وقيل : هي النساء ، لأن
المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك . قال الله تعالى : ) هُمْ
وَأَزْواجُهُمْ فِى ظِلَالٍ عَلَى الاْرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ( ( يس : 56 ) ، ويدل
عليه قوله تعالى : ) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء ( وعلى التفسير الأول أضمر
لهنّ ، لأنّ ذكر الفرش وهي المضاجع دلّ عليهن ) أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء ( (
الواقعة : 35 ) أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديداً من غير ولادة ، فإما أن يراد .
اللاتي ابتدىء إنشاؤهن ؛ أو اللاتي أعيد إنشاؤهن . وعن رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) :
( 1122 ) أنّ أمّ سلمة رضي الله عنها سألته عن قول الله تعالى : ) إِنَّا
أَنشَأْنَاهُنَّ ( فقال : ( يا أم سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا
رمصا ، جعلهنّ الله بعد الكبر ) ) أَتْرَاباً ( على ميلاد واحد في الاستواء ، كلما
أتاهنَّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا ؛ فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك من رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالت : واوجعاه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) : ( ليس هناك وجع ) .
" صفحة رقم 461 "
( 1123 ) وقالت عجوز لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ادع الله أن يدخلني
الجنة ، فقال : إنّ الجنة لا تدخلها العجائز ، فولت وهي تبكي ، فقال عليه الصلاة
والسلام : ( أخبروها أنها ليست يومئذٍ بعجوز ) وقرأ الآية ) عُرُباً ( وقرىء : (
عربا ) بالتخفيف جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل ) أَتْرَاباً (
مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين ، وأزواجهنّ أيضاً كذلك . وعن رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) :
( 1124 ) ( يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث
وثلاثين ) واللام في ) لاِصْحَابِ الْيَمِينِ ( من صلة أنشأنا وجعلنا .
) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ
مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ
مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُواْ
يِقُولُونَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
أَوَ ءَابَآؤُنَا الاٌّ وَّلُونَ قُلْ إِنَّ الاٌّ وَّلِينَ وَالاٌّ خِرِينَ
لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا
الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لاّكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِأونَ
مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ
الْهِيمِ هَاذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (
الواقعة : ( 41 ) وأصحاب الشمال ما . . . . .
) فِى سَمُومٍ ( في حر نار ينفذ في المسام ) وَحَمِيمٍ ( وماء حار متناه في
الحرارة ) وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ ( من دخان أسود بهيم ) لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ
( نفي لصفتي الظل عنه ، يريد : أنه ظل ، ولكن لا كسائر الظلال : سماه ظلاً ، ثم
نفى عنه برد الظل وروحه
" صفحة رقم 462 "
ونفعه لمن يأوي إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح
إليه . والمعنى أنه ظل حارّ ضارّ إلا أنّ للنفي في نحو هذا شأنا ليس للإثبات .
وفيه تهكم بأصحاب المشأمة ، وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو
لأضدادهم في الجنة . وقرىء : ( لا بارد ولا كريم ) بالرفع ، أي : لا هو كذلك و )
الْحِنثِ ( الذنب العظيم . ومنه قولهم : بلغ الغلام الحنث ، أي : الحلم ووقت
المؤاخذة بالمآثم . ومنه : حنث في يمينه ، خلاف برّ فيها . ويقال : تحنث إذا تأثم
وتحرج ) أَوَ ءابَاؤُنَا ( دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف . فإن قلت : كيف حسن
العطف على المضمر في ) لَمَبْعُوثُونَ ( من غير تأكيد بنحن ؟ قلت : حسن للفاصل
الذي هو الهمزة ، كما حسن في قوله تعالى : ) مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَاؤُنَا (
لفصل ( لا ) المؤكدة للنفي . وقرىء : ( أو آباؤنا ) وقرىء : ( لمجمعون ) ) إِلَى
مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم والإضافة بمعنى
من ، كخاتم فضة . والميقات : ماوقت به الشيء ، أي : حدّ . ومنه مواقيت الإحرام :
وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلى محرماً ) أَيُّهَا الضَّالُّونَ
( عن الهدى ) الْمُكَذّبُونَ ( بالبعث ، وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم ) مِن
شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ ( من الأولى لابتداء الغاية ، والثانية لبيان الشجر وتفسيره .
وأنث ضمير الشجر على المعنى ، وذكره على اللفظ في قوله : ( منها ) و ( عليه ) ومن
قرأ : ( من شجرة من زقوم ) فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثاني على تأويل
الزقوم ، لأنه تفسيرها وهي في معناه ( شرب الهيم ) قرىء : بالحركات الثلاث ،
فالفتح والضم مصدران . وعن جعفر الصادق رضي الله عنه ؛ أيام أكل وشرب ، بفتح الشين
. وأما المكسور فبمعنى المشروب ، أي : ما يشربه الهيم وهي الإبل التي بها الهيام ،
وهو داء تشرب منه فلا تروى : جمع أهيم وهيماء . قال ذو الرمّة : فَأَصْبَحْتُ
كَالْهَيْمَاءِ لاَ المَاءُ مُبْرِد
صَدَاهَا وَلاَ يَقْضِي عَلَيْهَا هُيَامُهَا
وقيل الهيم : الرمال . ووجهه أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا
يتماسك ، جمع على فعل كسحاب وسحب ، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض . والمعنى :
أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقوم هو كالمهل ؛ فإذا ملؤا منه
البطون يسلط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم ،
فيشربونه شرب الهيم . فإن قلت : كيف صحّ عطف الشاربين على الشاربين ،
" صفحة رقم 463 "
وهما لذوات متفقة ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسه ؟ قلت : ليسئا
بمتفقتين ، من حيث إنّ كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه : من تناهي الحرارة
وقطع الأمعاء : أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء : أمر عجيب
أيضاً ، فكانتا صفتين مختلفتين . النزل : الرزق الذي يعدّ للنازل تكرماً له . وفيه
تهكم ، كما في قوله تعالى : ) فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ( آل عمران : 21 )
وكقول أبي الشعر الضبي . وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا
جَعَلْنَا الْقَنَا وَالمُوْهِفَاتِ لَهُ نُزْلاَ
وقرىء : ( نزلهم ) بالتخفيف .
) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ
أَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ
الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ
وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاٍّ
ولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ (
الواقعة : ( 57 ) نحن خلقناكم فلولا . . . . .
) فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ ( تحضيض على التصديق : إما بالخلق لأنهم وإن كانوا
مصدّقين به ، إلا أنهم لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق ، فكأنهم مكذبون به
. وإما بالبعث ؛ لأنّ من خلق أولاً لم يمتنع عليه أن يخلق ثانياً ( ما تمنون ) ما
تمنونه ، أي : تقذفونه في الأرحام من النطف وقرأ أبو السمال بفتح التاء يقال :
أمني النطفة ومناها . قال الله تعالى : ) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ( ( النجم :
46 ) . ) تَخْلُقُونَهُ ( تقدرونه تصوّرونه ) قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ (
تقديراً وقسمناه عليكم قسمة الرزق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا ، فاختلفت
أعماركم من قصير وطويل ومتوسط . وقرىء : ( قدرنا ) بالتخفيف . سبقته على الشيء :
إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه ، فمعنى قوله : ) وَمَا نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ ( أنا قادرون على ذلك لا
تغلبوننا عليه ، وأمثالكم جمع مثل : أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق
، وعلى أن ( ننشأكم ) في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها ، يعني : أنا نقدر على
الأمرين جميعاً : على خلق ما يماثلكم ، وما لا يماثلكم ؛ فكيف نعجز عن إعادتكم .
ويجوز أن يكون ) أَمْثَالَكُم ( جمع مثل ، أي : على أن نبدّل ونغير صفاتكم التي
أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم ، وننشئكم في صفات لا تعلمونها . قرىء : ( النشأة )
والنشاءة . وفي هذا دليل على صحة القياس حيث جهَّلهم في ترك قياس النشأة الأخرى
على الأولى .
" صفحة رقم 464 "
) أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الزَارِعُونَ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا
لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (
الواقعة : ( 63 ) أفرأيتم ما تحرثون
(أفرأيتم ما تحرثون ) ه من الطعام ، أي : تبذرون حبه وتعملون في أرضه )
تَزْرَعُونَهُ أَمْ ( تنبتونه وتردونه نباتاً ، يرف وينمي إلى أن يبلغ الغاية .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1125 ) ( لا يقولن أحدكم : زرعت ، وليقل : حرثت ) قال أبو هريرة : أرأيتم إلى
قوله : ) أَفَرَءَيْتُم . . . ( الآية . والحطام : من حطم ، كالفتات والجذاذ من فت
وجذ : وهو ما صار هشيماً وتحطم ) فَظَلْتُمْ ( على الأصل ) تَفَكَّهُونَ ( تعجبون
. وعن الحسن رضي الله عنه : تندمون على تعبك فيه وإنفاقكم عليه . أو على ما
اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها . وقرىء : ( تفكنون ) ومنه الحديث :
( 1126 ) ( مثل العالم كمثل الحمة ياأيتها البعدآء ويتركها القرباء فبيناهم إذ غار
ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم ينفكنون ) أي : يتندمون ) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (
لملزمون غرامة ما أنفقنا . ومهلكون لهلاك رزقنا ، من الغرام : وهو الهلاك ) بَلْ
نَحْنُ ( قوم ) مَحْرُومُونَ ( محارفون محدودون ، لا حظ لنا ولا بخت لنا ؛ ولو كنا
مجدودين ، لما جرى علينا هذا . وقرىء : ( أئنا ) .
) أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ
الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ
تَشْكُرُونَ (
الواقعة : ( 68 - 70 ) أفرأيتم الماء الذي . . . . .
) الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ ( يريد : الماء العذب الصالح للشرب . و ) الْمُزْنِ
( السحاب : الواحدة مزنة . وقيل : هو السحاب الأبيض خاصة ، وهو أعذب ماء )
أُجَاجاً ( ملحاً
" صفحة رقم 465 "
زعاقاً لا يقدر على شربه . فإن قلت : لم أدخلت اللام على جواب ( لو ) في قوله : )
لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ( ( الواقعة : 65 ) ونزعت منه ههنا ؟ قلت : إنّ ( لو ) لما
كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ، ولم تكن مخلصة
للشرط كإن ولا عاملة مثلها ، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقاً من حيث إفادتها في
مضموني جملتيها أنّ الثاني امتنع لامتناع الأوّل : افتقرت في جوابها إلى ما ينصب
علماً على هذا التعلق ، فزيدت هذه اللام لتكون علماً على ذلك ، فإذا حذفت بعد ما
صارت علماً مشهوراً مكانه ، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفاً ومأنوساً
به : لم يبال بإسقاطه عن اللفظ ، استغناء بمعرفة السامع . ألا ترى إلى ما يحكى عن
رؤبة أنه كان يقول : خير ، لمن قال له : كيف أصبحت ؟ فحذف الجار لعلم كل أحد
بمكانه . وتساوي حالي حذفه وإثباته لشهرة أمره . وناهيك بقول أوس : حَتى إذَا
الْكلاَّبُ قَالَ لَهَا
كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلاَ طَلَبَا
وحذفه ( لم أر ) فإذن حذفها اختصار لفظي وهي ثابتة في المعنى ، فاستوى الموضعان
بلا فرق بينهما ؛ على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية ونائب عنه
. ويجوز أن يقال : إنّ هذه اللام مفيدة مغنى التوكيد لا محالة ، فأدخلت في آية
المطعوم دون آية المشروب ، للدلالة على أن أمر المطعوم مقدّم على أمر المشروب ،
وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب ، من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم .
ألا ترى أنك إنما تسقى ضيفك بعد أن تطعمه ، ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء :
إذَا سُقِيَتْ ضُيُوفُ النَّاسِ مَحْضا
سَقَوْا أَضْيَافَهُمْ شَبَماً زَلاَلاَ
وسقى بعض العرب فقال : أنا لا أشرب إلا على ثميلة ؛ ولهذا قدّمت آية المطعوم على
آية المشروب .
) أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ
أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً
لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (
الواقعة : ( 71 ) أفرأيتم النار التي . . . . .
) تُورُونَ ( تقدحونها وتستخرجونها من الزناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما
" صفحة رقم 466 "
على الآخر ، ويسمون الأعلى : الزند ، والأسفل : الزندة ؛ شبهوهما بالفحل والطروقة
) شَجَرَتَهَآ ( التي منها الزناد ) تَذْكِرَةً ( تذكيراً لنار جهنهم ، حيث علقنا
بها أسباب المعايش كلها ، وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون
إليها ويذكرون ما أوعدوا به . أو جعلناها تذكرة وأنموذجاً من جهنم ، لما روى عن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1127 ) ( ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزأ من حرّ جهنم ) )
وَمَتَاعاً ( ومنفعة ) لّلْمُقْوِينَ ( للذين ينزلون القواء وهي القفر . أو للذين
خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام . يقال : أقويت من أيام ، أي لم آكل شيئاً )
فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ ( فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك ، أو أراد بالاسم : الذكر ،
أي : بذكر ربك . و ) الْعَظِيمِ ( صفة للمضاف أو للمضاف إليه . والمعنى : أنه لما
ذكر ما دل على قدرته وإنعامه على عباده قال : فأحدث التسبيح وهو أن يقول : سبحان
الله ، إمّا تنزيهاً له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ويكفرون نعمته ،
وإما تعجباً من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة ، وإما شكراً لله على النعم
التي عدّها ونبه عليها .
) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ
عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ
إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (
الواقعة : ( 75 ) فلا أقسم بمواقع . . . . .
) فَلاَ أُقْسِمُ ( معناه فأقسم . ولا مزيدة مؤكدة مثلها في قوله : ) لّئَلاَّ
يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ( ( الحديد : 29 ) وقرأ الحسن : ( فلأقسم ) . ومعناه :
فلأنا أقسم : اللام لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر ، وهي : أنا أقسم ،
كقولك : ( لزيد منطلق ) ثم حذف المبتدأ ، ولا يصح أن نكون اللام لام القسم لأمرين
، أحدهما : أن حقها أن يقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح . والثاني
: أن ( لأفعلن ) في جواب القسم
" صفحة رقم 467 "
للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال ) بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( بمساقطها
ومغاربها ، لعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً
مخصوصة عظيمة ، أو للملائكة عبادات موصوفة ، أو لأنه وقت قيام المتهجدين
والمبتلهين إليه من عباده الصالحين ، ونزول الرحمة والرضوان عليهم ؛ فلذلك أقسم
بمواقعها ، واستعظم ذلك بقوله ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (
أو أراد بمواقعها : منازلها ومسايرها ، وله تعالى في ذلك من الدليل على عظيم
القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف . وقوله : ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( اعتراض في اعتراض ؛ لأنه اعترض به بين المقسم والمقسم عليه
، وهو قوله : ) إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ ( واعترض ب ) لَّوْ تَعْلَمُونَ ( بين
الموصوف وصفته . وقيل : مواقع النجوم : أوقات وقوع نجوم القرآن ، أي : أوقات
نزولها كريم حسن مرضي في جنسه من الكتب . أو نفاع جم المنافع . أو كريم على الله )
فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( مصون من غير المقربين من الملائكة ، لا يطلع عليه من
سواهم ، وهم المطهرون من جميع الأدناس أدناس الذنوب وما سواها : إن جعلت الجملة
صفة لكتاب مكنون وهو اللوح . وإن جعلتها صفة للقرآن ؛ فالمعنى لا ينبغي أن يمسه
إلا من هو على الطهارة من الناس ، يعني مس المكتوب منه ، ومن الناس من حمله على
القراءة أيضاً ، وعن ابن عمر أحب إليَّ أن لا يقرأ إلا وهو طاهر ، وعن ابن عباس في
رواية أنه كان يبيح القراءة للجنب ، ونحوه قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1128 ) ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ) أي لا ينبغي له أن يظلمه أو
يسلمه . وقرىء : ( المتطهرون ) والمطهرون بالإدغام . والمطهرون ، من أطهره بمعنى
طهره . والمطهرون بمعنى : يطهرون أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والوحي الذي
ينزلونه ) تَنزِيلَ ( صفة رابعة للقرآن ، أي : منزل من رب العالمين . أو وصف بالمصدر
؛
" صفحة رقم 468 "
لأنه نزل نجوماً من بين سائر كتب الله تعالى ، فكأنه في نفسه تنزيل ؛ ولذلك جرى
مجرى بعض أسمائه ، فقيل : جاء في التنزيل كذا ، ونطق به التنزيل . أو هو تنزيل على
حرف المبتدأ . وقرىء : ( تنزيلاً ) على : نزل تنزيلاً .
) أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ
أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (
الواقعة : ( 81 - 82 ) أفبهذا الحديث أنتم . . . . .
) أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ ( يعني القرآن ) أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ ( أي : متهاونون
به ، كمن يدهن في الأمر ، أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به ) وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ( على حذف المضاف ، يعني : وتجعلون شكر رزقكم
التكذيب ، أي : وضعتم التكذيب موضع الشكر . وقرأ علي رضي الله عنه : ( وتجعلون
شكركم أنكم تكذبون ) وقيل : هي قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : والمعنى
وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به . وقيل : نزلت في الأنواء ونسبتهم
السقيا إليها . والرزق : المطر ، يعني : وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم
تكذبون بكونه من الله ، حيث تنسبونه إلى النجوم . وقرىء : ( تكذبون ) وهو قولهم في
القرآن : شعر وسحر وافتراء . وفي المطر : وهو من الأنواء ، ولأنّ كل مكذب بالحق
كاذب .
) فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ
غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ
أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّآ إِن
كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ
جَحِيمٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ (
الواقعة : ( 83 ) فلولا إذا بلغت . . . . .
ترتيب الآية : فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين . و ( فلولا )
الثانية مكررة للتوكيد ، والضمير في ) تَرْجِعُونَهَا ( للنفس وهي الروح ، وفي )
أَقْرَبُ إِلَيْهِ ( للمحتضر ) غَيْرَ مَدِينِينَ ( غير مربوبين ، من دان السلطان
الرعية إذا ساسهم . ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ( يا أهل الميت بقدرتنا
وعلمنا ، أو بملائكة الموت . والمعنى : إنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في
كل شيء إن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم : سحر وافتراء . وإن أرسل إليكم رسولاً
قلتم : ساحر كذاب ، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم : صدق نوء كذا ، على مذهب يؤدي
إلى الإهمال والتعطيل فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم
يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد )
فَأَمَّا إِن كَانَ ( المتوفى ) مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( من السابقين من الأزواج
الثلاثة المذكورة في أوّل السورة ) فَرَوْحٌ ( فله استراحة .
" صفحة رقم 469 "
( 1129 ) وروت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فروح ،
بالضم . وقرأ به الحسن وقال : الروح الرحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم . وقيل :
البقاء ، أي : فهذان له معاً ، وهو الخلود مع الرزق والنعيم . والريحان : الرزق )
فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( أي : فسلام لك يا صاحب اليمين من
إخوانك أصحاب اليمين ، أي : يسلمون عليك . كقوله تعالى : ) إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً
سَلَاماً ( ( الواقعة : 26 ) ) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ( كقوله تعالى : ) هَاذَا
نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدّينِ ( ( الواقعة : 56 ) وقرىء بالتخفيف ) وَتَصْلِيَةُ
جَحِيمٍ ( قرئت بالرفع والجر عطفاً على نزل وحميم ) إِنَّ هَاذَا ( الذي أنزل في
هذه السورة ) لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( أي الحق الثابت من اليقين .
عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم :
( 1130 ) ( من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً ) .
" صفحة رقم 470 "
( سورة الحديد )
مدنية ، وهي تسع وعشرون آية ( نزلت بعد الزلزلة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الاٌّ وَّلُ وَالاٌّ خِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ
وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ
فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى
الاٌّ رْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ
فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ
يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَهُوَ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (
الحديد : ( 1 ) سبح لله ما . . . . .
جاء في بعض الفواتح ) سَبِّحِ ( على لفظ الماضي ، وفي بعضها على لفظ المضارع ، وكل
واحد منهما معناه : أنّ من شأن من أسند إليه التسبيح أن يسبحه ، وذلك هجيراه
وديدنه ، وقد عدى هذا الفعل باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله تعالى : ( وتسبحوه )
وأصله : التعدي بنفسه ، لأنّ معنى سبحته : بعدته عن السوء ، منقول من سبح إذا ذهب
وبعد ، فاللام لا تخلو إما أن تكون مثل اللام في : نصحته ، ونصحت له ، وإما أن
يراد بسبح لله : أحدث التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً ، ) مَا فِى السَّمَاواتِ
وَالاْرْضِ ( ما يتأتى منه التسبيح ويصح . فإن قلت : ما محل ) يُحْىِ ( ؟ قلت :
يجوز أن لا يكون له محل ، ويكون جملة برأسها ؛ كقوله : ) لَّهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ ( ( البقرة : 107 ) وأن يكون مرفوعاً على : هو يحيي ويميت ،
ومنصوباً حالاً من المحرور في ( له ) والجار عاملاً فيها . ومعناه : يحيي النطف
والبيض والموتى يوم القيامة ويميت الأحياء ) هُوَ الاْوَّلُ ( هو القديم الذي كان
قبل كل شيء ) وَالاْخِرُ ( الذي يبقى بعد هلاك كل شيء ) وَالظَّاهِرُ ( بالأدلة الدالة
عليه ) وَالْبَاطِنُ ( لكونه غير مدرك بالحواس . فإن قلت : فما
" صفحة رقم 471 "
معنى الواو ؟ قلت الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية
والآخرية ، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء . وأما الوسطى ، فعلى أنه
الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الآخريين ، فهو المستمر الوجود
في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن : جامع للظهور
بالأدلة والخفاء ، فلا يدرك بالحواس . وفي هذا حجة على من جوّز إدراكه في الآخرة
بالحاسة . وقيل : الظاهر العالي على كل شيء الغالب له ، من ظهر عليه إذا علاه
وغلبه . والباطن الذي بطن كل شيء ، أي علم باطنه : وليس بذاك مع العدول عن الظاهر
المفهوم .
) ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم
مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ
أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (
الحديد : ( 7 - 8 ) آمنوا بالله ورسوله . . . . .
) مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ( يعن أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله
بخلقه وإنشائه لها ، وإنما موّلكم إياها ، وخوّلكم الاستمتاع بها ، وجعلكم خلفاء
في التصرف فيها ، فليست هي بأموالكم في الحقيقة . وما أنتم فيها إلا بمنزلة
الوكلاء والنوّاب ، فأنفقوا منها في حقوق الله ، وليهن عليكم الإنفاق منها كما
يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه . أو جعلكم مستخلفين ممن كان
قبلكم فيما في أيديكم : بتوريثه إياكم ، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم ،
وسينقل منكم إلى من بعدكم ؛ فلا تبخلوا به ، وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم ) لاَ
تُؤْمِنُونَ ( حال من معنى الفعل في مالكم ، كما تقول : مالك قائماً ، بمعنى : ما
تصنع قائماً ، أي : وما لكم كافرين بالله . والواو في ) وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
( واو الحال ، فهما حالان متداخلتان . وقرىء : ( وما لكم لا تؤمنون بالله ورسوله
والرسول يدعوكم والمعنى : وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم
عليه ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج ، وقبل ذلك قد أخذ الله
" صفحة رقم 472 "
ميثاقكم بالإيمان : حيث ركب فيكم العقول ، ونصب لكم الأدلة ، ومكنكم من النظر ،
وأزاح عللكم ، فإذ لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول ، فما لكم لا
تؤمنون ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( لموجب مّا ؛ فإن هذا الموجب لا مزيد عليه .
وقرىء : ( أخذ ميثاقكم ) على البناء للفاعل ، وهو الله عز وجل .
) هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ
مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (
الحديد : ( 9 ) هو الذي ينزل . . . . .
) لِيُخْرِجَكُمْ ( الله بآياته من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان . أو ليخرجكم
الرسول بدعوته ) لَرَءُوفٌ ( وقرىء : ( لرؤوف ) .
) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ
الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَائِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ
مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (
الحديد : ( 10 ) وما لكم ألا . . . . .
) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ ( في أن لا تنفقوا ) وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره ،
يعني : وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم
فوارث أموالكم ، وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله . ثم بين التفاوت بين
المنفقين منهم فقال : ) لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ ( قبل فتح مكة قبل عز
الإسلام وقوّة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقلة الحاجة إلى القتال
والنفقة فيه ، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لوضوح الدلالة ) أُوْلَائِكَ ( الذي
أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1131 ) ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه ) أعظم
" صفحة رقم 473 "
درجة وقرىء : ( قبل الفتح ) ) وَكُلاًّ ( وكل واحد من الفريقين ) وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنَى ( أي المثوبة الحسن وهي الجنة مع تفاوت الدرجات . وقرىء : بالرفع على (
وكل وعده الله ) وقيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، لأنه أول من أسلم وأول من
أنفق في سبيل الله . القرض الحسن : الإنفاق في سبيله . شبه ذلك بالقرض على سبيل
المجاز ، لأنه إذاأعطى ماله لوجهه فكأنه أقرضه إياه ) فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ( أي
يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفاً ) أَضْعَافًا ( من فضله ) وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (
يعني : وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه : وقرىء : ( فيضعفه ) وقرئا
منصوبين على جواب الاستفهام ( والرفع عطف على ) يُقْرِضُ ( ، أو على ( فهو يضاعفه
) .
) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (
الحديد : ( 12 ) يوم ترى المؤمنين . . . . .
) يَوْمَ تَرَى ( ظرف لقوله : ) وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( أو منصوب بإضمار ( اذكر )
تعظيماً لذلك اليوم . وإنما قال : ) بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ( لأنّ
السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ؛ كما أن الأشقياء يؤتونها من
شمائلهم ومن وراء ظهورهم ، فجعل النور في الجهتين شعاراً لهم وآية ؛ لأنهم هم
الذين بحسناتهم يهدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا ، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على
الصراط يسعون : سعى بسعيهم ذلك النور جنيبا لهم ومتقدماً . ويقول لهم الذين
يتلقونهم من الملائكة . ) بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ ( . وقرىء : ( ذلك الفوز ) .
) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ
انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ
فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن
مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ
وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الاٌّ مَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ
وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِىَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (
الحديد : ( 13 ) يوم يقول المنافقون . . . . .
) يَوْمَ يَقُولُ ( بدل من يوم ترى ) انظُرُونَا ( انتظرونا ، لأنهم يسرع بهم إلى
الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تزف بهم . وهؤلاء مشاة . وانظروا إلينا ؛ لأنهم
إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به . وقرىء : (
أنظرونا ) من
" صفحة رقم 474 "
النظرة وهي الإمهال : جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم أنظاراً لهم )
نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ( نصب منه ؛ وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به ) قِيلَ
ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً ( طرد لهم وتهكم بهم ، أي : ارجعوا
إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك ، فمن ثم يقتبس . أو أراجعوا
إلى الدنيا ، فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان . أو ارجعوا خائبين وتنحوا
عنا ، فالتمسوا نوراً آخر ، فلا سبيل لكم إلى هذا النور ، وقد علموا أن لا نور
وراءهم ؛ وإنما هو تخييب وإقناط لهم ) فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ( بين المؤمنين
والمنافقين بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار . وقيل : هو الأعراف لذلك السور )
بَابٌ ( لأهل الجنة يدخلون منه ) بَاطِنُهُ ( باطن السور أو الباب ، وهو الشق الذي
بلى الجنة ) وَظَاهِرُهُ ( ما ظهر لأهل النار ) مِن قَبْلِهِ ( من عنده ومن جهته )
الْعَذَابَ ( وهو الظلمة والنار . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما : ( فضرب بينهم
) على البناء للفاعل ) أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ( يريدون موافقتهم في الظاهر )
فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ( محنتموها بالنفاق وأهلكتموها ) وَتَرَبَّصْتُمْ (
بالمؤمنين الدوائر ) وَغرَّتْكُمُ الاْمَانِىُّ ( طول الآمال والطمع في امتداد
الأعمار ) حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ ( وهو الموت ) وَغَرَّكُم بِاللَّهِ
الْغَرُورُ ( وغرّكم الشيطان بأنّ الله عفوّ كريم لا يعذبكم . وقرىء : ( الغرور )
بالضم ) فِدْيَةٌ ( ما يفتدى به ) هِىَ مَوْلَاكُمْ ( قيل : هي أولى بكم ، وأنشد
قول لبيد : فَغَدَتْ كِلاَ الْفَرَجَيْنِ تَحْسِبُ أَنَّه
مُولِي المَخَافَةَ خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا
وحقيقة مولاكم : محراكم ومقمنكم . أي : مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم ، كما
قيل : هو مئنة للكرم ، أي مكان ؛ لقول القائل : إنه لكريم . ويجوز أن يراد : هي
ناصركم ، أي لا ناصر لكم غيرها . والمراد : نفي الناصر على البتات . ونحوه قولهم :
أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع . ومنه قوله تعالى : ( يغاثوا بماء كالمهل ) وقيل :
تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار .
) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن
قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاٌّ مَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ
فَاسِقُونَ ( 7 )
الحديد : ( 16 ) ألم يأن للذين . . . . .
" صفحة رقم 475 "
) أَلَمْ يَأْنِ ( من أنى الأمر يأني ، إذا جاء إناه ، أي : وقته . وقرىء : ( ألم
يئن ) من آن يئين بمعنى : أني يأني ، وألما يأن ، قيل : كانوا مجدبين بمكة ، فلما
هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه ، فنزلت . وعن ابن مسعود : ما
كان بين إسلامنا وبين أن عوتبتا بهذه الآية إلا أربع سنين . وعن ابن عباس رضي الله
عنهما : أنّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن
. وعن الحسن رضي الله عنه : أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل ما
تقرؤون . فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق . وعن أبي بكر رضي
الله عنه أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة ، فبكوا بكاءً
شديداً ، فنظر إليهم فقال هكذا كنا حتى قست القلوب . وقرىء : ( نزّل ونزل ) وأنزل
) وَلاَ يَكُونُواْ ( عطف على تخشع ، وقرىء بالتاء على الالتفات ، ويجوز أن يكون
نهياً لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا ، وذلك أنّ بني
إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم ، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا
لله ورقت قلوبهم ، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا
ما أحدثوا من التحريف وغيره . فإن قلت : ما معنى : ) لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا
نَزَلَ مِنَ الْحَقّ ( ؟ قلت : يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق : القرآن ؛
لأنه جامع للأمرين : للذكر والموعظة ، وأنه حق نازل من السماء ، وأن يراد خشوعها
إذا ذكر الله وإذا تلى القرآن كقوله تعالى : ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ( (
الأنفال : 2 ) أراد بالأمد : الأجل ، كقوله : . . . . . . إذَا انْتَهَى أَمَدُهْ
;
وقرىء : ( الأمدّ ) ، أي : الوقت الأطول ) وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (
خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين .
) اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الاٌّ رْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الاٌّ يَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (
الحديد : ( 17 ) اعلموا أن الله . . . . .
) اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( قيل : هذا تمثيل
لأثر الذكر في القلوب ، وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض .
) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (
" صفحة رقم 476 "
الحديد : ( 18 ) إن المصدقين والمصدقات . . . . .
) الْمُصَدّقِينَ ( المتصدّقين . وقرىء على الأصل ( والمصدّقين ) . من صدق ، وهم
الذين صدقوا الله ورسوله يعني المؤمنين . فإن قلت : علام عطف قوله ) وَأَقْرِضُواُ
( ؟ قلت : على معنى الفعل في المصدّقين ؛ لأنّ اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل
بمعنى أصدقوا ، كأنه قيل : إنّ الذين أصدقوا وأقرضوا . والقرض الحسن : أنّ يتصدق
من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة . وقرىء : ( يضعف ) ويضاعف
، بكسر العين ، أي : يضاعف الله .
) وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ
كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (
الحديد : ( 19 ) والذين آمنوا بالله . . . . .
يريد أنّ المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء ؛ وهم الذي
سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله ) لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ( أي :
مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم . فإن قلت : كيف يسوّي بينهم في الأجر ولا
بدّ من التفاوت ؟ قلت : المعنى أنّ الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله ،
حتى يساوي أجرهم مع إضعافه أجر أولئك . ويجوز أن يكون ) وَالشُّهَدَاء ( مبتدأ ، و
) لَهُمْ أَجْرُهُمْ ( خبره .
) اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ
وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الاٌّ مْوَالِ وَالاٌّ وْلْادِ كَمَثَلِ
غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ
يَكُونُ حُطَاماً وَفِى الاٌّ خِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (
الحديد : ( 20 ) اعلموا أنما الحياة . . . . .
أراد أنّ الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر
والتكاثر . وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام ، وهي : العذاب الشديد والمغفرة
ورضوان الله . وشبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث
فاستوى واكتهل وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ،
نبعث عليه العاهة فهاج واصفرّ وصار حطاماً عقوبة لهم على جحودهم ، كما فعل بأصحاب
الجنة وصاحب الجنتين . وقيل : ) الْكُفَّارِ ( الزراع . وقرىء : ( مصفاراً ) .
) سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ
السَّمَآءِ وَالاٌّ رْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
( 7 )
الحديد : ( 21 ) سابقوا إلى مغفرة . . . . .
" صفحة رقم 477 "
) سَابِقُواْ ( سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار ، إلى جنة )
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( قال السدي : كعرض سبع السموات وسبع
الأرضين ، وذكر العرض دون الطول ؛ لأنّ كل ماله عرض وطول فإنّ عرضه أقل من طوله ،
فإذا وصف عرضه بالبسطة : عرف أنّ طوله أبسط وأمدّ . ويجوز أن يراد بالعرض : البسطة
، كقوله تعالى : ) فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ ( ( فصلت : 51 ) لما حقر الدنيا وصغر
أمرها وعظم أمر الآخرة : بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك : وهي
المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة ) ذَلِكَ ( الموعود من
المغفرة والجنة ) فَضَّلَ اللَّهُ ( عطاؤه ) يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( وهم المؤمنون
.
) مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الاٌّ رْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى
كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ
الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ (
الحديد : ( 22 ) ما أصاب من . . . . .
المصيبة في الأرض : نحو الجدب وآفات الزروع والثمار . وفي الأنفس : نحو الأدواء
والموت ) فِى كِتَابِ ( في اللوح ) مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ( يعني الأنفس أو
المصائب ) إِنَّ ذَلِكَ ( إنّ تقدير ذلك وإثباته في كتاب ) عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
( وإن كان عسيراً على العباد ، ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه فقال : ) لّكَيْلاَ
تَأْسَوْاْ وَلاَ تَفْرَحُواْ ( يعني أنكم إذا علمتم أنّ كل شيء مقدر مكتوب عند
الله قلّ أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي ؛ لأنّ من علم أن ما عنده معقود لا
محالة : لم يتفاقم جزعه عند فقده ، لأنه وطن نفسه على ذلك ، وكذلك من علم أنّ بعض
الخير واصل إليه ، وأن وصوله لا يفوته بحال : لم يعظم فرحه عند نيله ) وَاللَّهُ
لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( لأنّ من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه :
اختال وافتخر به وتكبر على الناس . قرىء : ( بما آتاكم ) وأتاكم ، من الإيتاء
والإتيان . وفي قراءة ابن مسعود ( بما أوتيتم ) فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند
مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح . قلت : المراد : الحزن
المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين ،
والفرح المطغى الملهى عن الشكر ؛ فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع
الاستسلام ، والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر : فلا بأس بهما )
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ( بدل من قوله : ) كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( كأنه قال : لا
يحب الذين يبخلون ، يريد : الذين يفرحون الفرح المطغى إذا رزقوا مالاً وحظاً من
الدنيا فلحبهم له
" صفحة رقم 478 "
وعزته عندهم وعظمه في عيونهم : يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به ، ولا يكفيهم أنهم
بخلوا حتى يحملوا الناس على البخل ويرغبوهم في الإمساك ويزينوه لهم ، وذلك كله
نتيجة فرحهم به وبطرهم عند إصابته ) وَمَن يَتَوَلَّ ( عن أوامر الله ونواهيه ولم
ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي : فإنّ الله غني عنه . وقرىء
: ( بالبخل ) وقرأ نافع : ( فإنّ الله الغني ) ، وهو في مصاحف أهل المدينة والشام
كذلك .
) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ
بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ
وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ (
الحديد : ( 25 ) لقد أرسلنا رسلنا . . . . .
) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا ( يعني الملائكة إلى الأنبياء ) بِالْبَيِّنَاتِ (
بالحجج والمعجزات ) وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ ( أي الوحي ) وَالْمِيزَانَ
( روى أنّ جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به
) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد :
السندان ، والكلبتان ، والميقعة والمطرقة ، والإبرة . وروى : ومعه المر والمسحاة .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1132 ) ( أنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : أنزل الحديد ،
والنار ، والماء ، والملح . وعن الحسن ) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( : خلقناه ،
كقوله تعالى : ) وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ( ( الزمر : 60 ) وذلك أنّ
أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه ) فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ( وهو القتال به )
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ( في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم ، فما من صناعة إلا والحديد
آلة فيها ؛ أو ما يعمل بالحديد ) وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ (
باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين ) بِالْغَيْبِ (
غائباً عنهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ينصرونه ولا يبصرونه ) إِنَّ اللَّهَ
قَوِىٌّ عَزِيزٌ ( غني بقدرته وعزته في إهلاك من يريد هلاكه عنهم ، وإنما كلفهم
الجهاد لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب .
" صفحة رقم 479 "
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (
الحديد : ( 26 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . .
) وَالْكِتَابِ ( والوحي . وعن ابن عباس : الخط بالقلم ، يقال : كتب كتاباً وكتابة
) فَمِنْهُمْ ( فمن الذرية أو من المرسل إليهم ، وقد دل عليهم ذكر الإرسال
والمرسلين . وهذا تفصيل لحالهم ، أي : فمنهم مهتد ومنهم فاسق ، والغلبة للفساق .
) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىءَاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ
إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا
فَأاتَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ
فَاسِقُونَ (
الحديد : ( 27 ) ثم قفينا على . . . . .
قرأ الحسن : ( الأنجيل ) بفتح الهمزة ، وأمره أهون من أمر البرطيل والسكينة فيمن
رواهما بفتح الفاء ، لأنّ الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب . وقرىء : (
رآفة ) على : فعالة ، أي : وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم . ونحوه في صفة أصحاب
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( ( الفتح : 29 ) .
والرهبانية : ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين ، مخلصين أنفسهم للعبادة
، وذلك أنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى ، فقاتلوهم ثلاث مرات ،
فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل ، فخافوا أن يفتنوا في دينهم ، فاختاروا
الرهبانية : ومعناه الفعلة المنسوبة إلى الرهبان ، وهو الخائف : فعلان من رهب ،
كخشيان من خشى . وقرىء : ( ورهبانية ) بالضم ، كأنها نسبة إلى الرهبان : وهو جمع
راهب كراكب وركبان ، وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر :
" صفحة رقم 480 "
تقديره . وابتدعوا رهبانية ) ابتَدَعُوهَا ( يعني : وأحدثوها من عند أنفسهم
ونذروها ) مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ( لم نفرضها نحن عليهم ) إِلاَّ ابْتِغَاء
رِضْوانِ اللَّهِ ( استثناء منقطع ، أي : ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ) فَمَا
رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ( كما يجب على الناذر رعاية نذره ؛ لأنه عهد مع الله
لا يحل نكثه ) فَأاتَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ( يريد : أهل الرحمة والرأفة
الذين اتبعوا عيسى ) وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( الذين لم يحافظوا على نذرهم
. ويجوز أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها ، وابتدعوها : صفة لها في محل
النصب ، أي : وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم ، بمعنى :
وفقناهم للتراحم بينهم ولا بتداع الرهبانية واستحداثها ، ما كتبناها عليهم إلا
ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب ، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم
ليتخلصوا من الفتن ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه ، فما رعوها جميعاً حق رعايتها ؛
ولكن بعضهم ، فآتينا المؤمنين المراعين منهم للرهبانية أجرهم ، وكثير منهم فاسقون
. وهم الذين لم يرعوها .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (
الحديد : ( 28 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الَّذِينَ ءامنوا ( يجوز أن يكون خطاباً للذين آمنوا من أهل الكتاب
والذين آمنوا من غيرهم ، فإن كان خطاباً لمؤمني أهل الكتاب . فالمعنى : يا أيها
الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد ) يُؤْتِكُمْ ( الله ) كِفْلَيْنِ ( أي
نصيبين ) مّن رَّحْمَتِهِ ( لإيمانكم بمحمد وإيمانكم بمن قبله ) وَيَجْعَل لَّكُمْ
( يوم القيامة ) نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ( وهو النور المذكور في قوله : ) يَسْعَى
نُورُهُم ( ( الحديد : 12 ) . ) وَيَغْفِرْ لَكُمْ ( ما أسلفتم من الكفر والمعاصي
.
) لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّن
فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (
الحديد : ( 29 ) لئلا يعلم أهل . . . . .
) لّئَلاَّ يَعْلَمَ ( ليعلم ) أَهْلِ الْكِتَابِ ( الذين لم يسلموا . ولا مزيدة )
أَلاَّ يَقْدِرُونَ ( أن مخففة من الثقيلة ، أصله : أنه لا يقدرون ، يعني : أنّ
الشأن لا يقدرون ) عَلَى شَىْء مّن فَضْلِ اللَّهِ ( أي : لا ينالون شيئاً مما ذكر
من فضله من الكفلين : والنور والمغفرة ، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله ، فلم ينفعهم
إيمانهم بمن قبله ، ولم يكسبهم فضلاً قط . وإن كان
" صفحة رقم 481 "
خطاباً لغيرهم ، فالمعنى : اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله يؤتكم ما
وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله : ) أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم
مَّرَّتَيْنِ ( ( القصص : 54 ) ولا ينقصكم من مثل أجرهم ، لأنكم مثلهم في
الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله . روى :
( 1133 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث جعفراً رضي الله عنه في سبعين
راكباً إلى النجاشي يدعوه ، فقدم جعفر عليه فدعاه فاستجاب له ، فقال ناس ممن آمن
من أهل مملكته وهم أربعون رجلاً . ائذن لنا في الوفادة على رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، فأذن لهم فقدموا مع جعفر وقد تهيأ لوقعة أحد ، فلما رأوا ما
بالمسلمين من خصاصة : استأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فرجعوا وقدموا
بأموال لهم فآسوا بها المسلمين ، فأنزل الله ) الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
( ( البقرة : 121 ) إلى قوله : ) وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( ( البقرة :
3 ) فلما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله : ) يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ
( ( القصص : 54 ) فخروا على المسلمين وقالوا : أما من آمن بكتابكم وكتابنا فله
أجره مرّتين ، وأما من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم ، فما فضلكم علينا ؟ فنزلت
. وروي أنّ مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم
مرّتين ، وادعوا الفضل عليهم ، فنزلت . وقرىء : ( لكي يعلم ) و ( لكيلا يعلم ) . و
( ليعلم ) . و ( لأن يعلم ) ؛ بإدغام النون في الياء . و ( لين يعلم ) . بقلب
الهمزة ياء وإدغام النون في الياء . وعن الحسن : ( ليلا يعلم ) ، بفتح اللام وسكون
الياء . ورواه قطرب بكسر اللام . وقيل : في وجهها : حذفت همزة أن ، وأدغمت نونها
في لام لا ؛ فصار ( للا ) ثم أبدلت من اللام المدغمة ياء ، كقولهم : ديوان ،
وقيراط . ومن فتح اللام فعلى أن أصل لأم الجرّ الفتح ، كما أنشد : أُرِيدُ
لِأنْسَى ذِكْرَهَا . . . ;
وقرىء : ( أن لا يقدروا ) ) بِيَدِ اللَّهِ ( في ملكه وتصرفه . واليد مثل )
يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( ولا يشاء إلا إيتاء من يستحقه . عن رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم )
" صفحة رقم 482 "
:
( 1134 ) ( من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله ) .
" صفحة رقم 483 "
( سورة المجادلة )
مدنية ، وآياتها 22 ( نزلت بعد المنافقون )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى
إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (
المجادلة : ( 1 ) قد سمع الله . . . . .
) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ ( .
( 1135 ) قالت عائشة رضي الله عنها : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات : لقد كلمت
المجادلة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع ، وقد
سمع لها . وعن عمر أنه كان إذا دخلت عليه أكرمها وقال : قد سمع الله لها . وقرىء :
( تحاورك ) أي : تراجعك الكلام . وتحاولك ، أي : تسائلك ، وهو خولة بنت ثعلبة
امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة :
( 1136 ) رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم ، فلما سلمت راودها فأبت ، فغضب وكان به
خفة ولمم ، فظاهر منها ، فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : إن أوساً
تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، فلما خلا سني ونثرت بطني أي : كثر ولدي جعلني عليه
كأمّه . وروى :
( 1137 ) أنها قالت له : أنّ لي صبية صغاراً ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن
" صفحة رقم 484 "
ضممتهم إليّ جاعوا . فقال : ما عندي في أمرك شيء . وروى :
( 1138 ) أنه قال لها : حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله ، ما ذكر طلاقاً وإنما
هو أبو ولدي وأحب الناس إليّ ، فقال : حرمت عليه ، فقالت : أشكو إلى الله فاقنى ووجدي
، كلما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : حرمت عليه ، هتفت وشكت إلى الله ،
فنزلت ) فِى زَوْجِهَا ( في شأنه ومعناه ) إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( يصح أن
يسمع كل مسموع ويبصر كل مبصر . فإن قلت : ما معنى ( قد ) في قوله : ( قد سمع ) ؟
قلت : معناه التوقع ؛ لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمجادلة كانا
يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرّج عنها .
) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ
إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ
مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن
يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ
لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (
المجادلة : ( 2 - 4 ) الذين يظاهرون منكم . . . . .
) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ ( في ) مِنكُمْ ( توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في
الظهار ، لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم ) مَّا هُنَّ (
وقرىء : بالرفع على اللغتين الحجازية والتميمية . وفي قراءة ابن مسعود : (
بأمّهاتهم ) وزيادة الباء في لغة من ينصب . والمعنى أن من يقول لامرأته أنت عليّ
كظهر أمي : ملحق في كلامه هذا للزوج بالأم ، وجاعلها مثلها . وهذا تشبيه باطل
لتباين الحالين ) إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ ( يريد أن الأمهات
على الحقيقة إنما هنّ الوالدات وغيرهنّ ملحقات بهنّ لدخولهنّ في حكمهنّ ،
فالمرضعات أمّهات ؛ لأنهنّ لما أرضعن دخلن بالرضاع في حكم الأمهات ، وكذلك أزواج
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمهات المؤمنين ؛ لأن الله حرّم نكاحهن على
الأمة فدخلن بذلك في حكم الأمهات . وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة لأنهنّ لسن
بأمّهات على الحقيقة . ولا بداخلات في حكم الأمهات ، فكان قول المظاهر : منكراً من
القول تنكره الحقيقة وتنكره الأحكام الشرعية وزوراً وكذباً باطلاً منحرفاً عن الحق
) وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( لما سلف منه إذا تيب منه ولم يعد إليه ، ثم
قال : ) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن
" صفحة رقم 485 "
نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } يعني : والذين كانت عادتهم أن
يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام ، ثم يعودون لمثله ، فكفارة من عاد أن
يحرّر رقبة ثم يماس المظاهر منها لا تحل له مماستها إلا بعد تقديم الكفارة . ووجه
آخر : ثم يعودون لما قالوا : ثم يتداركون ما قالوا ؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه
. ومنه المثل : عاد غيث على ما أفسد ، أي : تداركه بالإصلاح . والمعنى : أن تدارك
هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظهار . ووجه ثالث :
وهو أن يراد بما قالوا : ما حرّموه على
" صفحة رقم 486 "
أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكرنا في قوله تعالى
: ) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ( ( مريم : 80 ) ويكون المعنى : ثم يريدون العود
للتماس . والمماسة : الاستمتاع بها من جماع ، أو لمس بشهوة ، أو نظر إلى فرجها
لشهوة ) ذَلِكُمْ ( الحكم ) تُوعَظُونَ ( لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب
الجناية ، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله
عليه . فإن قلت : هل يصح الظهار بغير هذا اللفظ ؟ قلت : نعم إذا وضع مكان أنت
عضواً منها يعبر به عن الجملة كالرأس والوجه والرقبة والفرج ، أو مكان الظهر عضواً
آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ . ومكان الأمّ ذات رحم محرم منه من نسب
أو رضاع أو صهر أو جماع ، نحو أن يقول : أنت علي كظهر أختي من الرضاع أو عمتي من
النسب أو امرأة ابني أو أبي أو أمّ امرأتي أو بنتها ، فهو مظاهر . وهو مذهب أبي
حنيفة وأصحابه . وعن الحسن والنخعي والزهري
" صفحة رقم 487 "
والأوزاعي والثوري وغيرهم نحوه . وقال الشافعي : لا يكون الظهار إلا بالأمّ وحدها
وهو قول قتادة والشعبي . وعن الشعبي : لم ينس الله أن يذكر البنات والأخوات
والعمات والخالات ؛ إذ أخبر أن الظهار إنما يكون بالأمّهات الوالدات دون المرضعات
. وعن بعضهم : لا بد من ذكر الظهر حتى يكون ظهاراً . فإن قلت : فإذا امتنع المظاهر
من الكفارة ، هل للمرأة أن ترافعه ؟ قلت : لها ذلك . وعلى القاضي أن يجبره على أن
يكفر ، وأن يحبسه ؛ ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها ،
لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والامتناع من الاستمتاع ، فيلزم إيفاء حقها . فإن
قلت : فإن مسّ قبل أن يكفر ؟ قلت : عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر ، لما روى :
( 1139 ) أن سلمة بن صخر البياض قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ظاهرت من
امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها ، فقال عليه الصلاة والسلام : (
استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر ) فإن قلت : أي رقبة تجزىء في كفارة الظهار ؟ قلت :
المسلمة والكافرة جميعاً ، لأنها في الآية مطلقة . وعند الشافعي لا تجزي إلا
المؤمنة . لقوله تعالى في كفارة القتل : ) فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ( (
النساء : 92 ) ولا تجزى أمّ الولد والمدبر والمكاتب الذي أدّى شيئاً ، فإن لم يؤدّ
شيئاً جاز . وعند الشافعي : لا يجوز : فإن قلت : فإن أعتق بعض الرقبة أو صام بعض
الصيام ثم مس ؟ قلت : عليه أن يستأنف نهاراً مس أو ليلاً ناسياً أو عامداً عند أبي
حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد : عتق بعض الرقبة عتق كلها فيجزيه ، وإن كان المسّ
يفسد الصوم استقبل ، وإلا بني . فإن قلت : كم يعطي المسكين في الإطعام ؟ قلت : نصف
صاع من برّ أو صاعاً من غيره عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي مدّاً من طعام بلده
الذي يقتات فيه . فإن قلت : ما بال التماس لم يذكر عند الكفارة
" صفحة رقم 488 "
بالإطعام كما ذكره عند الكفارتين ؟ قلت : اختلف في ذلك ، فعند أبي حنيفة : أنه لا
فرق بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس ، وإنما ترك ذكره عند الإطعام
دلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم إذا وقع في
خلاله . وعند غيره : لم يذكر للدلالة على أن التكفير قبله وبعده سواء . فإن قلت :
الضمير في أن يتماسا إلام يرجع ؟ قلت : إلى ما دلّ عليه الكلام من المظاهر
والمظاهر منها ) ذَلِكَ ( البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها لتصدقوا )
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره ، ورفض ما
كنتم عليه في جاهليتكم ) وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( التي لا يجوز تعدّيها )
وَلِلْكَافِرِينَ ( الذي لا يتبعونها ولا يعملون عليها ) عَذَابٌ أَلِيمٌ ( .
) إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ مُّهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا
عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ (
المجادلة : ( 5 ) إن الذين يحادون . . . . .
) يُحَآدُّونَ ( يعادون ويشاقون ) كُبِتُواْ ( أخزوا وأهلكوا ) كَمَا كُبِتَ ( من
قبلهم من أعداء الرسل . قيل : أريد كبتهم يوم الخندق ) وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايَاتٍ
بَيّنَاتٍ ( تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به ) وَلِلْكَافِرِينَ ( بهذه الآيات
) عَذَابٌ مُّهِينٌ ( يذهب بعزهم وكبرهم ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ( منصوب بلهم . أو
بمهين . أو بإضمار اذكر تعظيماً لليوم ) جَمِيعاً ( كلهم لا يترك منهم أحد غير
مبعوث . أو مجتمعين في حال واحدة ، كما تقول : حي جميع ) فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا
عَمِلُواْ ( تخجيلاً لهم وتوبيخاً وتشهيراً بحالهم ، يتمنون عنده المسارعة بهم إلى
النار ، لما يلحقهم من الخزى على رؤوس الأشهاد ) أَحْصَاهُ اللَّهُ ( أحاط به
عدداً لم يفته منه شيء ) وَنَسُوهُ ( لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه لم يبالوا به
لضراوتهم بالمعاصي ، وإنما تحفظ معظمات الأمور .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ
مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ
إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ
مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (
المجادلة : ( 7 ) ألم تر أن . . . . .
) مَا يَكُونُ ( من كان التامة . وقرىء بالياء والتاء ، والياء على أنّ النجوى
تأنيثها غير حقيقي ومن فاصله . أو على أنّ المعنى ما يكون شيء من النجوى . والنجوى
: التناجي ، فلا تخلو إما أن تكون مضافة إلى ثلاثة ، أي : من نجوى ثلاثة نفر . أو
موصوفة
" صفحة رقم 489 "
بها ، أي : من أهل نجوى ثلاثة ، فحذف الأهل . أو جعلوا نجوا في أنفسهم مبالغة ،
كقوله تعالى : ) خَلَصُواْ نَجِيّا ( ( يوسف : 80 ) وقرأ ابن أبي عيلة : ( ثلاثة
وخمسة ) ، بالنصب على الحال بإضمار يتناجون ؛ لأن نجوى يدل عليه . أو على تأويل
نجوى بمتناجين ، ونصبها من المستكن فيه . فإن قلت : ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة
والخمسة ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن قوما من المنافقين تحلقوا للتناجي مغايظة
للمؤمنين على هذين العددين : ثلاثة وخمسة ، فقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة
كما ترونهم يتناجون كذلك ) وَلاَ أَدْنَى مِن ( عدديهم ) وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ (
والله معهم يسمع ما يقولون ، فقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه : أنها نزلت في
ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية : كانوا يوماً يتحدثون ، فقال أحدهم : أترى
أن الله يعلم ما نقول ؟ فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً . وقال الثالث :
إن كان يعلم بعضاً فهو يعلم كله ؛ وصدق . لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد
علمها كلها لأن كونه عالماً بغير سبب ثابت له مع كل معلوم ، والثاني : أنه قصد أن
يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والمتخالين للشورى والمندبون لذلك
ليسوا بكل أحد وإنما هم طائفة مجتباة من أولى النهي والأحلام ، ورهط من أهل الرأي
والتجارب ، وأول عددهم الاثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال وحكم
الاستصواب . ألا ترى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة
ولم يتجاوز بها إلى سابع ، فذكر عز وعلا الثلاثة والخمسة وقال : ) وَلاَ أَدْنَى
مِن ذَلِكَ ( فدلّ على الاثنين والأربعة وقال ) وَلاَ أَكْثَرَ ( فدلّ على ما يلي
هذا العدد ويقاربه . وفي مصحف عبد الله : إلا الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله
خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ، ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا
انتجوا . وقرىء : ( ولا أدنى من ذلك ولا أكثر ) ، بالنصب على أن لا لنفي الجنس .
ويجوز أن يكون : ولا أكثر ، بالرفع معطوفاً على يحل مع أدنى ، كقولك : لا حول ولا قوّة
إلا بالله ، بفتح الحول ورفع القوّة . ويجوز أن يكون مرفوعين على الابتداء ، كقولك
: لا حول ولا قوّة إلا بالله ، وأن يكون ارتفاعهما عطفاً على محل ( لا ) ) مِن
نَّجْوَى ( كأنه قيل : ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم . ويجوز أن يكونا
مجرورين عطفاً على نجوى ، كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم .
وقرىء : ( ولا أكبر ) بالباء . ومعنى كونه معهم : أنه يعلم ما يتناجون به ولا يخفى
عليه ما هم فيه ، فكأنه مشاهدهم ومحاضرهم ، وقد تعالى عن المكان والمشاهدة . وقرىء
( ثم ينبئهم ) على التخفيف .
" صفحة رقم 490 "
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ
الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ
وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (
المجادلة : ( 8 ) ألم تر إلى . . . . .
كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ،
يريدون أن يغيظوهم ، فنهاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعادوا لمثل فعلهم ،
وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول ومخالفته . وقرىء :
( ينتجون بالإثم والعدوان ) بكسر العين ، ومعصيات الرسول ) حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ
يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ ( يعني أنهم يقولون في تحيتك : السام عليك يا محمد ؛ والسام
: الموت ؛ والله تعالى يقول : ) وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( (
النمل : 59 ) و ) اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( ( المائدة : 41 / 67 ) و )
مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىّ ( : ( الأنفال : 64 ) ) لَوْلاَ يُعَذّبُنَا
اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ( كانوا يقولون : ماله إن كان نبياً لا يدعو علينا حتى
يعذبنا الله بما نقول ، فقال الله تعالى : ) حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ( عذاباً .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ
بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا
النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ
بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(
المجادلة : ( 9 - 10 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الَّذِينَ كَفَرُواْ ( خطاب للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم . ويجوز أن
يكون للمؤمنين ، أي : إذا تناجيتم فلا تتشبهوا بأولئك في تناجيهم بالشر )
وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى ( وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1140 ) ( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه ) وروى : (
دون الثالث ) . وقرىء : ( فلا تناجوا ) وعن ابن مسعود : إذا انتجيتم فلا تنتجوا )
إِنَّمَا النَّجْوَى ( اللام إشارة إلى النجوى بالإثم والعدوان ، بدليل قوله تعالى
: ) لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( والمعنى : أنّ الشيطان يزينها لهم ، فكأنها
منه ليغيظ الذين آمنوا ويحزنهم ) وَلَيْسَ ( الشيطان أو الحزن ) بِضَارّهِمْ
شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( . فإن قلت : كيف لا يضرهم
" صفحة رقم 491 "
الشيطان أو الحزن إلا بإذن الله ؟ قلت : كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتغامزهم
أن غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا ، فقال : لا يضرهم الشيطان أو الحزن بذلك
الموهم إلا بإذن الله ، أي : بمشيئته ، وهو أن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة
على الغزاة . وقرىء : ( ليحزن ) وليحزن .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى
الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ
فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (
المجادلة : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
) تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ ( توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض ، من قولهم :
أفسح عني ، أي : تنح ؛ ولا تتضامّوا . وقرى : ( تفاسحوا ) والمراد : مجلس رسول
الله ، وكانوا يتضامّون فيه تنافساً على القرب منه ، وحرصاً على استماع كلامه ،
وقيل : هو المجلس من مجالس القتال ، وهي مراكز الغزاة ، كقوله تعالى : ) مَقَاعِدَ
لِلْقِتَالِ ( ( آل عمران : 121 ) وقرىء : ( في المجالس ) قيل : كان الرجل يأتي
الصف فيقول : تفسحوا ، فيأبون لحرصهم على الشهادة . وقرىء : ( في المجلس ) بفتح
اللام : وهو الجلوس ، أي : توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه ) يَفْسَحِ اللَّهُ
لَكُمْ ( مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر
وغير ذلك ) انشُزُواْ ( انهضوا للتوسعة على المقبلين . أو انهضوا عن مجلس رسول
الله إذا أمرتم بالنهوض عنه ، ولا تملوا رسول الله بالارتكاز فيه : أو انهضوا إلى
الصلاة والجهاد وأعمال الخير إذا استنهضتم ، ولا تثبطوا ولا تفرطوا ) يَرْفَعِ
اللَّهُ ( المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله ، والعالمين منهم خاصة )
دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ( قرىء : بالتاء والياء . عن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه : أنه كان إذا قرأها قال يا أيها الناس افهموا هذه الآية
ولترغبكم في العلم . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1141 ) بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر
" صفحة رقم 492 "
سبعين سنة ) . وعنه عليه السلام :
( 1142 ) ( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعنه
عليه السلام :
( 1143 ) ( يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ، ثم الشهداء ) فأعظم
بمرتبة هي واسطة بين النبوّة والشهادة بشهادة رسول الله . وعن ابن عباس : خيّر
سليمان بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطى المال والملك معه . وقال
عليه السلام :
( 1144 ) ( وأوحى الله إلى إبراهيم ، يا إبراهيم ، إني عليم أحب كل عليم ) وعن بعض
الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم ، وأي شيء فات من أدرك العلم ، وعن
الأحنف : كاد العلماء يكونون أرباباً ، وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير . وعن
الزبيري العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال .
" صفحة رقم 493 "
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ
بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ
تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أَءَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ
بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (
المجادلة : ( 12 - 13 ) يا أيها الذين . . . . .
) بَيْنَ يَدَىْ نَجْواكُمْ ( استعارة ممن له يدان . والمعنى : قبل نجواكم كقول
عمر : من أفضل ما أوتيت العرب الشعر ، يقدِّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم
ويستنزل به اللئيم ، يريد : قبل حاجته ( ذلكم ) خير ) خَيْرٌ لَّكُمْ ( في دينكم )
وَأَطْهَرُ ( لأنّ الصدقة طهرة . روى أن الناس أكثروا مناجاة رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) بما يريدون حتى أملوه وأبرموه ، فأريد أن يكفوا عن ذلك ، فأمروا بأن
من أراد يناجيه قدّم قبل مناجاته صدقة . قال علي رضي الله عنه :
( 1145 ) لما نزلت دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ما تقول في
دينار ؟ قلت : لا يطيقونه . قال : كم ؟ قلت : حبة أو شعيرة ؛ قال : إنك لزهيد .
فلما رأوا ذلك : اشتدّ عليهم فارتدعوا وكفوا . أما الفقير فلعسرته ، وأما الغنيّ
فلشحه . وقيل : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ . وقيل : ما كان إلا ساعة من نهار . وعن
علي رضي الله عنه :
( 1146 ) إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي : كان
لي دينار فصرفته ، فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم . قال الكلبي : تصدق به في عشر
كلمات سألهنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن ابن عمر : كان لعليّ ثلاث :
لو كانت لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه
الراية يوم خيبر ، وآية
" صفحة رقم 494 "
النجوى . قال ابن عباس : هي منسوخة بالآية التي بعدها ، وقيل : هي منسوخة بالزكاة
) أَءشْفَقْتُمْ ( أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه ، وأنّ
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ) فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ ( ما أمرتم به
وشق عليكم ، و ) تَابَ الله عَلَيْكُمْ ( وعذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوه ، فلا
تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات ) بِمَا تَعْمَلُونَ ( قرىء بالتاء والياء
.
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا
هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ
أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا
يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ
الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ
أُوْلَائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ
الخَاسِرُونَ (
المجادلة : ( 14 ) ألم تر إلى . . . . .
كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله تعالى : ( من لعنه
الله وغضب عليه ) ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين ) مَّا هُم مّنكُمْ (
يا مسلمون ) وَلاَ مِنْهُمْ ( ولا من اليهود ، كقوله تعالى : ) مُّذَبْذَبِينَ
بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء ( ( النساء : 143 ) ، )
وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ ( أي يقولون : والله إنا لمسلمون ، فيحلفون على
الكذب الذي هو ادعاء الإسلام ) وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( أن المحلوف عليه كذب بحت .
فإن قلت : فما فائدة قوله : ) وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( ؟ قلت : الكذب : أن يكون الخبر
لا على وفاق المخبر عنه ، سواء علم المخبر أو لم يعلم ، فالمعنى : أنهم الذين
يخبرون وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه ، وهم عالمون بذلك متعمدون له ، كمن يحلف
بالغموس وقيل :
( 1147 ) كان عبد الله بن نبتل المنافق يجالس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ،
ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه :
يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل ابن نبتل وكان أزرق ،
فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 495 "
: ( علام تشتمني أنت وأصحابك ) ؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال عليه السلام : ( فعلت )
فانطلق فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبوه ، فنزلت ) عَذَاباً شَدِيداً ( نوعاً
من العذاب متفاقماً ) إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( يعني أنهم كانوا
في الزمان الماضي المتطاول على سوء العمل مصرين عليه . أو هي حكاية ما يقال لهم في
الآخرة . وقرىء : ( إيمانهم ) بالكسر ، أي : اتخذوا أيمانهم التي حلفوا بها . أو
إيمانهم الذي أظهروه ) جُنَّةً ( أي سترة يتسترون بها من المؤمنين ومن قتلهم )
فَصَدُّواْ ( الناس في خلال أمنهم وسلامتهم ) عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( وكانوا يثبطون
من لقوا عن الدخول في الإسلام ويضعفون أمر المسلمين عندهم . وإنما وعدهم الله
العذاب المهين المخزي لكفرهم وصدهم ، كقوله تعالى : ) الَّذِينَ كَفَرُواْ
وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ( ( النحل
: 88 ) . ) مِنَ اللَّهِ ( من عذاب الله ) شَيْئاً ( قليلاً من الإغناء . وروي أنّ
رجلاً منهم قال : لنننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا ) فَيَحْلِفُونَ
( لله تعالى على أنهم مسلمون في الآخرة ) كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ( في الدنيا
على ذلك ) وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء ( من النفع ، يعني : ليس العجب من
حلفهم لكم ، فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر ، وأن لهم نفعاً في ذلك دفعاً عن
أرواحهم واستجرار فوائد دنيوية ، وأنهم يفعلونه في دار لا يضطرون فيها إلى علم ما
يوعدون ، ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة مع عدم النفع والإضطرار إلى
علم ما أنذرتهم الرسل ، والمراد : وصفهم بالتوغل في نفاقهم ومرونهم عليه ، وأن ذلك
بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل ، كما قال : ) وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ
لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( ( الأنعام : 28 ) وقد اختلف العلماء في كذبهم في الآخرة ،
والقرآن ناطق بثباته نطقاً مكشوفاً . كما ترى في هذه الآية وفي قوله تعالى : )
وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( ( الأنعام : 23 24 )
ونحو حسبانهم أنهم على شيء من النفع إذا حلفوا استنظارهم المؤمنين ليقتبسوا من
نورهم ، لحسبان أن الإيمان الظاهر مما ينفعهم . وقيل عند ذلك : يختم على أفواههم )
أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( يعني أنهم الغاية التي لا مطمح وراءها في
قول الكذب ، حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة ) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ (
استولى عليهم ، من حاذ الحمار العانة إذا جمعها وساقها غالباً لها . ومنه : كان
أحوذياً نسيج وحده ، وهو أحد ما جاء على الأصل ، نحو : استصوب واستنوق ، أي :
ملكهم ) الشَّيْطَانِ ( لطاعتهم له في كل ما يريده منهم ، حتى جعلهم رعيته وحزبه )
فَأَنسَاهُمْ ( أن يذكروا الله أصلاً لا بقلوبهم ولا بألسنتهم . قال أبو عبيدة :
حزب الشيطان جنده .
" صفحة رقم 496 "
) إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ فِى الاٌّ
ذَلِّينَ (
المجادلة : ( 20 ) إن الذين يحادون . . . . .
) فِى الاْذَلّينَ ( في جملة من هو أذل خلق الله لا ترى أحداً أذل منهم .
) كَتَبَ اللَّهُ لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ (
المجادلة : ( 21 ) كتب الله لأغلبن . . . . .
) كِتَابِ اللَّهِ ( في اللوح ) لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( بالحجة والسيف .
أو بأحدهما .
) لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ يُوَآدُّونَ
مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ
أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَائِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ
الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ
عَنْهُ أُوْلَائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (
المجادلة : ( 22 ) لا تجد قوما . . . . .
) لاَّ تَجِدُ قَوْماً ( من باب التخييل . خيل أن من الممتنع المحال : أن تجد
قوماً مؤمنين يوالون المشركين ، والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن
يمتنع ولا يوجد بحال ، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته ، والتوصية بالتصلب
في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم ، وزاد ذلك
تأكيداً وتشديداً بقوله : ) وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ ( وبقوله : ) أُوْلَئِكَ
كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( وبمقابلة قوله : ) أُوْلَئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ ( ( المجادلة : 99 ) بقوله : ( أولئك حزب الله ) فلا تجد شيئاً أدخل
في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، بل هو الإخلاص بعينه ) كَتَبَ
فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( أثبته فيها بما وفقهم فيه وشرح له صدورهم )
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ ( بلطف من عنده حييت به قلوبهم . ويجوز أن يكون
الضمير للإيمان ، أي : بروح من الإيمان ، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به .
وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان . وعن عبد العزيز بن
أبي رواد : أنه لقيه المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها . وعن النبي (
صلى الله عليه وسلم ) : أنه كان يقول :
( 1148 ) ( اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة ، فإني وجدت فيما
" صفحة رقم 497 "
أوحيت إليّ : لا تجد قوماً ) وروى :
( 1149 ) أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك أنّ أبا قحافة سب رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) فصكه صكة سقط منها ، فقال له رسول الله : ( أو فعلته ) ؟ قال
: نعم ، قال : لا تعد ) قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته . وقيل في أبي
عبيدة بن الجراح : قتل أباه عبد الله الجراح يوم أحد .
( 1150 ) وفي أبي بكر : دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وقال لرسول الله : دعني
أكرّ في الراعلة الأولى : قال : متعنا بنفسك يا أبا بكر ، أما تعلم أنك عندي
بمنزلة سمعي وبصري . وفي مصعب بن عمير : قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد . وفي عمر
: قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر . وفي علي وحمزة وعبيد بن الحرث : قتلوا عتبة
وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر . عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
:
( 1151 ) ( من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة ) .
" صفحة رقم 498 "
( سورة الحشر )
مدنية ، وهي أربع وعشرون آية ( نزلت بعد البينة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن
دِيَارِهِمْ لاًّوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ
أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى
الاٌّ بْصَارِ (
الحشر : ( 1 ) سبح لله ما . . . . .
( 1152 ) صالح بنو النضير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أن لا يكونوا عليه
ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية
، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين
راكباً إلى مكة فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة
الأنصاري فقتل كعباً غيلة وكان أخاه من الرضاعة ، ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار
مخطوم بليف فقال لهم : أخرجوا من المدينة ، فقالوا : الموت أحب إلينا من ذاك ،
فتنادوا بالحرب . وقيل : استمهلوا رسول الله عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ، فدس عبد
الله بن أبي المنافق وأصحابه إليهم : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا
نخذلكم ، ولئن خرجتم لنخرجنّ معكم ، فدربوا على الأزقة وحصنوها فحاصرهم إحدى
وعشرين ليلة ، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين : طلبوا
الصلح ، فأبى عليهم إلا الجلاء ؛ على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من
متاعهم فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات ، إلا أهل بيتين منهم : آل أبي الحقيق
وآل حيي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة
" صفحة رقم 499 "
بالحيرة . اللام في ) لاِوَّلِ الْحَشْرِ ( تتعلق بأخرج ، وهي اللام في قوله تعالى
: ) يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى ( ( الفجر : 24 ) وقولك : جئته لوقت
كذا . والمعنى : أخرج الذين كفروا عند أوّل الحشر . ومعنى أوّل الحشر : أن هذا
أوّل حشرهم إلى الشأم ، وكانوامن سبط لم يصبهم جلاء قط ، وهم أوّل من أخرج من أهل
الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام . أو هذا أوّل حشرهم ؛ وآخر حشرهم : إجلاء عمر
إياهم من خيبر إلى الشام . وقيل : آخر حشرهم حشر يوم القيامة ؛ لأنّ المحشر يكون
بالشام . وعن عكرمة : من شك أنّ المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية . وقيل :
معناه أخرجهم من ديارهم لأوّل ما حشر لقتالهم : لأنه أوّل قتال قاتلهم رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) : ) مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ( لشدة بأسهم ومنعتهم ،
ووثاقة حصونهم ، وكثرة عددهم وعدتهم ، وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم من بأس الله )
فَأَتَاهُمُ ( أمر الله ) مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ( من حيث لم يظنوا ولم
يخطر ببالهم : وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرّة على يد أخيه ، وذلك مما أضعف
قوتهم وفل من شوكتهم ، وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة بما قذف فيها من الرعب ،
وألهمهم أن يوافقوا المؤمنين في تخريب بيوتهم ويعينوا على أنفسهم ، وثبط المنافقين
الذين كانوا يتولونهم عن مظاهرتهم . وهذا كله لم يكن في حسبانهم . ومنه أتاهم
الهلاك . فإن قلت : أي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ، وبين
النظم الذي جاء عليه ؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم
بحصانتها ومنعها إياهم ؛ وفي تصيير ضميرهم إسماً لأن وإسناد الجملة إليه : دليل
على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعه لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع
في معازتهم ؛ وليس ذلك في قولك : وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم . وقرىء : ( فآتاهم الله
) أي : فآتاهم الهلاك . والرعب : الخوف الذي يرعب الصدر ، أي يملؤه ؛ وقذفه :
إثباته وركزه . ومنه قالوا في صفة الأسد : مقذف ، كأنما قذف باللحم قذفاً لاكتنازه
وتداخل أجزائه . وقرىء : ( يخرّبون ويخربون ) ، مثقلاً ومخففاً . والتخريب
والإخراب : الإفساد بالنقض والهدم . والخربة : الفساد ، كانوا يخربون بواطنها
والمسلمون ظواهرها : لما أراد الله من استئصال شأفتهم وأن لا يبقى لهم بالمدينة
دار ولا منهم ديار ، والذي دعاهم إلى التخريب : حاجتهم إلى
" صفحة رقم 500 "
الخشب والحجارة ليسدّوا بها أفواه الأزقة . وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها
مساكن للمسلمين ، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جد الخشب والساج المليح .
وأما المؤمنون فداعيهم إزالة متحصنهم ومتمنعهم . وأن يتسع لهم مجال الحرب . فإن
قلت : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمينن ؟ قلت : لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب
فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه ) فَاعْتَبِرُواْ ( بما دبر الله ويسر من أمر
إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال . وقيل : وعد رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فكان كما قال ب :
) وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى
الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (
الحشر : ( 3 ) ولولا أن كتب . . . . .
يعني : أنّ الله قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم وإراحة المسلمين من جوارهم
وتوريثهم أموالهم ، فلولا أنه كتب عليهم الجلاء واقتضته حكمته ودعاه إلى اختياره
أنه أشق عليهم من الموت ) لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا ( بالقتل كما فعل بإخوانهم
بني قريظة ) وَلَهُمْ ( سواء أجلوا أو قتلوا ) عَذَابَ النَّارِ ( يعني : إن نجوا
من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة .
) مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا
فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ (
الحشر : ( 5 ) ما قطعتم من . . . . .
) مّن لّينَةٍ ( بيان لما قطعتم . ومحل ( ما ) نصب بقطعتم ، كأنه قال : أي شيء
قطعتم ، وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله : ) أَوْ تَرَكْتُمُوهَا ( لأنه في
معنى اللينة . واللينة : النخلة من الألوان ، ضروب النخل ما خلا العجوة . والبرنية
، وهما أجود النخيل ، وياؤها عن واو ، قلبت لكسرة ما قبلها ، كالديمة . وقيل : (
اللينة ) النخلة الكريمة ، كأنهم اشتقوها من اللين . قال ذو الرمّة : كَأَنَّ
قُتُودِي فَوْقَهَا عُشُّ طَائِر
عَلَى لِينَةٍ سَوْقَاءَ تَهْفُو جُنُوبُهَا
" صفحة رقم 501 "
وجمعها لين . وقرىء : ( قوّما ) على أصلها . وفيه وجهان : أنه جمع أصل كرهن ورهن .
أو اكتفى فيه بالضمة عن الواو . وقرىء : ( قائماً على أصوله ) ذهاباً إلى لفظ ما )
فَبِإِذْنِ اللَّهِ ( فقطعها بإذن الله وأمره ) وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ (
وليذل اليهود ويغيظهم إذن في قطعها ، وذلك :
( 1153 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين أمر أن تقطع نخلهم وتحرق قالوا
: يا محمد ، قد كنت تنهي عن الفساد في الأرض ، فما بال قطع النخل وتحريقها ؟ فكان
في نفس المؤمنين من ذلك شيء . فنزلت ، يعني : أنّ الله أذن لهم في قطعها ليزيدكم
غيظاً ويضاعف لكم حسرة إذا رأيتموهم يتحكمون في أموالكم كيف أحبوا ويتصرفون فيها
ما شاؤوا . واتفق العلماء أنّ حصون الكفرة وديارهم لا بأس بأن تهدم وتحرق وتغرق
وترمي بالمجانيق . وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة . وعن ابن
مسعود : قطعوا منها ما كان موضعا للقتال . فإن قلت : لم خصت اللينة بالقطع ؟ قلت :
إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية ، وإن كانت من كرام النخل
فليكون غيظ اليهود أشد وأشق . وروى :
( 1154 ) أن رجلين كانا يقطعان : أحدهما العجوة ، والآخر اللون ، فسألهما رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال هذا : تركتها لرسول الله ، وقال هذا : قطعتها
غيظاً للكفار . وقد استدل به على جواز الاجتهاد ، وعلى جوازه بحضرة الرسول ( صلى
الله عليه وسلم ) ؛ لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك ، واحتج به من يقول : كل مجتهد مصيب
.
) وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ
مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن
يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
الاٌّ غْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (
الحشر : ( 6 - 7 ) وما أفاء الله . . . . .
) أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( جعله له فيئاً خاصة . والإيجاف من الوجيف .
وهو السير السريع . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإفاضة من عرفات .
" صفحة رقم 502 "
( 1155 ) ( ليس البرّ بإيجاف الخيل ولا إيضاع الإبل على هينتكم ) ومعنى ) فَمَا
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ( فما أوجفتم على تحصيله وتغنمه خيلاً ولا ركاباً ، ولا
تعبتم في القتال عليه ، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم . والمعنى : أنّ ما خوّل الله
رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة ، ولكن سلطه الله عليهم
وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم ، فالأمر فيه مفوّض إليه يضعه
حيث يشاء ، يعني : أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهراً ،
وذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت . لم يدخل العاطف على هذه الجملة : لأنها بيان
للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها . بين لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما
يصنع بما أفاء الله عليه ، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوماً على
الأقسام الخمسة ( والدولة والدولة ) بالفتح والضم وقد قرىء : بهما ما يدول للإنسان
، أي يدور من الجد . يقال : دالت له الدولة . وأديل لفلان . ومعنى قوله تعالى : )
لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاْغْنِيَاء مِنكُمْ ( كيلا يكون الفيء الذي حقه أن
يعطي الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جداً بين الأغنياء يتكاثرون به . أو كيلا
يكون دولة جاهلية بينهم . ومعنى الدولة الجاهلية : أن الرؤساء منهم كانوا يستأخرون
بالغنيمة لأنهم أهل الرياسة والدولة والغلبة ، وكانوا يقولون من عزّ بزّ . والمعنى
: كيلا يكون أخذه غلبة وأثره جاهلية . ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولا ،
ومال الله دولاً ، يريد : من غلب منهم أخذه واستأثر به . وقيل : ( الدولة ) ما يتداول
، كالغرفة : اسم ما يغترف ، يعني : كيلا يكون الفيء شيئاً يتداوله الأغنياء بينهم
ويتعاورونه ، فلا يصيب الفقراء ، والدولة بالفتح : بمعنى التداول ، أي : كيلا يكون
ذا تداول بينهم . أو كيلا يكون إمساكه تداولاً بينهم لا يخرجونه إلى الفقراء ،
وقرىء : ( دولة ) بالرفع على ( كان ) التامة كقوله تعالى : ) وَإِن كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ ( يعني كيلا يقع دولة جاهلية ولينقطع أثرها أو كيلا يكون تداول له بينهم
. أو كيلا يكون شيء متعاور بينهم غير مخرج إلى الفقراء ) وَمَا ءاتَاكُمُ
الرَّسُولُ ( من قسمة غنيمة أو فيء ) فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ ( عن أخذه منها )
فَانتَهُواْ ( عنه ولا تتبعه أنفسكم ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( أن تخالفوه وتتهاونوا
بأوامره ونواهيه ) أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( لمن خالف رسوله ، والأجود
أن يكون عاماً في كل ما أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونهى عنه ، وأمر
الفيء داخل في عمومه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه :
" صفحة رقم 503 "
أنه لقي رجلاً محرماً وعليه ثيابه فقال له : انزع عنك هذا فقال الرجل : اقرأ عليّ
في هذا آية من كتاب الله . قال : نعم ، فقرأها عليه .
) لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (
الحشر : ( 8 ) للفقراء المهاجرين الذين . . . . .
) لِلْفُقَرَاء ( بدل من قوله : ) ذَا الْقُرْبَى ( والمعطوف عليه والذي منع
الإبدال
" صفحة رقم 504 "
من : لله وللرسول والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) أن الله عزّ وجلّ أخرج رسوله من الفقراء في قوله : ) وَيَنصُرُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ ( وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر
اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عزّ وجل ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( في
إيمانهم وجهادهم .
) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (
الحشر : ( 9 ) والذين تبوؤوا الدار . . . . .
) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا ( معطوف على المهاجرين ، وهم الأنصار فإن قلت : ما معنى
عطف الإيمان على الدار ، ولا يقال : تبوّؤا الإيمان ؟ قلت : معناه تبوّؤا الدار
وأخلصوا الإيمان ، كقوله : عَلَفْتُها تَيْنَاً وَمَاءً بَارِدَا
أو : وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطناً لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه ، كما
جعلوا المدينة كذلك . أو : أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في
الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه . أو
سمى المدينة لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان ) مِن قَبْلِهِمُ ( من
قبل المهاجرين ؛ لأنهم سبقوهم في تبوّىء دار الهجرة والإيمان . وقيل : من قبل
هجرتهم ) وَلاَ يَجِدُونَ ( ولا يعلمون في أنفسهم ) حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ ( أي
طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة ؛
يقال : خذ منه حاجتك ، وأعطاه من ماله حاجته ، يعني : أنّ نفوسهم لم تتبع ما أعطوا
ولم تطمح إلى شيء منه يحتاج إليه ) وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ( أي خلة ،
وأصلها : خصاص البيت ، وهي فروجه ؛ والجملة في موضع الحال ، أي : مفروضة خصاصتهم :
" صفحة رقم 505 "
( 1156 ) وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قسم أموال بني النضير على المهاجرين
ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين : أبادجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ،
والحرث بن الصمة . وقال لهم : ( إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم
وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكن شيء
من الغنيمة ، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة
ولا نشاركهم فيها ) . فنزلت ( الشح ) بالضم والكسر ، وقد قرىء بهما : اللؤم ، وأن
تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع ، كما قال : يُمَارِسُ نَفْساً بَيْنَ
جَنْبَيْهِ كَزَّة
إذَا هَمَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَتْ لَهُ مَهْلاَ
وقد أضيف إلى النفس ؛ لأنه غريزة فيها . وأما البخل فهو المنع نفسه . ومنه قوله
تعالى : ) وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ ( ( النساء : 128 ) . ) وَمَن يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ ( ومن غلب ما أمرته به منه وخالف هواها بمعونة الله وتوفيقه )
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( الظافرون بما أرادوا . وقرىء : ( ومن يوقَّ )
.
) وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا
غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (
الحشر : ( 10 ) والذين جاؤوا من . . . . .
) وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ ( عطف أيضاً على المهاجرين : وهم الذين
هاجروا من بعد . وقيل : التابعون بإحسان ) غِلاًّ ( وقرىء : ( غمرا ) وهما الحقد .
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ
وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ
مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ
لَيُوَلُّنَّ الاٌّ دْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( 7 )
الحشر : ( 11 ) ألم تر إلى . . . . .
" صفحة رقم 506 "
) لإِخْوَانِهِمُ ( الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر ، ولأنهم كانوا يوالونهم
ويواخونهم ، وكانوا معهم على المؤمنين في السر ) وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ ( في قتالكم
أحداً من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه . أو في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من
النصرة ) لَكَاذِبُونَ ( أي في مواعيدهم لليهود . وفيه دليل على صحة النبوّة :
لأنه إخبار بالغيوب . فإن قلت : كيف قيل ) وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ( بعد الإخبار
بأنهم لا ينصرونهم ؟ قلت : معناه : ولئن نصروهم على الفرض والتقدير ، كقوله تعالى
: ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( ( الزمر : 65 ) وكما يعلم ما يكون
، فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون . والمعنى : ولئن نصر المنافقون اليهود
لينهزمن المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك ، أي : يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم
نفاقهم لظهور كفرهم . أو ليهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين .
) لاّنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى
مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا
كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ
جَزَآءُ الظَّالِمِينَ (
الحشر : ( 13 ) لأنتم أشد رهبة . . . . .
) رَهْبَةً ( مصدر رهب المبني للمفعول ، كأنه قيل : أشد مرهوبية . وقوله : ) فِى
صُدُورِهِمْ ( دلالة على نفاقهم ، يعني أنهم يظهرون لكن في العلانية خوف الله وأنتم
أهيب في صدورهم من الله . فإن قلت : كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم
منهم أشدّ . قلت : معناه أن رهبتهم في السر منكم أشدّ من رهبتهم من الله التي
يظهرونها لكم وكانو يظهرون لهم رهبة شديدة من الله ويجوز أن يريد أنّ اليهود
يخافونكم في صدورهم أشدّ من خوفهم من الله ؛ لأنهم كانوا قوماً أولى بأس ونجدة ،
فكانوا يتشجعون لهم مع إضمار الخيفة في صدورهم ) لاَّ يَفْقَهُونَ ( لا يعلمون
الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته ) لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ ( لا يقدرون على مقاتلتكم
) جَمِيعاً ( مجتمعين متساندين ، يعني اليهود والمنافقين ) إِلاَّ ( كائنين ) فِى
قُرًى مُّحَصَّنَةٍ ( بالخنادق والدروب ) أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ ( دون أن يصحروا
لكم ويبارزوكم ، لقذف الله الرعب في قلوبهم ، وأن تأييد الله تعالى ونصرته معكم .
وقرىء : ( جدر ) ، بالتخفيف . وجدار . وجدر وجدر ، وهما : الجدار ) بَأْسُهُمْ
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ( يعني أنّ البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا
" صفحة رقم 507 "
اقتتلوا ؛ ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدّة ؛ لأنّ الشجاع يجبن والعزيز
يذل عند محاربة الله ورسوله ) تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ( مجتمعين ذوي ألفة واتحاد )
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ( متفرقة لا ألفة بينها ، يعني . أنّ بينهم إحنا وعداوات ،
فلا يتعاضدون حق التعاضد ، ولا يرمون عن قوس واحدة . وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع
لقلوبهم على قتالهم ) قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ( أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم
ويعين على أرواحهم ) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( أي مثلهم كمثل أهل بدر
في زمان قريب . فإن قلت : بم انتصب ) قَرِيبًا ( ؟ قلت : بمثل ، على : كوجود مثل
أهل بدر قريباً ) ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ ( سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، من قولهم كلأ وبيل : وخيم سيء العاقبة ، يعني ذاقوا
عذاب القتل في الدنيا ) وَلَهُمْ ( في الآخرة عذاب النار . مثل المنافقين في
إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم )
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ ( إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة ،
والمراد استغواؤه قريشاً يوم بدر ؛ وقوله لهم : ) لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ
مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ ( ( الأنفال : 48 ) إلى قوله : ) إِنّى
بَرِىء مّنكَ ( وقرأ ابن مسعود : ( خالدان فيها ) ، على أنه خبر أنّ ، و ) فِى
النَّارِ ( لغو ، وعلى القراءة المشهورة : الظرف مستقر ، وخالدين فيها : حال .
وقرىء : ( أنا بريء ) وعاقبتهما بالرفع .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ
أُولَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (
الحشر : ( 18 ) يا أيها الذين . . . . .
كرر الأمر بالتقوى تأكيداً : واتقوا الله في أداء الواجبات ؛ لأنه قرن بما هو عمل
، واتقوا الله في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد . والغد : يوم
القيامة ، سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له وعن الحسن : لم يزل يقربه حتى
جعله كالغد .
" صفحة رقم 508 "
ونحوه قوله تعالى : ) كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالاْمْسِ ( ( يونس : 24 ) يريد : تقريب
الزمان الماضي . وقيل : عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران : يوم وغد
. فإن قلت : ما معنى تنكير النفس والغد ؟ قلت : أما تنكير النفس فاستقلالاً للأنفس
النواظر فيما تدمن للآخرة ، كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك . وأما تنكير الغد
فلتعظيمه وإبهام أمره ، كأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لعظمه . وعن مالك بن دينار :
مكتوب على باب الجنة : وجدنا ما عملنا ، ربحنا ما قدّمنا . خسرنا ما خلفنا )
نَسُواْ اللَّهَ ( نسوا حقه ، فجعلهم ناسين حق أنفسهم بالخذلان ، حتى لم يسعوا لها
بما ينفعهم عنده . أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم ، كقوله
تعالى : ) لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ( ( إبراهيم : 43 ) .
) لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
هُمُ الْفَآئِزُونَ (
الحشر : ( 20 ) لا يستوي أصحاب . . . . .
هذا تنبيه للناس وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على
إيثار العاجلة وأتباع الشهوات : كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون
العظيم بين أصحابهما ، وأن الفوز مع أصحاب الجنة ؛ فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا
عليه ، كما تقول لمن يعق أباه : هو أبوك ، تجعله بمنزلة من لا يعرفه ، فتنبهه بذلك
على حق الأبوّة الذي يقتضي البر والتعطف . وقد استدل أصحاب الشافعي رضي الله عنه
بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر ، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين
بالقهر .
) لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً
مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاٌّ مْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ
هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ (
الحشر : ( 21 ) لو أنزلنا هذا . . . . .
هذا تمثيل وتخييل ، كما مرّ في قوله تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة ) وقد دل عليه
قوله : ) وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ( والغرض توبيخ الإنسان على
قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره . وقرىء : ( مصدّعاً
) على الإدغام ) وَتِلْكَ الاْمْثَالُ ( إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع
من التنزيل .
) هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ
" صفحة رقم 509 "
الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ
الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاٌّ سْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ
لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (
الحشر : ( 23 - 24 ) هو الله الذي . . . . .
) الْغَيْبِ ( المعدوم ) وَالشَّهَادَةِ ( الموجود المدرك كأنه يشاهده . وقيل : ما
غاب عن العباد وما شاهدوه . وقيل : السر والعلانية . وقيل : الدنيا والآخرة )
الْقُدُّوسُ ( بالضم والفتح وقد قرىء بهما البليغ في النزاهة عما يستقبح . ونظيره
: السبوح ، وفي تسبيح الملائكة : سبوح قدوس رب الملائكة والروح . و ) السَّلَامُ (
بمعنى السلامة . ومنه ) دَارُ السَّلَامِ ( ( يونس : 25 ) ) وَسَلَامٌ عَلَيْكُمْ
( ( الأنعام : 54 ) وصف به مبالغة في وصف كونه سليماً من النقائص . أو في إعطائه
السلامة ( والمؤمن ) واهب الأمن . وقرىء بفتح الميم بمعنى المؤمن به على حذف الجار
، كما تقول في قوم موسى من قوله تعالى : ) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( ( الأعراف
: 155 ) المختارون بلفظ صفة السبعين . و ) الْمُهَيْمِنُ ( الرقيب على كل شيء ،
الحافظ له ، مفيعل من الأمن ؛ إلا أن همزته قلبت هاء . و ) الْجَبَّارُ ( القاهر
الذي جبر خلقه على ما أراد ، أي أجبره ، و ) الْمُتَكَبِّرُ ( البليغ الكبرياء
والعظمة . وقيل : المتكبر عن ظلم عباده . و ) الْخَالِقُ ( المقدر لما يوجده (
والبارىء ) المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة . و ) الْمُصَوّرُ ( الممثل .
وعن حاطب بن أبي بلتعة أنه قرأ : ( البارىء المصوّر ) ، بفتح الواو ونصب الراء ،
أي : الذي يبرأ المصوّر أي : يميز ما يصوّره بتفاوت الهيئات . وقرأ ابن مسعود : (
وما في الأرض ) .
عن أبي هريرة رضي الله عنه :
( 1157 ) ( سألت حبيبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن اسم الله الأعظم فقال : ( عليك
بآخر الحشر فأكثر قراءته ) فأعدت عليه فأعاد عليّ ، فأعدت عليه فأعاد عليّ . عن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1158 ) ( من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) .
" صفحة رقم 510 "
( سورة الممتحنة )
مدنية ، وهي ثلاث عشرة آية ( نزلت بعد الأحزاب )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا
جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ
بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ
مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ
أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ
السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُواْ
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ
(
الممتحنة : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . .
روي :
( 1159 ) أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) بالمدينة وهو يتجهز للفتح ، فقال لها : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا .
قال : أفمهاجرة جئت ؟ قالت : لا . قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأهل والموالي
والعشيرة ، وقد ذهبت الموالي ، تعني : قتلوا يوم بدر ، فاحتجت حاجة شديدة فحث
عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزوّدوها ، فأناها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها
عشرة دنانير وكساها برداً ، واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي
بلتعة إلى أهل مكة ، اعلموا أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريدكم فخذوا
حذركم ، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
علياً وعماراً وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرساناً وقال :
انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة ،
فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها ،
" صفحة رقم 511 "
فأدركوها فجحدت وحلفت ، فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه : والله ما كذبنا ولا
كذب رسول الله ، وسل سيفه ، وقال : أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك ، فأخرجته من عقاص
شعرها . وروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمّن جميع الناس يوم الفتح إلا
أربعة : هي أحدهم ، فاستحضر رسول الله حاطباً وقال : ما حملك عليه ؟ فقال : يا
رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ؛
ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش . وروى : عزيزاً فيهم ، أي : غريباً ، ولم أكن من
أنفسها ، وكل من معكم من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري ،
فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أن الله تعالى ينزل عليهم
بأسه . وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فصدقه وقبل عذره ، فقال عمر : دعني يا رسول
الله أضرب عنق هذا المنافق ؛ فقال : ( وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع على
أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ففاضت عينا عمر وقال : الله
ورسوله أعلم ، فنزلت ، عدى ( اتخذ ) إلى مفعوليه ، وهما عدوي ، أولياء . والعدوّ :
فعول ، من عدا ؛ كعفوّ من عفا ؛ ولكونه على زنه المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على
الواحد . فإن قلت : ) تُلْقُونَ ( بم يتعلق ؟ قلت : يجوز أن يتعلق بلا تتخذوا
حالاً من ضميره ؛ وبأولياء صفة له . ويجوز أن يكون استئنافاً . فإن قلت : إذا
جعلته صفة لأولياء وقد جرى على غير من هوله ، فأين الضمير البارز وهو قولك : تلقون
إليهم أنتم بالمودّة ؟ قلت : ذلك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال ، لو قيل :
أولياء ملقين إليهم بالمودّة على الوصف . لما كان بد من الضمير البارز ؛ والإلقاء
عبارة عن إيصال المودّة والإفضاء بها إليهم : يقال ألقى إليه خراشي صدره ، وأفضى
إليه بقشوره . والباء في ) بِالْمَوَدَّةِ ( إما زائدة مؤكدة للتعدي مثلها في )
وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ( ( البقرة : 195 ) وإما ثابتة
على أن مفعول تلقون محذوف ، معناه : تلقون إليهم أخبار رسول الله بسبب المودّة
التي بينكم وبينهم . وكذلك قوله : ) تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ( أي :
تفضون إليهم بمودتكم سراً . أو تسرون إليهم أسرار رسول الله بسبب المودّة . فإن
قلت : ) وَقَدْ كَفَرُواْ ( حال مماذا ؟ قلت : إما من ) لاَ تَتَّخِذُواْ ( وإما
من ) تُلْقُونَ ( أي : لا تتولوهم أو توادّونهم وهذه حالهم . و ) يُخْرِجُونَ (
استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوّهم . أو حال من كفروا . و ) أَن تُؤْمِنُواْ ( تعليل
" صفحة رقم 512 "
ليخرجون ، أي يخرجونكم لإيمانكم ، و ) إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ ( متعلق بلا تتخذوا
، يعني : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي . وقول النحويين في مثله : هو شرط
جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه . و ) تُسِرُّونَ ( استئناف ، ومعناه : أيّ طائل
لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي لا تفاوت بينهما ،
وأما مطلع رسولي على ما تسرون ) وَمَن يَفْعَلْهُ ( ومن يفعل هذا الإسرار فقد أخطأ
طريق الحق والصواب . وقرأ الجحدري ( لما جاءكم ) أي : كفروا لأجل ما جاءكم ، بمعنى
: أن ما كان يجب أن يكون سبب إيمانهم جعلوه سبباً لكفرهم . ) إِن يَثْقَفُوكُمْ (
إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم ) يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء ( خالصي العداوة ، ولا
يكونوا لكم أولياء كما أنتم ) وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوء ( بالقتال والشتم ، وتمنوا لو ترتدون عن دينكم ، فإذن
مودة أمثالهم ومناصحتهم خطأ عظيم منكم ومغالطة لأنفسكم ونحوه قوله تعالى : ) لاَ
يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ( ( آل عمران : 118 ) فإن قلت : كيف أورد جواب الشرط
مضارعاً مثله ثم قال ) وَوَدُّواْ ( بلفظ الماضي ؟ قلت : الماضي وإن كان يجري في
باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب ، فإن فيه نكتة ، كأنه قيل : وودّوا قبل كل
شيء كفركم وارتدادكم ، يعني : أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين
جميعاً : من قتل الأنفس ، وتمزيق الأعراض ، وردّكم كفاراً ؛ وردكم كفاراً أسبق
المضارّ عندهم وأوّلها ؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم ، لأنكم بذَّالون
لها دونه ، والعدوّ أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه .
) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (
الممتحنة : ( 3 ) لن تنفعكم أرحامكم . . . . .
) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ( أي قراباتكم ) وَلاَ أَوْلَادُكُمْ ( الذين
توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم ، ثم قال : ) يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ( وبين أقاربكم وأولادكم ) يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ ( ( عبس : 34 ) الآية فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من
يفرّ منكم غداً : خطأ رأيهم في موالاة الكفار بما يرجع إلى حال من والوه أوّلاً ،
ثم بما يرجع إلى حال من اقتضى تلك الموالاة ثانياً ؛ ليريهم أن ما أقدموا عليه من
أي جهة نظرت فيه وجدته باطلاً . قرىء : ( يُفصَل ويُفصَّل ) ، على البناء للمفعول
. ويَفصِل ويُفصِّل ، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجل . ونفصل ونفصل ، بالنون
.
) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ
إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ
إِبْرَاهِيمَ لاًّبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ
مِن شَىْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ
" صفحة رقم 513 "
الْمَصِيرُ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ
لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (
الممتحنة : ( 4 ) قد كانت لكم . . . . .
وقرىء : ( أسوة وإسوة ) وهو اسم المؤتسى به ، أي كان فيهم مذهب حسن مرضي بأن يؤتسى
به ويتبع أثره ، وهو قولهم لكفار قومهم ما قالوا ، حيث كاشفوهم بالعداوة وقشروا
لهم العصا ، وأظهروا البغضاء والمقت ، وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم ليس إلا كفرهم
بالله ؛ ومادام هذا السبب قائماً كانت العداوة قائمة ، حتى إن أزالوه وآمنوا بالله
وحده انقلبت العداوة موالاة ، والبغضاء محبة ، والمقت مقة ، فأفصحوا عن محض
الإخلاص . ومعنى ) كَفَرْنَا بِكُمْ ( وبما تعبدون من دون الله : أنا لا نعتدّ
بشأنكم ولا بشأن آلهتكم ، وما أنتم عندنا على شيء . فإن قلت : مم استثني قوله : )
إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ ( ؟ قلت : من قوله : ) أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( لأنه أراد
بالأسوة الحسنة : قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذونه سنة يستنون بها . فإن
قلت : فإن كان قوله ) لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( مستثنى من القول الذي هو أسوة حسنة
، فما بال قوله : ) وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْء ( وهو غير حقيق
بالاستثناء . ألا ترى إلى قوله ) قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ( (
المائدة : 17 ) قلت : أراد استثناء جملة قوله لأبيه ، والقصد إلى موعد الاستغفار
له ، وما بعده مبنيّ عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا
الاستغفار . فإن قلت : بم اتصل قوله : ) رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا ( ؟ قلت
: بما قبل الاستثناء ، وهو من جملة الأسوة الحسنة . ويجوز أن يكون المعنى : قولوا
ربنا ، أمراً من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه ، وتعليماً منه لهم تتميماً لما
وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار ، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة
منهم ، وتنبيهاً على الإنابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر ،
والاستغفار مما فرط منهم . وقرى : ( برآء ) كشركاء . وبراء كظراف . وبراء على
إبدال الضم من الكسر ، كرخال ورباب . وبراء على الوصف بالمصدر . والبراء والبراءة
كالظماء والظماءة .
) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الاٌّ خِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ
الْحَمِيدُ (
الممتحنة : ( 6 ) لقد كان لكم . . . . .
ثم كرّر الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم ، ولذلك جاء به
مصدراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد ، وأبدل عن قوله : ) لَكُمْ ( قوله : )
لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ ( وعقبه بقوله : ) وَمَن
يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ( فلم يترك نوعاً من
" صفحة رقم 514 "
التأكيد إلا جاء به .
) عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم
مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (
الممتحنة : ( 7 ) عسى الله أن . . . . .
ولما نزلت هذه الآيات : تشدَّد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم
من المشركين ومقاطعتهم ، فلما رأى الله عز وجل منهم الجدّ والصبر على الوجه الشديد
وطول التمني للسبب الذي يبيح لهم الموالاة والمواصلة . رحمهم فوعدهم تيسير ما
تمنوه ، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم ، فأسلم قومهم ، وتمّ بينهم من
التحاب والتصافي ما تمّ . وقيل :
( 1160 ) تزوّج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمّ حبيبة ، فلانت عند ذلك عريكة
أبي سفيان واسترخت شكيمته في العداوة ، وكانت أمّ حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها
عبد الله بن أبي جحش إلى الحبشة ، فتنصر وأرادها على النصرانية ، فأبت وصبرت على
دينها ، ومات زوجها ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى النجاشي فخطبها
عليه ، وساق عنه إليها مهرها أربعمائة دينار ، وبلغ ذلك أباها فقال : ذلك الفحل لا
يقدع أنفه . و ) عَسَى ( وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج
: عسى أو لعل : فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك . أو قصد به إطماع المؤمنين ،
والله قدير على تقليب القلوب
" صفحة رقم 515 "
وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة ) وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( .
) لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ
وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ
فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (
الممتحنة : ( 8 ) لا ينهاكم الله . . . . .
) أَن تَبَرُّوهُمْ ( بدل من الذين لم يقاتلوكم . وكذلك ) أَن تَوَلَّوْهُمْ ( من
الذين قاتلوكم : والمعنى : لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء ، وإنما ينهاكم عن تولى هؤلاء
. وهذا أيضاً رحمة لهم لتشدّدهم وجدّهم في العداوة متقدّمة لرحمته بتيسير إسلام
قومهم ، حيث رخص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم .
وقيل : أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أن لا
يقاتلوه ولا يعينوا عليه . وعن مجاهد : هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا . وقيل :
هم النساء والصبيان . وقيل :
( 1161 ) قدمت على أسماء بنت أبي بكر أمّها قتيلة بنت عبد العزى وهي مشركة بهدايا
فلم تقبلها ولم تأذن لها في الدخول ، فنزلت ، فأمرها رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها . وعن قتادة : نسختها
آية القتال ) وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ ( وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم .
وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم ،
مترجمة عن حال مسلم يجترىء على ظلم أخيه المسلم .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ
فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ
وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ
تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْألُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْألُواْ
مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ
فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَاتَّقُواْ
اللَّهَ الَّذِى أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ
" صفحة رقم 516 "
(
الممتحنة : ( 10 - 11 ) يا أيها الذين . . . . .
) إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ ( سماهنّ مؤمنات لتصديقهنّ بألسنتهنّ ونطقهنّ
بكلمة الشهادة ولم يظهر منهنّ ما ينافي ذلك . أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهم
بالامتحان ) فَامْتَحِنُوهُنَّ ( فابتلوهن بالحلف والنظر في الأمارات ليغلب على
ظنونكم صدق إيمانهن .
( 1162 ) وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول للممتحنة : ( بالله الذي لا
إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج ، بالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، بالله ما
خرجت التماس دنيا ، بالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله ) ) اللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِهِنَّ ( منكم لأنكم لا تكسبون فيه علماً تطمئن معه نفوسكم ، وإن
استحلفتموهن ورزتم أحوالهن ، وعند الله حقيقة العلم به ) فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِنَاتٍ ( العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات )
فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ( فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين ،
لأنه لا حل بين المؤمنة والمشرك ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( وأعطوا
أزواجهنّ مثل ما دفعوا إليهنّ من
" صفحة رقم 517 "
المهور ، وذلك :
( 1163 ) أن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة ردّ إليهم ، ومن أتى
منكم مكة لم يردّ إليكم ؛ وكتبوا بذلك كتاباً وختموه ، فجاءت سبيعة بنت الحرث
الأسلمية مسلمة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافر
المخزومي . وقيل صيفي بن الراهب فقال : يا محمد ، أردد عليّ امرأتي فإنك قد شرطت
لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزلت بياناً لأن الشرط
إنما كان في الرجال دون النساء . وعن الضحاك : كان بين رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) وبين المشركين عهد : أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا
، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن تردّ على زوجها الذي أنفق عليها ، وللنبي ( صلى
الله عليه وسلم ) من الشرط مثل ذلك . وعن قتادة : ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد
براءة ، فاستحلفها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحلفت ، فأعطى زوجها ما أنفق
وتزوّجها عمر . فإن قلت : كيف سمى الظنّ علماً في قوله : ) فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ ( ؟ قلت : إيذاناً بأن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد
والقياس جار مجرى العلم ، وأن صاحبه غير داخل في قوله : ) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( ( الإسراء : 36 ) فإن قلت : فما فائدة قوله : ) اللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ( وذلك معلوم لا شبهة فيه ؟ قلت : فائدته بيان أن لا
سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن . فإنّ
ذلك مما استأثر به علام الغيوب ، وأن ما يؤدي إليه الامتحان من العلم كاف في ذلك ،
وأن تكليفكم لا يعدوه ؛ ثم نفى عنهم الجناح في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا آتوهنّ
أجورهنّ أي مهورهنّ ، لأن المهر أجر البضع ، ولا يخلو إما أن يراد بها ما كان يدفع
إليهنّ ليدفعنه إلى أزواجهنّ فيشترط في إباحة تزوجهنّ تقديم أدائه ، وإما أن يراد
أن ذلك إذا دفع إليهنّ على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس ، وإما أن
يبين لهم أن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق ، وبه احتج
أبو حنيفة على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً أو بذمة وبقي الآخر
حربياً : وقعت الفرقة ، ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها إلا أن تكون
حاملاً ) وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ( والعصمة ما يعتصم به من عقد
وسبب ، يعني : إياكم وإياهنّ ، ولا تكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية . قال
ابن عباس : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدنّ بها من نسائه ، لأن اختلاف
الدارين قطع عصمتها منه . وعن النخعي : هي المسلمة تلحق بدار
" صفحة رقم 518 "
الحر فتكفر . وعن مجاهد : أمرهم بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن ) ياأَيُّهَا
الَّذِينَ ءامَنُواْ ( من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ
ءامَنُواْ ( من مهور نسائهم المهاجرات . وقرىء : ( ولا تمسكوا ) بالتخفيف . ولا
تمسكوا بالتثقيل . ولا تمسكوا . أي : ولا تتمسكوا ) ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ( يعني
جميع ما ذكر في هذه الآية ) يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ( كلام مستأنف . أو حال من حكم
الله على حذف الضمير ، أي : يحكمه الله . أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة . روى
أنها لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى
أزواجهنّ المشركين ، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئاً من مهور الكوافر إلى أزواجهن
المسلمين ، فنزل قول : ) وَإِن فَاتَكُمْ ( وإن سبقكم وانفلت منكم ) شَىْءٌ ( من
أزواجكم : أحد منهن إلى الكفار ، وهو في قراءة ابن مسعود : أحد . فإن قلت : هل
لإيقاع شيء في هذا الموقع فائدة ؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه : أن لا يغادر شيء من
هذا الجنس وإن قل وحقر ، غير معوض منه تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه )
فَعَاقَبْتُمْ ( من العقبة وهي التوبة : شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من
أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه
كما يتعاقب في الركوب وغيره . ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر ، فآتوا من
فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة ، ولا تؤتوه زوجها الكافر ،
وهكذا عن الزهري : يعطي من صداق من لحق بهم . وقرىء : ( فأعقبتم ) فعقبتم بالتشديد
. فعقبتم بالتخفيف ، بفتح القاف وكسرها ، فمعنى أعقبتم : دخلتم في العقبة ، وعقبتم
: من عقبه إذا قفاه ، لأنّ كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم
بالتخفيف ، يقال : عقبه يعقبه . وعقبتم نحو تبعتم . وقال الزجاج : فعاقبتم
فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، والذي ذهبت زوجته كان يعطي من الغنيمة
المهر ، وفسر غيرها من القراآت فكانت العقبى لكم ، أي : فكانت الغلبة لكم حتى
غنمتم . وقيل : جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن
الإسلام ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة
بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة ، وبروع بنت عقبة كانت تحت
شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت
أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص . وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر ، فأعطاهم رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) مهور نسائهم من الغنيمة .
" صفحة رقم 519 "
) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن
لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ
يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ
أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (
الممتحنة : ( 12 ) يا أيها النبي . . . . .
) وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ ( وقرىء : ( يقتلن ) ، بالتشديد ، يريد : وأد
البنات ) وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ ( كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك . كنى
بالبهتان المفتري بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً ، لأنّ
بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين ) وَلاَ
يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ ( فيما تأمرهن به من المحسنات وتنهاهنّ عنه من المقبحات
. وقيل : كل ما وافق طاعة الله فهو معروف . فإن قلت : لو اقتصر على قوله : ) وَلاَ
يَعْصِينَكَ ( فقد علم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يأمر إلا بمعروف ؟
قلت : نبه بذلك على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي
والاجتناب . وروي :
( 1164 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة
الرجال : أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أسفل منه
يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً
من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعرفها فقال عليه الصلاة والسلام : (
أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً فرفعت هند رأسها وقالت : والله لقد عبدنا
الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على
الإسلام والجهاد ، فقال عليه الصلاة والسلام : و ( لا يسرقن ) فقالت : إنّ أبا
سفيان رجل شحيح ، وإني أصبت من ماله هنات ، فما أدري ، أتحل ليأم لا . فقال أبو
سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) وعرفها فقال لها : وإنك لهند بنت عتبة ؟ قالت : نعم فاعف عما سلف
يا نبي الله عفا الله عنك ، فقال : ( ولا يزنين ) : فقالت : أو تزني الحرة وفي
رواية : ما زنت منهن امرأة قط ، فقال عليه الصلاة والسلام ( ولا يقتلن أولادهن )
فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بنأبي
سفيان قد قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى
" صفحة رقم 520 "
استلقى ، وتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( لا يأتين ببهتان )
فقالت : والله إنّ البهتان لأمر قبيح ، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ،
فقال : ( ولا يعصينك في معروف ) فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن
نعصيك في شيء .
وقيل في كيفية المبايعة :
( 1165 ) دعا بقدح من ماء فعمس فيه يده ، ثم غمسن أيديهن . وقيل :
( 1166 ) صافحهن وكان على يده ثوب قطري . وقيل :
( 1167 ) كان عمر يصافحهن عنه .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاٌّ خِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ
أَصْحَابِ الْقُبُورِ (
الممتحنة : ( 13 ) يا أيها الذين . . . . .
روي أنّ بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم . فقيل
5" صفحة رقم 521 "
لهم ) لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً ( مغضوباً عليهم ) قَدْ يَئِسُواْ ( من أن يكون
لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهم يعلمون أنه
الرسول المنعوت في التوراة ) كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ ( من موتاهم أن يبعثوا
ويرجعوا أحياء . وقيل : ) مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( بيان للكفار ، أي : كما يئس
الكفار الذين قبروا من خير الآخرة ؛ لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1168 ) ( من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة .
" صفحة رقم 522 "
( سورة الصف )
مدنية ، وآياتها 14 ( نزلت بعد التغابن )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ
مَّرْصُوصٌ (
الصف : ( 1 ) سبح لله ما . . . . .
) لِمَ ( هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف
الجر في قولك : بم ، وفيم ، ومم ، وعم ، وإلام ، وعلام . وإنما حذفت الألف ؛ لأنّ
ما والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالهما كثيراً في كلام المستفهم ؛ وقد جاء استعمال
الأصل قليلاً والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان . ومن أسكن في الوصل فلإجرائه
مجرى الوقف ، كما سمع : ثلاثة ، أربعة : بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ،
وهذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الموعد . وروي أنّ المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال
: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ،
فدلهم الله تعالى على الجهاد في سبيله ، فولوا يوم أحد فعيرهم . وقيل : لما أخبر
الله بثواب شهداء بدر قالوا : لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ، ففروا يوم أحد
ولم يفوا . وقيل : كان الرجل يقول : قتلت ولم يقتل ، وطعنت ولم يطعن ، وضربت ولم
يضرب ، وصبرت ولم يصبر . وقيل :
( 1169 ) كان قد أذى المسلمين رجل ونكى فيهم ، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر ، فقال
عمر لصهيب : أخبر النبي عليه السلام أنك قتلته ، فقال : إنما قتلته لله
" صفحة رقم 523 "
ولرسوله ، فقال عمر : يا رسول الله قتله صهيب ، قال : كذلك يا أبا يحيى ؟ قال :
نعم ، فنزلت في المنتحل . وعن الحسن : نزلت في المنافقين . ونداؤهم بالإيمان :
تهكم بهم وبإيمانهم ؛ هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه قصد في ) كَبُرَ ( التعجب
من غير لفظه كقوله : غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَوَاءُهَا ;
ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين ؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء
خارج عن نظائره وأشكاله ، وأسند إلى أن تقولوا . ونصب ) مَقْتاً ( على تفسيره ،
دلالة على أنّ قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، لفرط تمكن المقت منه ؛
واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه . ومنه قيل : نكاح المقت ، للعقد على
الرابة ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيراً ، حتى جعل أشده وأفحشه . و ) عَندَ
اللَّهِ ( أبلغ من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته
وانزاحت عنه الشكوك . وعن بعض السلف أنه قيل له : حدّثنا ، فسكت ثم قيل له حدثنا ؛
فقال : تأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله . في قوله : ) إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ ( عقيب ذكر مقت المخلف : دليل على
أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار فلم يفوا . وقرأ زيد بن
علي ( يقاتلون ) بفتح التاء . وقرىء : ( يقتلون ) ) صَفّاً ( صافين أنفسهم أو
مصفوفين ) كَأَنَّهُم ( في تراصهم من غير فرجة ولا خلل ) بُنْيَانٌ ( رص بعضه إلى
بعض ورصف . وقيل : يجوز أن يريد استواء
" صفحة رقم 524 "
نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص . وعن بعضهم : فيه
دليل على فضل القتال راجلاً ؛ لأنّ الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة . وقوله : )
صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ ( حالان متداخلتان .
) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ
أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (
الصف : ( 5 ) وإذ قال موسى . . . . .
) وَإِذْ ( منصوب بإضمار اذكر . أو : وحين قال لهم ما قال كان كذا وكذا ) تُؤْذُونَنِى
( كانوا يؤذونه بأنواع الأذى من انتقاصه وعيبه في نفسه ، وجحود آياته ، وعصيانه
فيما تعود إليهم منافعه ، وعبادتهم البقر ، وطلبهم رؤية الله جهرة ، والتكذيب الذي
هو تضييع حق الله وحقه ) وَقَد تَّعْلَمُونَ ( في موضع الحال ، أي : تؤذونني
عالمين علماً يقيناً ) إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ( وقضية علمكم بذلك
وموجبه تعظيمي وتوقيري ، لا أن تؤذوني وتستهينوا بي ؛ لأن من عرف الله وعظمته عظم
رسوله ، علماً بأن تعظيمه في تعظيم رسوله ، ولأنّ من آذاه كان وعيد الله لاحقاً به
) فَلَمَّا زَاغُواْ ( عن الحق ) أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ( بأن منع ألطافه
عنهم ) وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( لا يلطف بهم
" صفحة رقم 525 "
لأنهم ليسوا من أهل اللطف . فإن قلت : ما معنى ( قد ) في قوله ) قَدْ تَعْلَمُونَ
( ؟ قلت : معناه التوكيد كأنه قال : وتعلمون علماً يقيناً لا شبهة لكم فيه .
) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنِّى رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم
بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (
الصف : ( 6 ) وإذ قال عيسى . . . . .
قيل : إنما قال : ( يا بني إسرائيل ) ولم يقل : يا قوم كما قال موسى ؛ لأنه لا نسب
له فيهم فيكونوا قومه . والمعنى : أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني ) مِنَ
التَوْرَاةِ ( وفي حال تبشيري ) بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى ( يعني : أن ديني
التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر . وقرىء : ( من بعدي ) ، بسكون
الياء وفتحها ، والخليل وسيبويه يختاران الفتح . وعن كعب : أن الحواريين قالوا
لعيسى : يا روح الله ، هل بعدنا من أمّة ؟ قال : نعم أمّة أحمد حكماء علماء أبرار
أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله
منهم باليسير من العمل . فإن قلت : بم انتصب مصدقاً ومبشراً ؟ أبما في الرسول من
معنى الإرسال أم بإليكم ؟ قلت : بل بمعنى الإرسال ؛ لأن ) إِلَيْكُم ( صلة للرسول
، فلا يجوز أن تعمل شيئاً لأن حروف الجرّ لا تعمل بأنفسها ، ولكن بما فيها من معنى
الفعل ؛ فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل ، فمنأين تعمل ؟ وقرىء : ( هذا ساحر
مبين ) .
) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى
الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (
الصف : ( 7 ) ومن أظلم ممن . . . . .
وأي الناس أشد ظلماً ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي له فيه سعادة
الدارين ، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله بقوله لكلامه الذي هو
دعاء عباده إلى الحق : هذا سحر ، لأنّ السحر كذب وتمويه . وقرأ طلحة بن مصرف : (
وهو يدعي ) ، بمعنى دعاه وادّعاه ، نحو : لمسه والتمسه . وعنه : يدّعي ، بمعنى
يدعو ، وهو الله عز وجل .
) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ
نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (
الصف : ( 8 ) يريدون ليطفئوا نور . . . . .
أصله ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ ( ( التوبة : 32 ) كما جاء في سورة براءة ،
وكأن هذه اللام زيدت مع
" صفحة رقم 526 "
فعل الإرادة تأكيداً له ، لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لإكرامك ، كما
زيدت اللام في : لا أبالك ، تأكيداً لمعنى الإضافة في : لا أباك ، وإطفاء نور الله
بأفواههم : تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن : هذا سحر ، مثلت
حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه ( والله متمّ نوره ) أي متمّ الحق
ومبلغه غايته . وقرىء : بالإضافة .
) هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (
الصف : ( 9 ) هو الذي أرسل . . . . .
) وَدِينِ الْحَقّ ( الملة الحنفية ) لِيُظْهِرَهُ ( ليعليه ) عَلَى الدّينِ
كُلّهِ ( على جميع الأديان المخالفة له ؛ ولعمري لقد فعل ، فما بقي دين من الأديان
إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام . وعن مجاهد : إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا
دين الإسلام . وقرىء : ( أرسل نبيه ) .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم
مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى
سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى
مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ
قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (
الصف : ( 10 ) يا أيها الذين . . . . .
) تُنجِيكُم ( قرىء مخففاً ومثقلاً . و ) تُؤْمِنُونَ ( استئناف ، كأنهم قالوا :
كيف : نعمل ؟ فقال : تؤمنون ، وهو خبر في معنى الأمر ؛ ولهذا أجيب بقوله : )
لِيَغْفِرَ لَكُمْ ( وتدل عليه قراءة ابن مسعود : آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا .
فإن قلت : لم جيء به على
" صفحة رقم 527 "
لفظ الخبر ؟ قلت : للإيذان بوجوب الامتثال ، وكأنه امتثل فهو يخبر عن إيمان وجهاد
موجودين . ونظيره قول الداعي : غفر الله لك ، ويغفر الله لك : جعلت المغفرة لقوّة
الرجاء ، كأنها كانت ووجدت . فإن قلت : هل لقول القراء أنه جواب ) هَلْ
أَدُلُّكُمْ ( وجه ؟ قلت : وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة ، والتجارة مفسرة
بالإيمان والجهاد ؛ فكأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم ؟ فإن قلت :
فما وجه قراءة زيد بن علي رضي الله عنهما : ) تُؤْمِنُواْ ( ؟ قلت : وجهها أن تكون
على إضمار لام الأمر ، كقوله : مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْس
إذَا مَا خفت مِنْ أَمْرٍ قَبَالاَ
وعن ابن عباس أنهم قالوا : لو نعم أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، فنزلت هذه الآية
، فمكثوا ما شاء الله يقولون : ليتنا نعلم ما هي ، فدلهم الله عليها بقوله : )
مَّا تُؤْمِنُونَ ( وهذا دليل على أن ) تُؤْمِنُونَ ( كلام مستأنف ، وعلى أنّ
الأمر الوارد على النفوس بعد تشوّف وتطلع منها إليه : أوقع فيها وأقرب من قبولها
له مما فوجئت به ) ذَلِكُمْ ( يعني ما ذكر من الإيمان والجهاد ) خَيْرٌ لَّكُمْ (
من أموالكم وأنفسكم . فإن قلت : ما معنى قوله : ) إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ؟ قلت
: معناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيراً لكم حينئذٍ ؛ لأنكم إذا علمتم ذلك
واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم ، فتخلصون
وتفلحون ) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ( ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة
والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم ، ثم فسرها بقوله : ) نَصْرٌ مّن
اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ( أي عاجل وهو فتح مكة . وقال الحسن : فتح فارس والروم .
وفي ) تُحِبُّونَهَا ( شيء من التوبيخ على محبة العاجل . فإن قلت : علام عطف قوله
) وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ؟ قلت : على ) تُؤْمِنُونَ ( لأنه في معنى الأمر ،
كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك .
فإن قلت : لم نصب من قرأ نصراً من الله وفتحاً قريباً ؟ قلت : يجوز أن ينصب على
الاختصاص . أو على تنصرون نصراً ، ويفتح
" صفحة رقم 528 "
لكم فتحاً . أو على : يغفر لكم ويدخلكم جنات ، ويؤتكم أخرى نصراً من الله وفتحاً .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَأامَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِى
إِسْرَاءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ (
الصف : ( 14 ) يا أيها الذين . . . . .
قرىء : ( كونوا أنصار الله وأنصاراً لله ) . وقرأ ابن مسعود : ( كونوا أنتم أنصار
الله ) . وفيه زيادة حتم للنصرة عليهم . فإن قلت : ما وجه صحة التشبيه وظاهره
تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى صلوات الله عليه : ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ
( ؟ قلت : التشبيه محمول على المعنى ، وعليه يصح . والمراد : كونوا أنصار الله كما
الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ( . فإن قلت :
ما معنى قوله : ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ( ؟ قلت : يجب أن يكون معناه
مطابقاً لجواب الحواريين ) نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( والذي يطابقه أن يكون
المعنى : من جندي متوجهاً إلى نصرة الله ، وإضافة ) أَنصَارِى ( خلاف إضافة )
أَنْصَارُ اللَّهِ ( فإنّ معنى ) نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( : نحن الذين ينصرون
الله . ومعنى ) مَنْ أَنصَارِى ( من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة
الله ؛ ولا يصح أن يكون معناه : من ينصرني مع الله ؛ لأنه لا يطابق الجواب . والدليل
عليه : قراءة من قرأ : ( من أنصار الله ) . والحواريون أصفياؤه وهم أوّل من آمن به
وكانوا اثنى عشر رجلاً ؛ وحواري الرجل : صفيه وخلصانه من الحوار وهو البياض الخالص
. والحوّاري : الدرمك . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1170 ) ( الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي ) وقيل : كانوا قصارين يحوّرون الثياب
يبيضونها . ونظير الحواري في زنته : الحوالي : الكثير الحيل ) يأَيُّهَا الَّذِينَ
( منهم بعيسى ) وَكَفَرَت ( به ) طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا ( مؤمنيهم على كفارهم ،
فظهروا عليهم . وعن زيد بن علي : كان ظهورهم بالحجة .
" صفحة رقم 529 "
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1171 ) ( من قرأ سورة الصف كان عيسى مصلياً عليه مستغفراً له ما دام في الدنيا
وهو يوم القيامة رفيقه ) .
" صفحة رقم 530 "
( سورة الجمعة )
مدنية ، وآياتها 11 ( نزلت بعد الصف )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ الْمَلِكِ
الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ
وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(
الجمعة : ( 1 ) يسبح لله ما . . . . .
قرئت صفات الله عزّ وعلا بالرفع على المدح ، كأنه قيل : هو الملك القدوس ، ولو
قرئت منصوبة لكان وجها ، كقول العرب : الحمد لله أهل الحمد . الأمي : منسوب إلى
أمّة العرب ، لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم . وقيل : بدأت
الكتابة بالطائف ، أخذوها من أهل الحيرة ، وأهل الحيرة من أهل الأنبار . ومعنى )
بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ ( بعث رجلاً أمياً في قوم أميين ، كما
جاء في حديث شعياء : أني أبعث أعمى في عميان ، وأميّاً في أميين وقيل منهم ، كقوله
تعالى : ) مّنْ أَنفُسِكُمْ ( ( التوبة : 128 ) يعلمون نسبه وأحواله . وقرىء : (
في الأمين ) ، بحذف ياءي النسب ) يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ ( يقرؤها عليهم مع
كونه أميّاً مثلهم لم تعهد منه قراءة ولم يعرف بتعلم ، وقراءة أمي بغير تعلم أية
بينة ) وَيُزَكّيهِمْ ( ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية ) وَيُعَلّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ( القرآن والسنة . وإن في ) وَإِن كَانُواْ ( هي المخففة
من الثقيلة واللام دليل عليها ، أي : كانوا في ضلال لا ترى ضلالاً أعظم منه )
وَءاخَرِينَ ( مجرور عطف على الأميين ، يعني : أنه بعثه في الأميين الذين على عهده
، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم ، وهم الذين بعد الصحابة
رضي الله عنهم . وقيل :
" صفحة رقم 531 "
لما نزلت قيل : من هم يا رسول الله ، فوضع يده على سلمان ثم قال : ( لو كان
الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء ) وقيل : هم الذين يأتون من بعدهم إلى
يوم القيامة ، ويجوز أن ينتصب عطفاً على المنصوب في ) وَيُعَلّمُهُمُ ( أي :
يعلمهم ويعلم آخرين ؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستنداً إلى
أوّله ، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه ) وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( في
تمكينه رجلاً أميّاً من ذلك الأمر العظيم ، وتأييده عليه ، واختياره إياه من بين
كافة البشر ) ذَلِكَ ( الفضل الذي أعطاه محمداً وهو أن يكون نبي أبناء عصره ، ونبي
أبناء العصور الغوابر . هو ) فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( إعطاءه
وتقتضيه حكمته .
) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ
بِأايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (
الجمعة : ( 5 ) مثل الذين حملوا . . . . .
شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقرّاؤها وحفاظ ما فيها ، ثم إنهم غير عاملين بها
ولا منتفعين بآياتها ، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
والبشارة به ولم يؤمنوا به بالحمار حمل أسفاراً ، أي كتباً كباراً من كتب العلم ،
فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب . وكل من علم
ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ، وبئس المثل ) بِئْسَ ( مثلاً ) مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ ( وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله
الدالة على صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . ومعنى : ) حُمّلُواْ
التَّوْرَاةَ ( : كلفوا علمها والعمل بها ، ) ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ( ثم لم
يعملوا بها ، فكأنهم لم يحملوها . وقرىء : ( حملوا التوراة ) ، أي حملوها ثم لم
يحملوها في الحقيقة لفقد العمل . وقرىء : ( يحمل الأسفار ) فإن قلت : ( يحمل ) ما
محله ؟ قلت : النصب على الحال ، أو الجر على الوصف ؛ لأنّ الحمار كاللئيم في قوله
: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ;
) قُلْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ
لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ
يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ
مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 7 )
الجمعة : ( 6 ) قل يا أيها . . . . .
" صفحة رقم 532 "
هاد يهود : إذا تهود ) أَوْلِيَاء لِلَّهِ ( كانوا يقولون . نحن أبناء الله
وأحباؤه ، أي : إن كان قولكم حقاً وكنتم على ثقة ) فَتَمَنَّوُاْ ( عى الله أن
يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه ، ثم قال : ) وَلاَ
يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً ( بسبب ما قدّموا من الكفر ، وقد قال لهم رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) :
( 1172 ) ( والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه ) فلولا أنهم كانوا
موقنين بصدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لتمنوا ، ولكنهم علموا أنهم لو
تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد ، فما تمالك أحد منهم أن يتمنى ؛ وهي إحدى
المعجزات . وقرىء : ( فتمنوا الموت ) بكسر الواو ، تشبيهاً بلو استطعنا . ولا فرق
بين ( لا ) و ( لن ) في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل ، إلا أن في ( لن )
تأكيداً وتشديداً ليس في ( لا ) فأتى مرّة بلفظ التأكيد ) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ ( (
البقرة : 95 ) ومرّة بغير لفظه ) وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ ( ( الجمعة : 7 ) ثم قيل
لهم ) إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ ( ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن
تؤخذوا بوبال كفركم ؛ لا تفوتونه وهو ملاقيكم لا محالة ) ثُمَّ تُرَدُّونَ ( إلى
الله فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه : إنه
ملاقيكم . وفي قراءة ابن مسعود : تفرون منه ملاقيكم ، وهي ظاهرة . وأما التي
بالفاء ، فلتضمن الذي معنى الشرط ، وقد جعل ) إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ
مِنْهُ ( كلاماً برأسه في قراءة زيد ، أي : أنّ الموت هو الشيء الذي تفرّون منه ،
ثم استؤنف : إنه ملاقيكم .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ مِن يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ
فَانتَشِرُواْ فِى الاٌّ رْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ
اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (
الجمعة : ( 9 ) يا أيها الذين . . . . .
(يوم الجمعة ) يوم الفوج المجموع ، كقولهم : ضحكة ، للمضحوك منه . و ( يوم الجمعة
) ، بفتح الميم : يوم الوقت الجامع ، كقولهم : ضحكة ، ولعنة ، ولعبة ؛ ويوم الجمعة
تثقيل للجمعة ، كما قيل : عسرة في عسرة . وقرىء : بهن جميعاً . فإن قلت : من في
قوله : ) مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ ( ما هي ؟ قلت : هي بيان لإذا وتفسير له . والنداء
: الأذان . وقالوا : المراد به الأذان عند قعود الإمام على المنبر ، وقد :
" صفحة رقم 533 "
( 1173 ) كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مؤذن واحد ، فكان إذا جلس على
المنبر أذن على باب المسجد ؛ فإذا نزل أقام للصلاة ، ثم كان أبو بكر وعمر رضي الله
عنهما على ذلك ؛ حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذناً آخر ،
فأمر بالتأذين الأوّل على داره التي تسمى زوراء ، فإذا جلس على المنبر : أذن
المؤذن الثاني ، فإذا نزل أقام للصلاة ، فلم يعب ذلك عليه . وقيل : أول من سماها (
جمعة ) كعب بن لؤي ، وكان يقال لها : العروبة . وقيل :
( 1174 ) إنّ الأنصار قالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصارى مثل
ذلك ؛ فهلموا نجعل لنا يوم نجتمع فيه فنذكر الله فيه ونصلى . فقالوا : يوم السبت
لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوا يوم العروبة فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة
فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكرهم ، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، فأنزل الله آية
الجمعة ، فهي أوّل جمعة ، كانت في الإسلام وأما أوّل جمعة جمعها رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ، فهي :
( 1175 ) أنه لما قدم المدينة مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف ، وأقام بها
يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة
عامداً المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، فخطب
وصلى الجمعة . وعن بعضهم : قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث : افتخروا بأنهم
أولياء الله وأحباؤه ، فكذبهم في قوله : ) فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ
صَادِقِينَ ( ( الجمعة : 6 ) وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار
يحمل أسفاراً ؛ وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة . وعن النبي
( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 534 "
:
( 1176 ) ( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ،
وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تقوم الساعة ، وهو عند الله يوم المزيد . وعنه عليه
السلام :
( 1177 ) ( أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء وقال : هذه الجمعة يعرضها عليك ربك
لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك ، وهو سيد الأيام عندنا ، ونحن ندعوه إلى الآخرة
يوم المزيد ) . وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1178 ) ( إنّ لله تعالى في كل جمعة ستمائة ألف عتيق من النار . وعن كعب : إنّ
الله فضل من البلدان : مكة ، ومن الشهور : رمضان ، ومن الأيام : الجمعة . وقال
عليه الصلاة والسلام :
( 1179 ) ( ومن مات يوم الجمعة
" صفحة رقم 535 "
قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب ، يكتبون
الأوِّل فالأوَّل على مراتبهم ) وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر
مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج . وقيل : أوّل بدعة أحدثت في الإسلام :
ترك البكور إلى الجمعة . وعن ابن مسعود : أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه ، فاغتم
وأخذ يعاتب نفسه يقول : أراك رابع أربعة وما رابع أربعة بسعيد . ولا تقام الجمعة
عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا في مصر جامع ، لقوله عليه السلام :
( 1181 ) ( لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع ) والمصر الجامع :
ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام ، ومن شروطها الإمام أو من يقوم مقامه ،
لقوله عليه السلام :
( 1182 ) ( فمن تركها وله إمام عادل أو جائر . . . الحديث ) وقوله ( صلى الله عليه
وسلم )
" صفحة رقم 536 "
:
( 1183 ) ( أربع إلى الولاة : الفيء ، والصدقات ، والحدود ، والجمعات ) . فإن أمّ
رجل بغير إذن الإمام أو من ولاه من قاض أو صاحب شرطة : لم يجز ؛ فإن لم يكن
الاستئذان فاجتمعوا على واحد فصلى بهم : جاز ، وهي تنعقد بثلاثة سوى الإمام . وعند
الشافعي بأربعين . ولا جمعة على المسافرين والعبيد والنساء والمرضى والزمني ، ولا
على الأعمى عند أبي حنيفة ، ولا على الشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد . وقرأ عمر وابن
عباس وابن مسعود وغيرهم : ( فامضوا ) . وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقرأ :
( فاسعوا ) . فقال : من أقرأك هذا ؟ قال أبيّ بن كعب ، فقال : لا يزال يقرأ
بالمنسوخ ، لو كانت ) فَاسْعَوْاْ ( لسعيت حتى يسقط ردائي . وقيل : المراد بالسعي
القصد دون العدو ، والسعي : التصرف في كل عمل . ومنه قوله تعالى : ) فَلَمَّا
بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ ( ( الصافات : 102 ) ، ) وَأَنَّهُ لَّيْسَ لِلإنسَانِ
إِلاَّ مَا سَعَى ( ( النجم : 39 ) وعن الحسن : ليس السعي على الأقدام ، ولكنه على
النيات والقلوب . وذكر محمد بن الحسن رحمه الله في موطئه : أن عمر سمع الإقامة وهو
بالبقيع فأسرع المشي . قال محمد : وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه ) إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ ( إلى الخطبة والصلاة ، ولتسمية الله الخطبة ذكراً له قال أبو حنيفة رحمه
الله : إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكراً لله كقوله : الحمد لله ، سبحان الله
: جاز . وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال : الحمد لله وأرتج عليه ، فقال : إن أبا
بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً ، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى
إمام قوّال ، وستأتيكم الخطب ، ثم
" صفحة رقم 537 "
نزل ، وكان ذلك بحضرة الصحابة ولم ينكر عليه أحد . وعند صاحبيه والشافعي : لا بد
من كلام يسمى خطبة . فإن قلت : كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها ذكر غير الله ؟
قلت : ما كان من ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والثناء عليه وعلى خلفائه
الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله ، فأمّا ما عدا
ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم ، وهم أحقاء بعكس ذلك ؛ فمن
ذكر الشيطان وهو من ذكر الله على مراحل ، وإذا قال المنصت للخطبة لصاحبه ( صه )
فقد لغا ، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لاغياً ، نعوذ بالله من غربة الإسلام
ونكد الأيام . أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا ، وإنما خص البيع
من بينها لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم ، وينصبون إلى
المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا انتفخ النهار
وتعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة ، وحينئذٍ تحرّ التجارة ويتكاثر البيع والشراء ،
فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد ، قيل لهم :
بادروا تجارة الآخرة ، واتركوا تجارة الدنيا ، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء
أنفع منه وأربح ) وَذَرُواْ الْبَيْعَ ( الذي نفعه يسير وربحه مقارب . فإن قلت :
فإذا كان البيع في هذا الوقت مأموراً بتركه محرماً ، فهل هو فاسد ؟ قلت : عامّة
العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع . قالوا : لأنّ البيع لم يحرم لعينه ، ولكن
لما فيه من الذهول عن الواجب ، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب ،
والوضوء بماء مغصوب ، وعن بعض الناس : أنه فاسد . ثم أطلق لهم ما حظر عليهم بعد
قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح ، مع التوصية بإكثار الذكر ، وأن لا يلهيهم
شيء من تجارة ولا غيرها عنه ، وأن تكون هممهم
" صفحة رقم 538 "
في جميع أحوالهم وأوقاتهم موكلة به لا ينفضون عنه ، لأنّ فلاحهم فيه وفوزهم منوط
به : وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ، إنما هو عيادة المرضى وحضور
الجنائز وزيارة أخ في الله : وعن الحسن وسعيد بن المسيب : طلب العلم ، وقيل : صلاة
التطوّع : وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا نظراً
في هذه الآية .
) وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ
قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَازِقِينَ (
الجمعة : ( 11 ) وإذا رأوا تجارة . . . . .
روي :
( 1184 ) أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من
زيت الشام والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب يوم الجمعة ؛ فقاموا إليه ، خشوا أن
يسبقوا إليه ، فما بقي معه إلا يسير . قيل : ثمانية ، وأحد عشر ، واثنا عشر ،
وأربعون ، فقال عليه السلام :
" صفحة رقم 539 "
( والذي نفس محمد بيده ، لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً ) وكانوا
إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق ، فهو المراد باللهو : وعن قتادة :
فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل مقدم عير . فإن قلت : فإن افتق تفرق الناس عن الإمام في
صلاة الجمعة كيف يصنع ؟ قلت : إن بقي وحده أو مع أقل من ثلاثة ، فعند أبي حنيفة :
يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع . وعند صاحبيه : إذا كبر وهم معه مضى فيها
. وعند زفر : إذا نفروا قبل التشهد بطلت . فإن قلت : كيف قال : ) إِلَيْهَا ( وقد
ذكر شيئين ؟ قلت : تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهوا انفضوا إليه ؛
فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، وكذلك قراءة من قرأ : ( انفضوا إليه ) . وقراءة
من قرأ : ( لهوا أو تجارة انفضوا إليها ) وقرىء : ( إليهما ) .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1185 ) ( من قرأ سورة الجمعة أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة وبعدد
من لم يأتها في أمصار المسلمين ) .
" صفحة رقم 540 "
( سورة المنافقون )
مدنية ، وهي إحدى عشرة آية ( نزلت بعد الحج )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ
كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (
المنافقون : ( 1 ) إذا جاءك المنافقون . . . . .
أرادوا بقولهم : ) نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ( شهادة واطأت فيها قلوبهم
ألسنتهم . فقال الله عزّ وجلّ : قالوا ذلك ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ( أن الأمر كما
يدل عليه قولهم : إنك لرسول الله ، والله يشهد أنهم لكاذبون في قولهم : نشهد ؛
وادعائهم فيه المواطأة . أو إنهم لكاذبون فيه ، لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن
شهادة في الحقيقة ؛ فهم كاذبون في تسميته شهادة . أو أراد : والله يشهد إنهم
لكاذبون عند أنفسهم : لأنهم كانوا يعتقدون أنّ قولهم : ) إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
( كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه . فإن قلت : أي فائدة في قوله تعالى :
) وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ( ؟ قلت : لو قال : قالوا نشهد إنك
لرسول الله والله يشهد إنهم الكاذبون ، لكان يوهم أنّ قولهم هذا كذب ؛ فوسط بينهما
قوله : ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ( ؟ ليميط هذا الإيهام )
اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ( يجوز أن يراد أنّ قولهم نشهد إنك لرسول الله
يمين من أيمانهم الكاذبة ، لأنّ الشهادة تجري مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد
، يقول الرجل : أشهد وأشهد بالله ، وأعزم وأعزم بالله في موضع أقسم وأولى . وبه
استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن ( أشهد ) يمين . ويجوز أن يكون
" صفحة رقم 541 "
وصفاً للمنافقين في استجنانهم بالأيمان . وقرأ الحسن البصري : إيمانهم ، أي : ما
أظهروه من الإيمان بألسنتهم . ويعضده قوله تعالى : ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ
ثُمَّ كَفَرُوا ( . ) سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( من نفاقهم وصدهم الناس عن
سبيل الله . وفي ) سَآءَ ( معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين ) ذَلِكَ
( إشارة إلى قوله : ) سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( أي ذلك القول الشاهد عليهم
بأنهم أسوأ الناس أعمالا ( ب ) سبب ( أنهم آمنوا ثم كفروا ) أو إلى ما وصف من
حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان ، أي : ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم
كفروا ) فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( فجسروا على كل عظيمة . فإن قلت : المنافقون
لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم ، فما معنى قوله : ) ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ
( ؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : آمنوا ، أي : نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما
يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا : ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وتبين بما أطلع عليه
من قولهم : إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن حمير ، وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع
هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات . ونحوه قوله تعالى : ) يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ
إِسْلَامِهِمْ ( ( التوبة : 74 ) أي : وظهر كفرهم بعد أن أسلموا . ونحوه قوله
تعالى : ) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ( ( التوبة : 66
) والثاني آمنوا : أي نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم
استهزاء بالإسلام ، كقوله تعالى : ) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( (
البقرة : 14 ) إلى قوله تعالى : ) إِنَّمَا نَحْنُ ( ( البقرة : 14 ) والثالث : أن
يراد أهل الردة منهم . وقرىء : ( فطبع على
" صفحة رقم 542 "
قلوبهم ) ، وقرأ زيد بن علي : ( فطبع الله ) .
) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
(
المنافقون : ( 4 ) وإذا رأيتهم تعجبك . . . . .
كان عبد الله بن أبيّ رجلاً جسيماً صبيحاً ، فصيحاً ، ذلق اللسان وقوم من
المنافقين في مثل صفته ، وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) فيستندون فيه ، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ؛ فكان النبي (
صلى الله عليه وسلم ) ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم . فإن قلت : ما
معنى قوله : ) لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ( ؟ قلت : شبهوا في
استنادهم وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط ؛
ولأنّ الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما
دام متروكاً فارغاً غير منتفع به أسند إلى الحائط ، فشبهوا به في عدم الانتفاع .
ويجوز أن يراد بالخشب المسندة : الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان ؛
شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم ؛ والخطاب في ) رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ (
لرسول الله ، أو لكل من يخاطب . وقرىء : ( يُسمع ) على البناء للمفعول ، وموضع )
كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ ( رفع على : هم كأنهم خشب . أو هو كلام مستأنف لا محل له .
وقرىء : ( خشب ) جمع خشبة ، كبدنة وبدن . وخشب ، كثمرة وثمر . وخشب ، كمدرة ومدر ،
وهي في قراءة ابن عباس . وعن اليزيدي أنه قال في ) خُشُبٌ ( : جمع خشباء ،
والخشباء : الخشبة التي دعر جوفها : شبهوا بها في نفاقهم وفساد بواطنهم )
عَلَيْهِمْ ( ثاني مفعولي يحسبون ، أي : يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم ،
لجبنهم وهلعهم وما في قلوبهم من الرعب : إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة
أو أنشدت ضالة : ظنوه
" صفحة رقم 543 "
إيقاعاً بهم . وقيل : كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح
دماءهم وأموالهم . ومنه أخذ الأخطل : مَا زِلْتَ تَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُم
خَيْلاَ تَكِرُّ عَلَيْهِمُ وَرِجَالاَ
يوقب على ) عَلَيْهِمْ ( ويبتدأ ) هُمُ الْعَدُوُّ ( أي الكاملون في العداوة :
لأنّ أعدى الأعداء العدوّ المداجي ، الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي )
فَاحْذَرْهُمْ ( ولا تغترر بظاهرهم . ويجوز أن يكون ) هُمُ الْعَدُوُّ ( المفعول
الثاني ، كما لو طرحت الضمير . فإن قلت : فحقه أن يقال : هي العدوّ . قلت : منظور
فيه إلى الخبر ، كما في ذكر في ) هَاذَا رَبّى ( ( الأنعام : 76 ) وأن يقدر مضاف
محذوف على : يحسبون كل أهل صحية ) قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ( دعاء عليهم ، وطلب من
ذاته أن يلعنهم ويخزيهم . أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك ) أَنَّى
يُؤْفَكُونَ ( كيف يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم .
) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ
لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَآءٌ
عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (
المنافقون : ( 5 - 6 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ ( عطفوها وأمالوها إعراضاً عن ذلك واستكباراً . وقرىء
بالتخفيف والتشديد للتكثير .
) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ
حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَلَاكِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الاٌّ عَزُّ مِنْهَا الاٌّ ذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (
المنافقون : ( 7 ) هم الذين يقولون . . . . .
روى :
( 1186 ) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين لقي بني المصطلق على
" صفحة رقم 544 "
المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم : ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر
يقود فرسه ، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبيّ ، واقتتلا ، فصرخ جهجاء : يا
للمهاجرين : وسنان : يا للأنصار ؛ فأعان جهجاها جعال من فقراء المهاجرين ولطم
سنانا . فقال عبد الله لجعال . وأنت هناك ، وقال : ما صحبنا محمداً إلا لنلطم ، والله
ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة
ليخرجنّ الأعز منها الأذل ، عنى بالأعز : نفسه ، وبالأذل ، رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، ثم قال لقومه : ماذا فعلتم بأنفسكم ؟ أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم
أموالكم ؛ أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ،
ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فسمع بذلك
زيد بن أرقم وهو حدث ، فقال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمد في
عزّ من الرحمن وقوّة من المسلمين ، فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب ؛ فأخبر
زيد رسول الله فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله ، فقال : إذن
ترعد أنف كثيرة بيثرب . قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجري . فأمر به أنصارياً فقال :
فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه ؛ وقال عليه الصلاة والسلام لعبد
الله : أنت صاحب الكلام الذي بلغني ؟ قال : والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت
شيئاً من ذلك ، وإن زيداً لكاذب ، وهو قوله تعالى : ) اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ
جُنَّةً ( ( المنافقون : 2 ) فقال الحاضرون : يا رسول الله : شيخنا وكبيرنا لا
تصدق عليه كلام غلام ، عسى أن يكون قد وهم . وروى أن رسول الله قال له : لعلك غضبت
عليه ؛ قال : لا ؛ قال : فلعله أخطأ سمعك ؛ قال : لا ؛ قال : فلعله شبه عليك ؛ قال
: لا . فلما نزلت : لحق رسول الله زيداً من خلفه فعرك أذنه وقال : وفت أذنك يا
غلام ، إنّ الله قد صدقك وكذب المنافقين . ولما أراد عبد الله أن يدخل المدينة :
اعترضه ابنه حباب ، وهو عبد الله بن عبد الله غير رسول الله اسمه ، وقال : إنّ
حباباً اسم شيطان . وكان مخلصاً وقال : وراءك ، والله ؛ لا تدخلها حتى تقول رسول
الله الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيساً في يده حتى أمره رسول الله بتخليته . وروي
أنه قال له : لئن لم تقرّ لله ورسوله بالعز لأضربن عنقك ، فقال : ويحك ، أفاعل أنت
؟ قال : نعم . فلما رأى منه الجدّ قال :
" صفحة رقم 545 "
أشهد أنّ العز لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال رسول الله لابنه : ( جزاك الله عن
رسوله وعن المؤمنين خيراً ) ؛ فلما بان كذب عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد
، فاذهب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال :
أمرتموني أن أومن فآمنت ، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت ، فما بقي إلا أن أسجد
لمحمد ، فنزلت : ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ
اللَّهِ ( ( المنافقون : 5 ) ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات ) سَوَاء
عَلَيْهِمْ ( الاستغفار وعدمه ، لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم . أو
لأن الله لا يغفر لهم . وقرىء : ( استغفرت ) على حذف حرف الاستفهام ؛ لأنّ ( أم )
المعادلة تدل عليه . وقرأ أبو جعفر ( آستغفرت ) ، إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار
والبيان ، لا قلبا لهمزة الوصل ألفاً ، كما في : آلسحر ، وآلله ) يَنفَضُّواْ (
يتفرقوا . وقرىء : ( ينفضوا ) من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم . وحقيقته : حان لهم
أن ينفضوا من أودهم ) وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( وبيده
الأرزاق والقسم ، وفهو رازقهم منها ؛ وإن أبي أهل المدينة أن ينفقوا عليهم ، ولكن
عبد الله وأضرابه جاهلون ) لاَّ يَفْقَهُونَ ( ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان .
وقرىء : ( ليخرجنّ الأعز منها الأذل ) بفتح الياء . وليخرجنّ ، على البناء للمفعول
. قرأ الحسن وابن أبي عبلة : لنخرجنّ ، بالنون ونسب الأعز والأذل . ومعناه : خروج
الأذل . أو إخراج الأذل . أو مثل الأذل ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ ( الغلبة والقوّة ،
ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين ، وهم الأخصاء بذلك ، كما أنّ المذلة
والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين . وعن بعض الصالحات وكانت في هيثة
رثة ألست على الإسلام ؟ وهو العز الذي لا ذل معه ، والغني الذي لا فقر معه . وعن
الحسن بن علي رضي الله عنهما : أنّ رجلاً قال له : إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيهاً
؛ قال : ليس بتيه ، ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ
أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ (
المنافقون : ( 9 ) يا أيها الذين . . . . .
) لاَ تُلْهِكُمْ ( لا تشغلكم ) أَمْوالَكُمْ ( والتصرف فيها : والسعي في تدبير
أمرها : والتهالك على طلب النماء فيها بالتجارة والاغتلال ، وابتغاء النتاج
والتلذذ بها ؛ والاستمتاع بمنافعها ) وَلاَ أَوْلَادُكُمْ ( وسروركم بهم ، وشفقتكم
عليهم ، والقيام بمؤنهم ، وتسوية ما يصلحهم من معايشهم في حياتكم وبعد مماتكم ،
وقد عرفتم قدر منفعة الأموال والأولاد ، وأنه أهون شيء وأدونه في جنب ما عند الله
) عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( وإيثاره عليها ) وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ( يريد الشغل
بالدنيا عن الدين ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( في تجارتهم حيث
" صفحة رقم 546 "
باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني . وقيل : ذكر الله الصلوات الخمس . وعن الحسن
: جميع الفرائض ، كأنه قال : عن طاعة الله . وقيل : القرآن . وعن الكلبي : الجهاد
مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
) وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ
أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (
المنافقون : ( 10 - 11 ) وأنفقوا من ما . . . . .
) من ( في ) مَا رَزَقْنَاكُمْ ( للتبعيض ، والمراد : الإنفاق الواجب ) مّن قَبْلِ
أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ( من قبل أن يرى دلائل الموت ، ويعاين ما ييأس
معه من الإمهال ، ويضيق به الخناق ، ويتعذر عليه الإنفاق ويفوت وقت القبول ،
فيتحسر على المنع ، ويعضّ أنامله على فقد ما كان متمكناً منه . وعن ابن عباس رضي
الله عنه : تصدّقوا قبل أن ينزل عليك سلطان الموت ، فلا تقبل متمكناً منه . وعن
ابن عباس رضي الله عنه : تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت ، فلا تقبل توبة ،
ولا ينفع عمل . وعنه : ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي ، وإذا أطاق الحج أن
يحج من قبل أن يأتيه الموت ، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها . وعنه : أنها نزلت في ما
نعى الزكاة ، ووالله لو رأى خيراً لما سأل الرجعة ، فقيل له : أما تتقي الله ،
يسأل المؤمنون الكرة ؟ قال : نعم ، أنا أقرأ عليكم به قرآنا ، يعني : أنها نزلت في
المؤمنين وهم المخاطبون بها ، وكذا عن الحسن : ما من أحد لم يزك ولم يصم ولم يحج
إلا سأل الرجعة . وعن عكرمة أنها نزلت في أهل القبلة ) لَوْلا أَخَّرْتَنِى ( .
وقرىء : ( أخرتن ) ، يريد : هلا أخرت موتى ) إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ( إلى زمان قليل
) فَأَصَّدَّقَ ( وقرأ أبي فأتصدق على الأصل . وقرى : ( وأكن ) ، عطفاً على محل )
فَأَصَّدَّقَ ( كأنه قيل : إن أخرتني أصدّق وأكن . ومن قرأ : ( وأكون ) على النصب
، فعلى اللفظ . وقرأ عبيد بن عمير : ( وأكون ) ، على ( وأنا أكون ) عدة منه
بالصلاح ) وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ ( نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه
منافاة المنفي الحكمة . والمعنى : إنكم إذا علمتم أنّ تأخير الموت عن وقته مما لا
سبيل إليه . وأنه هاجم لا محالة ، وأنّ الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها ، من منع
واجب وغيره : لم تبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات والاستعداد للقاء
الله . وقرىء : ( تعملون ) ؛ بالتاء والياء . عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
:
( 1187 ) ( من قرأ سورة المنافقين بريء من النفاق ) .
" صفحة رقم 547 "
( سورة التغابن )
مختلف فيها ، وهي ثمان عشرة آية ( نزلت بعد التحريم )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ
فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ
وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ
(
التغابن : ( 1 ) يسبح لله ما . . . . .
قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل ، وذلك
لأنّ الملك على الحقيقة له ، لأنه مبديء كل شيء ومبدعه ، والقائم به ، والمهيمن
عليه ؛ وكذلك الحمد ، لأنّ أصول النعم وفروعها منه . وأما ملك غيره فتسليط منه
واسترعاء ، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده ) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ
فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ( يعني : فمنكم آت بالكفر وفاعل له ومنكم
آت بالإيمان وفاعل له ، كقوله تعالى : ( وجعلنا في ذريتهما النبوّة والكتاب ) ، (
فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) والدليل عليه قوله تعالى : ) وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( أي عالم بكفركم وإيمانكم
" صفحة رقم 548 "
اللذين هما من عملكم . والمعنى : هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق
والإيجاد عن العدم ، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح ، وتكونوا بأجمعكم عباداً
شاكرين ، فما فعلتم مع تمكنكم ، بل تشعبتم شعباً ، وتفرقتم أمماً ؛ فمنكم كافر
ومنكم مؤمن ، وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم . وقيل : هو الذي خلقكم
فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ، ومنكم مؤمن به . فإن قلت : نعم ، إن العباد هم
الفاعلون للكفر ، ولكن قد سبق في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر
ولم يختاروا غيره ، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم ؟ وهل خلق القبيح
وخلق فاعل القبيح إلا واحد ؟ وهل مثله إلا مثل من وهب سيفا باترا لمن شهر بقطع
السبيل وقتل النفس المحرّمة فقتل به مؤمنا ؟ أما يطبق العقلاء على ذم الواهب
وتعنيفه والدق في فروته كما يذمون القاتل ؟ بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد ؟
قلت : قد علمنا أنّ الله حكيم عالم بقبح القبيح عالم بغناه عنه ، فقد علمنا أن
أفعاله كلها حسنة ، وخلق فاعل القبيح فعله ، فوجب أن يكون حسناً ، وأن يكون له وجه
حسن ؛ وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه ، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته
جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها ) بِالْحَقِّ ( بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وهو
أن جعلها مقارّ المكلفين ليعملوا فيجازيهم ) وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
( وقرىء : ( صوركم ) بالكسر ، لتشكروا . وإليه مصيركم فجزاؤكم على الشكر والتفريط
فيه . فإن قلت : كيف أحسن صوركم ؟ قلت : جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه ، بدليل أن
الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور . ومن حسن صورته
أنه خلق منتصباً غير منكب ، كما قال عز وجل : ) فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( ( التين
: 4 ) . فإن قلت : فيكم من دميم مشوّه الصورة سمج الخلقة تقتحمه العيون ؟ قلت : لا
سماجة ثم ولكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب ، فلانحطاط بعض الصور عن
مراتب ما فوقها انحطاطاً بيناً وإضافتها إلى الموفى عليها لا تستملح ، وإلا فهي
داخلة في حيز الحسن غير خارجة عن حدّه . ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا
ترى الدنيا بها ، ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن منها فينبو عن الأولى طرفك ،
وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها . وقالت الحكماء : شيئان لا
غاية لهما : الجمال ، والبيان . نبه بعلمه ما في السموات
" صفحة رقم 549 "
والأرض ، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه ، ثم بعلمه ذوات الصدور : أن شيئاً من
الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه ، فحقه أن يتقي ويحذر ولا يجترأ على
شيء مما يخاف رضاه . وتكوير العلم في معنى تكرير الوعيد ، وكل ما ذكره بعد قوله
تعالى : ) فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ( ( التغابن : 2 ) كما ترى في
معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته فما أجهل من يمزج
الكفر بالخلق ويجعله من جملته ، والخلق : أعظم نعمة من الله على عباده ، والكفر :
أعظم كفران من العباد لربهم .
) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَالِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ
رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ
وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ (
التغابن : ( 5 ) ألم يأتكم نبأ . . . . .
) أَلَمْ يَأْتِكُمْ ( الخطاب لكفار مكة . ) ذَالِكَ ( إشارة إلى ما ذكر من الوبال
الذي ذاقوه في الدنيا وما أعدّ لهم من العذاب في الآخرة ) بِأَنَّهُ ( بأنّ الشأن
والحديث ) كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ( أنكروا أن تكون
الرسل بشراً ، ولم ينكروا أن يكون الله حجراً ) وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ( أطلق
ليتناول كل شيء ، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم . فإن قلت : قوله : ) وَتَوَلَّواْ
وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ( يوهم وجود التولي والاستغناء معاً ، والله تعالى لم يزل
غنياً . قلت : معناه : وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم
إليه مع قدرته على ذلك .
) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (
التغابن : ( 7 ) زعم الذين كفروا . . . . .
الزعم : ادعاء العلم : ومنه قوله عليه السلام :
( 1188 ) ( زعموا مطية الكذب ) وعن شريح : لكل شيء كنية وكنية لكذب ( زعموا )
ويتعدّى إلى المفعولين تعدّي العلم . قال : . . . وَلَمْ أَزْعُمكِ عَنْ ذَاكَ
مَعْزِلاَ
" صفحة رقم 550 "
;
وإن مع ما في حيزه قائم مقامهما . والذين كفروا . أهل مكة . و ) بَلَى ( إثبات لما
بعد لن ، وهو البعث ) وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( أي لا يصرفه عنه صارف .
وعنى برسوله والنور : محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن .
) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن
يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ
وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ
أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ
بِأايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (
التغابن : ( 9 ) يوم يجمعكم ليوم . . . . .
وقرىء : ( نجمعكم ) ونكفر . وندخله ، بالياء والنون . فإن قلت : بم انتصب الظرف ؟
قلت : بقوله : لتنبئون ، أو بخبير ، لما فيه من معنى الوعيد ، كأنه قيل : والله
معاقبكم يوم يجمعكم أو بإضمار ( اذكر ) ) لِيَوْمِ الْجَمْعِ ( ليوم يجمع فيه
الأوّلون والآخرون . التغابن : مستعار من تغابن القوم في التجارة ؛ وهو أن يغبن
بعضهم بعضاً ، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ،
ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء . وفيه تهكم
بالأشقياء ؛ لأنّ نزولهم ليس بغبن . وفي حديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1189 ) ( ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ، ليزداد شكراً .
وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ، ليزداد حسرة ) ومعنى )
ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ( وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم : استعظام له وأن
تغابنه هو التغابن في الحقيقة ، لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت )
صَالِحاً ( صفة للمصدر ، أي : عملاً صالحاً .
) مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ
يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (
التغابن : ( 11 ) ما أصاب من . . . . .
) إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( إلا بتقديره ومشيئته ، كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه )
يَهْدِ قَلْبَهُ ( يلطف به ويشرحه للإزدياد من الطاعة والخير . وقيل : هو
الاسترجاع عند المصيبة . وعن الضحاك : يهد قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن
ليخطئه . وما أخطأه لم يكن ليصيبه . وعن مجاهد : إن ابتلى صبر ، وإن أعطى شكر ،
وإن ظلم غفر . وقرىء : ( يهد قلبه ) ، على البناء للمفعول ، والقلب : مرفوع أو منصوب
. ووجه النصب : أن يكون مثل سفه
" صفحة رقم 551 "
نفسه ، أي : يهد في قلبه . ويجوز أن يكون المعنى : أنّ الكافر ضال عن قلبه بعيد
منه ، والمؤمن واجد له مهتد إليه ، كقوله تعالى : ) لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( ( ق
: 37 ) وقرىء : ( نهد قلبه ) ، بالنون . ويهد قلبه ، بمعنى : يهتد . ويهدأ قلبه :
يطمئن . ويهد . ويهدا على التخفيف ) وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ ( يعلم ما
يؤثر فيه اللطف من القلوب مما لا يؤثر فيه فيمنحه ويمنعه .
) وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا
عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (
التغابن : ( 12 ) وأطيعوا الله وأطيعوا . . . . .
) فَإِن تَولَّيْتُمْ ( فلا عليه إذا توليتم ، لأنه لم يكتب عليه طاعتكم ، إنما
كتب عليه أن يبلغ ويبين فحسب ) وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (
بعث لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على التوكل عليه والتقوى به في أمره
، حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ
عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ
فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (
التغابن : ( 14 ) يا أيها الذين . . . . .
إنّ من الأزواج أزواجاً يعادين بعولتهنّ ويخاصمنهم ويجلبن عليهم ، ومن الأولاد
أولاداً يعادون آبائهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى ) فَاحْذَرُوهُمْ ( الضمير
للعدوّ أو للأزواج والأولاد جميعاً ، أي : لما علمتم أنّ هؤلاء لا يخلون من عدوّ ،
فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم ) وَأَن تَعْفُواْ ( عنهم إذا
اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها ، فإن الله يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم
. وقيل : إنّ ناساً أرادوا الهجرة عن مكة ، فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا :
تنطلقون وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا ، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا
في الدين : أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم ، فزين لهم العفو . وقيل : قالوا
لهم : أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم ، فغضبوا عليهم وقالوا : لئن
جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير ، فلما هاجروا منعوهم الخير ، فحثوا أن
يعفوا عنهم ويردّوا إليهم البر والصلة . وقيل : كان عوف بن مالك الأشجعي ذا أهل
وولد ، فإذا أراد أن يغزو تعلقوا به وبكوا إليه ورققوه ، فكأنه همّ بأذاهم ، فنزلت
) فِتْنَةً ( بلاء ومحنة ، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ، ولا بلاء أعظم منهما
؛ ألا ترى إلى قوله : ) وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( وفي الحديث :
" صفحة رقم 552 "
( 1190 ) ( يؤتى برجل يوم القيامة فيقال : أكل عياله حسناته ) وعن بعض السلف :
العيال سوس الطاعات . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1191 ) أنه كان يخطب ، فجاء الحسن ، والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان
، فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجره على المنبر فقال : ( صدق الله ) إِنَّمَا
أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ( رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما ) ثم
أخذ في خطبته . وقيل : إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتنكم الميل إلى الأموال
والأولاد عنهما .
) فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ
خَيْراً لاًّنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (
التغابن : ( 16 ) فاتقوا الله ما . . . . .
) مَّا اسْتَطَعْتُم ( جهدكم ووسعكم ، أي : ابذلوا فيها استطاعتكم ) وَاسْمَعُواْ
( ما توعظون به ) وَأَطِيعُواْ ( فيما تأمرون به وتنهون عنه ) وَأَنْفِقُواْ ( في
الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها ) خَيْراً لاِنفُسِكُمْ ( نصب بمحذوف ، تقديره
: ائتوا خيراً لأنفسكم ، وافعلوا ما هو خير لها وأنفع ؛ وهذا تأكيد للحث على
امتثال هذه الأوامر ، وبيان لأنّ هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما
أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا .
) إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (
التغابن : ( 17 ) إن تقرضوا الله . . . . .
وذكرُ القرض : تلطف في الاستدعاء ) يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ( يكتب لكم بالواحدة عشراً
، أو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة . وقرىء : ( يضعفه ) ) شَكُورٍ ( مجاز ، أي :
يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب ، وكذلك ) حَلِيمٌ ( يفعل بكم
ما يفعل من
" صفحة رقم 553 "
يحلم عن المسيء ، فلا يعاجلكم بالعقاب مع كثرة ذنوبكم .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1192 ) ( من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة ) .
" صفحة رقم 554 "
( سورة الطلاق )
مدنية ، وهي إحدى عشرة ، أو اثنتا عشرة ، أو ثلاث عشرة آية
( نزلت بعد الإنسان )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ياأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ
تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ
ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ
الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ
قَدْراً (
الطلاق : ( 1 ) يا أيها النبي . . . . .
خص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالنداء وعم بالخطاب ؛ لأنّ النبي إمام أمّته
وقدوتهم ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، إظهاراً
لتقدّمه واعتباراً لترؤسه ، وأنه مدرة قومه ولسانهم ، والذي يصدرون عن رأيه ولا
يستبدون بأمر دونه ، فكان هو وحده في حكم كلهم ، وسادّاً مسدّ جميعهم . ومعنى ) إِذَا
طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( إذا أردتم تطليقهنّ وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر
المشارف له منزلة الشارع فيه : كقوله عليه السلام :
( 1193 ) ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) ومنه كان الماشي إلى الصلاة والمنظر لها في
" صفحة رقم 555 "
حكم المصلي ) فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( فطلقوهن مستقبلات لعدتهن ، كقولك :
أتيته لليلة بقيت من المحرم ، أي : مستقبلاً لها . وفي قراءة رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) : في قبل عدتهنّ ، وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأوّل من
أقرائها ، فقد طلقت مستقبلة لعدتها . والمراد : أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه ،
ثم يخلين حتى تنقضى عدّتهن . وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده من الندم ،
ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أنّ أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ، ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى
تنقضي العدّة ، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار . وقال
مالك بن أنس رضي الله عنه : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة ، وكان يكره الثلاث
مجموعة كانت أو متفرقة . وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحد في
طهر واحد ، فأما مفرقاً في الأطهار فلا ؛ لما روى عن رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض :
( 1194 ) ما هكذا أمرك الله ، إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً ، وتطلقها لكل
" صفحة رقم 556 "
قرء تطليقة وروى أنه قال لعمر :
( 1195 ) مر ابنك فليراجعها ، ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ، ثم ليطلقها إن شاء ؛
فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء . وعند الشافعي رضي الله عنه : لا
بأس بإرسال الثلاث ، وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح . فما لك
تراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت ؛ وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت ؛ والشافعي
يراعي الوقت وحده . فإن قلت : هل يقع الطلاق المخالف للسنة ؟ قلت : نعم ، وهو آثم
؛ لما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1196 ) أنّ رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه ، فقال ؛ أتلعبون بكتاب الله وأنا
بين أظهركم . وفي حديث ابن عمر أنه قال :
( 1197 ) يا رسول الله ، أرأيت لو طلقتها ثلاثاً ، فقال له : إذن عصيت وبانت منك
امرأتك . وعن عمر رضي الله عنه :
( 1198 ) أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثاً إلا أوجعه ضرباً . وأجاز ذلك
" صفحة رقم 557 "
عليه . وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين : أنّ من خالف السنة في الطلاق
فأوقعه في حيض أو ثلث لم يقع ، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف . فإن قلت :
كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل وغير المدخول بها ؟ قلت : الصغيرة
والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر ،
وخالفما محمد وزفر في الحامل فقالا : لا تطلق للسنة إلا واحدة . وأما غير المدخول
بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة ، ولا يراعي الوقت . فإن قلت : هل يكره أن تطلق
المدخول بها واحدة بائنة ؟ قلت : اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا . والظاهر الكراهة
. فإن قلت : قوله إذا طلقتم النساء عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من
ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل ، فكيف صحّ تخصيصه بذوات الأقراء المدخول
بهن ؟ قلت : لا عموم ثم ولا خصوص ، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس ، وهذه
الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن ، فجاز أن يراد بالنساء هذاوذاك ، فلما قيل :
) فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( علم أنه أطلق على بعضهنّ وهنّ المدخول بهن من
المعتدات بالحيض ) وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ ( واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء
مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن ، ) لاَ تُخْرِجُوهُنَّ ( حتى تنقضي عدتهنّ ) مِن
بُيُوتِهِنَّ ( من مساكنهنّ التي يسكنها قبل العدة ، وهي بيوت الأزواج ؛ وأضيفت
إليهنّ لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى . فإن قلت : ما معنى الجمع بين إخراجهم أو
خروجهن ؟ قلت : معنى الإخراج : أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن
، أو لحاجة لهم إلى المساكن ، وأن لا يأذنوا لهنّ في الخروج إذا طلبن ذلك ،
إيذاناً بأنّ إذنهم لا أثر له في رفع الحظر ، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك )
إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ ( قرىء : بفتح للياء وكسرها . قيل :
هي الزنا ، يعني إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن وقيل : إلا أن يطلقن على
النشوز ، والنشوز يسقط حقهن في السكنى . وقيل : إلا أن يبذون فيحل إخراجهنّ
لبذائهنّ ؛ وتؤكده قراءة أبي ( إلا أن يفحش عليكم ) وقيل : خروجها قبل انقضاء
العدة فاحشة في نفسه . الأمر الذي يحدثه الله : أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها
، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها . ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه
" صفحة رقم 558 "
فيراجعها . والمعنى : فطلقوهنّ لعدتهن وأحصوا العدة ، لعلكم ترغبون وتندمون
فتراجعون ) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ( وهو آخر العدة وشارفته ، فأنتم بالخيار
: إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان ، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة
واتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلاً للعدة عليها
وتعذيباً لها ) وَأَشْهِدُواْ ( يعني عند الرجعة والفرقة جميعاً . وهذا الإشهاد
مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله : ) وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ( ( البقرة
: 282 ) وعند الشافعي : هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة . وقيل : فائدة
الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد ، وأن لا يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما
فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث ) مِّنكُمْ ( قال الحسن : من المسلمين . وعن قتادة
: من أحراركم ) لِلَّهِ ( لوجهه خالصاً ، وذلك أن تقيموها لا للمشهود عليه ، ولا
لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم ، كقوله تعالى : ) كُونُواْ
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( ( النساء :
135 ) أي : ) ذَلِكُمْ ( الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط ،
) يُوعَظُ بِهِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق
من إجراء أمر الطلاق على السنة ، وطريقه الأحسن والأبعد من الندم ، ويكون المعنى :
ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد )
يَجْعَلْ ( الله ) لَّهُ مَخْرَجاً ( مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في
المضايق ، ويفرج عنه وينفس ويعطه الخلاص ) وَيَرْزُقْهُ ( من وجه لا يخطره بباله
ولا يحتسبه إن أوفى المهر وأدى الحقوق والنفقات وقل ماله . وعن النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) :
( 1199 ) أنه سئل عمن طلق ثلاثاً أو ألفاً ، هل له من مخرج ؟ فتلاها . وعن ابن
عباس أنه سئل عن ذلك فقال : لم تتق الله فلم يجعل لك مخرجا ، بانت منك بثلاث
والزيادة إثم في عنقك . ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله : )
ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ ( يعني : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ومخلصاً من غموم
الدنيا والآخرة . وعن الني ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 559 "
:
( 1200 ) أنه قرأها فقال : مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم
القيامة . وقال عليه السلام :
( 1201 ) إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( فما
زال يقرؤها ويعيدها . وروى :
( 1202 ) أنّ عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً . فأتى رسول
الله فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة ؛ فقال : ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق
الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، ففعل فبينا هو في بيته إذ قرع
ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها ، فنزلت هذه الآية )
بَالِغُ أَمْرِهِ ( أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب . وقرىء : (
بالغ أمره ) بالإضافة ( وبالغ أمره ) بالرفع ، أيّ : نافذ أمره وقرأ المفضل : (
بالغاً أمره ) ، على أنّ قوله : ) قَدْ جَعَلَ اللَّهُ ( خبر إن ، وبالغاً حال )
قَدْراً ( تقديراً وتوقيتاً . وهذا بيان لوجوب التوكل على الله ، وتفويض
" صفحة رقم 560 "
الأمر إليه ؛ لأنه إذا علم أنّ كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته
: لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل .
) وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الاٌّ
حْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل
لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن
يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (
الطلاق : ( 4 ) واللائي يئسن من . . . . .
روي أن ناساً قالوا : قد عرفنا عدة ذوات الأقراء ، فما عدة اللائي لا يحضن ؛ فنزلت
: فمعنى ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( : إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا
حكمهنّ ، وقيل : إن ارتبتم في ذم البالغات مبلغ اليأس وقد قدروه بستين سنة وبخمس
وخمسين ، أهو دم حيض أو استحاضة ؟ ) فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ( وإذا
كانت هذه عدة المرتاب بها ، فغير المرتاب بها أولى بذلك ) وَاللاَّئِى لَمْ
يَحِضْنَ ( هن الصغائر . والمعنى : فعدتهن ثلاثة أشهر ، فحذف لدلالة المذكور عليه
. اللفظ مطلق في أولات الأحمال ، فاشتمل على المطلقات والمتوفى عنهن . وكان ابن
مسعود وأبيّ وأبو هريرة وغيرهم لا يفرقون . وعن علي وابن عباس : عدة الحامل
المتوفى عنها أبعد الأجلين . وعن عبد الله : من شاء لاعنته أنّ سورة النساء القصرى
نزلت بعد التي في البقرة ، يعني : أنّ هذا اللفظ مطلق في الحوامل . وروت أم سلمة :
" صفحة رقم 561 "