ج9.وج10.الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه
التأويل أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي
أولا: ج9. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه
التأويل أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي
" صفحة رقم 342 "
بالبيت فافعل ، فقال : ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
واحتبس عندهم فأرجف بأنهم قتلوه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لا نبرح
حتى نناجز القوم ، ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة وكانت سمرة . قال
جابر بن عبد الله : لو كنت أبصر لأريتكم مكانها . وقيل :
( 1046 ) كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالساً في أصل الشجرة وعلى ظهره
غصن من أغصانها . قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائماً على رأسه وبيدي غصن من
الشجرة أذب عنه . فرفعت الغصن عن ظهره ، فبايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا
يفروا ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أنتم اليوم خير أهل الأرض
) وكان عدد المبايعين ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين ، وقيل : ألفاً وأربعمائة ،
وقيل : ألفاً وثلثمائة ) فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ ( من الإخلاص وصدق الضمائر
فيما بايعوا عليه ) فَأنزَلَ السَّكِينَةَ ( أي : الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على
قلوبهم ) وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ( وقرىء : ( وآتاهم ) وهو فتح خيبر غب
انصرافهم من مكة . وعن الحسن : فتح هجر ، وهو أجلّ فتح : اتسعوا بثمرها زماناً )
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ( هي مغانم خيبر ، وكانت أرضاً ذات عقار
وأموال ، فقسمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عليهم ، ثم أتاه عثمان
بالصلح فصالحهم وانصرف بعد أن نحر بالحديبية وحلق .
" صفحة رقم 343 "
) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ
هَاذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (
الفتح : ( 20 ) وعدكم الله مغانم . . . . .
) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ( وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم
القيامة ) فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ ( المغانم يعني مغانم خيبر ) وَكَفَّ أَيْدِىَ
النَّاسِ عَنْكُمْ ( يعني أيدي أهل خيبر وحلفاؤهم من أسد وغطفان حين جاؤوا لنصرتهم
، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا . وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح ) وَلِتَكُونَ (
هذه الكفة ) لّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ ( وعبرة يعرفون بها أنهم من الله
تعالى بمكان ، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم . وقيل : رأى رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) فتح مكة في منامه ، ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وحي ، فتأخر ذلك
إلى السنة القابلة ، فجعل فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة ) وَيَهْدِيَكُمْ
صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( ويزيدكم بصيرة ويقيناً ، وثقة بفضل الله .
) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً (
الفتح : ( 21 ) وأخرى لم تقدروا . . . . .
) وَأُخْرَى ( معطوفة على هذه ، أي : فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى ) لَمْ
تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ( وهي مغانم هوازن في غزوة حنين ، وقال : لم تقدروا عليها
لما كان فيها من الجوالة ) قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ( أي قدر عليها واستولى
وأظهركم عليها وغنمكموها . ويجوز في ) أُخْرَى ( النصب بفعل مضمر ، يفسر ) قَدْ
أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ( تقديره : وقضى الله أخرى قد أحاط بها . وأما ) لَمْ
تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ( فصفة لأخرى ، والرفع على الابتداء لكونها موصوفة بلم تقدروا
، وقد أحاط بها : خبر المبتدأ ، والجرّ بإضمار رب . فإن قلت : قوله تعالى : )
وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ ( ( الفتح : 20 ) كيف موقعه ؟ قلت : هو كلام
معترض . ومعناه : ولتكون الكفة آية للمؤمنين فعل ذلك . ويجوز أن يكون المعنى :
وعدكم المغانم ، فعجل هذه الغنيمة وكف الأعداء لينفعكم بها ، ولتكون آية للمؤمنين
إذا وجدوا وعد الله بها صادقاً ، لأنّ صدق الإخبار عن الغيوب معجزة وآية ، ويزيدكم
بذلك هداية وإيقاناً .
) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الاٌّ دْبَارَ ثُمَّ لاَ
يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (
الفتح : ( 22 - 23 ) ولو قاتلكم الذين . . . . .
) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ ( من أهل مكة ولم يصالحوا . وقيل : من
حلفاء أهل خيبر لغلبوا وانهزموا ) سُنَّةَ اللَّهِ ( في موضع المصدر المؤكد ، أي :
سن الله غلبة أنبيائه سنه ، وهو قوله تعالى : ) لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( (
المجادلة : 21 ) .
" صفحة رقم 344 "
) وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ
مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيراً (
الفتح : ( 24 ) وهو الذي كف . . . . .
) أَيْدِيهِمْ ( أيدي أهل مكة ، أي : قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعد ما
خولكم الظفر عليهم والغلبة ، وذلك يوم الفتح . وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله ،
على أنّ مكة فتحت عنوة لا صلحاً . وقيل : كان ذلك في غزوة الحديبية لما روى
( 1047 ) أنّ عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) من هزمه وأدخله حيطان مكة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أظهر الله
المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت . وقرىء : ( تعملون ) بالتاء والياء .
) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ
مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ
مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ
مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ
تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (
الفتح : ( 25 ) هم الذين كفروا . . . . .
وقرىء : ( والهدي ) والهدى : بتخفيف الياء وتشديدها ، وهو ما يهدى إلى الكعبة :
بالنصب عطفاً على الضمير المنصوب في صدّوكم . أي : صدّوكم وصدّوا الهدى وبالجر
عطفاً على المسجد الحرام ، بمعنى : وصدّوكم عن نحر الهدى ) مَعْكُوفاً أَن
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( محبوساً عن أن يبلغ ، وبالرفع على : وصدّ الهدى . ومحله :
مكانه الذي يحل فيه نحره ، أي يجب . وهذا دليل لأبي حنيفة على أن المحصر محل هدية
الحرم . فإن قلت : فكيف حل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن معه وإنما نحر
هديهم بالحديبية ؟ قلت : بعض الحديبية من الحرم . وروى أن مضارب رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) كانت في الحل ، ومصلاه في الحرم . فإن قلت : فإذن قد نحر في الحرم ،
فلم قيل : ) مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( ؟ قلت : المراد المحل المعهود
وهو مني ) لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ ( صفة للرجال والنساء جميعاً . و ) ءانٍ ( بدل
اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في تعلموهم . والمعرة : مفعلة ، من عره بمعنى
عراه إذا دهاه ما يكره ويشق عليه . و ) يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( متعلق
بأن تطؤهم ، يعني : أن تطئوهم غير عالمين بهم . والوطء والدوس : عبارة عن الإيقاع
والإبادة . قال :
" صفحة رقم 345 "
وَوَطِئْتَنَا وَطْأَ عَلَى حَنَق
وَطْأَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهَرْمِ
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1048 ) ( وأن آخر وطأة وطئها الله بِوَجٍّ ) والمعنى : أنه كان بمكة قوم من
المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم ولا معروفي الأماكن : فقيل : ولولا
كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم ، فتصيبكم
بإهلاكهم مكروه ومشقة : لما كف أيديكم عنهم ، وحذف جواب ( لولا ) لدلالة الكلام
عليه . ويجوز أن يكون ) لَوْ تَزَيَّلُواْ ( كالتكرير للولا رجال مؤمنون ،
لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون ) لَعَذَّبْنَا ( هو الجواب . فإن قلت : أي معرة
تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون . قلت : يصيبهم وجوب الدية والكفارة ، وسوء قالة
المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والمأثم إذا جرى
منهم بعض التقصير . فإن قلت : قوله تعالى : ) لّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ
مَن يَشَاء ( تعليل لماذا ؟ قلت : لما دلت عليه الآية وسيقت له : من كف الأيدي عن
أهل مكة ، والمنع من قتلهم ؛ صوناً لمن بين أظهرهم من المؤمنين ، كأنه قال : كان
الكف ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته ؛ أي : في توفيقه لزيادة الخير والطاعة
مؤمنيهم . أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم ) لَوْ تَزَيَّلُواْ ( لو
تفرقوا وتميز بعضهم من بعض : من زاله يزيله . وقرىء : ( لو تزايلوا ) .
) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا
وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً (
الفتح : ( 26 ) إذ جعل الذين . . . . .
) إِذْ ( يجوز أن يعمل فيه ما قبله . أي : لعذبناهم أو صدوهم عن المسجد الحرام
" صفحة رقم 346 "
في ذلك الوقت ، وأن ينتصب بإضمار اذكر . والمراد بحمية الذين كفروا وسكينة
المؤمنين والحمية الأنفة والسكينة والوقار ما روى
( 1049 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزل بالحديبية بعثت قريش سهيل
بن عمرو القرشي وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الأخيف ، على أن يعرضوا على
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلى له قريش مكة من
العام القابل ثلاثة أيام ، ففعل ذلك ، وكتبوا بينهم كتاباً ، فقال عليه الصلاة
والسلام لعلي رضي الله عنه : ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ) ، فقال سهيل وأصحابه
: ما نعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللَّهم ، ثم قال : ( اكتب هذا ما صالح عليه
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أهل مكة ) فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله
ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله
أهل مكة ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( اكتب ما يريدون ، فأنا أشهد أني رسول الله
وأنا محمد بن عبد الله ، فهمَّ المسلمون أن يأبوا ذلك ويشمئزوا منه ، فأنزل الله
على رسوله السكينة فتوقروا وحلموا . و ) كَلِمَةَ التَّقْوَى ( بسم الله الرحمن الرحيم
ومحمد رسول الله : قد اختارها الله لنبيه وللذين معه أهل الخير ومستحقيه ومن هم
أولى بالهداية من غيرهم . وقيل : هي كلمة الشهادة . وعن الحسن رضي الله عنه : كلمة
التقوى هي الوفاء بالعهد . ومعنى إضافتها إلى التقوى : أنها سبب التقوى وأساسها .
وقيل : كلمة أهل التقوى . وفي مصحف الحرث بن سويد صاحب عبد الله : ( وكانوا أهلها
وأحق بها ) ، وهو الذي دفن مصحفه أيام الحجاج .
) لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ
لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً
قَرِيباً (
( 1050
الفتح : ( 27 ) لقد صدق الله . . . . .
رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد
دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا ، فقصّ الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا
وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) حق ، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث :
والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا
" صفحة رقم 347 "
المسجد الحرام ، فنزلت . ومعنى : ) صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا ( صدقه في
رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علواً كبيراً فحذف الجارّ وأوصل
الفعل ، كقوله تعالى : ) صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ( ( الأحزاب :
23 ) . فإن قلت : بم تعلق ) بِالْحَقِّ ( ؟ قلت : إمّا بصدق ، أي : صدقه فيما رأى
، وفي كونه وحصوله صدقاً ملتبساً بالحق : أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وذلك
ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص ، وبين من في قلبه مرض ، ويجوز أن
يتعلق بالرؤيا حالاً منها أي : صدقه الرؤيا ملتبساً بالحق ، على معنى أنها لم تكن
من أضغاث الأحلام . ويجوز أن يكون ) بِالْحَقِّ ( قسماً : إمّا بالحق الذي هو نقيض
الباطل . أو بالحق الذي هو من أسمائه . و ) لَتَدْخُلُنَّ ( جوابه . وعلى الأوّل
هو جواب قسم محذوف . فإن قلت : ما وجه دخول ) إِن شَاء اللَّهُ ( في أخبار الله عز
وجل ؟ قلت : فيه وجوه : أن يعلق عدته بالمشيئة تعليماً لعباده أن يقولوا في عداتهم
مثل ذلك ، متأدّبين بأدب الله ، ومقتدين بسنته . وأن يريد : لتدخلنّ جميعاً إن شاء
الله ولم يمت منكم أحداً ، أو كان ذلك على لسان ملك ، فأدخل الملك إن شاء الله .
أو هي حكاية ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه وقصّ عليهم . وقيل :
هو متعلق بآمنين ) فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ ( من الحكمة والصواب في تأخير
فتح مكة إلى العام القابل ) فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ ( أي من دون فتح مكة )
فَتْحاً قَرِيباً ( وهو فتح خيبر ، لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح
الموعود .
) هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (
الفتح : ( 28 ) هو الذي أرسل . . . . .
) بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ ( بدين الإسلام ) لِيُظْهِرَهُ ( ليعليه ) عَلَى
الدّينِ كُلّهِ ( على جنس الدين كله ، يريد : الأديان المختلفة من أديان المشركين
والجاحدين من أهل الكتاب : وقد حقق ذلك سبحانه ، فإنك لا ترى ديناً قط إلا
وللإسلام دونه العز والغلبة . وقيل : هو عند نزول عيسى حين لا يبقى على وجه الأرض
كافر . وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات . وفي هذه الآية تأكيد لما وعد من الفتح
وتوطين لنفوس المؤمنين على أنّ الله تعالى سيفتح لهم من البلاد ويقيض لهم من
الغلبة على الأقاليم ما يستقلون إليه من فتح مكة ) وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (
على أنّ ما وعده كائن . وعن الحسن رضي الله عنه : شهد على نفسه أنه سيظهر دينك .
" صفحة رقم 348 "
) مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ
اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ
مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (
الفتح : ( 29 ) محمد رسول الله . . . . .
) مُحَمَّدٌ ( إما خبر مبتدأ ، أي : هو محمد بن لتقدّم قوله تعالى : ) هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ( ( الفتح : 28 ) وإما مبتدأ ، ورسول الله : عطف بيان
. وعن ابن عامر أنه قرأ : رسول الله ، بالنصب على المدح ) وَالَّذِينَ مَعَهُ (
أصحابه ) أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( جمع شديد ورحيم .
ونحوه ) أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( (
المائدة : 54 ) ، ) وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( ( التوبة : 73 ) ، ) بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءوفٌ رَّحِيمٌ ( ( التوبة : 128 ) وعن الحسن رضي الله عنه : بلغ من تشدّدهم على
الكفار : أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس
أبدانهم ؛ وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه
، والمصافحة لم تختلف فيها الفقهاء . وأما المعانقة فقد كرهها أبو حنيفة رحمه الله
، وكذلك التقبيل . قال لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئاً من
جسده . وقد رخص أبو يوسف في المعانقة . ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا
التشدّد وهذا التعطف : فيتشدّدوا على من ليس على ملتهم ودينهم ويتحاموه ، ويعاشروا
إخوتهم في الإسلام متعطفين بالبر والصلة . وكف الأذى . والمعونة ، والاحتمال ،
والأخلاق السجيحة ووجه من قرأ : ( أشداء ، ورحماء ) بالنصب : أن ينصبهما على المدح
، أو على الحال بالمقدّر في ) مَعَهُ ( ، ويجعل ) تَرَاهُمْ ( الخبر ) سِيمَاهُمْ
( علامتهم . وقرىء : ( سيماؤهم ) وفيها ثلاث لغات : هاتان . والسيمياء ، والمراد
بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود ، وقوله تعالى : ) مّنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ( يفسرها ، أي : من التأثير الذي يؤثره السجود ، وكان كل من العليين :
عليّ بن الحسين زين العابدين ، وعليّ بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك ، يقال له :
ذو الثفنات ؛ لأنّ كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير . وقرىء
: ( من أثر السجود ) و ( من آثار السجود ) ، وكذا عن سعيد بن جبير : هي السمة في
الوجه . فإن قلت : فقد جاء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 349 "
:
( 1051 ) ( لا تعلبوا صوركم ) ، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً قد أثر في
وجهه السجود فقال : إن صورة وجهك أنفك ، فلا تعلب وجهك ، ولا تشن صورتك . قلت :
ذلك إذا اعتمد بجبهته على الأرض لتحدث فيه تلك السمة . وذلك رياء ونفاق يستعاذ
بالله منه ، ونحن فيما حدث في جبهة السجاد الذي لا يسجد إلا خالصاً لوجه الله
تعالى . وعن بعض المتقدّمين : كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ، ونرى أحدنا الآن
يصلي فيرى بين عينيه ركبة البعير ، فما ندري أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض وإنما
أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق . وقيل : هو صفرة الوجه من خشية الله . وعن الضحاك :
ليس بالندب في الوجوه ، ولكنه صفرة . وعن سعيد بن المسيب : ندى الطهور وتراب الأرض
. وعن عطاء رحمه الله : استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل ، كقوله :
( 1052 ) ( من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ) ) ذَلِكَ ( الوصف )
مّثْلُهُمْ ( أي وصفهم العجيب الشأن في الكتابين جميعاً ، ثم ابتدأ فقال : )
كَزَرْعٍ ( يريد : هم كزرع . وقيل : تم الكلام عند قوله : ) ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى
التَّوْرَاةِ ( ثم ابتديء : ( ومثلهم في الإنجيل كزرع ) ويجوز أن يكون ذلك إشارة
مبهمة أوضحت بقوله : ) كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ( كقوله تعالى : ) وَقَضَيْنَآ
إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( (
الحجر : 66 ) . وقرىء : ( الأنجيل ) بفتح الهمزة ) شَطْأَهُ ( فراخه . يقال : أشطا
الزرع إذا فرخ . وقرىء : ( شطأه ) بفتح الطاء . وشطاه ، بتخفيف الهمزة : وشطاءه
بالمدّ . وشطه ،
" صفحة رقم 350 "
بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها . وشطوه ، بقلبها واواً ) فَآزَرَهُ ( من
المؤازرة وهي المعاونة . وعن الأخفش : أنه أفعل . وقرىء : ( فأزره ) بالتخفيف
والتشديد ، أي : فشدّ أزره وقوّاه . ومن جعل ) ءازَرَ ( أفعل ، فهو في معنى
القراءتين ) فَاسْتَغْلَظَ ( فصار من الدقة إلى الغلظ ) فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
( فاستقام على قصبه جمع ساق . وقيل : مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات
الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبي بكر ،
فآزره بعمر ، فاستغلظ بعثمان ، فاستوى على سوقه بعليّ . وهذا مثل ضربه الله لبدء
أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوى واستحكم ، لأنّ النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) ، قام وحده . ثم قوّاه الله بمن آمن معه كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع
ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزرّاع . فإن قلت : قوله : ) لِيَغِيظَ
بِهِمُ الْكُفَّارَ ( تعليل لماذا ؟ قلت : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم
وترقيهم في الزيادة والقوّة ، ويجوز أن يعلل به ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
ءامَنُواْ ( لأنّ الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في
الدنيا غاظهم ذلك . ومعنى ) مِنْهُم ( البيان ، كقوله تعالى : ) فَاجْتَنِبُواْ
الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( ( الحج : 30 ) .
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( 1053 ) ( من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد فتح مكة ) .
" صفحة رقم 351 "
( سورة الحجرات )
مدنية ، وآياتها 18 ( نزلت بعد المجادلة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (
الحجرات : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . .
قدّمه وأقدمه : منقولان بتثقيل الحشو والهمزة ، مِنْ قَدَمَهُ إذا تقدّمه ، في
قوله تعالى : ) يَقْدُمُ قَوْمَهُ ( ( هود : 98 ) ونظيرهما معنى ونقلاً : سلفه
وأسلفه . وفي قوله تعالى : ) لاَ تُقَدّمُواْ ( من غير ذلك مفعول : وجهان ، أحدهما
: أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدّم . والثاني : أن لا يقصد قصد مفعول
ولا حذفه ، ويتوجه بالنهي إلى نفس التقدمة ، كأنه قيل : لا تقدموا على التلبس بهذا
الفعل ، ولا تجعلوه منكم بسبيل كقوله تعالى : ) هُوَ الَّذِى لاَ إِلَاهَ ( ( غافر
: 68 ) ويجوز أن يكون من قدّم بمعنى تقدّم ، كوجه وبين . ومنه مقدّمة الجيش خلاف
ساقته ، وهي الجماعة المتقدّمة منه . وتعضده قراءة من قرأ : ( لا تقدموا ) بحذف
إحدى تاءي تتقدموا ، إلا أن الأوّل أملأ بالحسن وأوجه ، وأشدّ ملاءمة لبلاغة
القرآن ، والعلماء له أقبل . وقرىء : ( لا تقدموا ) من القدوم ، أي لا تقدموا إلى
أمر من أمور الدين قبل قدومها ، ولا تعجلوا عليهما . وحقيقة قولهم : جلست بين يدي
فلان ، أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه ، فسميت الجهتان
يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً ، كما يسمى الشيء باسم غيره
إذا جاوره وداناه في غير موضع ، وقد جرت هذه العبارة هاهنا على سنن ضرب من المجاز
، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلاً . ولجريها هكذا فائدة جليلة ليست
" صفحة رقم 352 "
في الكلام العريان : وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر
من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة : والمعنى : أن لا تقطعوا أمراً
إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا إما عاملين بالوحي المنزل . وإما
مقتدين برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعليه يدور تفسير ابن عباس رضي الله
عنه . وعن مجاهد : لا تفتاتوا على الله شيئاً حتى يقصه على لسان رسوله . ويجوز أن
يجري مجرى قولك : سرني زيد وحسن حاله ، وأعجبت بعمرو وكرمه . وفائدة هذا الأسلوب :
الدلالة على قوّة الاختصاص ، ولما كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الله
بالمكان الذي لا يخفى : سلك له ذلك المسلك . وفي هذا تمهيد وتوطئة لما نقم منهم
فيما يتولوه من رفع أصواتهم فوق صوته : لأنّ من أحظاه الله بهذه الأثرة واختصه هذا
الاختصاص القوي : كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت ،
ويخافت لديه بالكلام . وقيل :
( 1054 ) بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلاً
وعليهم المنذر بن عمرو الساعدي ، فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل . إلا
الثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة ، فاعتزيا لهم إلى بني عامر
، لأنهم أعز من بني سليم ، فقتلوهما وسلبوهما ، ثم أتوا رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) فقال : ( بئسما صنعتم كانا من سليم ، والسلب ما كسوتهما ) فوداهما رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ونزلت ، أي : لا تعملوا شيئاً من ذات أنفسكم حتى تستأمروا
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن مسروق :
( 1055 ) دخلت على عائشة في اليوم الذي يشك فيه ، فقالت للجارية : اسقه عسلاً ،
فقلت : إني صائم ، فقالت : قد نهى الله عن صوم هذا اليوم . وفيه نزلت . وعن الحسن
:
" صفحة رقم 353 "
( 1056 ) أنّ أناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت ، وأمرهم رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) أن يعيدوا ذبحاً آخر . وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، إلا أن
تزول الشمس . وعند الشافعي : يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة . وعن
الحسن أيضاً : لما استقرّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة أتته الوفود
من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل ، فنهوا أن يبتدؤه بالمسألة حتى يكون هو المبتديء
وعن قتادة : ذكر لنا أنّ ناساً كانوا يقولون : لو أنزل فيه كذا لكان كذا ، فكره
الله ذلك منهم وأنزلها . وقيل : هي عامة في كل قول وفعل ؛ ويدخل فيه أنه إذا جرت
مسألة في مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يسبقوه بالجواب ، وأن لا يمشي
بين يديه إلا لحاجة ، وأن يستأني في الافتتاح بالطعام ) وَاتَّقَوْاْ ( فإنكم إن
اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهى عنها وعن جميع ما تقتضي مراقبة الله
تجنبه ، فإن التقيّ حذر لا يشافه أمراً إلا عن ارتفاع الريب وانجلاء الشك في أن لا
تبعة عليه فيه ، وهذا كما تقول لمن يقارف بعض الرذائل : لا تفعل هذا وتحفظ مما
يلصق بك العار . فتنهاه أوّلاً عن عين ما قارفه ، ثم تعم وتشيع وتأمره بما لو
امتثل فيه أمرك لم يرتكب تلك الفعلة وكل ما يضرب في طريقها ويتعلق بسببها ) إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ ( لما تقولون ) عَلِيمٌ ( بما تعملون ، وحق مثله أن يتقى ويراقب .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن
تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ (
الحجرات : ( 2 ) يا أيها الذين . . . . .
إعادة النداء عليهم : استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد ، وتطرية
الإنصات لكل حكم نازل ، وتحريك منهم لئلا يفترقوا ويغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به
عند حضور مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الأدب الذي المحافظة عليه تعود
عليهم بعظيم الجدوى في دينهم . وذلك لأنّ في إعظام صاحب الشرع إعظام ما ورد به ،
ومستعظم الحق لا يدعه استعظامه أن يألو عملاً بما يحدوه عليه . وارتداعاً عما يصده
عنه ،
" صفحة رقم 354 "
وانتهاء إلى كل خير ، والمراد بقوله : ) لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِىّ ( أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ
الذي يبلغه بصوت ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم ، وجهره باهراً
لجهركم ؛ حتى تكون مزيته عليكم لائحة ، وسابقته واضحة ، وامتيازه عن جمهوركم كشية
الأبلق غير خاف ، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم . وبقوله : ولا
تجهروا له بالقول : إنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من
رفع الصوت ، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم ، وأن تتعمدوا في
مخاطبته القول اللبين المقرّب من الهمس الذي يضادّ الجهر ، كما تكون مخاطبة المهيب
المعظم ، عاملين بقوله عز اسمه : ) وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ ( ( الفتح : 9 )
وقيل معنى : ) وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ (
لا تقولوا له : يا محمد ، يا أحمد ، وخاطبوه بالنبوّة . قال ابن عباس :
( 1057 ) لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ، والله لا
أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله ، وعن عمر رضي الله عنه :
( 1058 ) أنه كان يكلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كأخي السرار لا يسمعه حتى
يستفهمه /
( 1059 ) وكان أبو بكر إذا قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفد : أرسل
إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر : ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة
، لأنّ ذلك كفر ، والمخاطبون مؤمنون ، وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من
جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء ، فيتكلف الغض منه ، وردّه إلى
حدّ يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزيز والتوقير ، ولم يتناول النهى
أيضاً رفع الصوت الذي لا يتأذى به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو ما كان
منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدوّ أو ما أشبه
" صفحة رقم 355 "
ذلك ، ففي الحديث ، أنه قال عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم
الناس يوم حنين :
( 1060 ) ( اصرخ بالناس ) وكان العباس أجهر الناس صوتاً . يروى : أنّ غارة أتتهم
يوماً فصاح العباس يا صباحاه ، فأسقطت الحوامل لشدّة صوته . وفيه يقول نابغة بني
جعدة : زَجْرَ أَبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إِذَا
أَشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بِالْغَنَمِ
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه ، وفي قراءة
ابن مسعود ( لا ترفعوا بأصواتكم ) والباء مزيدة محذوّ بها حذر التشديد في قول
الأعلم الهذلي : رَفَعْتُ عَيْنِي بِالْحِجَا
زِ إِلى أُنَاسٍ بِالمَنَاقِبْ
وليس المعنى في هذه القراءة أنهم نهوا عن الرفع الشديد ، تخيلاً أن يكون ما دون
الشديد مسوغاً لهم ، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة ، واستجفاؤهم
فيما كانوا يفعلون . وعن ابن عباس :
( 1061 ) نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وكان في أذنه وقر ، وكان جمهوري الصوت ،
فكان إذا تكلم رفع صوته ، وربما كان يكلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيتأذى
بصوته . وعن أنس
( 1062 ) أن هذه الآية لما نزلت : فقد ثابت ، فتفقده رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) فأخبر بشأنه ، فدعاه ، فسأله فقال : يا رسول الله ، لقد أنزلت إليك هذه
الآية ، وإني رجل جهير
" صفحة رقم 356 "
الصوت ، فأخاف أن يكون عملي قد حبط ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( لست هناك ، إنك تعيش بخير وتموت بخير ، وإنك من أهل الجنة ) . وأمّا ما يروى عن
الحسن : أنها نزلت فيمن كان يرفع صوته من المنافقين فوق صوت رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، فمحمله والخطاب للمؤمنين : على أن ينهى المؤمنون ليندرج المنافقون
تحت النهي ، ليكون الأمر أغلظ عليهم وأشق . وقيل : كان المنافقون يرفعون أصواتهم
ليظهروا قلة مبالاتهم ، فيقتدي بهم ضعفة المسلمين . وكان التشبيه في محل النصب ،
أي : لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض . وفي هذا : أنهم لم ينهوا عن الجهر
مطلقاً ، حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر
مخصوص مقيد بصفة ، أعني : الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ،
وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوّة وجلالة مقدارها ، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن
رتبتها ) أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ( منصوب الموضع ، على أنه مفعول له ، وفي
متعلقه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بمعنى النهي ،
" صفحة رقم 357 "
فيكون المعنى : انتهوا عما نهيتهم عنه لحبوط أعمالكم ، أي : لخشية حبوطها على
تقدير حذف المضاف ، كقوله تعالى : ) يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( (
النساء : 176 ) والثاني : أن يتعلق بنفس الفعل ، ويكون المعنى : أنهم نهوا عن
الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط ، لأنه لما كان بصدد الأداء إلى الحبوط : جعل كأنه
فعل لأجله ، وكأنه العلة والسبب في إيجاده على سبيل التمثيل ، كقوله تعالى : )
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً ( ( القصص : 8 ) فإن قلت : لخص الفرق بين الوجهين . قلت
: تلخيصه أن يقدر الفعل في الثاني مضموماً إليه المفعول له ، كأنهما شيء واحد ، ثم
يصب النهي عليهما جميعاً صباً . وفي الأوّل يقدر النهي موجهاً على الفعل على حياله
، ثم يعلل له منهياً عنه . فإن قلت : بأي النهيين تعلق المفعول له ؟ قلت : بالثاني
عند البصريين ، مقدراً إضماره عند الأوّل ، كقوله تعالى : ) اتُونِى أُفْرِغْ
عَلَيْهِ قِطْراً ( ( الكهف : 96 ) وبالعكس عند الكوفيين ، وأيهما كان فمرجع
المعنى إلى أنّ الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل : وقراءة ابن
مسعود : ( فتحبط أعمالكم ) أظهر نصاً بذلك ؛ لأنّ ما بعد الفاء لا يكون إلا مسبباً
عما قبله ، فيتنزل الحبوط من الجهر منزلة الحلول من الطغيان في قوله تعالى : )
فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى ( ( طه : 81 ) والحبوط من حبطت الإبل : إذا أكلت
الخضر فنفخ بطونها ، وربما هلكت . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1063 ) وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حَبَطاً أو يُلِمُ ومن أخواته ، حبجت الإبل
) إذا أكلت العرفج فأصابها ذلك . وأحبض عمله : مثله أحبطه . وحبط الجرح وحبر : إذا
غفر ، وهو نكسه وتراميه إلى الفساد : جعل العمل السيء في إضراره بالعمل الصالح
كالداء والحرص لمن يصاب به ، أعاذنا الله من حبط الأعمال وخيبة الآمال .
" صفحة رقم 358 "
وقد دلت الآية على أمرين هائلين ، أحدهما : أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما
يحبط عمله . والثاني : أن في آثامه ما لا يدري أنه محبط ، ولعله عند الله كذلك ؛
فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشي في طريق شائك لا يزال يحترز ويتوقى ويتحفظ .
) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ
الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
عَظِيمٌ (
الحجرات : ( 3 ) إن الذين يغضون . . . . .
) امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( من قولك : امتحن فلان لأملا كذا
وجرب له ، ودرب للنهوض به . فهو مضطلع به غير وان عنه . والمعنى أنهم صبر على
التقوى ، أقوياء على احتمال مشاقها . أو وضع الامتحان موضع المعرفة ؛ لأنّ تحقق
الشيء باختباره ، كما يوضع الخبر موضعها ، فكأنه قيل : عرف الله قلوبهم للتقوى ،
وتكون اللام متعلقة بمحذوف ، واللام هي التي في قولك : أنت لهذا الأمر ، أي كائن
له ومختص به قال : أَنْتَ لَهَا أَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ الْبَشَر
أَعَدَّاءٌ مَنْ لِلْيَعْمُلاَتِ عَلَى الْوَجَى
وهي مع معمولها منصوبة على الحال . أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف
الصعبة لأجل التقوى ، أي لتثبت وتظهر تقواها ، ويعلم أنهم متقون ؛ لأن حقيقة
التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها . وقيل أخلصها للتقوى . من
قولهم : امتحن الذهب وفتنه ، إذا أذابه فخلص إبريزه من خبشه ونقاه . وعن عمر رضي
الله عنه : أذهب الشهوات عنها . والامتحان : افتعال ، من محنه ، وهو اختبار بليغ
أو بلاء جهيد . قال أبو عمرو : كل شيء جهدته فقد محنته . وأنشد : أَتَتْ رَذَايَا
بَادِياً كِلاَلُهَا
قَدْ مَحَنَتْ وَاضْطَرَبَتْ آطَالُهَا
قيل : أنزلت في الشيخين رضي الله عنهما ، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به
أخا السرار . وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم
" صفحة رقم 359 "
اسماً لأنّ المؤكدة . وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً . والمبتدأ :
اسم الإشارة ، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم ، وإيراد الجزاء
نكرة : مبهماً أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين
وقروا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من خفض أصواتهم ، وفي الإعلام بمبلغ عزة
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقدر شرف منزلته ، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب
الرافعون أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء .
) إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ
يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ
خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (
الحجرات : ( 4 ) إن الذين ينادونك . . . . .
والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام . ومن لابتداء الغاية
، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان . فإن قلت : فرق بين الكلامين بين ما تثبت فيه
وما تسقط عنه . قلت : الفرق بينهما أنّ المنادي والمنادى في أحدهما يجوز أن
يجمعهما الوراء ، وفي الثاني : لا يجوز لأنّ الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية .
ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد ، والذي يقول :
ناداني فلان من وراء الدار . لا يريد وجه الدار ولا دبرها ، ولكن أي قطر من
أقطارها الظاهرة كان مطلقاً بغير تعيين واختصاص ، والإنكار لم يتوجه عليهم من قبل
أنّ النداء وقع منهم في أدبار الحجرات أو في وجوهها ، وإنما أنكر عليهم أنهم نادوه
من البرّ والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض ، من غير قصد إلى جهة دون جهة .
والحجرة : الرقعة والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض ، من غير قصد إلى جهة دون جهة
. والحجرة : الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها ، وحظيرة الإبل تسمى
الحجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة ، وجمعها : الحجرات بضمتين ، (
والحجرات ) بفتح الجيم ، والحجرات بسكينها . وقرىء بهنّ جميعاً ، والمراد : حجرات
نساء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت لكل واحد منهنّ حجرة . ومناداتهم
من ورائها يحتمل أنهم قد تفرّقوا على الحجرات متطلبين له ، فناداه بعض من وراء هذه
، وبعض من وراء تلك ،
" صفحة رقم 360 "
وأنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها ، وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان
فيها ، ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولمكان حرمته .
والفعل وإن كان مسنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم ، وكان الباقون راضين
، فكأنهم تولوه جميعاً ، فقد ذكر الأصم : أنّ الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن
حابس . والإخبار عن أكثرهم بأنهم لا يعقلون : يحتمل أن يكون فيهم من قصد بالمحاشاة
. ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل ،
فإنَّ القلة تقع موقع النفي في كلامهم . وروي :
( 1064 ) أن وفد بني تميم أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقت الظهيرة وهو
راقد ، فجعلوا ينادونه : محمد اخرج إلينا ، فاستيقظ فخرج ونزلت :
( 1065 ) وسئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنهم فقال : ( هم جفاة بني تميم ،
لولا أنهم من أشدّ الناس قتالاً للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم ) فورود
الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى على الناظر : من بينات إكبار محل
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإجلاله : منها مجيئها على النظم المسجل على
الصائحين به بالسفه والجهل ، لما أقدموا عليه . ومنها لفظ الحجرات وإيقاعها كناية
عن موضع خلوته . ومقيله مع بعض نسائه . ومنها : المرور على لفظها بالاقتصار على
القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم . ومنها : التعريف باللام دون الإضافة . ومنها
: أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات
، تهوينا للخطب على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وتسلية له ، وإماطة لما
تداخله من إيحاش تعجرفهم وسوء أدبهم ، وهلم جرا : من أوّل السورة إلى
" صفحة رقم 361 "
آخرها هذه الآية ، فتأمّل كيف ابتدىء بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى ا لله
ورسوله متقدّمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد ، ثم أردف ذلك النهي عما هو من
جنس التقديم من رفع الصوت والجهر . كأن الأوّل بساط للثاني ووطأه لذكره ما هو ثناء
على الذين تحاموا ذلك فغضوا أصواتهم ، دلالة على عظيم موقعه عند الله ، ثم جيء على
عقب ذلك بما هو أطم وهجنته أتم : من الصياح برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في
حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر ، كما يصاح بأهون الناس قدراً ، لينبه على
فظاعة من أجروا إليه وجسروا عليه ؛ لأنّ من رفع الله قدره على أن يجهر له بالقول
حتى خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخي السرار ، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي
بلغ من التفاحش مبلغاً ؛ ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب وتقتبس محاسن الآداب ،
كما يحكى عن أبي عبيد ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال :
ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج من وقت خروجه ) أَنَّهُمْ صَبَرُواْ ( في موضع
الرفع على الفاعلية ؛ لأنّ المعنى : ولو ثبت صبرهم . والصبر : حبس النفس عن أن
تنازع إلى هواها . قال الله تعالى : ) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُم ( ( الكهف : 28 ) وقولهم : صبر عن كذا ، محذوف منه المفعول ،
وهو النفس ، وهو حبس فيه شدَّة ومشقة على المحبوس ، فلهذا قيل للحبس على اليمين أو
القتل : صبر . وفي كلام بعضهم : الصبر مرّ لا يتجرّعه إلا حرّ . فإن قلت : هل من
فرق بين ) حَتَّى تَخْرُجَ ( وإلى أن تخرج ؟ قلت : إنّ ( حتى ) مختصة بالغاية
المضروبة . تقول : أكلت السمكة حتى رأسها ، ولو قلت : حتى نصفها ، أو صدرها : لم
يجز ، و ( إلى ) عامّة في كل غاية ، فقد أفادت ( حتى ) بوضعها : أنّ خروج رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم غاية قد ضربت لصبرهم ، فما كان لهم أن يقطعوا
أمراً دون الانتهاء إليه . فإن قلت : فأي فائدة في قوله : ) إِلَيْهِمْ ( ؟ قلت :
فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم ، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أنّ
خروجه إليهم ) لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ( في ( كان ) إما ضمير فاعل الفعل المضمر
بعد لو ، وإما ضمير مصدر ) صَبَرُواْ ( ، كقولهم : من كذب كان شراً له ) وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( بليغ الغفران والرحمة واسعهما ، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن
هؤلاء إن تابوا وأنابوا .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ
أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ
مِّنَ الاٌّ مْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَانَ
وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيَانَ أُوْلَائِكَ هُمُ الرَاشِدُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 7 )
الحجرات : ( 6 ) يا أيها الذين . . . . .
" صفحة رقم 362 "
( 1066 ) بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمّه
وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ، فصلى بالناس وهو سكران صلاة
الفجر أربعاً ، ثم قال : هل أزيدكم ، فعزله عثمان عنهم مصدّقاً إلى بني المصطلق ،
وكانت بينه وبينهم إحنة ، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له ، فحسبهم مقاتليه ،
فرجع وقال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : قد ارتدوا ومنعوا الزكاة ، فغضب
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهمّ أن يغزوهم . فبلغ القوم فوردوا وقالوا :
نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم فقال : ( لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلاً
هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم ، ثم ضرب بيده على كتف علي رضي الله
عنه . وقيل : بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلوات متهجدين ، فسلموا إليه
الصدقات ، فرجع . وفي تنكير الفاسق والنبأ : شياع في الفساق والأنباء ، كأنه قال :
أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ . فتوقفوا فيه وتطلبوا الأمر وانكشاف الحقيقة ، ولا
تعتمدوا قول الفاسق ( لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع
منه . والفسوق : الخروج من الشيء والانسلاخ منه . يقال : فسقت الرطبة عن قشرها .
ومن مقلوبه : فقست البيضة ، إذا كسرتها وأخرجت ما فيها . ومن مقلوبه أيضاً : قفست
الشيء إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصباً له عليه ، ثم استعمل في
" صفحة رقم 363 "
الخروج عن القصد والانسلاخ من الحق . قال رؤبة : فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِهَا
جَوَائِرَا ;
وقرأ ابن مسعود : ( فتثبتوا ) والتثبت والتبين : متقاربان ، وهما طلب الثبات
والبيان والتعرّف ، ولما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والذين معه
بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب ، وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا
في الندرة . قيل : إن جاءكم بحرف الشك وفيه أنّ على المؤمنين أن يكونوا على هذه
الصفة ، لئلا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور ) ءانٍ ( مفعول له ، أي : كراهة
إصابتكم ) تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ ( حال ، كقوله تعالى : ) وَرَدَّ اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ ( ( الأحزاب : 25 ) يعني جاهلين بحقيقة الأمر
وكنه القصة . والإصباح : بمعنى الصيرورة . والندم : ضرب من الغم ، وهو : أن تغتمّ
على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع ، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزام ،
لأنه كلما تذكر المتندّم عليه راجعه من الندام : وهو لزام الشريب ودوام صحبته .
ومن مقلوباته : أدمن الأمر أدامه . ومدن بالمكان : أقام به . ومنه : المدينة وقد
تراهم يجعلون الهم صاحباً ونجياً وسميراً وضجيعاً ، وموصوفاً بأنه لا يفارق صاحبه
. الجملة المصدّرة بلولا تكون كلاماً مستأنفاً ، لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن
متصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع ، أو البارز
المجرور . وكلاهما مذهب سديد . والمعنى : أن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم
تغييرها . أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها : وهي أنكم تحاولون منه أن يعمل في
الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأى ، واستصواب فعل المطواع لغيره التابع له
فيما يرتثيه ، المحتذى على أمثلته ؛ ولو فعل ذلك ) لَعَنِتُّمْ ( أي لوقعتم في
العنت والهلاك . يقال :
" صفحة رقم 364 "
فلان يتعنت فلاناً ، أي : يطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك . وقد أعنت العظم : إذا هيض
بعد الجبر . وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد . وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط
منهم ، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم
الذين استثناهم بقوله تعالى : ) وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ
( أي إلى بعضكم ، ولكنه أغنت عن ذكر البعض : صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من
إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة ، التي لا يفطن لها إلا الخواص . وعن بعض المفسرين
: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . وقوله : ) أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ (
والخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أي : أولئك المستثنون هم الراشدون
يصدق ما قلته . فإن قلت : ما فائدة تقديم خبر إن على اسمها ؟ قلت : القصد إلى
توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن الله منهم من استتباع رأي رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) لارائهم ، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه . فإن قلت : فلم قيل )
يُطِيعُكُمْ ( دون : أطاعكم ؟ قلت : للدلالة على أنه كان في أرادتهم استمرار عمله
على ما يستصوبونه . وأنه كلما عنّ لهم رأى في أمر كان معمولاً عليه ، بدليل قوله :
) فِى كَثِيرٍ مّنَ الاْمْرِ ( كقولك : فلان يقري الضيف ويحمي الحريم ، تريد : أنه
مما اعتاده ووجد منه مستمرّاً . فإن قلت : كيف موقع ) وَلَاكِنَّ ( وشريطتها
مفقودة : من مخالفة ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً ؟ قلت : هي مفقودة من حيث
اللفظ ، حاصلة من حيث المعنى ؛ لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة
المتقدّم ذكرهم ، فوقعت ، لكنّ في حاق موقعها من الاستدراك . ومعنى تحبيب الله
وتكريهه للطف والإمداد بالتوفيق ، وسبيله الكتابة كما سبق ، وكل
" صفحة رقم 365 "
ذي لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبي عليه أن الرجل لا يمدح بغير فعله ؛ وحمل الآية
على ظاهرها يؤدّي إلى أن يثني عليهم بفعل الله ، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل
فيهم ) وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ( ( آل عمران : 188
) فإن قلت : فإنّ العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه ، وذلك فعل الله ، وهو مدح مقبول
عند الناس غير مردود . قلت : الذي سوّغ ذلك لهم أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة
المنظر في الغالب ، يسفر عن مخبر مرضى وأخلاق محمودة ومن ثم قالوا : أحسن ما في
الدميم وجهه ، فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته ، ولكن لدلالته على غيره ، على أن
من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به ، وقصر المدح على
النعت بأمّهات الخير : وهي الفصاحة والشجاعة والعدل والعفة ، وما يتشعب منها ويرجع
إليها ، وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد وغير ذلك مما ليس
للإنسان فيه عمل غلطاً ومخالفة عن المعقول و ) الْكُفْرِ ( تغطية نعم الله تعالى
وغمطها بالجحود . و ) الْفُسُوقُ ( الخروج عن قصد الإيمان ومحجته بركوب الكبائر )
وَالْعِصْيَانَ ( ترك الانقياد والمضي لما أمر به الشارع . والعرق العاصي : العاند
. واعتصت النواة : اشتدّت . والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من
الرشادة وهي الصخرة . قال أبو الوازع : كل صخرة وشادة . وأنشد : وَغَيْرُ
مُقَلَّدٍ وَمُوَشَّمَات
صَلينَ الضَّوْءَ مِنْ صُمِّ الرَّشَادِ
و ) فَضْلاً ( مفعول له ، أو مصدر من غير فعله فإن قلت : من أين جاز وقوعه
" صفحة رقم 366 "
مفعولاً له ، والرشد فعل القوم ، والفضل فعل الله تعالى ، والشرط أن يتحد الفاعل .
قلت : لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه ، مسندة إلى اسمه تقدست
أسماؤه : صار الرشد كأنه فعله ، فجاز أن ينتصب عنه أو لا ينتصب عن الراشدون ، ولكن
عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى ، والجملة التي هي ) أُوْلَئِكَ هُمُ
الرشِدُونَ ( اعتراض . أو عن فعل مقدر ، كأنه قيل : جرى ذلك ، أو كان ذلك فضلاً من
الله . وأما كونه مصدراً من غير فعله ، فأن يوضع موضع رشداً ؛ لأنّ رشدهم فضل من
الله لكونهم موفقين فيه ، والفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام ) وَاللَّهُ
عَلِيمٌ ( بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل ) حَكِيمٌ ( حين يفضل
وينعم بالتوفيق على أفاضلهم .
) وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا
فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى
تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (
الحجرات : ( 9 ) وإن طائفتان من . . . . .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
( 1066 ) وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار
فبال
" صفحة رقم 367 "
الحمار ، فأمسك عبد الله بن أبيّ بأنفه وقال : خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه .
فقال عبد الله بن رواحة : والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك وروى : حماره أفضل
منك ، وبول حماره أطيب من مسكك ؛ ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وطال
الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا ، وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج ، فتجالدوا
بالعصي ، وقيل : بالأيدي والنعال والسعف ، فرجع إليهم رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) وأصلح بينهم ، ونزلت . وعن مقاتل : قرأها عليهم فاصطلحوا . والبغي :
الاستطالة والظلم وإباء الصلح . والفيء : الرجوع ، وقد سمى به الظل والغنيمة ؛
لأنّ الظل يرجع بعد نسخ الشمس ، والغنيمة : ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين
، وعن أبي عمرو : ( حتى تفيء ) بغير همز ؛ ووجهه أنّ أبا عمرو خفف الأولى من
الهمزتين الملتقيتين فلطفت على الراوي تلك الخلسة فظنه قد طرحها . فإن قلت : ما
وجه قوله : ) اقْتَتَلُواْ ( والقياس اقتتلتا ، كما قرأ ابن أبي عبلة ( أو اقتتلا
) كما قرأ عبيد بن عمير على تأويل الرهطين أو النفرين ؟ قلت : هو مما حمل على
المعنى دون اللفظ ؛ لأنّ الطائفتين في معنى القوم والناس . وفي قراءة عبد الله (
حتى يفيئوا إلى أمر الله ) فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط . وحكم الفئة الباغية :
وجوب قتالها ما قاتلت . وعن ابن عمر : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدته من أمر هذه
الآية إن لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله عز وجل . قاله بعد أن اعتزل ،
فإذا كافت وقبضت عن الحرب أيديها تركت ، وإذا تولت اعمل بما روى عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) أنه قال :
( 1067 ) ( يا ابن أم عبد ، هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمّة ؟ ) قال
: الله ورسوله أعلم قال : لا يجهر على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها
ولا يقسم فيؤها ) ولا تخلوا الفئتان من المسلمين في اقتتالهما : إما أن يقتتلا على
سبيل البغى منهما جميعاً ، فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين
ويثمر
" صفحة رقم 368 "
المكافة والموادعة ، فإن لم تتحاجزا ولم تصطلحا وأقامتا على البغي : صير إلى
مقاتلتهما ، وإما أن يلتحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما . وكلتاهما عند
أنفسهما محقة ، فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة ، وإطلاعهما
على مراشد الحق . فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا
من اتباع الحق بعد وضوحه لهما ، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين . وإما أن تكون
إحداهما الباغية على الأخرى ؛ فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب ، فإن
فعلت أصلح بينهما وبين المبغى عليها بالقسط والعدل ، وفي ذلك تفاصيل : إن كانت الباغية
من قلة العدد بحيث لا منعة لها : ضمنت بعد الفيئة ما جئت ؛ وإن كانت كثيرة ذات
منعة وشوكة ، لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله ؛ فإن كان يفتي بأن الضمان
يلزمها إذا فاءت . وأمّا قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها ،
فما جنته ضمنته عند الجميع ، فمحمل الإصلاح بالعدل في قوله تعالى : )
فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ( على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ
التنزيل ، وعلى قول غيره : وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد ، والذي ذكروا
أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات : ليس بحسن الطباق للمأمور
به من أعمال العدل ومراعاة القسط . فإن قلت : فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون
الأوّل ؟ قلت : لأنّ المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين معاً أو
راكبتي شبهة ، وأيتهما كانت ؛ فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما :
إصلاح ذات البين ، وتسكين الدهماء بإرادة الحق والمواعظ الشافية ، ونفي الشبهة ؛
إلا إذا أصرتا ، فحينئذٍ تجب المقاتلة . وأما الضمان فلا يتجه ، وليس كذلك إذا بغت
إحداهما ؛ فإنّ الضمان متجه على الوجهين المذكورين ) وَأَقْسِطُواْ ( أمر باستعمال
القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين ، والقول فيه مثله في
الأمر باتقاء الله على عقب النهي عن التقديم بين يديه ، والقسط بالفتح : الجور من
القسط : وهو اعوجاج في الرجلين . وعود قاسط : يابس . وأقسطته الرياح . وأمّا القسط
بمعنى العدل ، فالفعل منه : أقسط ، وهمزته للسلب ، أي : أزال القسط وهو الجور .
) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (
الحجرات : ( 10 ) إنما المؤمنون إخوة . . . . .
هذا تقرير لما ألزمه من تولى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين ،
وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق : ما إن لم يفضل
" صفحة رقم 369 "
الأخوّة ولم يبرز عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غايتها . ثم قد جرت عادة الناس
على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد ، لزم السائر أن يتناهضوا في
رفعه وإزاحته ، ويركبوا الصعب والذلول مشياً بالصلح وبثاً للسفراء بينهما ، إلى أن
يصادف ما وهي من الوفاق من يرقعه ، وما استشن من الوصال من يبله ؛ فالأخوة في
الدين أحق بذلك وبأشدّ منه . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1068 ) ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يعيبه ، ولا يتطاول عليه
في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ، ولا يؤذيه بقتار قدره ) ثم قال : ( احفظوا
، ولا يحفظ منكم إلا قليل ) . فإن قلت : فلم خص الاثنان بالذكر دون الجمع ؟ قلت :
لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان ؛ فإذا لزمت المصالحة بين الأقل كانت بين
الأكثر ألزم ؛ لأنّ الفساد في شقاق الجمع أكثر منه في شقاق الاثنين ، وقيل :
المراد بالأخوين الأوس والخزرج ، وقرىء : ( بين إخوتكم وإخوانكم ) والمعنى : ليس
المؤمنون إلا إخوة ، وأنهم خلص لذلك متمحضون ، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبية ،
وأبي لطف حالهم في التمازج والاتحاد أن يقدموا على ما يتولد منه التقاطع ، فبادروا
قطع ما يقع من ذلك إن وقع واحسموه ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( فإنكم إن فعلتم لم
تحملكم التقوى إلا على التواصل والائتلاف ، والمسارعة إلى إماطة ما يفرط منه ،
وكان فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم ، واشتمال رأفته عليكم حقيقاً بأن تعقدوا به
رجاءكم .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن
يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ
خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاٌّ
لْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الايمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ
فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (
الحجرات : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
القوم : الرجال خاصة ؛ لأنهم القوّام بأمور النساء . قال الله تعالى : ) الرّجَالُ
قَوَّامُونَ
" صفحة رقم 370 "
عَلَى النّسَاء ( ( النساء : 34 ) وقال عليه الصلاة والسلام :
( 1069 ) ( النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه ) والذابون هم الرجال ، وهو في الأصل
جمع قائم ، كصوّم وزوّر : في جمع صائم وزائر . أو تسمية بالمصدر . عن بعض العرب :
إذا أكلت طعاماً أحببت نوماً وأبغضت قوماً . أي قياماً ، واختصاص القوم بالرجال :
صريح في الآية وفي قول زهير : أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ ;
وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط
للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن ، وتنكير
القوم والنساء يحتمل معنيين : أن يراد : لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض ؛
وأن تقصد إفادة الشياع ، وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية ، وإنما لم يقل
: رجل من رجل ، ولا امرأة من امرأة على التوحيد ، إعلاماً بإقدام غير واحد من
رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية ، واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه ،
ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى ويستضحك على قوله ، ولا يأتي ما عليه من
النهي والإنكار ، فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمل الوزر ، وكذلك كل من يطرق سمعه
فيستطيبه ويضحك به ، فيؤدي ذلك وإن أوجده واحد إلى تكثر السخرة وانقلاب الواحد
جماعة وقوماً . وقول تعالى : ) عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ ( كلام
مستأنف قد ورد
" صفحة رقم 371 "
مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه ، وإلا فقد كان حقه أن
يوصل بما قبله بالفاء . والمعنى وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند
الله خيراً من الساخر ، لأنّ الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال ولا علم لهم
بالخفيات ، وإنما الذي يزن عند الله ؛ خلوص الضمائر وتقوى القلوب ، وعلمهم من ذلك
بمعزل ، فينبغي أن لا يجترىء أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال
، أو ذا عاهة في بدنه ، أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً
ممن هو على ضدّ صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهانة بمن عظمه الله ،
ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمر بن شرحبيل : لو رأيت
رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه : خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه . وعن عبد الله بن مسعود
: البلاء موكل بالقول ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلباً . وفي قراءة عبد الله
: ( عسوا أن يكونوا ) وعسين أن يكن ، فعسى على هذه القراءة هي ذات الخبر كالتي في
قوله تعالى : ) فَهَلْ عَسَيْتُمْ ( ( محمد : 22 ) وعلى الأولى التي لا خبر لها
كقوله تعالى : ) وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا ( ( البقرة : 216 ) . واللمز :
الطعن والضرب باللسان . وقرىء : ( ولا تلمزوا ) بالضم . والمعنى : وخصوا أيها
المؤمنون أنفسكم بالانتهاء من عيبها والطعن فيها ، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن
لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم ، ففي الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) :
( 1070 ) ( اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس )
" صفحة رقم 372 "
وعن الحسن رضي الله عنه في ذكر الحجاج : أخرج إلى بنانا قصيرة قلما عرقت فيها
الأعنة في سبيل الله ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول : يا أبا سعيد يا أبا سعيد ،
وقال لما مات : اللَّهم أنت أمته فاقطع سنته ، فإنه أتانا أخيفش أعيمش يخطر في
مشيته ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي ، فوقه
الله وتحته مائة ألف أو يزيدون ، لا يقول له قائل : الصلاة أيها الرجل الصلاة أيها
الرجل ، هيهات دون ذلك السيف والسوط . وقيل : معناه لا يعب بعضكم بعضاً ، لأنّ
المؤمنين كنفس واحدة ، فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه . وقيل : معناه لا
تفعلوا ما تلمزون به ، لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة .
والتنابز بالألقاب : التداعي بها : تفاعل من نبزه ، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون
ويقال : النبز والنزب : لقب السوء والتلقيب المنهي عنه ، وهو ما يتداخل المدعوّ به
كراهة لكونه تقصيراً به وذمّاً له وشيئاً ، فأما ما يحبه مما يزينه وينوّه به فلا
بأس به . روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1071 ) ( من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه ) ولهذا كانت التكنية
من السنة والأدب الحسن . قال عمر رضي الله عنه : أشيعوا الكنى فإنها منبهة . ولقد
لقب أبو بكر بالعتيق والصدّيق ، وعمر بالفاروق ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بسيف
الله ، وقلَّ من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب ، ولم تزل هذه
الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من
غير نكير . روي عن الضحاك أن قوماً من بني تميم استهزؤوا ببلال وخباب وعمار وصهيب
" صفحة رقم 373 "
وأبي ذرّ وسالم مولى حذيفة . فنزلت . وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسخر من
زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة . وعن ابن عباس أن أمّ سلمة ربطت حقويها
بسبنيّة وسدلت طرفها خلفها وكانت تجرّه ، فقالت عائشة لحفصة : انظري ما تجرّ خلفها
كأنه لسان كلب . وعن أنس : عيرت نساء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمّ سلمة
بالقصر . وعن عكرمة عن ابن عباس
( 1072 ) أن صفية بنت حييّ أتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : إن
النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) : ( هلا قلت إن أبي هرون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد ) ، روي :
( 1073 ) أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر ، وكانوا يوسعون له في مجلس رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليسمع ؛ فأتى يوماً وهو يقول : تفسحوا لي ، حتى انتهى
إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فقال لرجل : تنح ، فلم يفعل ، فقال
: من هذا ؟ فقال الرجل : أنا فلان ، فقال : بل أنت ابن فلانة ، يريد : أمّاً كان
يعير بها في الجاهلية ، فخجل الرجل فنزلت ، فقال ثابت : لا أفخر على أحد في الحسب
بعدها أبداً ) الاسْمُ ( هاهنا بمعنى الذكر ، من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم
أو باللؤم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته . وحقيقته : ما سما من ذكره وارتفع بين
الناس . ألا ترى إلى قولهم : أشاد بذكره ؛ كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين
بسبب ارتكاب هذه
" صفحة رقم 374 "
الجرائر أن يذكروا بالفسق . وفي قوله : ) بَعْدَ الاْيمَانِ ( ثلاثة أوجه : أحدها
استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره ، كما تقول : بئس
الشأن بعد الكبرة الصبوة والثاني : أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود : يا
يهودي يا فاسق ، فنهوا عنه ، وقيل لهم : بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق
واليهودية بعد إيمانه ، والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز .
والثالث : أن يجعل من فسق غير مؤمن ، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة :
بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ
وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (
الحجرات : ( 12 ) يا أيها الذين . . . . .
يقال : جنبه الشر إذا أبعده عنه ، وحقيقته : جعله منه في جانب ، فيعدى إلى مفعولين
. قال الله عز وجل : ) وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ ( (
إبراهيم : 35 ) ثم يقال في مطاوعه : اجتنب الشر فتنقص المطاوعة مفعولاً . والمأمور
باجتنابه هو بعض الظن ، وذلك البعض موصوف بالكثرة : ألا ترى إلى قوله : ) إِنَّ
بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ ( ؟ فإن قلت : بَيِّن الفصل بيْنَ ) كَثِيراً ( ، حيث جاء
نكرة وبينه لو جاء معرفة . قلت : مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية ، وإنّ في الظنون
ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين . لئلا يجترىء أحد على ظنّ إلا بعد
نظر وتأمّل ، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة ، مع استشعار للتقوى والحذر ؛ ولو
عرف لكان الأمر باجتناب الظنّ منوطاً بما يكثر من دون ما يقل ، ووجب أن يكون كل
ظنّ متصف بالكثرة مجتنباً ، وما اتصف منه بالقلة مرخصاً في تظننه . والذي يميز
الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها : أنّ كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر
: كان حراماً واجب الاجتناب ؛ وذلك إذا كان المظنون به ممن
" صفحة رقم 375 "
شوهد منه الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظنّ الفساد والخيانة به
محرّم ، بخلاف من اشتهره الناس يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث . عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) :
( 1074 ) ( إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء ) وعن
الحسن : كنا في زمان الظنُّ بالناس حرام ، وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت ، وظنّ
بالناس ما شئت . وعنه : لا حرمة لفاجر . وعنه : إن الفاسق إذا أظهر فسقه وهتك ستره
هتكه الله ، وإذا استتر لم يظهر الله عليه لعله أن يتوب . وقد روي :
( 1075 ) من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له . والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه
العقاب . ومنه قيل لعقوبته : الأثام ، فعال منه : كالنكال والعذاب والوبال ، قال :
لَقَدْ فَعَلَتْ هاذِي النَّوَى بِيَ فَعْلَة
أَصَابَ النَّوَى قَبْلَ المَمَاتِ أَثَامُهَا
والهمزة فيه عن الواو ، كأنه يثم الأعمال : أي يكسرها بإحباطه . وقرىء : ( ولا
تحسسوا ) بالحاء والمعنيان متقاربان . يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه :
تفعل من الجس ، كما أن التلمس بمعنى التطلب من اللمس ، لما في اللمس من الطلب .
وقد جاء بمعنى الطلب في قوله تعالى : ) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء ( والتحسس :
التعرّف من الحس ، ولتقاربهما قيل لمشاعر الإنسان : الحواس بالحاء والجيم ،
والمراد النهي عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه . وعن مجاهد
. خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 376 "
:
( 1076 ) أنه خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهنّ . قال : يا معشر من آمن
بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ، لا تتبعوا عورات المسلمين : فإن من تتبع عورات
المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته . وعن زيد بن وهب : قلنا لابن
مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة بن أبي معيط تقطر لحيته خمراً ؟ فقال ابن مسعود :
إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به . غابه واغتابه : كغاله
واغتاله . والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال : وهي ذكر السوء في الغيبة
( 1077 ) سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الغيبة فقال : ( أن تذكر أخاك
بما يكره . فإن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته ) وعن ابن عباس رضي
الله عنهما : الغيبة إدام كلاب الناس ) أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ( تمثيل وتصوير لما
يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه . وفيه مبالغات شتى : منها
الاستفهام الذي معناه التقرير . ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً
بالمحبة . ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك
. ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، حتى جعل الإنسان أخاً
. ومنها أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتاً . وعن قتادة : كما تكره إن
وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها ، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي . وانتصب ) مَيْتًا (
على الحال من اللحم . ويجوز أن ينتصب عن الأخ . وقرىء : ( ميِّتا ) ولما قرّرهم عز
وجل بأنّ أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه ، عقب ذلك بقوله تعالى : )
فَكَرِهْتُمُوهُ ( معناه : فقد كرهتموه واستقرّ ذلك . وفيه معنى الشرط ، أي : إن
صحّ هذا فكرهتموه ، وهي الفاء الفصيحة ، أي : فتحققت بوجوب الإقرار عليكم وبأنكم
لا تقدرون على دفعه وإنكاره : لإباء البشرية عليكم أن تجحدوه كراهتكم له وتقذركم
منه ، فليتحقق أيضاً أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في
" صفحة رقم 377 "
أعراض المسلمين . وقرىء : ( فكرهتموه ) أي : جبلتم على كراهته . فإن قلت : هلا
عدّى بإلى كما عدّى في قوله : ) وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ( ( الحجر : 7 )
وأيهما القياس ؟ قلت : القياس تعدّيه بنفسه ، لأنه ذو مفعول واحد قبل تثقيل حشوه ،
تقول : كرهت الشيء ، فإذا ثقل استدعى زيادة مفعول . وأما تعدّيه بإلى ، فتأوّل
وإجراء لكره مجرى بغض ، لأنّ بعض منقول من بغض إليه الشيء فهو بغيض إليه ، كقولك :
حب إليه الشيء فهو حبيب إليه . والمبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه
من عباده ، أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفواً عنه بالتوبة . أو
لأنه بليغ في قبول التوبة ، منزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط ، لسعة كرمه .
والمعنى : واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه ، فإنكم
إن اتقتيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليك بثواب المتقين التائبين . وعن ابن عباس :
( 1078 ) أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما ، فنام عن شأنه
يوماً ، فبعثاه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يبغي لهما إداماً ، وكان
أسامة على طعام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ما عندي شيء ، فأخبرهما
سلمان بذلك ، فعند ذلك قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، فلما راحا إلى
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ،
فقالا : ما تناولنا لحماً فقال : إنكما قد اغتبتما فنزلت .
) ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (
الحجرات : ( 13 ) يا أيها الناس . . . . .
) مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( من آدم وحوّاء . وقيل : خلقنا كل واحد منكم من أب وأمّ ،
فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلى به الآخر سواء بسواء ، فلا وجه للتفاخر
والتفاضل في النسب . والشعب : الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب ،
وهي : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة ؛ فالشعب يجمع
القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن تجمع الأفخاذ ،
والفخذ تجمع الفصائل : خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصى بطن ، وهاشم
فخذ ،
" صفحة رقم 378 "
والعباس فصيلة ، وسميت الشعوب ؛ لأنّ القبائل تشعبت منها . وقرىء : ( لتتعارفوا )
ولتعارفوا بالإدغام . ولتعرفوا ، أي لتعلموا كيف تتناسبون . ولتتعرفوا . والمعنى :
أن الحكمة التي من أجلها رتبكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض . فلا
يعتزى إلى غير آبائه ، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد ، وتدعوا التفاضل في
الأنساب . ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله
تعالى فقال : ) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( وقرىء : ( أنّ )
بالفتح ، كأنه قيل : لم لا يتفاخر بالأنساب ؟ فقيل : لأنّ أكرمكم عند الله أتقاكم
لا أنسبكم . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1079 ) أنه طاف يوم فتح مكة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( الحمد لله الذي
أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها ، يا أيها الناس ، إنما الناس رجلان : مؤمن تقي
كريم على الله ، وفاجر شقيّ هين على الله ) ثم قرأ الآية . وعنه عليه السلام :
( 1080 ) ( من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله ) . وعن ابن عباس : كرم الدنيا
الغني ، وكرم الآخرة التقوى . وعو يزيد بن شجرة :
( 1081 ) مرّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سوق المدينة فرأى غلاماً أسود
يقول : من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم ، فاشتراه رجل فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
يراه عند كل صلاة ، ففقده يوماً فسأل عنه صاحبه ، فقال : محموم ، فعاده ثم سأل عنه
بعد ثلاثة أيام فقال : هو لما به ، فجاءه وهو في ذمائه . فتولى غسله ودفنه ، فدخل
على المهاجرين
" صفحة رقم 379 "
والأنصار أمر عظيم ، فنزلت .
) قَالَتِ الاٌّ عْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ
أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ (
الحجرات : ( 14 ) قالت الأعراب آمنا . . . . .
الإيمان : هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس . والإسلام : الدخول في السلم .
والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين . ألا ترى إلى قوله تعالى : )
وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( فاعلم أنّ ما يكون من الإقرار
باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام ، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان .
فإن قلت : ما وجه قوله تعالى : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ
أَسْلَمْنَا ( والذي يقتضه نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا
أسلمنا . أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم ؟ قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلاً
، ودفع ما انتحلوه ، فقيل : قل لم تؤمنوا . وروعى في هذا النوع من التكذيب أدب حسن
حين لم يصرّح بلفظه ، فل يقل : كذبتم ، ووضع ) لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( الذي هو نفي ما
ادعوا إثباته موضعه ، ثم نبه على ما فعل من وضعه موضع كذبتم في قوله في صفة
المخلصين ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ( الحجرات : 15 ) تعريضاً بأن هؤلاء
هم الكاذبون ، ورب تعريض لا يقاومه التصريح ، واستغنى بالجملة التي هي لم : )
تُؤْمِنُواْ ( عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤدّاه
النهي عن القول بالإيمان ، ثم وصلت بها الجملة المصدّرة بكلمة الاستدراك محمولة
على المعنى ، ولم يقل : ولكن أسلمتم ، ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى ، كما كان
قولهم : ) مِنَ ( كذلك ، ولو قيل : ولكن أسلمتم ، لكان خروجه في معرض التسليم لهم
والاعتداد بقولهم وهو غير معتدّ به . فإن قلت : قوله : ) وَلَمَّا يَدْخُلِ
الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( بعد قوله تعالى : ) قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( يشبه
التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة . قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : )
لَّمْ تُؤْمِنُواْ ( هو تكذيب دعواهم ، وقوله : ) وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ
فِى قُلُوبِكُمْ
" صفحة رقم 380 "
( توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم ) وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا (
حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم ؛ لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في )
قُولُواْ ( وما في ( لما ) من معنى التوقع : دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد )
لاَ يَلِتْكُمْ ( لا ينقصكم ولا يظلمكم . يقال : ألته السلطان حقه أشدّ الألت ،
وهي لغة غطفان . ولغة أسد وأهل الحجاز : لاته ليتا . وحكى الأصمعي عن أمّ هشام
السلولية أنها قالت : الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ، ولا تصمه الأصوات . وقرىء
باللغتين ( لا يلتكم ) ولا يألتكم . ونحوه في المعنى ) فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئاً ( ( الأنبياء : 47 ) . ومعنى طاعة الله ورسوله : أن يتوبوا عما كانوا عليه
من النفاق ويعقدوا قلوبهم على الإيمان ويعملوا بمقتضياته ، فإن فعلوا ذلك تقبل
الله توبتهم ، ووهب لهم مغفرته . وأنعم عليهم بجزيل ثوابه . وعن ابن عباس رضي الله
عنهما أنّ نفراً من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة ، فأظهروا الشهادة ،
وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارها ، وهم يغدون ويروحون على رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك
بالأثقال والذراري ، يريد الصدقة ويمنون عليه ، فنزلت .
) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ
يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (
الحجرات : ( 15 ) إنما المؤمنون الذين . . . . .
ارتاب : مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة . والمعنى : أنهم آمنوا ثم لم يقع
في نفوسهم شك فيما آمنوا به ، ولا اتهام لمن صدّقوه واعترفوا بأنّ الحق منه . فإن
قلت : ما معنى ثم هاهنا وهي التراخي وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارناً للإيمان
لأنه وصف فيه ، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن
وانتفاء الريب ؟ قلت : الجواب على طريقين ، أحدهما أنّ من وجد منه الإيمان ربما
اعترضه الشيطان أو بعض المضلين بعد ثلج الصدر فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه ،
أو نظر هو نظراً غير سديد ويسقط به على الشك ثم يستمرّ على ذلك راكباً رأسه لا
يطلب له مخرجاً ، فوصف المؤمنون حقاً بالبعد عن هذه الموبقات . ونظيره قوله : )
ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( ( فصلت : 30 ) والثاني : أنّ الإيقان وزوال الريب لما كان
ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدّم الإيمان ، تنبيهاً على مكانه ؛ وعطف على
الإيمان بكلمة التراخي إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً
جديداً . ) وَجَاهِدُواْ ( يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدوّ المحارب أو
الشيطان أو الهوى . وأن يكون جاهد مبالغة في جهد . ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس
: الغزو ، وأن يتناول العبادات بأجمعها ، وبالمجاهدة بالمال : نحو ما
" صفحة رقم 381 "
صنع عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة ، وأن يتناول الزكوات وكل ما يتعلق بالمال
من أعمال البر التي يتحامل فيها الرجل على ماله لوجه الله تعالى ) أُوْلَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ ( الذين صدقوا في قولهم آمنا ، ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد ،
أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وإيمان حق وجدّ وثبات .
) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (
الحجرات : ( 16 ) قل أتعلمون الله . . . . .
يقال : ما علمت بقدومك ، أي : ما شعرت به ولا أحطت به . ومنه قوله تعالى : )
أَتُعَلّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ( وفيه تجهيل لهم .
) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ
إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلايمَانِ إِنُ
كُنتُمْ صَادِقِينَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (
الحجرات : ( 17 ) يمنون عليك أن . . . . .
يقال : منّ عليه بيد أسداها إليه ، كقولك : أنعم عليه وأفضل عليه . والمنة :
النعمة التي لا يستثيب مسديها من يزلها إليه ؛ واشتقاقها من المنّ الذي هو القطع ،
لأنه إنما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير ، من غير أن يعمد لطلب مثوبة . ثم
يقال : منّ عليه صنعه ، إذا اعتده عليه منة وإنعاماً . وسياق هذه الآية فيه لطف
ورشاقة ، وذلك أنّ الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاماً ، ونفى أن يكون كما
زعموا إيماناً ؛ فلما منوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان منهم قال
الله سبحانه وتعالى لرسوله عليه السلام : إنّ هؤلاء يعتدّون عليك بما ليس جديراً
بالاعتداد به من حدثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام . فقل لهم : لا تعتدّوا على
إسلامكم ، أي حدثكم المسمى إسلاماً عندي لا إيماناً . ثم قال : بل الله يعتد عليكم
أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم أنكم أرشدتم إليه
ووفقتم له إن صحّ زعمكم وصدقت دعواكم ، إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم
بخلافه . وفي إضافة الإسلام إليهم وإيراد الإيمان غير مضاف : ما لا يخفى على
المتأمل ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، تقديره : إن كنتم صادقين في
ادعائكم الإيمان ، فللَّه المنة عليكم . وقرىء : ( إن هداكم ) بكسر الهمزة . وفي
قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : إذ هداكم . وقرىء : ( تعلمون ) بالتاء والياء ،
وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم ، يعني أنه عزّ وجل يعلم كل مستتر في
العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم ، لا يخفى عليه منه شيء ، فكيف
يخفى عليه ما في
" صفحة رقم 382 "
ضمائركم ولا يظهر على صدقكم وكذبكم ، وذلك أنّ خاله مع كل معلوم واحدة لا تختلف .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1082 ) ( من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه ) .
" صفحة رقم 383 "
( سورة ق )
مكية ( إلا آية 38 فمدنية )
وآياتها 45 ( نزلت بعد المرسلات )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ
فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً
ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ (
ق : ( 1 - 3 ) ق والقرآن المجيد
الكلام في ) ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ ( نحوه في ) ص وَالْقُرْءانِ ذِى
الذّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ( ص : 1 2 ) سواء بسواء ، لالتقائهما في
أسلوب واحد . والمجيد : ذو المجد والشرف على غيره من الكتب ، ومن أحاط علماً
بمعانيه وعمل بما فيه : مجد عند الله وعند الناس ، وهو بسبب من الله المجيد ، فجاز
اتصافه بصفته . قوله بل عجبوا : ) أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ ( إنكار لتعجبهم
مما ليس بعجب ، وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالتهم
وأمانته ، ومن كان على صفته لم يكن إلا ناصحاً لقومه مترفرفاً عليهم ، خائفاً أن
ينالهم سوء ويحل بهم مكروه ، وإذا علم أنّ مخوفاً أظلهم ، لزمه أن ينذرهم ويحذرهم
، فكيف بما هو غاية المخاوف ونهاية المحاذير ، وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من
البعث ، مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وعلى
اختراع كل شيء وإبداعه ، وإقرارهم بالنشأة الأولى ، ومع شهادة العقل بأنه لا بدّ
من الجزاء . ثم عوّل على أحد الإنكارين بقوله تعالى : ) فَقَالَ الْكَافِرُونَ
هَاذَا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا ( دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في
الاستبعاد وأحق بالإنكار ، ووضع الكافرون موضع الضمير للشهادة على أنهم في قولهم
هذا مقدمون على الكفر العظيم . وهذا إشارة إلى الرجع ؛ وإذا منصوب بمضمر ؛ معناه :
أحين نموت ونبلى نرجع ؟ ) ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( مستبعد مستنكر ، كقولك : هذا
قول بعيد . وقد
" صفحة رقم 384 "
أبعد فلان في قوله . ومعناه : بعيد من الوهم والعادة . ويجوز أن يكون الرجع بمعنى
المرجوع . وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به
من البعث ، والوقف قبله على هذا التفسير حسن . وقرىء : ( إذا متنا ) على لفظ الخبر
، ومعناه : إذا متنا بعد أن نرجع ، والدال عليه ) ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( . فإن قلت
: فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع ؟ قلت : ما دل عليه المنذر من
المنذر به ، وهو البعث .
) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاٌّ رْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (
ق : ( 4 ) قد علمنا ما . . . . .
) قَدْ عَلِمْنَا ( ردّ لاستبعادهم الرجع ، لأن من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص
الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم ، كان قادراً على رجعهم أحياء كما
كانوا . عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1083 ) ( كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب ) ، وعن السدي : ) مَا تَنقُصُ الاْرْضَ
مِنْهُمْ ( ما يموت فيدفن في الأرض منهم ) كِتَابٌ حَفِيظٌ ( محفوظ من الشياطين
ومن التغير ، وهو اللوح المحفوظ . أو حافظ لما أودعه وكتب فيه .
) بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ (
ق : ( 5 ) بل كذبوا بالحق . . . . .
) بَلْ كَذَّبُواْ ( إضراب أتبع الإضراب الأوّل ، للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو
أفظع من تعجبهم ؛ وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات في أوّل
وهلة من غير تفكر ولا تدبر ) فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ ( مضطرب . يقال : مرج
الخاتم في أصبعه وجرج ؛ فيقولون تارة : شاعر ، وتارة : ساحر ، وتارة : كاهن ، لا
يثبتون على شيء واحد : وقرىء : ( لما جاءهم ) بكسر اللام وما المصدرية ، واللام هي
التي في قولهم لخمس خلون ، أي : عند مجيئه إياهم ، وقيل : ) الْحَقّ ( : القرآن .
وقيل : الإخبار بالبعث .
) أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (
ق : ( 6 ) أفلم ينظروا إلى . . . . .
) أَفَلَمْ يَنظُرُواْ ( حين كفروا بالبعث إلى آثار قدرة الله في خلق العالم )
بَنَيْنَاهَا ( رفعناها بغير عمد ) مِن فُرُوجٍ ( من فتوق : يعني أنها ملساء سليمة
من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل ، كقوله تعالى : ) هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ
( ( الملك : 3 ) .
" صفحة رقم 385 "
) وَالاٌّ رْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا
مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (
ق : ( 7 - 8 ) والأرض مددناها وألقينا . . . . .
) مَدَدْنَاهَا ( دحوناها ) رَوَاسِىَ ( جبالاً ثوابت لولا هي لتكفأت ) مِن كُلّ
زَوْجٍ ( من كل صنف ) بَهِيجٍ ( يبتهج به لحسنه ) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى ( لتبصر به
وتذكر كل ) عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( راجع إلى ربه ، مفكر في بدائع خلقه . وقرىء : (
تبصرة وذكرى ) بالرفع ، أي : خلقها تبصرة .
) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ
وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً
لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَالِكَ الْخُرُوجُ (
ق : ( 9 - 11 ) ونزلنا من السماء . . . . .
) مَاء مُّبَارَكاً ( كثير المنافع ) وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( وحب الزرع الذي من شأنه
أن يحصد ، وهو ما يقتات به من نحو الحنطة والشعير وغيرهما ) بَاسِقَاتٍ ( طوالاً
في السماء : وفي قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : باصقات ، بإبدال السين
صاداً لأجل القاف ) نَّضِيدٌ ( منضود بعضه فوق بعض : إما أن يراد كثرة الطلع
وتراكمه ؛ أو كثرة ما فيه من الثمر ) رِزْقاً ( على أنبتناها رزقاً ، لأنّ الإنبات
في معنى الرزق . أو على أنه مفعول له ، أي : أنبتناها لنرزقهم ) كَذالِكَ
الْخُرُوجُ ( كما حييت هذه البلدة الميتة ، كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم ، والكاف
في محل الرفع على الابتداء .
) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الاٌّ يْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ
كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (
ق : ( 12 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
أراد بفرعون قومه كقوله تعالى : ) مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ( ( يونس : 83 )
لأنّ المعطوف عليه قوم نوح ، والمعطوفات جماعات ) كُلٌّ ( يجوز أن يراد به كل واحد
منهم ، وأن يراد جميعهم ، إلا أنه وحد الضمير الراجع إليه على اللفظ دون المعنى )
فَحَقَّ وَعِيدِ ( فوجب وحل وعيدي ، وهو كلمة العذاب . وفيه تسلية لرسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ، وتهديد لهم .
) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاٌّ وَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ (
ق : ( 15 ) أفعيينا بالخلق الأول . . . . .
عيى بالأمر : إذا لم يهتد لوجه عمله ، والهمزة للإنكار . والمعنى : أنا لم نعجز
كما علموا عن الخلق الأول ، حتى نعجز عن الثاني ، ثم قال : هم لا ينكرون قدرتنا
على الخلق الأوّل ، واعترافهم بذلك في طيه الاعتراف بالقدرة على الإعادة ) بَلْ
هُمْ فِى لَبْسٍ ( أي في خلط وشبهة . قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم . ومنه قول علي
رضي الله عنه :
" صفحة رقم 386 "
يا حار ، إنه لملبوس عليك ، اعرف الحق تعرف أهله . ولبس الشيطان عليهم : تسويله
إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة ، فتركوا لذلك القياس الصحيح : أن من
قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر . فإن قلت : لم نكر الخلق الجديد ، وهلا
عرّف الخلق الأول ؟ قلت : قصد في تنكيره إلى خلق جديد له شأن عظيم وحال شديد . حق
من سمع به أن يهتم به ويخاف ، ويبحث عنه ولا يقعد على لبس في مثله .
) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (
ق : ( 16 ) ولقد خلقنا الإنسان . . . . .
الوسوسة : الصوت الخفي . ومنها : وسواس الحلى . ووسوسة النفس : ما يخطر ببال
الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس . والباء مثلها في قولك : صوت بكذا وهمس به
. ويجوز أن تكون للتعدية والضمير للإنسان ، أي : ما تجعله موسوساً ، وما مصدرية ،
لأنهم يقولون : حدّث نفسه بكذا ، كما يقولون : حدثته به نفسه . قال : وَاكْذِبِ
النَّفْسَ إِذَا حَدَّثْتَهَا
" صفحة رقم 387 "
;
) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ( مجاز ، والمراد : قرب علمه منه ، وأنه يتعلق
بمعلومه منه ومن أحواله تعلقاً لا يخفى عليه شيء من خفياته ، فكأن ذاته قريبة منه
، كما يقال : الله في كل مكان ، وقد جل عن الأمكنة . وحبل الوريد : مثل في فرط
القرب ، كقولهم : هو مني مقعد القابلة ومعقد الإزار . وقال ذو الرمة : وَالْمَوْتُ
أَدْنَى لي مِنَ الْوَرِيدِ ;
والحبل : العرق ، شبه بواحد الحبال ، ألا ترى إلى قوله :
كَأَنْ وَرِيدَيْهِ رشاءا خُلُبِ ;
والوريدان : عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوتين ، يردان من
الرأس إليه . وقيل : سمي وريداً لأنّ الروح ترده . فإن قلت : ما وجه إضافة الحبل
إلى الوريد ، والشيء لا يضاف إلى نفسه ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن تكون
الإضافة للبيان ، كقولهم : بعير سانية . والثاني : أن يراد حبل العاتق فيضاف إلى الوريد
، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد ) كما لو قيل : حبل العلياء مثلاً .
) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ
مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (
ق : ( 17 ) إذ يتلقى المتلقيان . . . . .
) إِذْ ( منصوب بأقرب ، وساغ ذلك لأنّ المعاني تعمل في الظرف متقدّمة ومتأخرة ،
والمعنى : أنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس وما لا شيء أخفى منه ، وهو أقرب من
الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به ، إيذاناً بأن استحفاظ الملكين
أمر هو غني عنه ؛ وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيان ؟ وإنما ذلك لحكمة
اقتضت ذلك : وهي ما في كتبة الملكين وحفظهما ، وعرض صحائف العمل يوم يقوم الأشهاد
. وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة الله بعمله . من زيادة لطف له في الانتهاء عن
السيئات والرغبة في الحسنات . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 388 "
:
( 1084 ) ( أنّ مقعد ملكيك على ثنيتيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادهما ، وأنت
تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله تعالى ولا منهما ) ويجوز أن يكون تلقي
الملكين بياناً للقرب ، يعني : ونحن قريبون منه مطلعون على أحواله مهيمنون عليه ،
إذ حفظتنا وكتبتنا موكلون به ، والتلقي : التلقن بالحفظ والكتبة . والقعيد :
المقاعد ، كالجليس بمعنى المجالس ، وتقديره : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من
المتلقيين ، فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه ، كقوله : . . . كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي
بَرِيًّا . . . . . . . . .
) رَقِيبٌ ( ملك يرقب عمله ) عَتِيدٌ ( حاضر ، واختلف فيما يكتب الملكان ، فقيل :
يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه . وقيل : لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر به
. ويدل عليه قوله عليه السلام :
( 1085 ) ( كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب
الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً ، وإذا عمل
سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ) وقيل :
إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه . وقرىء : ( ما يلفظ ) على
البناء للمفعول .
) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا
سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ
غِطَآءَكَ
" صفحة رقم 389 "
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (
ق : ( 19 ) وجاءت سكرة الموت . . . . .
لما ذكر إنكارهم البعث واحتج عليهم بوصف قدرته وعلمه ، أعلمهم أن ما أنكروه وجحدوه
هم لاقوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة ، ونبه على اقتراب ذلك بأن عبر عنه
بلفظ الماضي . وهو قوله : ) وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ( ) وَنُفِخَ
فِى الصُّورِ ( ، وسكرة الموت : شدّته الذاهبة بالعقل . والباء في بالحق للتعدية ،
يعني : وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله . أو
حقيقة الأمر وجلية الحال : من سعادة الميت وشقاوته . وقيل : الحق الذي خلق له
الإنسان ، أن كل نفس ذائقة الموت . ويجوز أن تكون الباء مثلها في قوله : ) تَنبُتُ
بِالدُّهْنِ ( ( المؤمنون : 20 ) أي وجاءت ملتبسة بالحق ، أي : بحقيقة الأمر . أو
بالحكمة والغرض الصحيح ، كقوله تعالى : ) خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
بِالْحَقّ ( ( الأنعام : 73 ) وقرأ أبو بكر وابن مسعود رضي الله عنهما ( سكرة الحق
بالموت ) على إضافة السكرة إلى الحق والدلالة على أنها السكرة التي كتبت على
الإنسان وأوجبت له ، وأنها حكمة . والباء للتعدية ؛ لأنها سبب زهوق الروح لشدتها ،
أو لأنّ الموت يعقبها ؛ فكأنها جاءت به . ويجوز أن يكون المعنى : جاءت ومعها الموت
. وقيل سكرة الحق سكرة الله ، أضيفت إليه تفظيعاً لشأنها وتهويلاً . وقرىء : (
سكرات الموت ) ) ذَلِكَ ( إشارة إلى الموت ، والخطاب للإنسان في قوله : ) وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الإِنْسَانَ ( ( الحجر : 26 ) على طريق الالتفات . أو إلى الحق والخطاب
للفاجر ) تَحِيدُ ( تنفر وتهرب . وعن بعضهم : أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك فقال :
الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فحكاه لصالح بن كيسان فقال : والله ما
سنّ عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب ، هو للكافر . ثم حكاهما للحسين بن
عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال : أخالفهما جميعاً : هو للبر والفاجر ) ذَلِكَ
يَوْمَ الْوَعِيدِ ( على تقدير حذف المضاف ، أي : وقت ذلك يوم الوعيد ، والإشارة
إلى مصدر نفخ ) سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ملكان : أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر
يشهد عليه بعمله . أو ملك واحد جامع بين الأمرين ، كأنه قيل : معها ملك يسوقها
ويشهد عليها ؛ ومحل ) مَّعَهَا سَائِقٌ ( النصب على الحال من كل لتعرّفه بالإضافة
إلى ما هو في حكم المعرفة . قرىء : ( لقد كنت ) عنكِ غطائكِ فبصركِ ، بالكسر على
خطاب النفس ، أي : يقال لها لقد كنتِ . جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده كله أو
غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً ؛ فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت الغفلة
عنه وغطاؤها فيبصر ما لم يبصره من الحق . ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته :
حديداً لتيقظه .
" صفحة رقم 390 "
) وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ (
ق : ( 23 ) وقال قرينه هذا . . . . .
) وَقَالَ قَرِينُهُ ( هو الشيطان الذي قيض له في قوله : ) نُقَيّضْ لَهُ
شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( ( الزخرف : 36 ) يشهد له قوله تعالى : ) قَالَ
قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( ( ق : 27 ) . ) هَاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ
( هذا شيء لديّ وفي ملكتي عتيد لجهنم . والمعنى : أن ملكاً يسوقه وآخر يشهد عليه ،
وشيطاناً مقروناً به ، يقول : قد أعتدته لجهنم وهيأته لها بإغوائي وإضلالي . فإن
قلت : كيف إعراب هذا الكلام ؟ قلت : إن جعلت ) مَا ( موصوفة ، فعتيد : صفة لها :
وإن جعلتها موصولة ، فهو بدل ، أو خبر بعد خبر . أو خبر مبتدأ محذوف .
) أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ
مُّرِيبٍ الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى
الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (
ق : ( 24 - 26 ) ألقيا في جهنم . . . . .
) أَلْقِيَا ( خطاب من الله تعالى للملكين السابقين : السائق والشهيد : ويجوز أن
يكون خطاباً للواحد على وجهين : أحدهما قول المبرد : أن تثنية الفاعل نزلت منزلة
تثنية الفعل لاتحادهما ، كأنه قيل : ألق ألق : للتأكيد . والثاني : أنّ العرب أكثر
ما يرافق الرجل منهم اثنان ، فكثر على ألسنتهم أن يقولوا : خليليّ وصاحبيّ ، وقفا
وأسعدا ، حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين عن الحجاج أنه كان يقول : يا حرسي ،
اضربا عنقه . وقرأ الحسن ( ألقين ) بالنون الخفيفة . ويجوز أن تكون الألف في )
أَلْقِيَا ( بدلاً من النون : إجراء للوصل مجرى الوقف ) عَنِيدٍ ( معاند مجانب
للحق معاد لأهله ) مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ ( كثير المنع للمال على حقوقه ، جعل ذلك
عادة له لا يبذل منه شيئاٌ قط . أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله يحول بينه
وبينهم . قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يمنع بني أخيه من الإسلام ، وكان
يقول : من دخل معكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت ) مُعْتَدٍ ( ظالم متخط للحق )
مُرِيبٍ ( شاك في الله وفي دينه ) الَّذِى جَعَلَ ( مبتدأ مضمن معنى الشرط ، ولذلك
أجيب بالفاء . ويجوز أن يكون ) الَّذِى جَعَلَ ( منصوباً بدلاً من ) كُلَّ
كَفَّارٍ ( ويكون ) فَأَلْقِيَاهُ ( تكريراً للتوكيد .
) قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَلٍ بَعِيدٍ (
ق : ( 27 ) قال قرينه ربنا . . . . .
فإن قلت : لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الأولى ؟ قلت : لأنها استؤنفت
كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى
وفرعون . فإن قلت : فأين التقاول هاهنا ؟ قلت : لما قال قرينه : ) هَاذَا مَا
لَدَىَّ عَتِيدٌ
" صفحة رقم 391 "
( وتبعه قوله : ) قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( وتلاه : ) لاَ
تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ ( ( ق : 28 ) : علم أنّ ثم مقاولة من الكافر ، لكنها طرحت
لما يدل عليها ، كأنه قال : رب هو أطغاني ، فقال قرينه : ربنا ما أطغيته . وأمّا
الجملة الأولى فواجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول
، أعني مجيء كل نفس مع الملكين : وقول قرينه ما قال له : ) مَا أَطْغَيْتُهُ ( ما
جعلته طاغياً ، وما أوقعته في الطغيان ، ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى كقوله
تعالى : ) وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( ( إبراهيم : 22 ) .
) قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا
يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (
ق : ( 28 ) قال لا تختصموا . . . . .
) قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ ( استئناف مثل قوله : ) قَالَ قرِينُهُ ( ( ق : 27 )
كأن قائلاً قال : فماذا قال الله ؟ فقيل : قال لا تختصموا . والمعنى : لا تختصموا
في دار الجزاء وموقف الحساب ، فلا فائدة في اختصامكم ولا طائل تحته ، وقد أوعدتكم
بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي ، فما تركت لكم حجة عليَّ ، ثم قال :
لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي فأعفيكم عما أوعدتكم به ) وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ
لّلْعَبِيدِ ( ( البقرة : 195 ) فأعذب من ليس بمستوجب للعذاب . والباء في )
بِالْوَعِيدِ ( مزيدة مثلها في ) وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ ( أو معدية ، على أن ( قدّم ) مطاوع بمعنى ( تقدّم ) ويجوز أن يقع
الفعل على جملة قوله : ) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّامٍ
لِّلْعَبِيدِ ( ولأن بالوعيد حالاً ، أي : قدّمت إليكم هذا ملتبساً بالوعيد
مقترناً به . أو قدّمته إليكم موعداً لكم به . فإن قلت : إنّ قوله : ) وَقَدْ
قَدَّمْتُ إِلَيْكُم ( واقع موقع الحال من ) لاَ تَخْتَصِمُواْ ( والتقديم بالوعيد
في الدنيا والخصومة في الآخرة واجتماعها في زمان واحد واجب . قلت : معناه ولا
تختصموا وقد صح عندكم أني قدمت إليكم بالوعيد ، وصحة ذلك عندهم في الآخرة ، فإن
قلت :
" صفحة رقم 392 "
كيف قال : ) بِظَلَّامٍ ( على لفظ المبالغة ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون
من قولك : هو ظالم لعبده ، وظلام لعبيده . والثاني : أن يراد لو عذبت من لا يستحق
العذاب لكنت ظلاماً مفرط الظلم . فنفى ذلك .
) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاّتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (
ق : ( 30 ) يوم نقول لجهنم . . . . .
قرىء : ( نقول ) بالنون والياء . وعن سعيد بن جبير : يوم يقول الله لجهنم . وعن
ابن مسعود والحسن : يقال . وانتصاب اليوم بظلام أو بمضمر . نحو : أذكر وأنذر .
ويجوز أن ينتصب بنفخ ، كأنه قيل : ونفخ في الصور يوم نقول لجهنم . وعلى هذا يشار
بذلك إلى يوم نقول ، ولا يقدّر حذف المضاف . وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل
الذي يقصد به تصوير المعنى في القلب وتثبيته ، وفيه معنيان ، أحدهما : أنها تمتلىء
مع اتساعها وتباعد أطرافها حتى لا يسعها شيء ولا يزاد على امتلائها ، لقوله تعالى
: ) لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ ( ( السجدة : 13 ) والثاني : أنها من السعة بحيث يدخلها
من يدخلها وفيها موضع للمزيد . ويجوز أن يكون ) هَلْ مِن مَّزِيدٍ ( استكثاراً
للداخلين فيها واستبداعاً للزيادة
" صفحة رقم 393 "
عليهم لفرط كثرتهم . أو طلباً للزيادة غيظاً على العصاة . والمزيد : إما مصدر
كالمحيد والمميد ، وإما اسم مفعول كالمبيع .
) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَاذَا مَا تُوعَدُونَ
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ
مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ
فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (
ق : ( 31 ) وأزلفت الجنة للمتقين . . . . .
) غَيْرَ بَعِيدٍ ( نصب على الظرف ، أي : مكاناً غير بعيد . أو على الحال ،
وتذكيره لأنه على زنة المصدر ، كالزئير والصليل ؛ والمصادر يستوي في الوصف بها
المذكر والمؤنث . أو على حذف الموصوف ، أي : شيئاً غير بعيد ، ومعناه التوكيد ،
كما تقول : هو قريب غير بعيد ، وعزيز غير ذليل . وقرىء : ) تُوعَدُونَ ( بالتاء
والياء ، وهي جملة اعتراضية . و ) لِكُلّ أَوَّابٍ ( بدل من قوله للمتقين ، بتكرير
الجارّ كقوله تعالى : ) لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ( (
الأعراف : 75 ) ، وهذا إشارة إلى الثواب . أو إلى مصدر أزلفت . والأوّاب : الرجاع
إلى ذكر الله تعالى ، والحفيظ : الحافظ لحدوده تعالى . و ) مَّنْ خَشِىَ ( بدل بعد
بدل تابع لكل . ويجوز أن يكون بدلاً عن موصوف أوّاب وحفيظ ، ولا يجوز أن يكون في
حكم أوّاب وحفيظ ؛ لأنّ من لا يوصف به ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي وحده .
ويجوز أن يكون مبتدأ خبره : يقال لهم ادخلوها بسلام ، لأنّ ) مَّنْ ( في معنى
الجمع . ويجوز أن يكون منادى كقولهم : من لا يزال محسناً أحسن إليّ ، وحذف حرف
النداء للتقريب ) بِالْغَيْبِ ( حال من المفعول ، أي : خشيه وهو غائب لم يعرفه ،
وكونه معاقباً إلا بطريق الاستدلال . أو صفة لمصدر خشى ، أي خشية خشية ملتبسة
بالغيب ، حيث خشى عقابه وهو غائب ، أو خشية بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه ،
وقيل : في الخلوة حيث لا يراه أحد . فإن قلت : كيف قرن بالخشية اسمه الدال على سعة
الرحمة ؟ قلت : للثناء البليغ على الخاشي وهو خشيته ، مع علمه أنه الواسع الرحمة .
كما أثنى عليه بأنه خاش ، مع أنّ المخشى منه غائب ، ونحوه : ) وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ( ( المؤمنون : 60 ) فوصفهم بالوجل
مع كثرة الطاعات . وصف القلب بالإنابة وهي الرجوع إلى الله تعالى ؛ لأنّ الاعتبار
بما ثبت منها في القلب . يقال لهم : ) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ( أي سالمين من العذاب
وزوال النعم . أو مسلماً عليكم يسلم عليكم الله وملائكته ) ذَلِكَ يَوْمُ
الُخُلُودِ ( أي يوم تقدير الخلود ، كقوله تعالى : ) فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( (
الزمر : 73 ) أي مقدرين الخلود ) وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( هو ما لم يخطر ببالهم ولم
" صفحة رقم 394 "
تبلغه أمانيهم ، حتى يشاؤه . وقيل : إن السحاب تمرّ بأهل الجنة فتمطرهم الحور ،
فتقول : نحن المزيد الذي قال الله عز وجل : ) وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( .
) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً
فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ (
ق : ( 36 ) وكم أهلكنا قبلهم . . . . .
(فنقبوا ) وقرىء بالتخفيف : فخرقوا في البلاد ودوّخوا . والتنقيب : التنقير عن
الأمر والبحث والطلب . قال الحرث بن حلزة : نَقَّبُوا فِي الْبِلاَد مِنْ حَذَرِ
الْمَو
تِ وَجَالُوا فِي الأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ
ودخلت الفاء للتسبيب عن قوله : ) هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ( أي : شدّة بطشهم
أبطرتهم وأقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه . ويجوز أن يراد : فنقب أهل مكة في
أسفارهم ومسايرهم في بلاد القرون ، فهل رأوا لهم محيصاً حتى يؤملوا مثله لأنفسهم ،
والدليل على صحته قراءة من قرأ : ( فنقبوا ) على الأمر ، كقوله : ) فَسِيحُواْ فِى
الاْرْضِ ( ( التوبة : 2 ) وقرىء بكسر القاف مخففة من النقب وهو أن يتنقب خف
البعير . قال : مَا مَسَّهَا مِنْ نَقَبٍ وَلاَ دَبَرْ ;
والمعنى : فنقبت أخفاف إبلهم . أو : حفيت أقدامهم ونقبت ، كما تنقب أخفاف الإبل
لكثرة طوفهم في البلاد ) هَلْ مِن مَّحِيصٍ ( من الله ، أو من الموت .
) إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
وَهُوَ شَهِيدٌ (
ق : ( 37 ) إن في ذلك . . . . .
) لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( أي قلب واع ؛ لأنّ من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له .
وإلقاء السمع : الإصغاء ) وَهُوَ شَهِيدٌ ( أي حاضر بفطنته . لأنّ من لا يحضر ذهنه
فكأنه غائب ، وقد ملح الإمام عبد القاهر في قوله لبعض من يأخذ عنه :
مَا شِئْتَ مِنْ زَهْزَهَةٍ وَالْفَتَى
بِمُصْقِلاَبَاذٍ لِسَقْيِ الزُّرُوعِ
أو : وهو مؤمن شاهد على صحته وأنه وحي من الله ، أو وهو بعض الشهداء في قوله تعالى
: ) لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( ( البقرة : 143 ) وعن قتادة وهو شاهد
على
" صفحة رقم 395 "
صدقه من أهل الكتاب لوجود نعته عنده وقرأ السدي وجماعة ( ألقى السمع ) على البناء
للمفعول . ومعناه : لمن ألقى غيره السمع وفتح له أذنه فحسب ولم يحضر ذهنه وهو حاضر
الذهن متفطن . وقيل : ألقى سمعه أو السمع منه .
) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ الَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن
مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (
ق : ( 38 - 43 ) ولقد خلقنا السماوات . . . . .
اللغوب الإعياء . وقرىء بالفتح بزنة القبول والولوع قيل نزلت في اليهود لعنت
تكذيبا لقولهم خلق الله السماوات والأرض في ستة ايام أولها الأحد وآخرها الجمعة
واستراح يوم السبت واستلق على عرشه وقالوا ان الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة
انما وقع من اليهود ومنهم اخذ ) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ( أي اليهود
ويأتون به من الكفر والتشبيه . وقيل : فاصبر على ما يقول المشركون من إنكارهم
البعث ؛ فإنّ من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منهم . وقيل : هي
منسوخة بآية السيف . وقيل : الصبر مأمور به في كل حال ) بِحَمْدِ رَبّكَ ( حامداً
ربك ، والتسبيح محمول على ظاهره أو على الصلاة ، فالصلاة ) قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ ( الفجر ) وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( الظهر والعصر ) وَمِنَ الَّيْلِ (
العشاآن . وقيل التهجد ) وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( التسبيح في آثار الصلوات ،
والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة . وقيل النوافل بعد المكتوبات . وعن علي رضي
الله عنه : الركعتان بعد المغرب . وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1086 ) ( من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين ) وعن ابن
" صفحة رقم 396 "
عباس رضي الله عنهما : الوتر بعد العشاء . والأدبار : جمع دبر . وقرىء : ( وأدبار
) من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت . ومعناه : ووقت انقضاء السجود ، كقولهم : آتيك
خفوق النجم ) وَاسْتَمِعْ ( يعني واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة . وفي
ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به والمحدّث عنه ، كما يروى عن النبي ( صلى الله
عليه وسلم )
( 1087 ) أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل : ( يا معاذاً اسمع ما أقول لك ) ، ثم
حدّثه بعد ذلك . فإن قلت : بم انتصب اليوم ؟ قلت : بما دل عليه ) ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ ( أي : يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور . ويوم يسمعون : بدل من )
يَوْمَ يُنَادِ ( و ) الْمُنَادِ ( إسرافيل ينفخ في الصور وينادي : أيتها العظام
البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إنّ الله يأمركن أن
تجتمعن لفصل القضاء . وقيل : إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي بالحشر ) مِن مَّكَانٍ
قَرِيبٍ ( من صخرة بيت المقدس ، وهي أقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلاً ، وهي
وسط الأرض . وقيل : من تحت أقدامهم . وقيل : من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة :
أيتها العظام البالية ، و ) الصَّيْحَةَ ( النفخة الثانية ) بِالْحَقّ ( متعلق
بالصيحة ، والمراد به البعث والحشر للجزاء .
) يَوْمَ تَشَقَّقُ الاٌّ رْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ
(
ق : ( 44 ) يوم تشقق الأرض . . . . .
وقرىء : ( تشقق ) وتشقق بإدغام التاء في الشين ، وتشقق على البناء للمفعول ، وتنشق
) سِرَاعاً ( حال من المجرور ) عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( تقديم الظرف يدل على الاختصاص
، يعني : لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن
عن شأن ، كما قال تعالى : ) مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ
واحِدَةٍ ( ( لقمان : 28 ) .
) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ
بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (
ق : ( 45 ) نحن أعلم بما . . . . .
) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ( تهديد لهم وتسلية لرسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) بِجَبَّارٍ ( كقوله تعالى : ) بِمُسَيْطِرٍ ( حتى تقسرهم على
الإيمان ، إنما أنت داع وباعث . وقيل : أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم .
ويجوز أن يكون من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه ، أي : ما أنت بوال عليهم
تجبرهم على الإيمان . وعلى بمنزلته في قولك : هو
" صفحة رقم 397 "
عليهم ، إذا كان واليهم ومالك أمرهم ) مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( كقوله تعالى : )
إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( ( النازعات : 45 ) لأنه لا ينفع إلا فيه
دون المصر على الكفر .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1088 ) ( من قرأ سورة ق هوّن الله عليه تارات الموت وسكراته ) .
" صفحة رقم 398 "
( سورة الذاريات )
مكية وآياتها 60 ( نزلت بعد الأحقاف )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالذَارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ
لَوَاقِعٌ (
الذاريات : ( 1 - 6 ) والذاريات ذروا
) وَالذرِيَاتِ ( الرياح لأنها تذور التراب وغيره . قال الله تعالى : ( تذروه
الرياح ) وقرىء بإدغام التاء في الذال ) فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً ( السحاب ، لأنها
تحمل المطر . وقرىء : ( وقراً ) بفتح الواو على تسمية المحمول بالمصدر . أو على
إيقاعه موقع حملاً ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً ( الفلك . ومعنى ( يسراً ) : جريا ذا
يسر ، أي ذا سهولة ) فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً ( الملائكة ، لأنها تقسم الأمور من
الأمطار والأرزاق وغيرها . وتفعل التقسيم مأمورة بذلك . وعن مجاهد : تتولى تقسيم
أمر العباد : جبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة . وملك الموت لقبض الأرواح ،
وإسرافيل للنفخ . وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر : سلوني قبل أن لا
تسألوني ، ولن تسألوا بعدي مثلي ، فقام ابن الكوّاء فقال : ما الذريات ذروا ؟ قال
: الرياح . قال : فالحاملات وقرا ؟ قال السحاب . قال : فالجاريات يسراً ؟ قال :
الفلك . قال فالمقسمات أمراً ؟ قال : الملائكة وكذا عن ابن عباس . وعن الحسن (
المقسمات ) السحاب ، يقسم الله بها أرزاق العباد ، وقد حملت على الكواكب السبعة ،
ويجوز أن يراد : الرياح لا غير ؛ لأنها تنشىء السحاب وتقله وتصرفه ، وتجري في الجو
جرياً سهلاً ، وتقسم الأمطار بتصريف السحاب . فإن قلت : ما معنى الفاء على
التفسيرين ؟ قلت : أمّا على الأوّل فمعنى التعقيب فيها أنه تعالى أقسم بالرياح ،
فبالسحاب الذي تسوقه ، فبالفلك التي تجريها بهبوبها ، فبالملائكة التي تقسم
الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر ومنافعه . وأمّا على الثاني ، فلأنها
تبتدىء بالهبوب ، فتذرو التراب والحصباء ، فتنقل السحاب ، فتجري في الجوّ باسطة له
فتقسم
" صفحة رقم 399 "
المطر ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ ( جواب القسم ، وما موصولة أو مصدرية ، والموعود :
البعث . ووعد صادق : كعيشة راضية . والدين : الجزاء . والواقع : الحاصل .
) وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ
عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (
الذاريات : ( 7 ) والسماء ذات الحبك
) الْحُبُكِ ( الطرائق ، مثل حبك الرمل والماء : إذا ضربته الريح ، وكذلك حبك
الشعر : آثار تثنيه وتكسره . قال زهير : مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُه
رِيحٌ خَرِيقٌ لِضَاحِي مَائِهِ حُبُكُ
والدرع محبوكة : لأنّ حلقها مطرق طرائق . ويقال : إنّ خلقه السماء كذلك . وعن
الحسن : حبكها نجومها . والمعنى : أنها تزينها كما تزين الموشى طرائق الوشي . وقيل
: حبكها صفاتها وإحكامها ، من قولهم : فرس محبوك المعاقم ؛ أي محكمها . وإذا أجاد
الحائك الحياكة قالوا : ما أحسن حبكه ، وهو جمع حباك ، كمثال ومثل . أو حبيكة ،
كطريقة وطرق . وقرىء : ( الحبك ) بوزن القفل . والحبك ، بوزن السلك . والحبك ،
بوزن الجبل . والحبك بوزن البرق . والحبك بوزن النعم . والحبك بوزن الإبل )
إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( قولهم في الرسول : ساحر وشاعر ومجنون ، وفي
القرآن : شعر وسحر وأساطير الأولين . وعن الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً ،
إنما هو متناقض مختلف . وعن قتادة : منكم مصدّق ومكذب ، ومقرّ ومنكر ) يُؤْفَكُ
عَنْهُ ( الضمير للقرآن وللرسول ، أي : يصرف عنه ، من صرف الصرف الذي لا صرف أشد
منه وأعظم ؛ كقوله : لا يهلك على الله إلا هالك . وقيل : يصرف عنه من صرف في سابق
علم الله ، أي : علم فيما لم يزل أنه مأفوك عن الحق لا يرعوى . ويجوز أن يكون
الضمير لما توعدون أو للدين : أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق ، ثم
أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه ، فمنهم شاك ، ومنهم جاحد . ثم قال :
يؤفك عن الإقرار
" صفحة رقم 400 "
بأمر القيامة من هو المأفوك . ووجه آخر : وهو أن يرجع الضمير إلى قول مختلف وعن
مثله في قوله : يَنْهَوْنَ عَنْ أَكْلٍ وَعَنْ شُرْبِ ;
أي : يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب . وحقيقته : يصدر تناهيهم في السمن عنهما
، وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف . وقرأ سعيد بن جبير ( يؤفك عنه ) من أفك ،
على البناء للفاعل . أي : من أفك الناس عنه وهم قريش ، وذلك أنّ الحي كانوا يبعثون
الرجل ذا العقل والرأي ليسأل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فيقولون له :
احذره ، فيرجع فيخبرهم . وعن زيد بن علي : يأفك عنه من أفك ، أي : يصرف الناس عنه
من هو مأفوك في نفسه . وعنه أيضاً : يأفك عنه من أفك ؛ أي : يصرف الناس عنه من هو
أفاك كذاب . وقرىء : ( يؤفن عنه من أفن ) أي : يحرمه من رحم ، من أفن الضرع إذا
نهكه حلباً .
) قُتِلَ الْخَرَاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْألُونَ أَيَّانَ
يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ
هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (
الذاريات : ( 10 - 14 ) قتل الخراصون
) قُتِلَ الْخَرصُونَ ( دعاء عليهم ، كقوله تعالى : ) قُتِلَ الإِنسَانُ مَا
أَكْفَرَهُ ( ( عبس : 17 ) وأصله الدعاء بالقتل والهلاك ، ثم جرى مجرى : لعن وقبح
. والخرّاصون : الكذابون المقدرون ما لا يصح ، وهم أصحاب القول المختلف ، واللام
إشارة إليهم ، كأنه قيل : قتل هؤلاء الخراصون . وقرىء : ( قتل الخراصين ) أي : قتل
الله ) فِى غَمْرَةٍ ( في جهل يغمرهم ) سَاهُونَ ( غافلون عما أمروا به )
يُسْئَلُونَ ( فيقولون : ( أيان يوم الدين ) أي متى يوم الجزاء . وقرىء بكسر
الهمزة وهي لغة . فإن قلت : كيف وقع أيان ظرفاً لليوم ، وإنما تقع الأحيان ظروفاً
للحدثان ؟ قلت : معناه : أيان وقوع يوم الدين . فإن قلت : فبم انتصب اليوم الواقع
في الجواب ؟ قلت : بفعل مضمر دل عليه السؤال ، أي : يقع يوم هم على النار يفتنون ،
ويجوز أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى غير متمكن وهي الجملة . فإن قلت : فما محله
مفتوحاً ؟ قلت : يجوز أن يكون محله نصباً بالمضمر الذي هو يقع ؛ ورفعا على هو يوم
هم على النار يفتنون . وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع ) يُفْتَنُونَ ( يحرقون ويعذبون .
ومنه الفتين : وهي الحرّة ؛ لأن حجارتها كأنها محرقة ) ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ( في
محل الحال ،
" صفحة رقم 401 "
أي : مقولاً لهم هذا القول ) هَاذَا ( مبتدأ ، و ) الَّذِى ( خبره ، أي : هذا
العذاب هو الذي ) كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( ويجوز أن يكون هذا بدلاً من
فتنتكم ؛ أي : ذوقوا هذا العذاب .
) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيْلِ
مَا يَهْجَعُونَ وَبِالاٌّ سْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى أَمْوَالِهِمْ
حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ (
الذاريات : ( 15 - 19 ) إن المتقين في . . . . .
) ءاخِذِينَ مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ ( قابلين لكل ما أعطاهم راضين به ، يعني أنه
ليس فيما آتاهم إلا ما هو ملتقى بالقبول مرضى غير مسخوط ، لأن جميعه حسن طيب .
ومنه قوله تعالى : ) وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ( ( التوبة : 104 ) أي يقبلها
ويرضاها ) مُحْسِنِينَ ( قد أحسنوا أعمالهم ، وتفسير إحسانهم ما بعده ) مَا (
مزيدة . والمعنى : كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل إن جعلت قليلاً ظرفاً ،
ولك أن تجعله صفة للمصدر ، أي : كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً . ويجوز أن تكون ) مَا
( مصدرية أو موصولة ؛ على : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ، أو ما يهجعون فيه ،
وارتفاعه بقليلاً على الفاعلية . وفيه مبالغات لفظ الهجوع ، وهو الفرار من النوم .
قال : قَدْ حَصَتِ الْبَيْضَةُ رَأْسِي فَمَا
أَطْعَمُ نَوْماً غَيْرَ تَهْجَاعِ
" صفحة رقم 402 "
وقوله : ) قَلِيلاً ( و ) مِّنَ الَّيْلِ ( لأن الليل وقت السبات والراحة ، وزيادة
) مَا ( المؤكدة لذلك : وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا في
الاستغفار ، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم . وقوله : ) هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (
فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين ، فكأنهم المختصون به
لاستدامتهم له وإطنابهم فيه . فإن قلت : هل يجوز أن تكون ما نافية كما قال بعضهم ،
وأن يكون المعنى : أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ، ويحيونه كله ؟ قلت : لا ، لأن
ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . تقول : زيداً لم أضرب ، ولا تقول :
زيداً ما ضربت : السائل : الذي يستجدي ) وَالْمَحْرُومِ ( الذي يحسب غنياً فيحرم
الصدقة لتعففه . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1089 ) ( ليس المسكين الذي تردّه الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان والتمرة
والتمرتان ) قالوا : فما هو ؟ قال : ( الذي لا يجد ولا يتصدق عليه ) وقيل : الذي
لا ينمى له مال . وقيل : المحارف الذي لا يكاد يكسب .
) وَفِى الاٌّ رْضِ ءَايَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ
تُبْصِرُونَ (
الذاريات : ( 20 - 21 ) وفي الأرض آيات . . . . .
) وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ ( تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره حيث هي مدحوّة
كالبساط لما فوقها كما قال : ) الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً ( ( طه :
53 ) وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها والماشين في مناكبها ، وهي مجزأة : فمن
سهل وجبل وبر وبحر : وقطع متجاورات : من صلبة ورخوة ، وعذاة وسبخة ؛ وهي كالطروقة
تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار بالثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح
تسقى بماء واحد ) وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْكُلِ ( ( الرعد : 4 )
وكلها موافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم ، وما فيها من
العيون المتفجرة والمعادن المفننة والدواب المنبثة في برها وبحرها المختلفة الصور
والأشكال والأفعال : من الوحشي والإنسي والهوام ، وغير ذلك ) لّلْمُوقِنِينَ (
الموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة ، فهم نظارون
بعيون باصرة وأفهام نافذة ، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها ، فازدادوا إيماناً مع
إيمانهم ، وإيقاناً إلى إيقانهم ) وَفِى أَنفُسِكُمْ ( في
" صفحة رقم 403 "
حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع
الخلق : ما تتحير فيه الأذهان ، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وخصت به من
أصناف المعاني ، وبالألسن ، والنطق ، ومخارج الحروف ، وما في تركيبها وترتيبها
ولطائفها : من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة المدبر ، دع الأسماع
والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له ، وما سوّى في الأعضاء من
المفاصل للانعطاف والتثنى . فإنه إذا جسا شيء منها جاء العجز ، وإذا استرخى أناخ
الذل ، فتبارك الله أحسن الخالقين .
) وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالاٌّ
رْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (
الذاريات : ( 22 - 23 ) وفي السماء رزقكم . . . . .
) وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ ( هو المطر ؛ لأنه سبب الأقوات . وعن سعيد بن جبير :
هو الثلج وكل عين دائمة منه . وعن الحسن : أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه :
فيه والله رزقكم ، ولكنكم تحرمونه لخطاياكم ) وَمَا تُوعَدُونَ ( الجنة : هي على
ظهر السماء السابعة تحت العرش . أو أراد : أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدون به
في العقبى كله مكتوب في السماء . قرىء : ( مثل ما ) بالرفع صفة للحق ، أي حق مثل
نطقكم ، وبالنصب على : إنه لحق حقاً مثل نطقكم . ويجوز أن يكون فتحاً لإضافته إلى
غير متمكن . وما مزيدة بنص الخليل ، وهذا كقول الناس : إن هذا لحق ، كما أنك ترى
وتسمع ، ومثل ما إنك ههنا . وهذا الضمير إشارة إلى ما ذكر من أمر الآيات والرزق
وأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ أو إلى ما توعدون . وعن الأصمعي : أقبلت من
جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع . قال
: من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن . فقال : اتل عليّ ، فتلوت )
وَالذرِيَاتِ ( فلما بلغت قوله تعالى : ) وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ ( قال : حسبك
، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر ، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما
وولى ، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف ، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق ، فالتفت
فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر ، فسلم عليّ واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية
صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ، ثم قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت : فورب
السماء والأرض إنه لحق ، فصاح وقال : يا سبحان الله ، من ذا الذي أغضب الجليل حتى
حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين ؛ قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه .
" صفحة رقم 404 "
) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ
عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى
أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ
تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ
بِغُلَامٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ
الْعَلِيمُ (
الذاريات : ( 24 - 30 ) هل أتاك حديث . . . . .
) هَلْ أَتَاكَ ( تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، وإنما عرفه بالوحي . والضيف للواحد والجماعة كالزور والصوم ؛ لأنه
في الأصل مصدر ضافه ، وكانوا اثني عشر ملكاً . وقيل : تسعة عاشرهم جبريل . وقيل
ثلاثة : جبريل ، وميكائيل ، وملك معهما . وجعلهم ضيفاً ؛ لأنهم كانوا في صورة
الضيف : حيث أضافهم إبراهيم . أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك . وإكرامهم : أنّ
إبراهيم خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، وعجل لهم القرى أو أنهم في أنفسهم مكرمون
. قال الله تعالى : ) بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( ( الأنبياء : 26 ) . ) إِذْ
دَخَلُواْ ( نصب بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم ؛ وإلا فبما في ضيف من معنى
الفعل . أو بإضمار أذكر ) سَلَاماً ( مصدر سادّ مسدّ الفعل مستغنى به عنه . وأصله
: نسلم عليكم سلاماً ، وأمّا ) سَلَامٌ ( معدول به إلى الرفع على الابتداء . وخبره
محذوف ، معناه : عليكم سلام ، للدلالة على ثبات السلام ، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن
مما حيوه به ، أخذا بأدب الله تعالى . وهذا أيضاً من إكرامه لهم . وقرئا مرفوعين .
وقرىء : ( سلاما ) قال ( سلما ) والسلم : السلام . وقرىء ( سلاما قال سلم ) )
قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام . أو أراد : أنهم ليسوا
من معارفه أو من جنس الناس الذين عهدهم ، كما لو أبصر العرب قوماً من الخزر أو رأى
لهم حالاً وشكلاً خلاف حال الناس وشكلهم ، أو كان هذا سؤالاً لهم ، كأنه قال :
أنتم قوم منكرون ، فعرفوني من أنتم ) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ ( فذهب إليهم في خفية
من ضيوفه ؛ ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يبادره بالقرى من غير أن يشعر به
الضيف ، حذراً من أن يكفه ويعذره . قال قتادة : كان عامة مال نبي الله إبراهيم :
البقر ) فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( . والهمزة في ) أَلا تَأْكُلُونَ ( للإنكار :
أنكر عليهم ترك الأكل . أو حثهم عليه ) فَأَوْجَسَ ( فأضمر . وإنما خافهم لأنهم لم
يتحرّموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءاً . وعن ابن عباس : وقع في نفسه أنهم
ملائكة أرسلوا للعذاب . وعن عون بن شداد : مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى
لحق بأمّه ) بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( أي يبلغ ويعلم . وعن الحسن :
" صفحة رقم 405 "
عليم : نبيّ ، والمبشر به إسحاق ، وهو أكثر الأقاويل وأصحها ؛ لأن الصفة صفة سارّة
لا هاجر ، وهي امرأة إبراهيم وهو بِعلها . وعن مجاهد : هو إسماعيل ) فِى صَرَّةٍ (
في صيحة ، من : صر الجندب ، وصرّ القلم والباب ، ومحله النصب على الحال ، أي :
فجاءت صارّة . قال الحسن : أقبلت إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم ، لأنها
وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء ، وقيل : فأخذت في صرة ، كما تقول : أقبل
يشتمني . وقيل : صرتها قولها : أوه . وقيل : يا ويلتا . وعن عكرمة : رنتها )
فَصَكَّتْ ( فلطمت ببسط يديها . وقيل : فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب )
عَجُوزٌ ( أنا عجوز ، فكيف ألد ) كَذَلِكِ ( مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به ) قَالَ
رَبُّكِ ( أي إنما نخبرك عن الله ، والله قادر على ما تستبعدين . وروى أنّ جبريل
قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة .
) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ
إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ
مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ
وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ (
الذاريات : ( 31 ) قال فما خطبكم . . . . .
لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله رسلاً في بعض الأمور ) قَالَ
فَمَا خَطْبُكُمْ ( أي : فما شأنكم وما طلبكم ) إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( إلى
قوم لوط ) حِجَارَةً مّن طِينٍ ( يريد : السجيل ، وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر ،
حتى صار في صلابة الحجارة ) مُّسَوَّمَةً ( معلمة ، من السومة ، وهي العلامة على
كل واحد منها اسم من يهلك به . وقيل : أعلمت بأنها من حجارة العذاب . وقيل :
بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا . سماهم مسرفين ، كما سماهم عادين ،
لإسرافهم وعدوانهم في عملهم : حيث لم يقنعوا بما أبيح لهم . الضمير في ) فِيهَا (
للقرية ، ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة . وفيه دليل على أنّ الإيمان والإسلام
واحد ، وأنهما صفتا مدح . قيل : هم لوط وابنتاه . وقيل : كان لوط وأهل بيته الذين
نجوا ثلاثة عشرة . وعن قتادة : لو كان فيها أكثر من ذلك لأنجاهم ، ليعلموا أن
الإيمان محفوظ لا ضيعة على أهله عند الله ) ءَايَةً ( علامة يعتبر بها الخائفون
دون القاسية قلوبهم . قال ابن جريج : هي صخر منضود فيها . وقيل : ماء أسود منتن .
) وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
" صفحة رقم 406 "
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (
الذاريات : ( 38 - 39 ) وفي موسى إذ . . . . .
) وَفِى مُوسَى ( عطف على ) وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ ( أو على قوله : ) وَتَرَكْنَا
فِيهَا ءايَةً ( على معنى : وجعلنا في موسى آية كقوله : عَلَفْتُهَا تِبْناً
وَمَاءً بَارِداً ;
) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ( فأزورّ ، وأعرض ، كقوله تعالى : ) وَنَأَى بِجَانِبِهِ
( ( فصلت : 51 ) وقيل : فتولى بما كان يتقوّى به من جنوده وملكه . وقرىء : ( بركنه
) ، بضم الكاف ) وَقَالَ سَاحِرٌ ( أي هو ساحر
الذاريات : ( 40 ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم . . . . .
) مُلِيمٌ ( آت بما يلام عليه من كفره وعناده ، والجملة مع الواو حال من الضمير في
فأخذناه . فإن قلت : كيف وصف نبي الله يونس صلوات الله عليه بما وصف به فرعون في
قوله تعالى : ) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ( ( الصافات : 142 ) ؟ قلت
: موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافهما تختلف مقادير اللوم ، فراكب الكبيرة ملوم
على مقدارها ، وكذلك مقترف الصغيرة . ألا ترى إلى قوله تعالى ) وَعَصَوْاْ
رُسُلَهُ ( ( هود : 59 ) ، ) وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ ( ( طه : 121 ) لأنّ الكبيرة
والصغيرة يجمعهما اسم العصيان ، كما يجمعهما اسم القبيح والسيئة .
) وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن
شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (
الذاريات : ( 41 ) وفي عاد إذ . . . . .
) الْعَقِيمَ ( التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر ، وهي ريح الهلاك .
واختلف فيها : فعن علي رضي الله عنه : النكباء . وعن ابن عباس : الدبور . وعن ابن
المسيب : الجنوب . الرميم : كل ما رم أي بلى وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك .
) وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْاْ عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُواْ
مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ (
الذاريات : ( 43 ) وفي ثمود إذ . . . . .
) حَتَّى حِينٍ ( تفسيره قوله : ) تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
( ( هود : 65 ) ) فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ ( فاستكبروا عن امتثاله . وقرىء
: ( الصعقة ) وهي المرّة ، من مصدر صعقتهم الصاعقة : والصاعقة النازلة نفسها )
وَهُمْ يَنظُرُونَ ( كانت نهاراً يعاينونها . وروى أن العمالقة كانوا معهم في
الوادي ينظرون إليهم وما ضرَّتهم ) فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ ( كقوله تعالى
: ) فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( ( العنكبوت : 37 ) وقيل : هو من
قولهم : ما يقوم به ، إذا عجز عن دفعه ) مُنتَصِرِينَ ( ممتنعين من العذاب .
) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ (
الذاريات : ( 46 ) وقوم نوح من . . . . .
) وَقَوْمَ ( قرىء : بالجر على معنى : وفي قوم نوح وتقوّيه قراءة عبد الله : وفي
قوم نوح . وبالنصب على معنى : وأهلكنا قوم نوح ؛ لأنّ ما قبله يدل عليه . أو واذكر
قوم نوح .
" صفحة رقم 407 "
) وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالاٌّ رْضَ
فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (
الذاريات : ( 47 ) والسماء بنيناها بأيد . . . . .
) بِأَيْدٍ ( بقوّة . والأيد والآد . القوّة . وقد آد يئيد وهو أيد ) وَإِنَّا
لَمُوسِعُونَ ( لقادرون ، من الوسع وهو الطاقة . والموسع : القوى على الإنفاق .
وعن الحسن : لموسعون الرزق بالمطر . وقيل : جعلنا بينها وبين الأرض سعة ) فَنِعْمَ
الْمَاهِدُونَ ( فنعم الماهدون نحن .
) وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (
الذاريات : ( 49 ) ومن كل شيء . . . . .
) وَمِن كُلّ شَىْء ( أي من كل شيء من الحيوان ) خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( ذكراً
وأنثى . وعن الحسن : السماء والأرض ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والبر
والبحر ، والموت والحياة ؛ فعدّد أشياء وقال : كل اثنين منها زوج ، والله تعالى
فرد لا مثل له ) لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( أي فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش
الأرض وخلق الأزواج إراده أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه .
) فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ
تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ إِنِّء لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ
مُّبِينٌ (
الذاريات : ( 50 - 51 ) ففروا إلى الله . . . . .
) فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( أي إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ، ووحدوه ولا
تشركوا به شيئاً ، وكرّر قوله : ) إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( عند
الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أنّ
العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما . ألا
ترى إلى قوله تعالى : ) لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن
قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا ( ( الأنعام : 158 ) والمعنى : قل
يا محمد : ففرّوا إلى الله .
" صفحة رقم 408 "
) كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ
سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (
الذاريات : ( 52 ) كذلك ما أتى . . . . .
) كَذَلِكَ ( الأمر ، أي مثل ذلك ، وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً
ومجنوناً ، ثم فسر ماأجمل بقوله ) مَآ أَتَى ( ولا يصح أن تكون الكاف منصوبة بأتى
؛ لأنّ ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . ولو قيل : لم يأت ، لكان صحيحاً
، على معنى : مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلا قالوا ) أَتَوَاصَوْاْ
بِهِ ( الضمير للقول ، يعنى : أتواصى الأوّلون والآخرون بهذا القول حتى قالوه
جميعًا متفقين عليه ) بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( أي لم يتواصوا به لأنهم لم
يتلاقوا في زمان واحد ، بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان ، والطغيان هو الحامل
عليه .
) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ (
الذاريات : ( 54 ) فتول عنهم فما . . . . .
) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( فأعرض عن الذين كرّرت عليهم الدعوة فلم يجيبوا ، وعرفت
عنهم العناد واللجاج ، فلا لوم عليك في إعراضك بعد ما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في
البلاغ والدعوة ، ولا تدع التذكير والموعظة بأيام الله ) فَإِنَّ الذّكْرَى
تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( أي تؤثر في الذين عرف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان
. أو يزيد الداخلين فيه إيماناً . وروى أنه لما نزلت ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( حزن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واشتد ذلك على أصحابه ، ورأوا أنّ الوحي قد
انقطع وأنّ العذاب قد حضر ، فأنزل الله . وذكر .
) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (
الذاريات : ( 56 ) وما خلقت الجن . . . . .
أي : وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة ، ولم أرد من جميعهم إلا إياها . فإن
قلت : لو كان مريداً للعبادة منهم لكانوا كلهم عباداً ؟ قلت : إنما أراد منهم أن
يعبدوه
" صفحة رقم 409 "
مختارين للعبادة لا مضطرين إليها ، لأنه خلقهم ممكنين ، فاختار بعضهم ترك العبادة
كونه مريداً لها ، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم .
) مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (
الذاريات : ( 57 ) ما أريد منهم . . . . .
يريد : أنّ شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، فإنّ ملاك العبيد إنما يملكونهم
ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم ، فإمّا مجهز في تجارة ليفي ربحا . أو
مرتب في فلاحة ليغتلّ أرضاً . أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته . أو محتطب . أو محتش
. أو طابخ . أو خابز ، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب
المعيشة وأبواب الرزق ، فأمّا مالك ملك العبيد وقال لهم : اشتغلوا بما يسعدكم في
أنفسكم ، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم ، وأنا غنيّ عنكم وعن
مرافقكم ، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي ، فما هو إلا أنا وحدي
( المتين ) الشديد القوة . قرىء : بالرفع صفة لذو وبالحر صفة للقوة على تأويل
الإعتذار والمعنى في صفة بالقوة المتانة أنه القادر البليغ الإقتدار على كل شيء (
الرازق ) وفي :
( 1090 ) قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إني أنا الرازق .
) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ
يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى
يُوعَدُونَ (
الذاريات : ( 59 ) فإن للذين ظلموا . . . . .
الذنوب : الدلو العظيمة ، وهذا تمثيل ، أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا
ذنوب ولهذا ذنوب . قال : لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوب
فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ
ولما قال عمرو بن شاس : وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَة
فَحُقَّ لشَاسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
" صفحة رقم 410 "
قال الملك : نعم وأذنبة . والمعنى : فإنّ الذين ظلموا رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) بالتكذيب من أهل مكة لهم نصيب من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من
القرون . وعن قتادة : سجلاً من عذاب الله مثل سجل أصحابهم ) مِن يَوْمِهِمُ ( من
يوم القيامة . وقيل : من يوم بدر .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1091 ) من قرأ سورة والذاريات أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في
الدنيا .
" صفحة رقم 411 "
( سورة الطور )
مكية ، وهي تسع وأربعون ، وقيل : ثمان وأربعون آية
( نزلت بعد السجدة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِى رَقٍّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ
لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ
الْجِبَالُ سَيْراً (
الطور : ( 1 - 10 ) والطور
) وَالطُّورِ ( : الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين . والكتاب المسطور في
الرق المنشور ، والرق : الصحيفة . وقيل : الجلد الذي يكتب فيه الكتاب الذي يكتب
فيه الأعمال . قال الله تعالى : ) وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا
يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ( ( الإسراء : 13 ) وقيل : هو ما كتبه الله لموسى وهو يسمع
صرير القلم . وقيل : اللوح المحفوظ . وقيل القرآن ، ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين
جنس الكتب ، كقوله تعالى : ) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( ( الشمس : 7 ) . )
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( الضراح في السماء الرابعة . وعمرانه : كثرة غاشيته من
الملائكة . وقيل : الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار والمجاورين ) وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ ( السماء ) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( المملوء . وقيل : الموقد ، من
قوله تعالى : ) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ ( ( التكوير : 6 ) وروى أن الله تعالى
يجعل يوم القيامة البحار كلها ناراً تسجر بها نار جهنم . وعن علي رضي الله عنه أنه
سأل يهودياً : أين موضع النار في كتابكم ؟ قال : في البحر . قال علي : ما أراه إلا
صادقاً ، لقوله تعالى ) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( . ) لَوَاقِعٌ ( لنازل . قال
جبير بن مطعم :
( 1092 ) أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أكلمه في الأسارى فألفيته في صلاة
الفجر يقرأ
" صفحة رقم 412 "
سورة الطور ، فلما بلغ ) إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( أسلمت خوفاً من أن ينزل
العذاب ) تَمُورُ السَّمَاء ( تضطرب وتجيء وتذهب . وقيل : المور تحرك في تموّج ،
وهو الشيء يتردد في عرض كالداغصة في الركبة .
) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم
بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا
فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (
الطور : ( 11 ) فويل يومئذ للمكذبين
غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب . ومنه قوله تعالى : ) وَكُنَّا نَخُوضُ
مَعَ الُخَائِضِينَ ( ( المدثر : 45 ) ، ) وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ( (
التوبة : 69 ) الدع : الدفع العنيف ، وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم
، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزخاً في
أقفيتهم . وقرأ زيد بن عليّ ( يدعون ) من الدعاء أي يقال لهم : هلموا إلى النار ،
وادخلوا النار ) دَعًّا ( مدعوعين ، يقال لهم : هذه النار ) أَفَسِحْرٌ هَاذَا (
يعني كنتم تقولون للوحي هذا سحر ، أفسحر هذا ؟ يريد : أهذا المصدق أيضاً سحر ؟
ودخلت الفاء لهذا المعنى ) أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ( كما كنتم لا تبصرون في
الدنيا ، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر ، وهذا تقريع
وتهكم ) سَوَآءٌ ( خبر محذوف ، أي : سواء عليكم الأمران : الصبر وعدمه ، فإن قلت :
لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : ) إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
( ؟ قلت : لأنّ الصبر إنما يكون له مزية على الجزع ، لنفعه في العاقبة بأن يجازي
عليه الصابر جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا
منفعة ، فلا مزية له على الجزع .
) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ
رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ
هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ
وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (
الطور : ( 17 - 20 ) إن المتقين في . . . . .
) فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ( في آية جنات وأي نعيم ، بمعنى الكمال في الصفة . أو في
جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة . وقرىء : ( فاكهين ) فكهين وفاكهون :
من نصبه حالاً جعل الظرف مستقراً ، ومن رفعه خبراً جعل الظرف لغواً ، أي : متلذذين
) بِمَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ ( . فإن قلت : علام عطف قوله ؟ ) وَوَقَاهُمْ
رَبُّهُمْ ( ؟ قلت : على قوله :
" صفحة رقم 413 "
) فِي جَنَّاتِ ( أو على ) رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ ( على أن تجعل ما مصدرية ؛ والمعنى
: فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم . ويجوز أن تكون الواو للحال وقد
بعدها مضمرة . يقال لهم : ) كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( أكلا وشرباً ) هَنِيئَاً ( أو
طعاماً وشراباً هنيئاً ، وهو الذي لا تنغيص فيه . ويجوز أن يكون مثله في قوله :
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مخَامِر
لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
أعني : صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل مرتفعاً به ما استحلت كما
يرتفع بالفعل ، ، كأنه قيل : هناء عزة المستحل من أعراضنا ، وكذلك معنى )
هَنِيئَاً ( ههنا : هناءكم الأكل والشرب . أو هناءكم ما كنتم تعملون ؛ أي : جزاء
ما كنتم تعملون . والباء مزيدة كما في ) كَفَى بِاللَّهِ ( ( الرعد : 43 ) والباء
متعلقة بكلوا واشربوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب . وقرىء : ( بعيس عين ) .
) وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ كُلُّ
امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا
يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ (
الطور : ( 21 - 24 ) والذين آمنوا واتبعتهم . . . . .
) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( معطوف على ) حُورٌ عِينٌ ( أي : قرناهم بالحور وبالذين
آمنوا ، أي : بالرفقاء والجلساء منهم ، كقوله تعالى : ) إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
مُّتَقَابِلِينَ ( ( الحجر : 47 ) فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة
الإخوان المؤمنين ) وَأَتْبَعْنَاهُم ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1093 ) ( إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقرّبهم عينه ) ثم
تلا هذه الآية . فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، ومزاوجة الحور
العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم . ثم قال : )
ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ ( أي بسبب إيمان عظيم
رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم
" صفحة رقم 414 "
وإن كانوا لا يستأهلونها ، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم .
فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان ؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم
المنزلة . ويجوزأن يراد : إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان
لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم . وقرىء : ( وأتبعتهم ذريتهم وأتبعتهم ذريتهم
) . وذرياتهم : وقرىء : ( ذرياتهم ) بكسر الذال . ووجه آخر : وهو أن يكون )
وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( مبتدأ خبره ) بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ
ذُرّيَّتَهُمْ ( وما بينهما اعتراض ) وَمَا أَلَتْنَاهُمْ ( وما نقصناهم . يعني :
وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا من الثواب والتفضل ، وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء
. وقيل معناه : وما نقصناهم من ثوابهم شيئاً نعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم ، إنما
ألحقناهم بهم على سبيل التفضل . قرىء : ( ألتناهم ) وهو من بابين : من ألت يألت ،
ومن ألات يليت ، كأمات يميت . وآلتناهم ، من آلت يؤلت ، كآمن يؤمن . ولتناهم ، من
لات يليت . وولتناهم ، من ولت يلت . ومعناهنّ واحد ) كُلٌّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ
رَهَينٌ ( أي مرهون ، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به
، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه ، فإن عمل صالحاً فكها وخلصها ، وإلا أوبقها )
وَأَمْدَدْنَاهُم ( وزدناهم في وقت بعد وقت ) يَتَنَازَعُونَ ( يتعاطون ويتعاورون
هم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم ) كَأْساً ( خمراً ) لاَّ لَغْوٌ فِيهَا ( في
شربها ) وَلاَ تَأْثِيمٌ ( أي لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث وما لا طائل
تحته كفعل المتنادمين في الدنيا على الشراب في سفههم وعربدتهم ، ولا يفعلون ما
يؤثم به فاعله ، أي : ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف من الكذب والشتم
والفواحش ، وإنما يتكلمون بالحكم والكلام الحسن متلذذين بذلك ، لأنّ عقولهم ثابتة
غير زائلة ، وهم حكماء علماء . وقرىء : ( لا لغو فيها ولا تأثيم ) ) غِلْمَانٌ
لَّهُمْ ( أي مملوكون لهم مخصوصون بهم ) مَّكْنُونٌ ( في الصدف ، لأنه رطباً أحسن
وأصفى . أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة . وقيل لقتادة : هذا
الخادم فكيف المخدوم ؟ فقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1094 ) ( والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على
سائر الكواكب ، وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 1095 ) ( إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه :
" صفحة رقم 415 "
لبيك لبيك ) .
) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا
قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ
السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ
(
الطور : ( 25 ) وأقبل بعضهم على . . . . .
) يَتَسَآءَلُونَ ( يتحادثون ويسأل بعضهم بعضاً عن أحواله وأعماله وما استوجب به
نيل ما عند الله ) مُشْفِقِينَ ( أرقاء القلوب من خشية الله . وقرىء : ( ووقانا )
بالتشديد ) عَذَابَ السَّمُومِ ( عذاب النار ووهجها ولفحها . والسموم : الريح
الحارّة التي تدخل المسام فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة ) مِن قَبْلُ ( من
قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه ، يعنون في الدنيا ) نَدْعُوهُ ( نعبده ونسأله
الوقاية ) إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ ( المحسن ) الرَّحِيمِ ( العظيم الرحمة الذي إذا
عبد أثاب وإذا سئل أجاب . وقرىء : ( أنه ) بالفتح ، بمعنى : لأنه .
) فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ (
الطور : ( 29 ) فذكر فما أنت . . . . .
) فَذَكِّرْ ( فأثبت على تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبطنك قولهم : كاهن أو مجنون
، ولا تبال به فإنه قول باطل متناقض : لأنّ الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة
نظر ، والمجنون مغطى على عقله . وما أنت بحمد الله وإنعامه عليك بصدق النبوّة
ورجاحة العقل أحد هذين .
) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ
فَإِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ
بِهَاذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ
يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أَمْ
خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ
السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ
أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ
مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ
أَمْ تَسْألُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ
الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يُشْرِكُونَ (
الطور : ( 30 ) أم يقولون شاعر . . . . .
وقرىء : ( يتربص به ريب المنون ) ، على البناء للمفعول . وريب المنون . ما يقلق
النفوس ويشخص بها من حوادث الدهر . قال :
" صفحة رقم 416 "
أَمِنَ المَنُونِ وَرَيْبِهِ تتَوَجَّعُ ;
وقيل : المنون الموت ، وهو في الأصل فعول ؛ من منه إذا قطعه ؛ لأن الموت قطوع ؛
ولذلك سميت شعوب قالوا : ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء
: زهير والنابغة ) مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ ( أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي )
أَحْلَامُهُمْ ( عقولهم وألبابهم . ومنه قولهم : أحلام عاد . والمعنى : أتأمرهم
أحلامهم بهذا التناقض في القول ، وهو قولهم : كاهن وشاعر ، مع قولهم مجنون . وكانت
قريش يدعون أهل الأحلام والنهي ) أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( مجاوزون الحدّ في
العناد مع ظهور الحق لهم . فإن قلت : ما معنى كون الأحلام آمرة ؟ قلت : هو مجاز
لأدائها إلى ذلك ، كقوله تعالى : ) أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا
يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا ( ( هود : 87 ) وقرىء : ( بل هم قوم طاغون ) ) تَقَوَّلَهُ (
اختلقه من تلقاء نفسه ) بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ( فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه
المطاعن ، مع علمهم ببطلان قولهم ، وأنه ليس بمتقول لعجز العرب عنه ، وما محمد إلا
واحد من العرب . وقرىء بحديث مثله على الإضافة ، والضمير لرسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، ومعناه : أن مثل محمد في فصاحته ليس بمعوز في العرب ، وإن قدر محمد
على نظمه كان مثله قادراً عليه ، فليأتوا بحديث ذلك المثل : ) أَمْ خَلَقُواْ ( أم
أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم ) مِنْ غَيْرِ شَىْء ( من غير مقدّر )
أَمْ هُمُ ( الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق ( بل لا يؤمنون ) أي إذا
سئلوا من خلقكم وخلق السموات والأرض ؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون ، لا
يوقنون . وقيل : أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب ؟ وقيل : أخلقوا من غير أب
وأم ؟ ) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ ( الرزق حتى يرزقوا النبوّة من شاؤا . أو :
أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة ؟ ) أَمْ هُمُ
الْمُسَيْطِرُونَ ( الأرباب الغالبون ، حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على
إرادتهم ومشيئتهم ؟ وقرىء ( المصيطرون ) بالصاد ) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ ( منصوب إلى
السماء يستمعون صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى
يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون ؟
) بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم . المغرم : أن يلتزم
الإنسان ما ليس عليه ، أي : لزمهم مغرم ثقيل فدحهم فزهدهم ذلك في أتباعك ؟ ) أَمْ
عِندَهُمُ الْغَيْبُ ( أي
" صفحة رقم 417 "
اللوح المحفوظ ) فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( ما فيه حتى يقولوا لا نبعث ، وإن بعثنا لم
نعذب ) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ( وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) وبالمؤمنين ) فَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( إشارة إليهم أو أريد بهم كل من
كفر بالله ) هُمُ الْمَكِيدُونَ ( هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم
. وذلك أنهم قتلوا يوم بدر . أو المغلوبون في الكيد ، من كايدته فكدته .
) وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ
مَّرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ
يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ (
الطور : ( 44 ) وإن يروا كسفا . . . . .
الكسف : القطعة ، وهو جواب قولهم : ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ
عَلَيْنَا كِسَفًا ( ( الإسراء : 92 ) يريد : أنهم لشدّة طغيانهم وعنادهم لو
أسقطناه عليهم لقالوا : هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض يمطرنا ، ولم يصدقوا أنه كسف
ساقط للعذاب . وقرىء : ( حتى يلقوا ) ويلقوا ) يُصْعَقُونَ ( يموتون . وقرىء : (
يصعقون ) . يقال . صعقه فصعق ، وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق ) وَإِنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( وإن . لهؤلاء الظلمة ) عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ ( دون يوم
القيامة : وهو القتل ببدر ، والقحط سبع سنين ، وعذاب القبر . وفي مصحف عبد الله :
دون ذلك قريباً .
) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
حِينَ تَقُومُ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (
الطور : ( 48 ) واصبر لحكم ربك . . . . .
) لِحُكْمِ رَبّكَ ( بإمهالهم وما يلحقك فيه من المشقة والكلفة ) فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنَا ( مثل ، أي : بحيث نراك ونكلؤك . وجمع العين لأنّ الضمير بلفظ ضمير
الجماعة . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ( ( طه : 39 ) .
وقرىء : ( بأعينا ) ، بالإدغام ) حِينَ تَقُومُ ( من أي مكان قمت . وقيل : من
منامك ) وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل . وقرىء : (
وأدبار النجوم ) ، بالفتح بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت ، والمراد الأمر
بقول : سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات . وقيل التسبيح : الصلاة إذا قام من نومه
، ومن الليل : صلاة العشاءين ، وأدبار النجوم : صلاة الفجر .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1096 ) ( من قرأ سورة الطور كان حقاً على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في
جنته ) .
" صفحة رقم 418 "
( سورة النجم )
مكية ( إلا آية 32 فمدينة ) وآياتها 62 وقيل 61 آية
( نزلت بعد الإخلاص )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ
الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالاٍّ فُقِ الاٌّ عْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى مَا كَذَبَ
الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً
أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ
ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (
النجم : ( 1 ) والنجم إذا هوى
(النجم ) : الثريا ، وهو اسم غالب لها . قال : إذَا طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاء
إبْتَغَى الرَّاعِي كِسَاءَ
أو جنس النجوم . قال : فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ
يريد النجوم ) إِذَا هَوَى ( إذا غرب أو انتثر يوم القيامة . أو النجم الذي يرجم
به إذا هوى : إذا انقض . أو النجم من نجوم القرآن ، وقد نزل منجماً في عشرين سنة ،
إذا هوى : إذا نزل . أو النبات إذا هوى : إذا سقط على الأرض . وعن عروة بن الزبير
: ( 1098 ) أنّ عتبة بن أبي لهب وكانت تحته بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
أراد الخروج إلى
" صفحة رقم 419 "
الشام ، فقال : لآيتين محمداً فلأوذينه ؛ فأتاه فقال : يا محمد ، هو كافر بالنجم
إذا هوى ، وبالذي دنا فتدلى ، ثم تفل في وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وردّ عليه ابنته وطلقها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : اللهم سلط عليه
كلباً من كلابك ، وكان أبو طالب حاضراً ، فوجم لها وقال : ما كان أغناك يا ابن أخي
عن هذه الدعوة ا فرجع عتبة إلى أبيه ، فأخبره ، ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلاً
، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : إن هذه أرض مسبعة ، فقال أبو لهب لأصحابه
: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة ، فإني أخاف على ابني دعوة محمد ، فجمعوا
جمالهم وأناخوها حولهم ؛ وأحدقوا بعتبة ، فجاء الأسد يتشمم وجوههم ، حتى ضرب عتبة
فقتله . وقال حسان : مَنْ يَرْجِعُ الْعَامَ إِلى أَهْلِه
فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِع
) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) : والخطاب لقريش ،
وهو جواب القسم ، والضلال : نقيض الهدى ، والغي نقيض الرشد ، أي : هو مهتد راشد
وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي ، وما أتاكم به من القرآن ليس
بمنطق يصدر عن هواه ورأيه ، وإنما هو وحي من عند الله يوحي إليه . ويحتج بهذه
الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء ، ويجاب بأنّ الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد
، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحياً لا نطقاً عن الهوى ) شَدِيدُ الْقُوَى (
ملك شديد قواه ، والإضافة غير حقيقية ، لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ،
وهو جبريل عليه السلام ، ومن قوّته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود ،
وحملها على جناحه ، ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين
، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف ، ورأى إبليس يكلم عيسى
عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة ، فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل
بالهند ) ذُو مِرَّةٍ ( ذو حصافة في عقله ورأيه ومتانة في دينه ) فَاسْتَوَى (
فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي ؛
وكان ينزل في صورة دحية ، وذلك :
( 1098 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحب أن يراه في صورته التي جبل
عليها ، فاستوى له
" صفحة رقم 420 "
في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق . وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء في
صورته الحقيقية غير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مرتين : مرة في الأرض ، ومرة في
السماء ) ثُمَّ دَنَا ( من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فَتَدَلَّى ( فتعلق
عليه في الهواء . ومنه : تدلت الثمرة ، ودلى رجليه من السرير . والدوالي : الثمر
المعلق . قال : تَدَلَّى عَلَيْهَا بَيْنَ سِبٍّ وَخِيطَةٍ
ويقال : هو مثل القرلى : إن رأى خيراً تدلى ، وإن لم يره تولى ) قَابَ قَوْسَيْنِ
( مقدار قوسين عربيتين : والقاب والقيب ؛ والقاد والقيد ، والقيس : المقدار . وقرأ
زيد بن علي : قاد . وقرىء : ( قيد ) وقدر . وقد جاء التقدير بالقوس والرمح ،
والسوط ، والذراع ، والباع ، والخطوة ، والشبر ، والفتر ، والأصبع . ومنه : ( 1099
) ( لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين ) . وفي الحديث : ( 1100 ) ( لقاب قوس
أحدكم من الجنة وموضع قدّه خير من الدنيا وما فيها ) والقدّ : السوط . ويقال :
بينهما خطوات يسيرة . وقال :
" صفحة رقم 421 "
وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِنْ حَزِيمَةَ أَصْبُعَا
فإن قلت : كيف تقدير قوله : ) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ ( ؟ قلت : تقديره فكان
مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين ، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو على في قوله :
وقد جعلتني من حزيمة أصبعا أي : ذا مقدار مسافة أصبع ) أَوْ أَدْنَى ( أي على
تقديركم ، كقوله تعالى : ) أَوْ يَزِيدُونَ ( ( الصافات : 147 ) . ) إِلَى
عَبْدِهِ ( إلى عبد الله ، وإن لم يجر لاسمه عزّ وجل ذكر ، لأنه لا يلبس ؛ كقوله :
) عَلَى ظَهْرِهَا ( ( فاطر : 45 ) . ) مَا أَوْحَى ( تفخيم للوحي الذي أوحي إليه
: قيل أوحي إليه ( إنّ الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى
تدخلها أمتك ) ) مَا كَذَبَ ( فؤاد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما رآه ببصره من
صورة جبريل عليه السلام ، أي : ما قال فؤاده لما رآه : لم أعرفك ، ولو قال ذلك
لكان كاذباً ، لأنه عرفه ، يعني : أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ، ولم يشك في أنّ ما
رآه حق وقرىء : ( ما كذب ) أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته )
أَفَتُمَارُونَهُ ( من المراء وهو الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مري الناقة ،
كأن كل واحد من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه . وقرىء : ( أفتمرونه ) أفتغلبونه في
المراء ، من ماريته فمريته ، ولما فيه من معنى الغلبة عدّى بعلى ، كما تقول :
غلبته على كذا : وقيل : أفتمرونه : أفتجدونه . وأنشدوا :
لَئِنْ هَجَوْتَ أَخَاً صِدْقٍ وَمَكْرُمَة لَقَدْ مَرَيْتَ أخاً مَا كَانَ
يَمْرِيكاً
وقالوا : يقال مريته حقه إذا جحدته ، وتعديته بعلى لا تصح إلا على مذهب التضمين )
نَزْلَةً أُخْرَى ( مرة أخرى من النزول ، نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة ،
لأنّ
" صفحة رقم 422 "
الفعلة اسم للمرّة من الفعل ، فكانت في حكمها ، أي : نزل عليه جبريل عليه السلام
نزلة أخرى في صورة نفسه ، فرآه عليها ، وذلك ليلة المعراج . قيل : في سدرة المنتهى
: هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش : ثمرها كقلال هجر ، وورقها كآذان
الفيول ، تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في كتابه ، يسير الراكب في ظلها
سبعين عاماً لا يقطعها . والمنتهى : بمعنى موضع الانتهاء ، أو الانتهاء ، كأنها في
منتهى الجنة وآخرها . وقيل : لم يجاوزها أحد ، وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم ،
ولا يعلم أحد ما وراءها . وقيل : تنتهي إليها أرواح الشهداء ) جَنَّةُ الْمَأْوَى
( الجنة التي يصير إليها المتقون : عن الحسن . وقيل : تأوى إليها أرواح الشهداء .
وقرأ علي وابن الزبير وجماعة ( جنة المأوى ) أي ستره بظلاله ودخل فيه . وعن عائشة
: أنها أنكرته وقالت : من قرأ به فأجنه الله ) مَا يَغْشَى ( تعظيم وتكثير لما
يغشاها ، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله
وجلاله : أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف . وقد قيل : يغشاها الجم
الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1101 ) ( رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله ) . وعنه عليه
الصلاة والسلام :
( 1102 ) يغشاها رفرف من طير خضر . وعن ابن مسعود وغيره : يغشاها فراش من ذهب ( ما
زاغ ) بصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وما طغى ) أي أثبت ما رأى اثباتا
مستيقناً صحيحاً ، من غير أن يزيغ بصره عنه أو يتجاوزه ، أو ما عدل عن رؤية
العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها ، وما طغى : وما جاوز ما أمر برؤيته ) لَقَدْ
رَأَى ( والله لقد رأى ) مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ ( الآيات التي هي كبراها وعظماها ،
يعني : حين رقى ربه إلى السماء فأري عجائب الملكوت .
" صفحة رقم 423 "
) أَفَرَءَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاٍّ خْرَى
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاٍّ نثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِىَ
إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ
بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاٌّ نفُسُ
وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (
النجم : ( 19 - 23 ) أفرأيتم اللات والعزى
) اللَّاتَ وَالْعُزَّى ( أصنام كانت لهم ، وهي مؤنثات ؛ فاللات كانت لثقيف
بالطائف . وقيل : كانت بنخلة تعبدها قريش ، وهي فعلة من لوى ؛ لأنهم كانوا يلوون
عليها ويعكفون للعبادة . أو يلتوون عليها : أي يطوفون . وقرىء ( اللات ) بالتشديد
. وزعموا أنه سمي برجل كان يلت عنده السمن بالزيت ويطعمه الحاج . وعن مجاهد : كان
رجل يلت السويق بالطائف ، وكانوا يعكفون على قبره ، فجعلوه وثناً ، والعزى كانت
لغطفان وهي سمرة ، وأصلها تأنيث الأعز .
( 1103 ) وبعث إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خالد بن الوليد فقطعها ،
فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها ، واضعة يدها على رأسها ، فجعل يضربها
بالسيف حتى قتلها وهو يقول : يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لاَ سُبْحَانَك
إني رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهانَك
ورجع فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عليه الصلاة والسلام تلك العزى
ولن تعبد أبداً . ومناة :
" صفحة رقم 424 "
صخرة كانت لهذيل وخزاعة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لثقيف . وقرىء : ( ومناءة
) وكأنها سميت مناة لأنّ دماء النسائك كانت تمنى عندها ، أي : تراق ، ومناءة مفعلة
من النوء ، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها . و ) الاْخْرَى ( ذمّ
، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله تعالى : ) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ
لاِخْرَاهُمْ ( ( الأعراف : 38 ) أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم . ويجوز أن تكون
الأوّلية والتقدّم عندهم للات والعزى . كانوا يقولون إنّ الملائكة وهذه الأصنام
بنات الله ، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى مع وأدهم البنات
، فقيل لهم ) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( ويجوز أن يراد : أنّ اللات
والعزى ومناة إناث ، وقد جعلتموهنّ لله شركاء ، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث
وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم ، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله
وتسمونهنّ آلهة ) قِسْمَةٌ ضِيزَى ( جائرة ، من ضازه يضيزه إذا ضامه ، والأصل :
ضوزى . ففعل بها ما فعل ببيض ؛ لتسلم الياء . وقرىء : ( ضئزى ) من ضأزه بالهمز .
وضيزى : بفتح الضاد ) هِىَ ( ضمير الأصنام ، أي ما هي ) إِلاَّ أَسْمَاء ( ليس
تحتها في الحقيقة مسميات ، لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشدّه
منافاة لها . ونحوه قوله تعالى : ) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء
سَمَّيْتُمُوهَا ( ( يوسف : 40 ) أو ضمير الأسماء وهي قولهم ، اللات والعزى ومناة
، وهم يقصدون بهذه الأسماء الآلهة ، يعني : ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتموها
بهواكم وشهوتكم ، ليس لكم من الله على صحة تسميتها برهان تتعلقون به . ومعنى )
سَمَّيْتُمُوهَا ( سميتم بها ، يقال : سميته زيداً ، وسميته بزيد ( إن يتبعون )
وقرىء بالتاء ) إِلاَّ الظَّنَّ ( إلا توهم أنّ ما هم عليه حق ، وأنّ آلهتهم
شفعاؤهم ، وما تشتهيه أنفسهم ، ويتركون ما جاءهم من الهدى والدليل على أنّ دينهم
باطل .
) أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الاٌّ خِرَةُ والاٍّ ولَى (
النجم : ( 24 - 25 ) أم للإنسان ما . . . . .
) أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى ( هي أم المنقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، أي
: ليس للإنسان ما تمنى ، والمراد طمعهم في شفاعة الآلهة ، وهو تمنّ على الله في
غاية البعد ، وقيل : هو قولهم : ) وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى
عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( ( فصلت : 50 ) وقيل : هو قول الوليد بن المغيرة ( لأوتين مالاً
وولدا ) وقيل هو تمنى بعضهم أن يكون هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فللَّه
الآخرة والأولى أي هو مالكهما ، فهو يعطي منهما من يشاء ويمنع من يشاء ، وليس لأحد
أن يتحكم عليه في شيء منهما .
) وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً
إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ
" صفحة رقم 425 "
وَيَرْضَى (
النجم : ( 26 ) وكم من ملك . . . . .
يعني : أنّ أمر الشفاعة ضيق وذلك أنّ الملائكة مع قربتهم وزلفاهم وكثرتهم واغتصاص
السموات بجموعهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئاً قط ولم تنفع ،
إلا إذا شفعوا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه
ويراه أهلاً لأن يشفع له ، فكيف تشفع الأصنام إليه بعبدتهم .
) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ
تَسْمِيَةَ الاٍّ نثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ
الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَن مَّن
تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ
مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن
سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (
النجم : ( 27 - 30 ) إن الذين لا . . . . .
) لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ ( أي كل واحد منهم ) تَسْمِيَةَ الاْنثَى ( لأنهم
إذا قالوا : الملائكة بنات الله ، فقد سموا كل واحد منهم بنتاً وهي تسمية الأنثى )
بِهِ مِنْ عِلْمٍ ( أي بذلك وبما يقولون . وفي قراءة أبيّ : ( بها ) ، أي :
بالملائكة . أو التسمية ) لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا ( يعني إنما يدرك الحق
الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقن لا بالظنّ والتوهم ) فَأَعْرَضَ (
عن دعوة من رأيته معرضاً عن ذكر الله وعن الآخرة ولم يرد إلا الدنيا ، ولا تتهالك
على إسلامه ، ثم قال : ) إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ( أي إنما يعلم الله من
يجيب ممن لا يجيب ، وأنت لا تعلم ، فخفض على نفسك ولا تتعبها ، فإنك لا تهدي من
أحببت ، وما عليك إلا البلاغ . وقوله تعالى : ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ
الْعِلْمِ ( اعتراض أو فأعرض عنه ولا تقابله ، إنّ ربك هو أعلم بالضال والمهتدي ،
وهو مجازيهما بما يستحقان من الجزاء .
) وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ
أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ
إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ
الاٌّ رْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ
أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (
النجم : ( 31 ) ولله ما في . . . . .
قرىء : ( ليجزي ) ويجزى ، بالياء والنون فيهما . ومعناه : أنّ الله عز وجل إنما
خلق العالم وسوّى هذا الملكوت لهذا الغرض : وهو أن يجازي المحسن من الملكفين والمسيء
منهم . ويجوز أن يتعلق بقوله : ) هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ( ( النجم : 30 ) لأن نتيجة العلم بالضال والمهتدي
جزاؤهما ) بِمَا عَمِلُواْ ( بعقاب ما عملوا من السوء . و ) بِالْحُسْنَى (
بالمثوبة الحسنى وهي الجنة . أو بسبب ما عملوا من السوء وبسبب
" صفحة رقم 426 "
الأعمال الحسنى ) كَبَائِرَ الإثْمِ ( أي الكبائر من الإثم ؛ لأن الإثم جنس يشتمل
على كبائر وصغائر ، والكبائر : الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة . وقيل :
التي يكبر عقابها بالإضافة إلى ثواب صاحبها ) وَالْفَوَاحِشَ ( مافحش من الكبائر ،
كأنه قال : والفواحش منها خاصة : وقرىء : ( كبير الإثم ) أي : النوع الكبير منه
وقيل : هو الشرك بالله . واللمم : ما قل وصغر . ومنه : اللمم المس من الجنون ،
واللوثة منه . وألم بالمكان إذا قل فيه لبثه . وألم بالطعام : قل منه أكله : ومنه
: لِقَاءُ أَخِلاَّءِ الصَّفَاِ لِمَامُ ;
والمراد الصغائر من الذنوب ، ولا يخلو قوله تعالى : ) إِلاَّ اللَّمَمَ ( من أن
يكون استثناء منقطعاً أو صفة ، كقوله تعالى : ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ
إِلاَّ اللَّهُ ( ( الأنبياء : 22 ) كأنه قيل : كبائر الإثم غير اللمم ، وآلهة غير
الله : وعن أبي سعيد الخدري : اللمم هي النظرة ، والغمزة ، والقبلة : وعند السدّي
: الخطرة من الذنب : وعن الكلبي : كل ذنب لم يذكر الله عليه حدّاً ولا عذاباً :
وعن عطاء : عادة النفس الحين بعد الحين ) إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ (
حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ، والكبائر بالتوبة ) فَلاَ تُزَكُّواْ
أَنفُسَكُمْ ( فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير وعمل الطاعات : أو إلى
الزكاء والطهارة من المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله الزكي منكم
والتقي أوّلاً وآخراً قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم
. وقيل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا ، فنزلت :
وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء : فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل
الصالح من الله وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح : لم يكن من المزكين أنفسهم ،
لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر .
) أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ
الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن
لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ
يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ
عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاٍّ خْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ
هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاٍّ ولَى وَثَمُودَ فَمَآ
أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ
" صفحة رقم 427 "
هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (
النجم : ( 33 ) أفرأيت الذي تولى
) وَأَكْدَى ( قطع عطيته وأمسك ، وأصله : إكداء الحافر ، وهو أن تلقاه كدية : وهي
صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر ، ونحوه : أجبل الحافر ، ثم استعير فقيل : أجبل
الشاعر إذا أفحم . روى :
( 1104 ) أن عثمان رضي الله عنه كان يعطي ما له في الخير ، فقال له عبد الله بن
سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة : يوشك أن لا يبقي لك شيء ، فقال عثمان : إن
لي ذنوباً وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه ، فقال عبد الله
: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن
العطاء . فنزلت . ومعنى ) تَوَلَّى ( ترك المركز يوم أحد ، فعاد عثمان إلى أحسن من
ذلك وأجمل ) فَهُوَ يَرَى ( فهو يعلم أن ما قاله له أخوه من احتمال أو زاره حق )
وَفَّى ( قرىء مخففاً ومشدّداً ، والتشديد مبالغة في الوفاء . أو بمعنى : وفر وأتم
، كقوله تعالى : ) فَأَتَمَّهُنَّ ( ( البقرة : 124 ) وإطلاقه ليتناول كل وفاء
وتوفية ، من ذلك : تبليغه الرسالة ، واستقلاله بأعباء النبوّة ، والصبر على ذبح
ولده وعلى نار نمروذ ، وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه ، وأنه كان يخرج كل يوم
فيمشي فرسخاً يرتاد ضيفاً ، فإن وافقه أكرمه ، وإلا نوى الصوم . وعن الحسن : ما
أمره الله بشيء إلا وفى به . وعن الهزيل بن شرحبيل : كان بين نوح وبين إبراهيم
يؤخذ الرجل بجريرة غيره ، ويقتل بأبيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد
بسيده ؛ فأوّل من خالفهم إبراهيم . وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً ،
فلما قذف في النار قال له جبريل وميكائيل : ألك حاجة ؟ فقال . أمّا إليكما فلا .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1105 ) وفّى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار ، وهي صلاة الضحى . وروى :
( 1106 ) ألا أخبركم لم سمى الله خليله ) الَّذِى وَفَّى ( ؟ كان يقول إذا أصبح
" صفحة رقم 428 "
وأمسى : ) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ( إلى ) حِينٍ تُظْهِرُونَ ( (
الروم : 17 ) وقيل : وفي سهام الإسلام : وهي ثلاثون : عشرة في التوبة ( التائبون .
. ) وعشرة في الأحزاب : ) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ( وعشرة في المؤمنين ( الأحزاب :
33 ) ) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( ( المؤمنون : 1 ) وقرىء : ( في صحف ) ،
بالتخفيف ) أَلاَّ تَزِرُ ( أن مخففة من الثقيلة . والمعنى : أنه لا تزر ، والضمير
ضمير الشأن ، ومحل أن وما بعدها : الجر بدلاً من ما في صحف موسى . أو الرفع على :
هو أن لا تزر ، كأن قائلاً قال : وما في صحف موسى وإبراهيم ، فقيل : أن لا تزر )
إِلاَّ مَا سَعَى ( إلا سعيه . فإن قلت : أما صح في الأخبار : الصدقة عن الميت ،
والحج عنه ، وله الإضعاف ؟ قلت : فيه جوابان ، أحدهما : أن سعى غيره لما لم ينفعه
إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً صالحاً وكذلك الإضعاف كأن سعى غيره
كأنه سعى نفسه ، لكونه تابعاً له وقائماً بقيامه . والثاني ؛ أن سعي غيره لا ينفعه
إذا عمله لنفسه ، ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم
مقامه ) ثُمَّ يُجْزَاهُ ( ثم يجزى العبد سعيه ، يقال : جزاه الله عمله وجزاه على
عمله ، بحذف الجار وإيصال الفعل . ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسره بقوله :
) الْجَزَاء الاوْفَى ( أو أبدله عنه ، كقوله تعالى : ) وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى
الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( ( الأنبياء : 3 ) ، ) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (
قرىء بالفتح على معنى : أن هذا كله في الصحف ، وبالكسر على الابتداء ، وكذلك ما
بعده . والمنتهى : مصدر بمعنى الانتهاء ، أي : ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه ،
كقوله تعالى : ) إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( ( فاطر : 18 ) . ) أَضْحَكَ وَأَبْكَى
( خلق قوتي الضحك والبكاء ) إِذَا تُمْنَى ( إذا تدفق في الرحم ، يقال : منى وأمنى
. وعن الأخفش : تخلق من منى الماني ، أي قدر المقدّر : قرىء : ( النشأة ) النشاءة
بالمد . وقال : ( عليه ) لأنهاواجبة عليه في
" صفحة رقم 429 "
الحكمة ، ليجازى على الإحسان والإساءة ) وَأَقْنَى ( وأعطى القنية وهي المال الذي
تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك ) الشّعْرَى ( مرزم الجوزاء : وهي التي تطلع
وراءها ، وتمسى كلب الجبار ، وهما شعريان الغميصاء والعبور وأراد العبور . وكانت
خزاعة تعبدها ، سنّ لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم ، وكانت قريش تقول لرسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) : أبو كبشة ، تشبيهاً له به لمخالفته إياهم في دينهم ،
يريد : أنه رب معبودهم هذا . عاد الأولى : قوم هود ، وعاد الأخرى : إرم . وقيل :
الأولى القدماء ؛ لأنهم أوّل الأمم هلاكاً بعد قوم نوح ، أو المتقدمون في الدنيا
الأشراف . وقرىء : ( عاد لولي ) وعاد لولى ، بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة
أولى ونقل ضمتها إلى لام التعريف ( وثمودا ) وقرىء : وثمود ) أَظْلَمَ وَأَطْغَى (
لأنهم كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكون به حراك ، وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون
صبيانهم أن يسمعوا منه ، وما أثر فيهم دعاؤه قريباً من ألف سنة )
وَالْمُؤْتَفِكَةَ ( والقرى التي ائتفكت بأهلها ، أي : انقلبت ، وهم قوم لوط ،
يقال : أفكه فائتفك : وقرىء : ( والمؤتفكات ) ) أَهْوَى ( رفعها إلى السماء على
جناج جبريل ، ثم أهواها إلى الأرض أي : أسقطها ) مَا غَشَّى ( تهويل وتعظيم لما صب
عليها من العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود .
) فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى هَاذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الاٍّ وْلَى
أَزِفَتِ الاٌّ زِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (
النجم : ( 55 ) فبأي آلاء ربك . . . . .
) فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ( تتشكك ، والخطاب لرسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، أو للإنسان على الإطلاق ، وقد عدد نعماً ونقماً وسماها كلها آلاء من
قبل ما في نقمة من المزاجر والمواعظ للمعتبرين ) هَاذَا ( القرآن ) نَذِيرٌ مّنَ
النُّذُرِ الاْوْلَى ( أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم .
أو هذا الرسول منذر من المنذرين الأولين ، وقال : الأولى على تأويل الجماعة )
أَزِفَتِ الاْزِفَةُ ( قربت الموصوفة بالقرب من قوله تعالى : ) اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ ( ( القمر : 1 ) ، ) لَيْسَ لَهَا ( نفس ) كَاشِفَةٌ ( أي مبينة متى
تقوم ، كقوله تعالى : ) لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ( ( الأعراف : 187
) أو ليس لها نفس
" صفحة رقم 430 "
كاشفة ، أي : قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله ، غير أنه لا يكشفها . أو ليس لها
الآن نفس كاشفة بالتأخير ، وقيل الكاشفة مصدر بمعنى الكشف : كالعافية . وقرأ طلحة
( ليس لها مما يدعون من دون الله كاشفة وهي على الظالمين ساءت الغاشية ) .
) أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ
وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ (
النجم : ( 59 - 62 ) أفمن هذا الحديث . . . . .
) أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ ( وهو القرآن ) تَعْجَبُونَ ( إنكاراً )
وَتَضْحَكُونَ ( استهزاء ) وَلاَ تَبْكُونَ ( والبكاء والخشوع حق عليكم . وعن رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1107 ) أنه لم ير ضاحكاً بعد نزولها . وقرىء : ( تعجبون تضحكون ) ، بغير واو )
وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ( شامخون مبرطمون . وقيل : لاهون لاعبون . وقال بعضهم
لجاريته : اسمدي لنا ، أي غني لنا ) فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ ( ولا
تعبدوا الآلهة .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1108 ) ( من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به
بمكة ) .
" صفحة رقم 431 "
( سورة القمر )
مكية ( إلا الآيات 44 و 45 و 46 فمدنية )
وآياتها 55 ( نزلت بعد الطارق )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ
وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ
وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (
القمر : ( 1 ) اقتربت الساعة وانشق . . . . .
انشقاق القمر من آيات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعجزاته النيرة . عن أنس
بن مالك رضي الله عنه :
( 1109 ) أن الكفار سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آية فانشق القمر مرتين
. وكذا عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما ، قال ابن عباس :
( 1110 ) انفلق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت وقال ابن مسعود :
( 1111 ) رأيت حراء بين فلقتي القمر . وعن بعض الناس : أن معناه ينشق يوم القيامة
. وقوله : ) وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ
( يردّه ، وكفى به رادّاً ، وفي قراءة حذيفة ( وقد انشق القمر ) أي : اقتربت
الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن
" صفحة رقم 432 "
القمر قد انشق ، كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه . وعن حذيفة أنه
خطب بالمدائن ثم قال :
( 1112 ) ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم . مستمر : دائم
مطرد ، وكل شيء قد انقادت طريقته ودامت حاله ، قيل فيه : قد استمرّ . لما رأوا
تتابع المعجزات وترادف الآيات : قالوا : هذا سحر مستمرّ . وقيل : مستمرّ قوي محكم
، من قولهم : استمر مريره . وقيل : هو من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته ، أي :
مستبشع عندنا ، مرّ على لهواتنا ، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ المر الممقر .
وقيل : مستمر مارّ ، ذاهب يزول ولا يبقى ، تمنية لأنفسهم وتعليلاً . وقرىء : ( وإن
يروا ) ) وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ ( وما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره
) وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ( أي كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقرّ عليها ،
وإن أمر محمد سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق ، أو باطل وسيظهر لهم عاقبته . أو
وكل أمر من أمرهم وأمره مستقر ، أي : سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة في
الدنيا ، وشقاوة أو سعادة في الآخرة . وقرىء : بفتح القاف ، يعني ( كل أمر ذو
مستقرّ ) أي : ذو استقرار . أو ذو موضع استقرار أو زمان استقرار . وعن أبي جعفر ؛
مستقر ، بكسر القاف والجرّ عطفاً على الساعة ، أي : اقترتب الساعة واقترب كل أمر
مستقر يستقر ويتبين حاله .
) وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الاٌّ نبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ
فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ
نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاٌّ جْدَاثِ كَأَنَّهُمْ
جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا
يَوْمٌ عَسِرٌ (
القمر : ( 4 - 8 ) ولقد جاءهم من . . . . .
) مّنَ الاْنبَاء ( من القرآن المودع أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة ، وما
وصف من عذاب الكفار ) مُزْدَجَرٌ ( ازدجار أو موضع ازدجار . والمعنى : هو في نفسه
موضع الازدجار ومظنة له ، كقوله تعالى : ) لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ ( ( الأحزاب : 21 ) أي هو أسوة . وقرىء : ( مزجر ) بقلب تاء الإفتعال
زايا وإدغام الزاي فيها ) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ( بدل من ماء . أو على : هو حكمة .
وقرىء بالنصب حالاً من ما . فإن قلت : إن
" صفحة رقم 433 "
كانت ما موصوفة ساغ لك أن تنصب حكمة حالا ، فكيف تعمل إن كانت موصوفة ؟ وهو الظاهر
. قلت : تخصصها الصفة ؛ فيحسن نصب الحال عنها ) فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ ( نفي أو
إنكار . وما منصوبة ، أي فأي غناء تغني النذر ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( لعلمك أن
الإنذار لا يغني فيهم . نصب ) يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِىَ ( بيخرجون ، أو بإضمار
اذكر . وقرىء : بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة عنها ، والداعي إسرافيل أو جبريل ،
كقوله تعالى : ) يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ ( ( ق : 41 ) ) إِلَى شَىْء نُّكُرٍ (
منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة . وقرىء : ( نكر
) بالتخفيف ؛ ونكر بمعنى أنكر ) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ ( حال من الخارجين فعل
للأبصار وذكر ، كماتقول : يخشع أبصارهم . وقرى : ( خاشعة ) على : تخشع أبصارهم .
وخشعاً ، على : يخشعن أبصارهم ، وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث ، وهم طيء .
ويجوز أن يكون في ) خُشَّعاً ( ضميرهم ، وتقع ) أَبْصَارَهُمْ ( بدلاً عنه . وقرىء
( خشع أبصارهم ) ، على الابتداء والخبر ، ومحل الجملة النصب على الحال . كقوله :
وَجَدْتُهُ حاضِرَاهُ الْجُودُ وَالْكَرَمُ
وخشوع الأبصار : كناية عن الذلة والانخزال ، لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في
عيونهما . وقرىء : ( يخرجون من الأجداث ) من القبور ) كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ
مُّنتَشِرٌ ( الجراد مثل في الكثرة والتموّج . يقال في الجيش الكثير المائج بعضه
في بعض : جاؤا كالجراد ، وكالدبا منتشر في كل مكان لكثرته ) مُّهْطِعِينَ إِلَى
الدَّاعِىَ ( مسرعين مادّي أعناقهم إليه . وقيل : ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم
. قال :
تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بْنُ سَعْدِ وَقَدْ أَرَى وَنِمْرُ بْنُ سَعْدٍ لِي مُطِيعٌ
وَمُهْطِعُ
) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ
وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ
السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الاٌّ رْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى
المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ
تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَةً
فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر ( 7 )
القمر : ( 9 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
" صفحة رقم 434 "
) قَبْلَهُمْ ( قبل أهل مكة ) فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا ( يعني نوحاً . فإن قلت : ما
معنى قوله تعالى : ) فَكَذَّبُواْ ( بعد قوله : ) كَذَّبَتْ ( ؟ قلت : معناه :
كذبوا فكذبوا عبدنا أي : كذبوه تكذيباً على عقب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن مكذب
تبعه قرن مكذب . أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا ، أي : لما كانوا مكذبين
بالرسل جاحدين للنبوّة رأساً : كذبوا نوحًا ؛ لأنه من جملة الرسل ) مَّجْنُونٍ (
هو مجنون ) وَازْدُجِرَ ( وانتهروه بالشتم والضرب والوعيد بالرجم في قولهم )
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ ( ( الشعراء : 116 ) وقيل : هو من جملة قيلهم ،
أي : قالوا هو مجنون ، وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه وطارت بقلبه . قرىء :
( أني ) بمعنى : فدعا بأني مغلوب ، وإني : على إرادة القول ، فدعا فقال : إني
مغلوب غلبني قومي ، فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس من إجابتهم لي ) فَانتَصِرْ ( فانتقم
منهم بعذاب تبعثه عليهم ، وإنما دعا بذلك بعد ما طم عليه الأمروبلغ السيل الزبا ،
فقد روى : أنّ الواحد من أمّته كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشياً عليه . فيفيق وهو
يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . وقرىء : ( ففتحنا ) مخففاً ومشدّداً ،
وكذلك وفجرنا ) مُّنْهَمِرٍ ( منصب في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً )
وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً ( وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ
من قولك : وفجرنا عيون الأرض ونظيره في النظم ) وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ( (
مريم : 4 ) . ) فَالْتَقَى المَاء ( يعني مياه السماء والأرض . وقرىء : ( الماآن )
، أي : النوعان من الماء السماوي والأرضي . ونحوه قولك : عندي تمران ، تريد :
ضربان من التمر : برني ومعقلي . قال :
" صفحة رقم 435 "
لَنَا إبْلاَنِ فِيهِمَا مَا علمْتُمُ
وقرأ الحسن ( الماوان ) ، بقلب الهمزة واواً ، كقولهم : علباوان ) عَلَى أَمْرٍ
قَدْ قُدِرَ ( على حال قدرها الله كيف شاء . وقيل : على حال جاءت مقدّرة مستوية :
وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء . وقيل : على أمر
قد قدر في اللوح أنه يكون ، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان ) عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ
وَدُسُرٍ ( أراد السفينة ، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منا بها
وتودي مؤداها . بحيث لا يفصل بينها وبينها . ونحوه :
. . . . . . . . . وَلَاكِن قمِيصِي مَسْرُودَةٌ مِنْ حَدِيدِ
أراد : ولكن قميصي درع ، وكذلك :
وَلَوْ فِي عُيُونِ النَّازِيَاتِ بِأَكْرُعِ
أراد : ولو في عيون الجراد . ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة ، أو
بين الدرع والجراد وهاتين الصفتين : لم يصح ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه . والدسر
: جمع دسار : وهو المسمار ، فعال من دسره إذا دفعه ؛ لأنه يدسر به منفذه ) جَزَاء
( مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده ، أي فعلنا ذلك جزاء ، ) لّمَن
كَانَ كُفِرَ ( وهو نوح عليه السلام ، وجعله مكفوراً لأنّ النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) نعمة من الله ورحمة . قال الله تعالى : ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ
رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ ( ( الأنبياء : 107 ) فكان نوح عليه السلام نعمة مكفورة ،
ومن هذا المعنى ما يحكى أنّ رجلاً قال للرشيد : الحمد لله عليك ، فقال : ما معنى
هذا الكلام ؟ قال : أنت نعمة حمدت الله عليها . ويجوز أن يكون على تقدير حذف الجار
وإيصال الفعل . وقرأ قتادة ( كفر ) أي جزاء للكافرين . وقرأ الحسن ( جزاء ) ،
بالكسر : أي مجازاة . الضمير في ) تَّرَكْنَاهَا ( للسفينة . أو للفعلة ، أي :
جعلناها آية يعتبر
" صفحة رقم 436 "
بها . وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة . وقيل : على الجودى دهراً طويلاً ،
حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة . والمدكر : المعتبر . وقرىء : ( مذتكر ) على الأصل
. ومذكر ، بقلب التاء ذالاً وإدغام الذال فيها . وهذا نحو : مذجر . والنذر : جمع
نذير وهو الإنذار ) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ ( أي سهلناه
للأدكار والاتعاظ ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد )
فَهَلْ مِن ( متعظ . وقيل : ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ، فهل من
طالب لحفظه ليعان عليه . ويجوز أن يكون المعنى : ولقد هيأناه للذكر ، من يسر ناقته
للسفر : إذا رحلها ، ويسر فرسه للغزو ، إذا أسرجه وألجمه . قال : وَقمت إِلَيْهِ بِاللِّجَامِ
مُيَسِّرا
هُنَالِكَ يَجْزِيني الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ
ويروى : أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل لا يتلوها أهلها إلا نظراً ولا
يحفظونها ظاهراً كما القرآن .
) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ
ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ
إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ
هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (
القمر : ( 18 - 22 ) كذبت عاد فكيف . . . . .
) وَنُذُرِ ( وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله . أو إنذار أتى في تعذيبهم لمن بعدهم
) فِى يَوْمِ نَحْسٍ ( في يوم شؤم . وقرىء : ( في يوم نحس ) كقوله : ) فِى
أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ( . ( فصلت : 16 ) . ) مُّسْتَمِرٌّ ( قد استمر عليهم ودام
حتى أهلكهم . أو استمر عليهم جميعاً كبيرهم وصغيرهم ، حتى لم يبق منهم نسمة ، وكان
في أربعاء في آخر الشهر لا تدور . ويجوز أن يريد بالمستمر : الشديد المرارة
والبشاعة ) تَنزِعُ النَّاسَ ( تقلعهم عن أماكنهم ، وكانوا يصطفون آخذين أيديهم
بأيدي بعض . ويتدخلون في الشعاب ، ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتكبهم وتدق
رقابهم ) كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ( يعني أنهم كانوا يتساقطون على
الأرض أمواتاً وهم جثث طوال عظام ، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولهابلا فروع ، منقعر :
منقلع : عن مغارسه . وقيل : شبهوا بأعجاز النخل ، لأنّ الريح كانت تقطع رؤوسهم
فتبقى أجساداً بلا رؤوس . وذكر صفة ) نَخْلٍ ( على اللفظ ، ولو حملها على المعنى
لأنث ، كما قال : ) أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( ( الحاقة : 7 ) .
) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاٌّ شِرُ إِنَّا مُرْسِلُواْ
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ
" صفحة رقم 437 "
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ
فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ
الْمُحْتَظِرِ وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
(
القمر : ( 26 - 32 ) سيعلمون غدا من . . . . .
) أَبَشَراً مّنَّا واحِداً ( نصب بفعل مضمر يفسره ) نَّتَّبِعُهُ ( وقرىء : (
أبشر منا واحد ) على الابتداء . ونتبعه : خبره ، والأوّل أوجه للاستفهام . كان
يقول : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق ، وسعر : ونيران ، جمع سعير ، فعكسوا
عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذن كما تقول . وقيل : الضلال : الخطأ والبعد عن
الصواب . والسعر : الجنون . يقال : ناقة مسعورة . قال : كَأَنَّ بِهَا سُعْرًا
إذَا الْعِيسُ هَزَّهَا
ذَمِيلٌ وَإِرْخَاءٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ
فإن قلت : كيف أنكروا أن يتبعوا بشراً منهم واحداً ؟ قلت : قالوا أبشراً : إنكاراً
لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر وهم
الملائكة ، وقالوا : ) مِّنَّا ( لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى ، وقالوا :
) واحِداً ( إنكاراً لأن تتبع الأمّة رجلاً واحداً . أو أرادوا واحداً من أفنائهم
ليس بأشرفهم وأفضلهم ، ويدل عليه قولهم : ) أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن
بَيْنِنَا ( أي أنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوّة )
أَشِرٌ ( بطر متكبر ، حمله بطره وشطارته وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك )
سَيَعْلَمُونَ غَداً ( عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة ) مَّنِ الْكَذَّابُ
الاْشِرُ ( أصالح أم من كذبه . وقرىء : ( ستعلمون ) بالتاء على حكاية ما قال لهم
صالح مجيباً لهم . أو هو كلام الله تعالى على سبيل الالتفات . وقرىء : ( الأشر )
بضم الشين ، كقولهم حدث وحدث . وحذر وحذر ، وأخوات لها . وقرىء : ( الأشر ) وهو
الأبلغ في الشرارة . والأخير والأشر : أصل قولهم : هو خير منه وشر منه ، وهو أصل
مرفوض ، وقد حكى ابن الأنباري قول العرب : هو أخير وأشر ، وما أخيره وما أشره )
مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ ( باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا ) فِتْنَةً
لَّهُمْ ( امتحاناً لهم وابتلاء ) فَارْتَقِبْهُمْ ( فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون
) وَاصْطَبِرْ ( على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمري ) قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ( مقسوم
بينهم : لها شرب يوم ولهم شرب يوم . وإنما
" صفحة رقم 438 "
قال : بينهم ، تغليباً للعقلاء ( محتضر ) محضور لهم أو للناقة . وقيل : يحضرون
الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها ) صَاحِبَهُمْ ( قدار بن سالف أحيمر ثمود )
فَتَعَاطَى ( فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له ، فأحدث العقر بالناقة .
وقيل فتعاطى الناقة فعقرها ، أو فتعاطى السيف ) صَيْحَةً واحِدَةً ( صيحة جبريل .
والهشيم ؛ الشجر اليابس المتهشم المتكسر ( والمحتظر ) الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر
به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم . وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو
موضع الاحتظار ، أي ( الحظيرة ) .
) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً
إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ
نَجْزِى مَن شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى
وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ فَذُوقُواْ عَذَابِى
وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ (
القمر : ( 33 - 40 ) كذبت قوم لوط . . . . .
) حَاصِباً ( ريحا تحصبهم بالحجارة ، أي : ترميهم ) بِسَحَرٍ ( بقطع من الليل ،
وهو السدس الأخير منه . وقيل : هما سحران ، فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر ،
والآخر عند انصداعه ، وأنشد : مَرَّتْ بِأَعْلَى السَّحَرَيْنِ تَذْأَلُ ;
وصرف لأنه نكرة . ويقال : لقيته سحرا أذا لقيته في سحر يومه ) نِعْمَتَ ( إنعاماً
، مفعول له ) مَن شَكَرَ ( نعمة الله بإيمانه وطاعته ) وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ ( لوط
عليه السلام ) بَطْشَتَنَا ( أخذتنا بالعذاب ) فَتَمَارَوْاْ ( فكذبوا )
بِالنُّذُرِ ( متشاكين ) فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ( فمسحناها وجعلناها كسائر
الوجه لا يرى لها شق . روى أنهم لما عالجوا باب لوط عليه السلام ليدخلوا قالت
الملائكة خلهم يدخلوا ، ) إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ ( ( هود :
81 ) فصفقهم جبريل عليه السلام بجناحه صفقة فتركهم يتردّدون لا يهتدون إلى الباب
حتى أخرجهم لوط ) فَذُوقُواْ ( فقلت لهم : ذوقوا على ألسنة الملائكة ) بُكْرَةً (
أوّل النهار وباكره ، كقوله : ( مشرقين ) ، و ( مصبحين ) . وقرأ زيد بن علي رضي
الله عنهما : ( بكرة ) ، غير منصرفة ، تقول : أتيته بكرة وغدوة بالتنوين . إذا
أردت التنكير ، وبغيره إذا عرّفت
" صفحة رقم 439 "
وقصدت بكرة نهارك وغدوته ) عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ ( ثابت قد استقرّ عليهم إلى أن
يفضى بهم إلى عذاب الآخرة . فإن قلت : ما فائدة تكرير قوله ) فَذُوقُواْ عَذَابِى
وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( ؟
قلت : فائدته أن يجدّدوا عند استماع كل نبإ من أنباء الأوّلين ادكاراً واتعاظاً ،
وأن يستأفنوا تنبهاً واستيقاظاً ، إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه ، وأن يقرع
لهم العصا مرات ، ويقعقع لهم الشن تارات ؛ لئلا يغلبهم السهو ولا تستولى عليهم
الغفلة ، وهكذا حكم التكرير ، كقوله : ) فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( (
الرحمن : 13 ) عند كل نعمة عدّها في سورة الرحمن ، وقوله : ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لّلْمُكَذّبِينَ ( ( المرسلات : 15 ) عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات ، وكذلك
تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب . مصورة للأذهان ،
مذكورة غير منسية في كل أوان .
) وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا كُلِّهَا
فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (
القمر : ( 41 ) ولقد جاء آل . . . . .
) النُّذُرُ ( موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به
المرسلون . أو جمع نذير وهو الإنذار ) بِأايَاتِنَا كُلِّهَا ( بالآيات التسع )
أَخْذَ عِزِيزٍ ( لا يغالب ) مُّقْتَدِرٍ ( لا يعجزه شيء .
) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (
القمر : ( 43 - 46 ) أكفاركم خير من . . . . .
) أَكُفَّارُكُمْ ( يا أهل مكة ) خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ ( الكفار المعدودين :
قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، أي أهم خير قوّة وآلة ومكانة في الدنيا . أو
أقل كفراً وعناداً يعني : أنّ كفاركم مثل أولئك بل شر منهم ) أَمْ ( أنزلت عليكم
يا أهل مكة ) بَرَاءةٌ ( في الكتب المتقدّمة . أنّ من كفر منكم وكذب الرسل كان
آمناً من عذاب الله ، فأمنتم بتلك البراءة ) نَحْنُ جَمِيعٌ ( جماعة أمرنا مجتمع )
مُّنتَصِرٌ ( ممتنع لا نرام ولا نضام . وعن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر ،
فتقدَّم في الصف وقال : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه ، فنزلت ) سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ ( عن عكرمة :
( 1113 ) لما نزلت هذه الآية قال عمر : أي جمع يهزم ، فلما رأى رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 440 "
يثب في الدرع ويقول : ( سيهزم الجمع ) عرف تأولها ) وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( أي
الأدبار كما قال : كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ;
وقرىء : ( الأدبار ) ) أَدْهَى ( أشدّ وأفظع . والداهية : الأمر المنكر الذي لا
يهتدي لدوائه ) وَأَمَرُّ ( من الهزيمة والقتل والأسر . وقرىء : ( سنهزم الجمع ) .
) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ
عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ
بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (
القمر : ( 47 - 50 ) إن المجرمين في . . . . .
) فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ( في هلاك ونيران . أو في ضلال عن الحق في الدنيا ، ونيران
في الآخرة ) مَسَّ سَقَرَ ( كقولك : وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب ؛ لأنّ النار إذا
أصابتهم بحرهاولفحتهم بإيلامها ، فكأنها تمسهم مساً بذلك ، كما يمس الحيوان ويباشر
بما يؤذى ويؤلم . وذوقوا : على إرادة القول . وسقر : علم لجهنم . من سقرته النار
وصقرته إذا لوحته . قال ذو الرمّة :
إذَا ذَابَتِ الشَّمْسُ اتقى صَقَرَاتِهَا
بِأَفْنَانِ مَرْبُوعِ الصَّرِيمَةِ مُعْبِلِ
وعدم صرفها للتعريف والتأنيث ) كُلّ شَىْء ( منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر
" صفحة رقم 441 "
وقرىء : ( كل شيء ) بالرفع ( والقدر والقدر ) التقدير . وقرىء بهما ، أي : خلقنا
كل شيء مقدّراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة . أو مقدّراً مكتوباً في
اللوح . معلوماً قبل كونه ، قد علمنا حاله وزمانه ) وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ
واحِدَةٌ ( إلا كلمة واحدة سريعة التكوين ) كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( أراد قوله كن ،
يعني أنه إذا أراد تكوين شيء لم يلبث كونه .
) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَكُلُّ شَىْءٍ
فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ (
القمر : ( 51 - 53 ) ولقد أهلكنا أشياعكم . . . . .
) أَشْيَاعَكُمْ ( أشباهكم في الكفر من الأمم ) فِى الزُّبُرِ ( في دواوين الحفظة
) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ( من الأعمال ومن كل ما هو كائن ) مُّسْتَطَرٌ (
مسطور في اللوح .
) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ
مُّقْتَدِرِ (
القمر : ( 54 ) إن المتقين في . . . . .
(ونهر ) وأنهار ، اكتفى باسم الجنس . وقيل : هو السعة والضياء من النهار . وقرىء :
بسكون الهاء . ( ونهْر ) جمع نهر ، كأسد وأسد ) فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ( في مكان
مرضيّ . وقرىء : ( في مقاعد صدق ) ) عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( مقرّبين عند مليك
مبهم أمره في الملك والاقتدار ، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته ، فأي منزلة أكرم
من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1114 ) ( من قرأ سورة القمر في كل غب بعثه الله يوم القيامة ووجهه مثل القمر
ليلة البدر ) .
" صفحة رقم 442 "
( سورة الرحمن )
مدنية وآياتها 78 ( نزلت بعد الرعد )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) الرَّحْمَانُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ
وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ
وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ وَالاٌّ رْضَ
وَضَعَهَا لِلاٌّ نَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاٌّ كْمَامِ
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 1 ) الرحمن
عدّد الله عز وعلا آلاءه ، فأراد أن يقدّم أوّل شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه
وأصناف نعمائه ، وهي نعمة الدين ، فقدّم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها
وأقصى مراقيها : وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، لأنه أعظم وحي الله رتبة ،
وأعلاه منزلة ، وأحسنه في أبواب الدين أثراً ، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها
والعيار عليها ، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ، ثم أتبعه إياه : ليعلم أنه إنما
خلقه للدين ، وليحيط علماً بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله ، وكأن الغرض في
إنشائه كان مقدّماً عليه وسابقاً له ، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من
البيان ، وهو المنطق الفصيح
" صفحة رقم 443 "
المعرب عما في الضمير ، ) الرَّحْمَانُ ( مبتدأ ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار
مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد
فقر ، أعزك بعد ذل ، كثرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر من
إحسانه ؟ ) بِحُسْبَانٍ ( بحساب معلوم وتقدير سويّ ) يجريان ( في بروجهما
ومنازلهما . وفي ذلك منافع للناس عظيمة : منها علم السنين والحساب ) النُّجُومِ
وَالنَّجْمِ ( والنبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول ) وَالشَّجَرُ ( الذي
له ساق . وسجودهما : انقيادههما لله فيما خلقا له ، وأنهما لا يمتنعان ، تشبيهاً
بالساجد من المكلفين في انقياده . فإن قلت : كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمان ؟
قلت : استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي ، لما علم أن الحسبان حسبانه ،
والسجود له لا لغيره ، كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه ، والنجم والشجر يسجدان له
، فإن قلت : كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول ، ثم جيء به بعد ؟ قلت : بكت بتلك
الجمل الأول واردة على سنن التعديد ، ليكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تقريع
الذين أنكروا الرحمن وآلاءه ، كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها
عليه في المثال الذي قدّمته ، ثم ردّ الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب
وصله للتناسب والتقارب بالعاطف . فإن قلت : أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط
بينهما العاطف ؟ قلت : إنّ الشمس والقمر سماويان ، والنجم والشجر أرضيان ، فبين
القبيلين تناسب من حيث التقابل ، وأنّ السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين ،
وأن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله ، فهو مناسب لسجود النجم
والشجر وقيل : ) عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( جعله علامة وآية . وعن ابن عباس رضي الله
عنه : الإنسان آدم . وعنه أيضاً : محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن
مجاهد النجم : نجوم السماء ) وَالسَّمَاء رَفَعَهَا ( خلقها مرفوعة مسموكة ، حيث
جعلها منشأ أحكامه ، ومصدر قضاياه ، ومتنزل أوامره ونواهيه ، ومسكن ملائكته الذين
يهبطون بالوحي على أنبيائه ؛ ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه ) وَوَضَعَ
الْمِيزَانَ ( وفي قراءة عبد الله ( وخفض الميزان ) . وأراد به كل ما توزن به
الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس ، أي خلقه موضوعاً مخفوضاً
على الأرض : حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل
في أخذهم وإعطائهم ) أَلاَّ تَطْغَوْاْ ( لئلا تطغوا . أو هي أن المفسرة . وقرأ
عبد الله ( لا تطغوا ) بغير أن ، على إرادة القول ) وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ
بِالْقِسْطِ ( وقوّموا وزنكم بالعدل ) وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ ( ولا تنقصوه
: أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة ، وعن الخسران الذي هو
تطفيف ونقصان . وكرّر لفظ الميزان : تشديداً للتوصية به ، وتقوية للأمر باستعماله
والحث
" صفحة رقم 444 "
عليه . وقرىء : ( والسماء ) بالرفع . ( ولا تخسروا ) بفتح التاء وضم السين وكسرها
وفتحها . يقال : خسر الميزان يخسره ويخسره ، وأمّا الفتح فعلى أن الأصل : ولا
تخسروا في الميزان ، فحذف الجار وأوصل الفعل . و ) وَضَعَهَا ( خفضها مدحوّة على
الماء ) لِلاْنَامِ ( للخلق ، وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة . وعن الحسن :
الإنس والجنّ ، فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها ) فَاكِهَةٍ ( ضروب مما يتفكه به ،
و ) الاْكْمَامِ ( كل ما يكم أي يغطى من ليفة وسعفة وكفّراة وكله منتفع به كما
ينتفع بالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه . وقيل الأكمام أوعية التمرة الواحد كم بكسر
الكاف و ( العصف ) ورق الزرع وقيل التبن ) وَالرَّيْحَانُ ( الرزق وهو اللب : أراد
فيها ما يتلذذ به من الفواكه والجامع بين التلذذ والتغذي وهو ثمر النخل ، وما
يتغذى به وهو الحب . وقرىء : ( والريحان ) ، بالكسر . ومعناه : والحب ذو العصف
الذي هو علف الأنعام ، والريحان الذي هو مطعم الناس . وبالضم على : وذو الريحان ،
فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : معناه وفيها الريحان الذي يشم ، وفي
مصاحف أهل الشأم : والحب ذو العصف والريحان ، أي : وخلق الحب والريحان : أو وأخص
الحب والريحان . ويجوز أن يراد : وذا الريحان ، فيحذف المضاف ويقام المضاف إليه
مقامه ، والخطاب في ) رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( للثقلين بدلالة الأنام عليهما .
وقوله : ) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ( ( الرحمن : 31 ) .
) خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ
مِّن نَّارٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 14 ) خلق الإنسان من . . . . .
الصلصال : الطين اليابس له صلصلة . والفخار : الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف .
فإن قلت : قد اختلف التنزيل في هذا ، وذلك قوله عزّ وجلّ : ) مّنْ حَمَإٍ
مَّسْنُونٍ ( ( الحجر : 26 28 33 ) ، ) مّن طِينٍ لاَّزِبٍ ( ( الصافات : 11 ) )
مّن تُرَابٍ ( ( آل عمران : 59 ) . قلت : هو متفق في المعنى ، ومفيد أنه خلقه من
تراب : جعله طيناً ، ثم حمأ مسنون ، ثم صلصالا . و ) الْجَانَّ ( أبو الجن . وقيل
: هو إبليس . والمارج : اللهب الصافي الذي لا دخان فيه . وقيل : المختلط بسواد
النار ، من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط . فإن قلت : فما معنى قوله : ) مّن نَّارٍ
( ؟ قلت : هو بيان لمارج ، كأنه قيل : من صاف من نار . أو مختلط من نار أو أراد من
نار مخصوصة ، كقوله تعالى : ) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ( ( الليل : 14 ) .
) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 17 ) رب المشرقين ورب . . . . .
قرىء : ( رب المشرقين ورب المغربين ) بالجر بدلاً من ( ربكما ) وأراد مشرقي
" صفحة رقم 445 "
الصيف والشتاء ومغربهما .
) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ
فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ
وَالمَرْجَانُ فَبِأَىِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 19 - 23 ) مرج البحرين يلتقيان
) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ( أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقين ، لا
فصل بين الماءين في مرأى العين ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ ( حاجز من قدرة الله تعالى
) لاَّ يَبْغِيَانِ ( لا يتجاوزان حدّيهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة .
قرىء : ( يُخرَج ) ويَخْرُج من أُخرج . وخرج . ويُخرِج : أي الله عز وجل اللؤلؤَ
والمرجانَ بالنصب . ونخرج بالنون . واللؤلؤ : الدرّ . والمرجان : هذا الخرز الأحمر
وهو البسذ . وقيل : اللؤلؤ كبار الدرّ . والمرجان : صغاره . فإن قلت : لم قال : (
منهما ) وإنما يخرجان من الملح ؟ قلت : لما التقيا وصارا كالشيء الواحد : جاز أن
يقال : يخرجان منهما ، كما يقال يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ولكن
من بعضه . وتقول : خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله ، بل من دار واحدة
من دوره . وقيل : لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب .
) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاٌّ عْلَامِ فَبِأَىِّ
ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 24 ) وله الجوار المنشآت . . . . .
) الْجَوَارِ ( السفن . وقرىء : ( الجوار ) بحذف الياء ورفع الراء ، ونحوه : لَهَا
ثَنَايَا أَرْبَعٌ حِسَان
وَأَرْبَعٌ فَكُلُّهَا ثَمَانُ
و ) الْمُنشَئَاتُ ( المرفوعات الشُرُع . وقرىء : بكسر الشين : وهي الرافعات الشرع
أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهنّ . والأعلام : جمع علم ، وهو الجبل الطويل .
) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ
فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 26 ) كل من عليها . . . . .
) عَلَيْهَا ( على الأرض ) وَجْهُ رَبّكَ ( ذاته ، والوجه يعبر به عن الجملة
والذات ،
" صفحة رقم 446 "
ومساكين مكة يقولون : أين وجه عربي كريم ينقذني من الهوان ، و ) ذُو الْجَلْالِ
وَالإكْرَامِ ( صفة الوجه . وقرأ عبد الله : ( ذي ) على : صفة ربك . ومعناه : الذي
يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم . أو الذي يقال له : ما أجلك وأكرمك .
أو من عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده ، وهذه الصفة من عظيم صفات الله ؛
ولقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1115 ) ( ألظوا ) بياذا الجلال والإكرام ) وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 1116 ) أنه مر برجل وهو يصلي ويقول : يا ذا الجلال والإكرام ، فقال : ( قد
استجيب لك ) . فإن قلت : ما النعمة في ذلك ؟ قلت : أعظم النعمة وهي مجيء وقت الجزاء
عقيب ذلك .
) يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ
فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 29 ) يسأله من في . . . . .
كل من أهل السموات والأرض مفتقرون إليه ، فيسأله أهل السموات ما يتعلق بدينهم ،
وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ( أي كل وقت
وحين يحدث أموراً ويجدد أحوالاً ، كما روى :
" صفحة رقم 447 "
( 1117 ) عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه تلاها فقيل له : وما ذلك الشأن
؟ فقال : ( من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ، ويرفع قوماً ويضع آخرين ) وعن ابن
عيينه : الدهر عند الله تعالى يومان ، أحدهما : اليوم الذي هو مدّة عمر الدنيا
فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع . والآخر : يوم القيامة
، فشأنه فيه الجزاء والحساب . وقيل : نزلت في اليهود حين قالوا : إنّ الله لا يقضي
يوم السبت شيئاً . وسأل بعض الملوك وزيره عنها فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يفكر
فيها ، فقال غلام له أسود : يا مولاي ، أخبرني ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي
، فأخبره فقال له : أنا أفسرها للملك فأعلمه ، فقال : أيها الملك شأن الله أن يولج
الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي
، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً ، ويبتلى معافاً ويعافى مبتلى ، ويعز ذليلاً ويذل
عزيزاً ويفقر غنياً ويغني فقيراً ؛ فقال الأمير : أحسنت وأمر الوزير أن يخلع عليه
ثياب الوزارة فقال : يا مولاي هذا من شأن الله . وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا
الحسين ابن الفضل وقال له : أشكلت على ثلاث آيات ، دعوتك لتكشفها لي : قوله تعالى
: ) فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( ( المائدة : 31 ) وقد صح أنّ الندم توبة
وقوله تعالى : ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ( وقد صح أنّ القلم قد جف بما هو
كائن إلى يوم القيامة . وقوله تعالى : ) وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا
سَعَى ( ( النجم : 39 ) فما بال الأضعاف ؟ فقال الحسين : يجوز أن لا يكون الندم
توبة في تلك الأمّة . ويكون توبة في هذه الأمّة ؛ لأنّ الله تعالى خص هذه الأمّة
بخصائص لم يشاركهم فيها الأمم ، وقيل إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ، ولكن
على حمله ، وأما قوله : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) فمعناه : ليس له إلا ما
سعى عدلاً ، ولي أن أجزيه بواحدة ألفاً فضلاً ، وأما قوله : ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِى شَأْنٍ ( فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتدئها : فقام عبد الله وقبل رأسه وسوّغ
خراجه .
" صفحة رقم 448 "
) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 31 ) سنفرغ لكم أيها . . . . .
) سَنَفْرُغُ لَكُمْ ( مستعار من قول الرجل لمن يتهدده : سأفرغ لك ، يريد :
سأتجرّد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك ، حتى لا يكون لي شغل سواه ، والمراد :
التوفر على النكاية فيه والانتقام منه ، ويجوز أن يراد : ستنتهي الدنيا وتبلغ
آخرها ، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق التي أرادها بقوله : ) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى
شَأْنٍ ( فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل
، وقرىء : ( سيفرغ لكم ) ، أي : الله تعالى ، ( وسأفرغ لكم ) و ( سنفرغ ) بالنون )
، مفتوحاً مكسوراً وفتح الراء ، و ( سيفرَغ ) بالياء مفتوحاً ومضموماً مع فتح
الراء ، وفي قراءة أبيّ ( سنفرغ إليكم ) بمعنى : سنقصد إليكم ، والثقلان : الإنس
والجن ، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض .
) يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ
أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ
بِسُلْطَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا
شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 33 - 36 ) يا معشر الجن . . . . .
) يا معشر الْجِنَّ وَالإِنسَ ( كالترجمة لقوله : أيها الثقلان ) إِنِ
اسْتَطَعْتُمْ ( أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي ، فافعلوا
، ثم قال : لا تقدرون على النفوذ ) إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ( يعني بقوّة وقهر وغلبة ،
وأنى لكم ذلك ، ونحوه : ) وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ وَلاَ فِى
السَّمَاء ( ( العنكبوت : 22 ) وروى : أنّ الملائكة عليهم السلام تنزل فتحيط بجميع
الخلائق ، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا ، فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة
أحاطت به . قرىء : ( شواظ ونحاس ) ، كلاهما بالضم والكسر ؛ والشواظ : اللهب الخالص
. والنحاس : الدخان ؛ وأنشد : تُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ لَمْ يَجْعَلِ
اللَّهُ فِيهِ نُحَاسَا ;
وقيل : الصفر المذاب يصب على رؤوسهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا خرجوا من
قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر . وقرىء : ( ونحاس ) ، مرفوعاً عطفاً على شواظ .
ومجروراً عطفاً على تار . وقرىء : ( ونحس ) جمع نحاس ، وهو الدخان ، نحو لحاف ولحف
. وقرىء : ( ونحس ) أي : ونقتل بالعذاب . وقرىء : ( نرسل عليكم شواظاً من نار
ونحاساً ) ) فَلاَ تَنتَصِرَانِ ( فلا تمتنعان .
" صفحة رقم 449 "
) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَىِّ
ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ
وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 37 - 40 ) فإذا انشقت السماء . . . . .
) وَرْدَةً ( حمراء ) كَالدّهَانِ ( كدهن الزيت ، كما قال : كالمهل ، وهو درديّ
الزيت ، وهو جمع دهن . أو اسم ما يدهن به كالخزام والإدام . قال : كَأَنَّهُمَا
مَزَادَتَا مُتَعَجِّل
فَرِيَّانِ لَمَّا تُدْهَنَا بِدِهَانِ
وقيل : الدهان الأديم الأحمر . وقرأ عمرو بن عبيد ( وردة ) بالرفع ، بمعنى : فحصلت
سماء وردة ، وهو من الكلام الذي يسمى التجريد ، كقوله : فَلَئِنْ بَقِيتُ
لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَة
تَحْوِي الْغَنَائِمَ أَو يَمْوتَ كَرِيمُ
) إِنسٌ ( بعض من الإنس ) وَلاَ جَانٌّ ( أريد به : ولا جن : أي : ولا بعض من الجن
، فوضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن ، كما يقال : هاشم ، ويراد ولده . وإنما
وحد ضمير الإنس في قوله : ) عَن ذَنبِهِ ( لكونه في معنى البعض . والمعنى : لا
يسألون لأنهم يعرفون بسيما المجرمين وهي سواد الوجوه وزرقة العيون . فإن قلت : هذا
خلاف قوله تعالى : ) فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ( الحجر : 92 )
وقوله : ) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( ( الصافات : 24 ) . قلت : ذلك يوم طويل وفيه
مواطن فيسألون في موطىء ولا يسألون في آخر : قال قتادة : قد كانت مسألة ، ثم ختم
على أفواه القوم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . وقيل لا يسأل عن ذنبه
ليعلم من جهته ، ولكن يسأل سؤال توبيخ . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد ( ولا جأن )
فراراً من التقاء الساكنين ، وإن كان على حده .
) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاٌّ قْدَامِ
فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ
بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ فَبِأَىِّ
ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 41 - 45 ) يعرف المجرمون بسيماهم . . . . .
) فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ ( عن الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدمه في
سلسلة من وراء ظهره وقيل تسحبهم الملائكة : تارة تأخذ بالنواصي ؛ وتارة تأخذ
بالأقدام ) حَمِيمٍ ءانٍ ( ماء حار قد انتهى حرّه ونضجه ، أي : يعاقب عليهم بين
التصلية بالنار وبين شرب الحميم . وقيل : إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم
. وقيل : إن وادياً من أودية
" صفحة رقم 450 "
جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال ، فيغمسون فيه حتى تنخلع
أوصالهم ؛ ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً . وقرىء : ( يطوّفون ) من
التطويف . ويطوّفون ، أي : يتطوّفون ويطافون . وفي قراءة عبد الله : ( هذه جهنم
التي كنتما بها تكذبان تصليان لا تموتان فيها ولا تحييان يطوفون بينهما ) ونعمة
الله فيما ذكره من هول العذاب : نجاة الناجي منه برحمته وفضله ، وما في الإنذار به
من اللطف .
) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 46 ) ولمن خاف مقام . . . . .
) مَقَامَ رَبّهِ ( موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة ) يَوْمَ
يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( ( المطففين : 6 ) ونحوه : ) لِمَنْ خَافَ
مَقَامِى ( ( إبراهيم : 14 ) ويجوز أن يراد بمقام ربه : أن الله قائم عليه ؛ أي :
حافظ مهيمن من قوله تعالى : ) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ ( ( الرعد : 33 ) فهو يراقب ذلك فلا يجسر على معصيته . وقيل : هو مقحم
كما تقول : أخاف جانب فلان ، وفعلت هذا لمكانك . وأنشد : ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا
وَنَفَيْتُ عَنْه
مَقَامَ الذئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ
يريد : ونفيت عنه الذئب . فإن قلت : لم قال : ) جَنَّتَانِ ( ؟ قلت : الخطاب
للثقلين ؛ فكأنه قيل : لكل خائفين منكما جنتان : جنة للخائف الإنسي ، وجنة للخائف
الجني . ويجوز أن يقال : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي ؛ لأن التكليف دائر
عليهما وأن يقال : جنة يثاب بها ، وأخرى تضم إليها على وجه التفضل ، كقوله تعالى :
) لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ( ( يونس : 26 ) خص الأفنان
بالذكر : وهي الغصنة التي تتشعب من فروع الشجرة : لأنها هي التي تورق وتثمر ،
فمنها تمتد الظلال ، ومنها تجتني الثمار . وقيل : الأفنان ألوان النعم ما تشتهي
الأنفس وتلذ الأعين . قال : وَمِنْ كُلِّ أَفْنَانِ اللَّذَاذَةِ وَالصَّبَا
لَهَوْتُ لَهَوْتُ بِهِ وَالْعَيْشُ أَخْضَرُ نَاضِرُ
) عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( حيث شاءوا في الأعالي والأسافل . وقيل : تجريان من جبل
من
" صفحة رقم 451 "
مسك . وعن الحسن : تجريان بالماء الزلال : إحداهما التسنيم ، والأخرى : السلسبيل )
زَوْجَانِ ( صنفان : قيل : صنف معروف وصنف غريب ) مُتَّكِئِينَ ( نصب على المدح
للخائفين . أو حال منهم ، لأنّ من خاف في معنى الجمع ) بَطَائِنُهَا مِنْ
إِسْتَبْرَقٍ ( من ديباج ثخين ، وإذا كانت البطائن من الإستبرق ، فما ظنك بالظهائر
؟ وقيل : ظهائرها من سندس . وقيل : من نور ) وَلَداً ( قريب يناله القائم والقاعد
والنائم . وقرىء : ( وجنى ) ، بكسر الجيم .
) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ
جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ
وَالْمَرْجَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَآءُ
الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 56 ) فيهن قاصرات الطرف . . . . .
) فِيهِنَّ ( في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى
. أو في الجنتين ، لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس ) قَاصِراتُ الطَّرْفِ ( نساء
قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ : لا ينظرن إلى غيرهم . لم يطمث الإنسيات منهنّ أحد من
الإنس ، ولا الحثيات أحد من الجن وهذا دليل عى أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس ،
وقرىء : ( لم يطمثهنّ ) بضم الميم . قيل : هنّ في صفاء الياقوت وبياض المرجان
وصغار الدر : أنصع بياضاً . قيل : إنّ الحوراء تلبس سبعين حلة ، فيرى مخ ساقها من
ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء ) هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ ( في
العمل ) إِلاَّ الإحْسَانُ ( في الثواب . وعن محمد بن الحنفية : هي مسجلة للبر
والفاجر . أي : مرسلة ، يعني : أنّ كل من أحسن أُحسن إليه ، وكل من أَساء أسيء
إليه .
) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
مُدْهَآمَّتَانِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ
نَضَّاخَتَانِ فَبِأَىءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (
الرحمن : ( 62 ) ومن دونهما جنتان
) وَمِن دُونِهِمَا ( ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين ) جَنَّتَانِ (
لمن دونهم من أصحاب اليمين ) مُدْهَامَّتَانِ ( قد ادهامّتا من شدّة الخضرة ) نَضَّاخَتَانِ
( فوّارتان بالماء . والنضخ أكثر من النضح ، لأنّ النضح غير معجمة مثل الرش ، فإن
قلت : لم
" صفحة رقم 452 "
عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها ؟ قلت : اختصاصاً لهما وبياناً لفضلهما ،
كأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران ، كقوله تعالى : ) وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ
( ( البقرة : 98 ) أو لأنّ النخل ثمره فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء ، فلم
يخلصا للتفكه . ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رماناً
أو رطباً : لم يحنث ، وخالفه صاحباه .
) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ
مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ
يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ فَبِأَىِّ
ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَالِ
وَالإِكْرَامِ (
الرحمن : ( 70 - 78 ) فيهن خيرات حسان
) خَيْراتٌ ( خيرات فخففت ، كقوله عليه السلام :
( 1118 ) ( هينون لينون ) وأما ( خير ) الذي هو بمعنى أخير ، فلا يقال فيه خيرون
ولا خيرات . وقرىء : ( خيرات ) على الأصل . والمعنى : فاضلات الأخلاق حسان الخلق )
مَّقْصُوراتٌ ( قصرن في خدورهنّ . يقال : امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة مخدرة . وقيل
: إنّ الخيمة من خيامهنّ درّة مجوّفة ) قَبْلَهُمْ ( قبل أصحاب الجنتين ، دل عليهم
ذكر الجنتين ) مُتَّكِئِينَ ( نصب على الاختصاص . والرفرف : ضرب من البسط . وقيل
البسط وقيل الوسائد ، وقيل كل ثوب عريض رفرف . ويقال لأطراف البسط فضول الفسطاط :
رفارف . ورفرف السحاب : هيدبه والعبقري : منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنه بلد
الجن ؛ فينسبون إليه كل شيء عجيب . وقرىء : ( رفارف خضر ) بضمتين . وعباقرى ،
كمدائني : نسبة إلى عباقري في اسم البلد : وروى أبو حاتم : عباقرى ، بفتح القاف
ومنع الصرف ، وهذا لا وجه لصحته . فإن قلت : كيف تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن
الأوليين حتى قيل : ومن دونهما ؟ قلت : مدهامّتان ، دون ذواتا أفنان . ونضاختان
دون : تجريان . وفاكهة دون : كل فاكهة . وكذلك صفة الحور والمتكأ . وقرىء : ( ذو
الجلال ) صفة ، للاسم .
" صفحة رقم 453 "
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1119 ) ( من قرأ سورة الرحمن أدّى شكر ما أنعم الله عليه ) .
" صفحة رقم 454 "
( سورة الواقعة )
مكية ( إلا آيتي 81 و 82 فمدنيتان )
وآياتها 96 وقيل 97 آية ( نزلت بعد طه )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ
رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الاٌّ رْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ
هَبَآءً مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (
الواقعة : ( 1 - 7 ) إذا وقعت الواقعة
) وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( كقولك : كانت الكائنة ، وحدثت الحادثة ، والمراد
القيامة : وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة ، فكأنه قيل : إذا وقعت التي لا بدّ من
وقوعها ، ووقوع الأمر : نزوله . يقال : وقع ما كنت أتوقعه ، أي : نزل ما كنت أترقب
نزوله . فإن قلت : بم انتصب إذا ؟ قلت : بليس . كقولك يوم الجمعة ليس لي شغل . أو
بمحذوف ، يعني : إذا وقعت كان كيت وكيت : أو بإضمار اذكر ) كَاذِبَةٌ ( نفس كاذبة
، أي : لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله وتكذب في تكذيب الغيب ؛ لأنّ كل نفس
حينئذٍ مؤمنة صادقة مصدّقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات ، كقوله تعالى : )
فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ( ( غافر : 84
) ، ) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( ( الشعراء :
201 ) ، ) وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتَّى
تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ( ( الحج : 55 ) واللام مثلها في قوله تعالى : )
يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى ( ( الفجر : 24 ) أو : ليس لها نفس تكذبها
وتقول لها : لم تكوني كما لها اليوم نفوس كثيرة يكذبنها ، يقلن لها : لن تكوني .
أو هي من قولهم : كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم ، إذا شجعته على مباشرته وقالت
له : إنك تطيقه وما فوقه فتعرّض له ولا تبال به ، على معنى : أنها وقعة لا تطاق
شدّة وفظاعة . وأن لا نفس حينئذٍ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور وتزين
له احتمالها وإطاقتها ، لأنهم يومئذٍ أضعف من ذلك وأذل . ألا ترى إلى قوله تعالى :
) كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ( ( القارعة : 4 ) والفراش مثل في الضعف . وقيل : )
كَاذِبَةٌ ( مصدر كالعاقبة بمعنى التكذيب ، من قولك : حمل على قرنه فما كذب ، أي :
فما جبن وما
" صفحة رقم 455 "
تثبط . وحقيقته : فما كذب نفسه فيما حدثته به . من إطاقته له وإقدامه عليه . قال
زهير : . . . . . . . . . . . . . . . . . . إذَا
مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أَقْرَانِهِ صَدَقَا
أي : إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد ) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ( على : هي
خافضة رافعة ، ترفع أقواماً وتضع آخرين : إما وصفاً لها بالشدّة ؛ لأنّ الواقعات
العظام كذلك : يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتضع ناس ، وإما لأنّ الأشقياء يحطون إلى
الدركات ، والسعداء يرفعون إلى الدرجات ؛ وإما أنها تزلزل الأشياء وتزيلها عن
مقارّها ، فتخفض بعضاً وترفع بعضاً : حيث تسقط السماء كسفاً وتنتثر الكواكب وتنكدر
وتسير الجبال فتمرّ في الجوّ مرّ السحاب ، وقرىء : ( خافضة رافعة ) بالنصب على
الحال ) رُجَّتِ ( حرّكت تحريكاً شديداً حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء )
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ ( وفتت حتى تعود كالسويق ، أو سيقت من بس العنم إذا ساقها .
كقوله : ) وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ ( ( النبأ : 20 ) ، ( منبثاً ) متفرقاً . وقرىء
بالتاء أي : منقطعاً . وقرىء : ( رجت وبست ) أي : ارتجت وذهبت . وفي كلام بنت الخس
: عينها هاج ، وصلاها راج . وهي تمشي تفاج . فإن قلت : بم انتصب إذا رجت ؟ قلت :
هو بدل من إذا وقعت . ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة . أي : تخفض وترفع وقت رج الأرض
، وبس الجبال لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض ) أَزْواجاً (
أصنافاً ، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض : أزواج .
) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ
الْمَشْأمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأمَةِ (
الواقعة : ( 8 - 9 ) فأصحاب الميمنة ما . . . . .
) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم ) وَأَصْحَابُ
الْمَشْئَمَةِ ( الذي يؤتونها بشمائلهم . أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة
الدنية ، من قولك : وفلان
" صفحة رقم 456 "
مني باليمين ، فلان مني بالشمال : إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة ؛ وذلك لتيمنهم
بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل ، ولتفاؤلهم بالسانح وتطيّرهم من البارح ، ولذلك
اشتقوا لليمين الاسم من اليمن ، وسموا الشمائل الشؤمى . وقيل : أصحاب الميمنة
وأصحاب المشأمة : أصحاب اليمن والشؤم ؛ لأنّ السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم ،
والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم . وقيل : يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار
ذات الشمال .
) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَائِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِى جَنَّاتِ
النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الاٌّ خِرِينَ عَلَى
سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لاَّ
يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ
الْمَكْنُونِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً
وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً (
الواقعة : ( 10 - 26 ) والسابقون السابقون
) وَالسَّابِقُونَ ( المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه وشقوا الغبار في
طلب مرضاة الله عز وجل وقيل : الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ، ثم
داوم عليه حتى خرج من الدنيا ؛ فهذا السابق المقرَّب ، ورجل ابتكر عمره بالذنب
وطول الغفلة ، ثم تراجع بتوبة ؛ فهذا صاحب اليمين ، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه
، ثم يزل عليه حتى خرج من الدنيا ، فهذا صاحب الشمال ما أصحاب الميمنة . ما أصحاب
المشأمة ؟ تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة . والمعنى : أي شيء هم ؟
والسابقون السابقون ، يريد : والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم ، كقوله وعبد
الله عبد الله . وقول أبي النجم :
" صفحة رقم 457 "
وشعري شعري
كأنه قال : وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وبراعته ، وقد جعل السابقون تأكيداً
. وأولئك المقرّبون : خبراً وليس بذاك : ووقف بعضهم على : والسابقون ؛ وابتدأ
السابقون أولئك المقرّبون ، والصواب أن يوقف على الثاني ، لأنه تمام الجملة ، وهو
في مقابلة : ما أصحاب الميمنة ، وما أصحاب المشأمة ) المقربون ( الذين قربت
درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم . وقرىء : ( في جنة النعيم ) والثلة :
الأمة من الناس الكثيرة . قال : وَجَاءَتْ إلَيْهِمْ ثُلَّةٌ خِنْدِفِيَّة
بِجَيْشٍ كَتَيَّارٍ مِن السَّيّلِ مُزْبِدِ
وقوله عز وجل : ) وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( كفى به دليلاً على الكثرة ، وهي من
الثل وهو الكسر ، كما أنّ الأمّة من الأمّ وهو الشج ، كأنها جماعة كسرت من الناس
وقطعت منهم . والمعنى : أنّ السابقين من الأوّلين كثير ، وهم الأمم من لدن آدم
عليه السلام إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( وهم
أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . وقيل : ) مّنَ الاْوَّلِينَ ( من متقدّمي هذه
الأمة ، و ) مّنَ الاْخِرِينَ ( من متأخريها . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1120 ) ( الثلثان جميعاً من أمّتي ) . فإن قلت : كيف قال : وقليل من الآخرين ،
ثم قال : ) وَثُلَّةٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( ؟ قلت : هذا في السابقين وذلك في أصحاب
اليمين ؛ وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعاً . فإن قلت : فقد روى أنها لما
نزلت شق ذلك على المسلمين ، فما زال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يراجع ربه
حتى نزلت ) ثَالِثُ مّنَ الاْوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( ( الواقعة :
39 40 ) . قلت : هذا لا يصح لأمرين ، أحدهما : أنّ هذه الآية واردة في السابقين
وروداً ظاهراً ، وكذلك الثانية في أصحاب اليمين . ألا ترى كيف عطف أصحاب اليمين
ووعدهم ، على السابقين ووعدهم ، والثاني : أنّ النسخ في الأخبار غير جائز وعن
الحسن رضي الله عنه : سابقو الأمم أكثر من سابقي أمّتنا ، وتابعو الأمم مثل
" صفحة رقم 458 "
تابعي هذه الأمّة . وثلة : خبر مبتدإ محذوف ، أي : هم ثلة ) مَّوْضُونَةٍ ( مرمولة
بالذهب ، مشبكة بالدرّ والياقوت ، قد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع . قال
الأعشى : وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ مَوْضُونَة
وقيل : متواصلة ، أدنى بعضها من بعض . ) مُتَّكِئِينَ ( حال من الضمير في على ،
وهو العامل فيها ، أي : استقرّوا عليها متكئين ) مُّتَقَابِلِينَ ( لا ينظر بعضهم
في أقفاء بعض . وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب ) مُّخَلَّدُونَ ( مبقون
أبداً على شكل الولدان وحدّ الوصافة لا يتحوّلون عنه . وقيل : مقرّطون ، والخلدة :
القرط . وقيل : هم أولاد أهل الدنيا : لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ، ولا سيئات
فيعاقبوا عليها . روى عن علي رضي الله عنه وعن الحسن . وفي الحديث : ( 1121 ) (
أولاد الكفار خدّام أهل الجنة ) . الأكواب : أوان بلا عرى وخراطيم ، والأباريق ،
ذوات الخراطيم ) لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ( أي بسببها ، وحقيقته : لا يصدر
صداعهم عنها . أو لا يفرّقون عنها . وقرأ مجاهد : ( لا يصدعون ) ، بمعنى : لا
يتصدعون لا يتفرقون ، كقوله : ) يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( ( الروم : 43 )
ويصدعون ، أي : لا يصدع بعضهم بعضاً ، لا يفرّقونهم ) يَتَخَيَّرُونَ ( يأخذون
خيره وأفضله ) يَشْتَهُونَ ( يتمنون . وقرىء :
" صفحة رقم 459 "
( ولحوم طير ) قرىء : ( وحور عين ) بالرفع على : وفيها حور عين ، كبيت الكتاب :
إِلاَّ رَوَاكِدُ جَمْرُهُنَّ هَبَاء
وَمُشَجَّجٌ . . . . . . . . . . . .
أو للعطف على ولدان ، وبالجر : عطفاً على جنات النعيم ، كأنه قال : هم في جنات
النعيم ، وفاكهة ولحم وحور . أو على أكواب ، لأن معنى ) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ) بأكواب ( ينعمون بأكواب ، وبالنصب على : ويؤتون حورا )
جَزَاء ( مفعول له ، أي : يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم ) سَلَاماً سَلَاماً (
إما بدل من ) قِيلاً ( بدليل قوله ) لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ
سَلَاماً ( ( مريم : 62 ) وإما مفعول به لقيلا ، بمعنى : لا يسمعون فيها إلا أن
يقولوا سلاما سلاما . والمعنى : أنهم يفشون السلام بينهم ، فيسلمون سلاماً بعد
سلام . وقرىء : ( سلام سلام ) ، على الحكاية .
) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ
مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ
مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ
إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لاًّصْحَابِ الْيَمِينِ
ثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الاٌّ خِرِينَ (
الواقعة : ( 27 ) وأصحاب اليمين ما . . . . .
السدر : شجر النبق . والمخضود : الذي لا شوك له ، كأنما خضد شوكه . وعن مجاهد :
الموقر الذي تثنى أغصانه كثرة حمله ، من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب . والطلح :
شجر الموز . وقيل : هو شجر أم غيلان ، وله نوار كثير طيب الرائحة . وعن السدي :
شجر يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل . وعن علي رضي الله عنه أنه قرأ
: ( وطلع ) ( فقال ) ، وما شأن الطلح ، وقرأ قوله : ) لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ( (
ق : 10 ) فقيل له : أو تحوّلها ؟ فقال : آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحوّل . وعن
ابن عباس نحوه . والمنضود : الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه ؛ فليست له ساق
بارزة ) وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( ممتدّ
" صفحة رقم 460 "
منبسط لا يتقلص ، كظلّ ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ) مَّسْكُوبٍ ( يسكب لهم أين
شاؤوا وكيف شاؤوا لا يتعنون فيه . وقيل : دائم الجرية لا ينقطع . وقيل : مصبوب
يجري على الأرض في غير أخدود ) لاَّ مَقْطُوعَةٍ ( هي دائمة لا تنقطع في بعض
الأوقات كفواكه الدنيا ) وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ( لا تمنع عن متناولها بوجه ، ولا يحظر
عليها كما يحظر على بساتين الدنيا . وقرىء : ( فاكهة كثيرة ) ، بالرفع على : وهناك
فاكهة ، كقوله : وحور عين ) وَفُرُشٍ ( جمع فراش . وقرىء : ( وفرش ) بالتخفيف )
مَّرْفُوعَةٍ ( نضدت حتى ارتفعت . أو مرفوعة على الأسرة . وقيل : هي النساء ، لأن
المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك . قال الله تعالى : ) هُمْ
وَأَزْواجُهُمْ فِى ظِلَالٍ عَلَى الاْرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ( ( يس : 56 ) ، ويدل
عليه قوله تعالى : ) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء ( وعلى التفسير الأول أضمر
لهنّ ، لأنّ ذكر الفرش وهي المضاجع دلّ عليهن ) أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء ( (
الواقعة : 35 ) أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديداً من غير ولادة ، فإما أن يراد .
اللاتي ابتدىء إنشاؤهن ؛ أو اللاتي أعيد إنشاؤهن . وعن رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) :
( 1122 ) أنّ أمّ سلمة رضي الله عنها سألته عن قول الله تعالى : ) إِنَّا
أَنشَأْنَاهُنَّ ( فقال : ( يا أم سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا
رمصا ، جعلهنّ الله بعد الكبر ) ) أَتْرَاباً ( على ميلاد واحد في الاستواء ، كلما
أتاهنَّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا ؛ فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك من رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالت : واوجعاه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) : ( ليس هناك وجع ) .
" صفحة رقم 461 "
( 1123 ) وقالت عجوز لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ادع الله أن يدخلني
الجنة ، فقال : إنّ الجنة لا تدخلها العجائز ، فولت وهي تبكي ، فقال عليه الصلاة
والسلام : ( أخبروها أنها ليست يومئذٍ بعجوز ) وقرأ الآية ) عُرُباً ( وقرىء : (
عربا ) بالتخفيف جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل ) أَتْرَاباً (
مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين ، وأزواجهنّ أيضاً كذلك . وعن رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) :
( 1124 ) ( يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث
وثلاثين ) واللام في ) لاِصْحَابِ الْيَمِينِ ( من صلة أنشأنا وجعلنا .
) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ
مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ
مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُواْ
يِقُولُونَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
أَوَ ءَابَآؤُنَا الاٌّ وَّلُونَ قُلْ إِنَّ الاٌّ وَّلِينَ وَالاٌّ خِرِينَ
لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا
الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لاّكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِأونَ
مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ
الْهِيمِ هَاذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (
الواقعة : ( 41 ) وأصحاب الشمال ما . . . . .
) فِى سَمُومٍ ( في حر نار ينفذ في المسام ) وَحَمِيمٍ ( وماء حار متناه في
الحرارة ) وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ ( من دخان أسود بهيم ) لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ
( نفي لصفتي الظل عنه ، يريد : أنه ظل ، ولكن لا كسائر الظلال : سماه ظلاً ، ثم
نفى عنه برد الظل وروحه
" صفحة رقم 462 "
ونفعه لمن يأوي إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح
إليه . والمعنى أنه ظل حارّ ضارّ إلا أنّ للنفي في نحو هذا شأنا ليس للإثبات .
وفيه تهكم بأصحاب المشأمة ، وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو
لأضدادهم في الجنة . وقرىء : ( لا بارد ولا كريم ) بالرفع ، أي : لا هو كذلك و )
الْحِنثِ ( الذنب العظيم . ومنه قولهم : بلغ الغلام الحنث ، أي : الحلم ووقت
المؤاخذة بالمآثم . ومنه : حنث في يمينه ، خلاف برّ فيها . ويقال : تحنث إذا تأثم
وتحرج ) أَوَ ءابَاؤُنَا ( دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف . فإن قلت : كيف حسن
العطف على المضمر في ) لَمَبْعُوثُونَ ( من غير تأكيد بنحن ؟ قلت : حسن للفاصل
الذي هو الهمزة ، كما حسن في قوله تعالى : ) مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَاؤُنَا (
لفصل ( لا ) المؤكدة للنفي . وقرىء : ( أو آباؤنا ) وقرىء : ( لمجمعون ) ) إِلَى
مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم والإضافة بمعنى
من ، كخاتم فضة . والميقات : ماوقت به الشيء ، أي : حدّ . ومنه مواقيت الإحرام :
وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلى محرماً ) أَيُّهَا الضَّالُّونَ
( عن الهدى ) الْمُكَذّبُونَ ( بالبعث ، وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم ) مِن
شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ ( من الأولى لابتداء الغاية ، والثانية لبيان الشجر وتفسيره .
وأنث ضمير الشجر على المعنى ، وذكره على اللفظ في قوله : ( منها ) و ( عليه ) ومن
قرأ : ( من شجرة من زقوم ) فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثاني على تأويل
الزقوم ، لأنه تفسيرها وهي في معناه ( شرب الهيم ) قرىء : بالحركات الثلاث ،
فالفتح والضم مصدران . وعن جعفر الصادق رضي الله عنه ؛ أيام أكل وشرب ، بفتح الشين
. وأما المكسور فبمعنى المشروب ، أي : ما يشربه الهيم وهي الإبل التي بها الهيام ،
وهو داء تشرب منه فلا تروى : جمع أهيم وهيماء . قال ذو الرمّة : فَأَصْبَحْتُ
كَالْهَيْمَاءِ لاَ المَاءُ مُبْرِد
صَدَاهَا وَلاَ يَقْضِي عَلَيْهَا هُيَامُهَا
وقيل الهيم : الرمال . ووجهه أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا
يتماسك ، جمع على فعل كسحاب وسحب ، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض . والمعنى :
أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقوم هو كالمهل ؛ فإذا ملؤا منه
البطون يسلط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم ،
فيشربونه شرب الهيم . فإن قلت : كيف صحّ عطف الشاربين على الشاربين ،
" صفحة رقم 463 "
وهما لذوات متفقة ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسه ؟ قلت : ليسئا
بمتفقتين ، من حيث إنّ كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه : من تناهي الحرارة
وقطع الأمعاء : أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء : أمر عجيب
أيضاً ، فكانتا صفتين مختلفتين . النزل : الرزق الذي يعدّ للنازل تكرماً له . وفيه
تهكم ، كما في قوله تعالى : ) فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ( آل عمران : 21 )
وكقول أبي الشعر الضبي . وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا
جَعَلْنَا الْقَنَا وَالمُوْهِفَاتِ لَهُ نُزْلاَ
وقرىء : ( نزلهم ) بالتخفيف .
) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ
أَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ
الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ
وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاٍّ
ولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ (
الواقعة : ( 57 ) نحن خلقناكم فلولا . . . . .
) فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ ( تحضيض على التصديق : إما بالخلق لأنهم وإن كانوا
مصدّقين به ، إلا أنهم لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق ، فكأنهم مكذبون به
. وإما بالبعث ؛ لأنّ من خلق أولاً لم يمتنع عليه أن يخلق ثانياً ( ما تمنون ) ما
تمنونه ، أي : تقذفونه في الأرحام من النطف وقرأ أبو السمال بفتح التاء يقال :
أمني النطفة ومناها . قال الله تعالى : ) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ( ( النجم :
46 ) . ) تَخْلُقُونَهُ ( تقدرونه تصوّرونه ) قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ (
تقديراً وقسمناه عليكم قسمة الرزق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا ، فاختلفت
أعماركم من قصير وطويل ومتوسط . وقرىء : ( قدرنا ) بالتخفيف . سبقته على الشيء :
إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه ، فمعنى قوله : ) وَمَا نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ ( أنا قادرون على ذلك لا
تغلبوننا عليه ، وأمثالكم جمع مثل : أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق
، وعلى أن ( ننشأكم ) في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها ، يعني : أنا نقدر على
الأمرين جميعاً : على خلق ما يماثلكم ، وما لا يماثلكم ؛ فكيف نعجز عن إعادتكم .
ويجوز أن يكون ) أَمْثَالَكُم ( جمع مثل ، أي : على أن نبدّل ونغير صفاتكم التي
أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم ، وننشئكم في صفات لا تعلمونها . قرىء : ( النشأة )
والنشاءة . وفي هذا دليل على صحة القياس حيث جهَّلهم في ترك قياس النشأة الأخرى
على الأولى .
" صفحة رقم 464 "
) أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الزَارِعُونَ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا
لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (
الواقعة : ( 63 ) أفرأيتم ما تحرثون
(أفرأيتم ما تحرثون ) ه من الطعام ، أي : تبذرون حبه وتعملون في أرضه )
تَزْرَعُونَهُ أَمْ ( تنبتونه وتردونه نباتاً ، يرف وينمي إلى أن يبلغ الغاية .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1125 ) ( لا يقولن أحدكم : زرعت ، وليقل : حرثت ) قال أبو هريرة : أرأيتم إلى
قوله : ) أَفَرَءَيْتُم . . . ( الآية . والحطام : من حطم ، كالفتات والجذاذ من فت
وجذ : وهو ما صار هشيماً وتحطم ) فَظَلْتُمْ ( على الأصل ) تَفَكَّهُونَ ( تعجبون
. وعن الحسن رضي الله عنه : تندمون على تعبك فيه وإنفاقكم عليه . أو على ما
اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها . وقرىء : ( تفكنون ) ومنه الحديث :
( 1126 ) ( مثل العالم كمثل الحمة ياأيتها البعدآء ويتركها القرباء فبيناهم إذ غار
ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم ينفكنون ) أي : يتندمون ) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (
لملزمون غرامة ما أنفقنا . ومهلكون لهلاك رزقنا ، من الغرام : وهو الهلاك ) بَلْ
نَحْنُ ( قوم ) مَحْرُومُونَ ( محارفون محدودون ، لا حظ لنا ولا بخت لنا ؛ ولو كنا
مجدودين ، لما جرى علينا هذا . وقرىء : ( أئنا ) .
) أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ
الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ
تَشْكُرُونَ (
الواقعة : ( 68 - 70 ) أفرأيتم الماء الذي . . . . .
) الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ ( يريد : الماء العذب الصالح للشرب . و ) الْمُزْنِ
( السحاب : الواحدة مزنة . وقيل : هو السحاب الأبيض خاصة ، وهو أعذب ماء )
أُجَاجاً ( ملحاً
" صفحة رقم 465 "
زعاقاً لا يقدر على شربه . فإن قلت : لم أدخلت اللام على جواب ( لو ) في قوله : )
لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ( ( الواقعة : 65 ) ونزعت منه ههنا ؟ قلت : إنّ ( لو ) لما
كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ، ولم تكن مخلصة
للشرط كإن ولا عاملة مثلها ، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقاً من حيث إفادتها في
مضموني جملتيها أنّ الثاني امتنع لامتناع الأوّل : افتقرت في جوابها إلى ما ينصب
علماً على هذا التعلق ، فزيدت هذه اللام لتكون علماً على ذلك ، فإذا حذفت بعد ما
صارت علماً مشهوراً مكانه ، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفاً ومأنوساً
به : لم يبال بإسقاطه عن اللفظ ، استغناء بمعرفة السامع . ألا ترى إلى ما يحكى عن
رؤبة أنه كان يقول : خير ، لمن قال له : كيف أصبحت ؟ فحذف الجار لعلم كل أحد
بمكانه . وتساوي حالي حذفه وإثباته لشهرة أمره . وناهيك بقول أوس : حَتى إذَا
الْكلاَّبُ قَالَ لَهَا
كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلاَ طَلَبَا
وحذفه ( لم أر ) فإذن حذفها اختصار لفظي وهي ثابتة في المعنى ، فاستوى الموضعان
بلا فرق بينهما ؛ على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية ونائب عنه
. ويجوز أن يقال : إنّ هذه اللام مفيدة مغنى التوكيد لا محالة ، فأدخلت في آية
المطعوم دون آية المشروب ، للدلالة على أن أمر المطعوم مقدّم على أمر المشروب ،
وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب ، من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم .
ألا ترى أنك إنما تسقى ضيفك بعد أن تطعمه ، ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء :
إذَا سُقِيَتْ ضُيُوفُ النَّاسِ مَحْضا
سَقَوْا أَضْيَافَهُمْ شَبَماً زَلاَلاَ
وسقى بعض العرب فقال : أنا لا أشرب إلا على ثميلة ؛ ولهذا قدّمت آية المطعوم على
آية المشروب .
) أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ
أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً
لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (
الواقعة : ( 71 ) أفرأيتم النار التي . . . . .
) تُورُونَ ( تقدحونها وتستخرجونها من الزناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما
" صفحة رقم 466 "
على الآخر ، ويسمون الأعلى : الزند ، والأسفل : الزندة ؛ شبهوهما بالفحل والطروقة
) شَجَرَتَهَآ ( التي منها الزناد ) تَذْكِرَةً ( تذكيراً لنار جهنهم ، حيث علقنا
بها أسباب المعايش كلها ، وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون
إليها ويذكرون ما أوعدوا به . أو جعلناها تذكرة وأنموذجاً من جهنم ، لما روى عن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1127 ) ( ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزأ من حرّ جهنم ) )
وَمَتَاعاً ( ومنفعة ) لّلْمُقْوِينَ ( للذين ينزلون القواء وهي القفر . أو للذين
خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام . يقال : أقويت من أيام ، أي لم آكل شيئاً )
فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ ( فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك ، أو أراد بالاسم : الذكر ،
أي : بذكر ربك . و ) الْعَظِيمِ ( صفة للمضاف أو للمضاف إليه . والمعنى : أنه لما
ذكر ما دل على قدرته وإنعامه على عباده قال : فأحدث التسبيح وهو أن يقول : سبحان
الله ، إمّا تنزيهاً له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ويكفرون نعمته ،
وإما تعجباً من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة ، وإما شكراً لله على النعم
التي عدّها ونبه عليها .
) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ
عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ
إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (
الواقعة : ( 75 ) فلا أقسم بمواقع . . . . .
) فَلاَ أُقْسِمُ ( معناه فأقسم . ولا مزيدة مؤكدة مثلها في قوله : ) لّئَلاَّ
يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ( ( الحديد : 29 ) وقرأ الحسن : ( فلأقسم ) . ومعناه :
فلأنا أقسم : اللام لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر ، وهي : أنا أقسم ،
كقولك : ( لزيد منطلق ) ثم حذف المبتدأ ، ولا يصح أن نكون اللام لام القسم لأمرين
، أحدهما : أن حقها أن يقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح . والثاني
: أن ( لأفعلن ) في جواب القسم
" صفحة رقم 467 "
للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال ) بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( بمساقطها
ومغاربها ، لعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً
مخصوصة عظيمة ، أو للملائكة عبادات موصوفة ، أو لأنه وقت قيام المتهجدين
والمبتلهين إليه من عباده الصالحين ، ونزول الرحمة والرضوان عليهم ؛ فلذلك أقسم
بمواقعها ، واستعظم ذلك بقوله ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (
أو أراد بمواقعها : منازلها ومسايرها ، وله تعالى في ذلك من الدليل على عظيم
القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف . وقوله : ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( اعتراض في اعتراض ؛ لأنه اعترض به بين المقسم والمقسم عليه
، وهو قوله : ) إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ ( واعترض ب ) لَّوْ تَعْلَمُونَ ( بين
الموصوف وصفته . وقيل : مواقع النجوم : أوقات وقوع نجوم القرآن ، أي : أوقات
نزولها كريم حسن مرضي في جنسه من الكتب . أو نفاع جم المنافع . أو كريم على الله )
فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( مصون من غير المقربين من الملائكة ، لا يطلع عليه من
سواهم ، وهم المطهرون من جميع الأدناس أدناس الذنوب وما سواها : إن جعلت الجملة
صفة لكتاب مكنون وهو اللوح . وإن جعلتها صفة للقرآن ؛ فالمعنى لا ينبغي أن يمسه
إلا من هو على الطهارة من الناس ، يعني مس المكتوب منه ، ومن الناس من حمله على
القراءة أيضاً ، وعن ابن عمر أحب إليَّ أن لا يقرأ إلا وهو طاهر ، وعن ابن عباس في
رواية أنه كان يبيح القراءة للجنب ، ونحوه قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1128 ) ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ) أي لا ينبغي له أن يظلمه أو
يسلمه . وقرىء : ( المتطهرون ) والمطهرون بالإدغام . والمطهرون ، من أطهره بمعنى
طهره . والمطهرون بمعنى : يطهرون أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والوحي الذي
ينزلونه ) تَنزِيلَ ( صفة رابعة للقرآن ، أي : منزل من رب العالمين . أو وصف بالمصدر
؛
" صفحة رقم 468 "
لأنه نزل نجوماً من بين سائر كتب الله تعالى ، فكأنه في نفسه تنزيل ؛ ولذلك جرى
مجرى بعض أسمائه ، فقيل : جاء في التنزيل كذا ، ونطق به التنزيل . أو هو تنزيل على
حرف المبتدأ . وقرىء : ( تنزيلاً ) على : نزل تنزيلاً .
) أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ
أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (
الواقعة : ( 81 - 82 ) أفبهذا الحديث أنتم . . . . .
) أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ ( يعني القرآن ) أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ ( أي : متهاونون
به ، كمن يدهن في الأمر ، أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به ) وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ( على حذف المضاف ، يعني : وتجعلون شكر رزقكم
التكذيب ، أي : وضعتم التكذيب موضع الشكر . وقرأ علي رضي الله عنه : ( وتجعلون
شكركم أنكم تكذبون ) وقيل : هي قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : والمعنى
وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به . وقيل : نزلت في الأنواء ونسبتهم
السقيا إليها . والرزق : المطر ، يعني : وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم
تكذبون بكونه من الله ، حيث تنسبونه إلى النجوم . وقرىء : ( تكذبون ) وهو قولهم في
القرآن : شعر وسحر وافتراء . وفي المطر : وهو من الأنواء ، ولأنّ كل مكذب بالحق
كاذب .
) فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ
غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ
أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّآ إِن
كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ
جَحِيمٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ (
الواقعة : ( 83 ) فلولا إذا بلغت . . . . .
ترتيب الآية : فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين . و ( فلولا )
الثانية مكررة للتوكيد ، والضمير في ) تَرْجِعُونَهَا ( للنفس وهي الروح ، وفي )
أَقْرَبُ إِلَيْهِ ( للمحتضر ) غَيْرَ مَدِينِينَ ( غير مربوبين ، من دان السلطان
الرعية إذا ساسهم . ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ( يا أهل الميت بقدرتنا
وعلمنا ، أو بملائكة الموت . والمعنى : إنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في
كل شيء إن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم : سحر وافتراء . وإن أرسل إليكم رسولاً
قلتم : ساحر كذاب ، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم : صدق نوء كذا ، على مذهب يؤدي
إلى الإهمال والتعطيل فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم
يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد )
فَأَمَّا إِن كَانَ ( المتوفى ) مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( من السابقين من الأزواج
الثلاثة المذكورة في أوّل السورة ) فَرَوْحٌ ( فله استراحة .
" صفحة رقم 469 "
( 1129 ) وروت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فروح ،
بالضم . وقرأ به الحسن وقال : الروح الرحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم . وقيل :
البقاء ، أي : فهذان له معاً ، وهو الخلود مع الرزق والنعيم . والريحان : الرزق )
فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( أي : فسلام لك يا صاحب اليمين من
إخوانك أصحاب اليمين ، أي : يسلمون عليك . كقوله تعالى : ) إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً
سَلَاماً ( ( الواقعة : 26 ) ) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ( كقوله تعالى : ) هَاذَا
نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدّينِ ( ( الواقعة : 56 ) وقرىء بالتخفيف ) وَتَصْلِيَةُ
جَحِيمٍ ( قرئت بالرفع والجر عطفاً على نزل وحميم ) إِنَّ هَاذَا ( الذي أنزل في
هذه السورة ) لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( أي الحق الثابت من اليقين .
عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم :
( 1130 ) ( من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً ) .
" صفحة رقم 470 "
( سورة الحديد )
مدنية ، وهي تسع وعشرون آية ( نزلت بعد الزلزلة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الاٌّ وَّلُ وَالاٌّ خِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ
وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ
فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى
الاٌّ رْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ
فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ
يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَهُوَ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (
الحديد : ( 1 ) سبح لله ما . . . . .
جاء في بعض الفواتح ) سَبِّحِ ( على لفظ الماضي ، وفي بعضها على لفظ المضارع ، وكل
واحد منهما معناه : أنّ من شأن من أسند إليه التسبيح أن يسبحه ، وذلك هجيراه
وديدنه ، وقد عدى هذا الفعل باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله تعالى : ( وتسبحوه )
وأصله : التعدي بنفسه ، لأنّ معنى سبحته : بعدته عن السوء ، منقول من سبح إذا ذهب
وبعد ، فاللام لا تخلو إما أن تكون مثل اللام في : نصحته ، ونصحت له ، وإما أن
يراد بسبح لله : أحدث التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً ، ) مَا فِى السَّمَاواتِ
وَالاْرْضِ ( ما يتأتى منه التسبيح ويصح . فإن قلت : ما محل ) يُحْىِ ( ؟ قلت :
يجوز أن لا يكون له محل ، ويكون جملة برأسها ؛ كقوله : ) لَّهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ ( ( البقرة : 107 ) وأن يكون مرفوعاً على : هو يحيي ويميت ،
ومنصوباً حالاً من المحرور في ( له ) والجار عاملاً فيها . ومعناه : يحيي النطف
والبيض والموتى يوم القيامة ويميت الأحياء ) هُوَ الاْوَّلُ ( هو القديم الذي كان
قبل كل شيء ) وَالاْخِرُ ( الذي يبقى بعد هلاك كل شيء ) وَالظَّاهِرُ ( بالأدلة الدالة
عليه ) وَالْبَاطِنُ ( لكونه غير مدرك بالحواس . فإن قلت : فما
" صفحة رقم 471 "
معنى الواو ؟ قلت الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية
والآخرية ، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء . وأما الوسطى ، فعلى أنه
الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الآخريين ، فهو المستمر الوجود
في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن : جامع للظهور
بالأدلة والخفاء ، فلا يدرك بالحواس . وفي هذا حجة على من جوّز إدراكه في الآخرة
بالحاسة . وقيل : الظاهر العالي على كل شيء الغالب له ، من ظهر عليه إذا علاه
وغلبه . والباطن الذي بطن كل شيء ، أي علم باطنه : وليس بذاك مع العدول عن الظاهر
المفهوم .
) ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم
مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ
أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (
الحديد : ( 7 - 8 ) آمنوا بالله ورسوله . . . . .
) مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ( يعن أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله
بخلقه وإنشائه لها ، وإنما موّلكم إياها ، وخوّلكم الاستمتاع بها ، وجعلكم خلفاء
في التصرف فيها ، فليست هي بأموالكم في الحقيقة . وما أنتم فيها إلا بمنزلة
الوكلاء والنوّاب ، فأنفقوا منها في حقوق الله ، وليهن عليكم الإنفاق منها كما
يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه . أو جعلكم مستخلفين ممن كان
قبلكم فيما في أيديكم : بتوريثه إياكم ، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم ،
وسينقل منكم إلى من بعدكم ؛ فلا تبخلوا به ، وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم ) لاَ
تُؤْمِنُونَ ( حال من معنى الفعل في مالكم ، كما تقول : مالك قائماً ، بمعنى : ما
تصنع قائماً ، أي : وما لكم كافرين بالله . والواو في ) وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
( واو الحال ، فهما حالان متداخلتان . وقرىء : ( وما لكم لا تؤمنون بالله ورسوله
والرسول يدعوكم والمعنى : وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم
عليه ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج ، وقبل ذلك قد أخذ الله
" صفحة رقم 472 "
ميثاقكم بالإيمان : حيث ركب فيكم العقول ، ونصب لكم الأدلة ، ومكنكم من النظر ،
وأزاح عللكم ، فإذ لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول ، فما لكم لا
تؤمنون ) إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( لموجب مّا ؛ فإن هذا الموجب لا مزيد عليه .
وقرىء : ( أخذ ميثاقكم ) على البناء للفاعل ، وهو الله عز وجل .
) هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ
مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (
الحديد : ( 9 ) هو الذي ينزل . . . . .
) لِيُخْرِجَكُمْ ( الله بآياته من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان . أو ليخرجكم
الرسول بدعوته ) لَرَءُوفٌ ( وقرىء : ( لرؤوف ) .
) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ
الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَائِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ
مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (
الحديد : ( 10 ) وما لكم ألا . . . . .
) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ ( في أن لا تنفقوا ) وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره ،
يعني : وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم
فوارث أموالكم ، وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله . ثم بين التفاوت بين
المنفقين منهم فقال : ) لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ ( قبل فتح مكة قبل عز
الإسلام وقوّة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقلة الحاجة إلى القتال
والنفقة فيه ، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لوضوح الدلالة ) أُوْلَائِكَ ( الذي
أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1131 ) ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه ) أعظم
" صفحة رقم 473 "
درجة وقرىء : ( قبل الفتح ) ) وَكُلاًّ ( وكل واحد من الفريقين ) وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنَى ( أي المثوبة الحسن وهي الجنة مع تفاوت الدرجات . وقرىء : بالرفع على (
وكل وعده الله ) وقيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، لأنه أول من أسلم وأول من
أنفق في سبيل الله . القرض الحسن : الإنفاق في سبيله . شبه ذلك بالقرض على سبيل
المجاز ، لأنه إذاأعطى ماله لوجهه فكأنه أقرضه إياه ) فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ( أي
يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفاً ) أَضْعَافًا ( من فضله ) وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (
يعني : وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه : وقرىء : ( فيضعفه ) وقرئا
منصوبين على جواب الاستفهام ( والرفع عطف على ) يُقْرِضُ ( ، أو على ( فهو يضاعفه
) .
) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (
الحديد : ( 12 ) يوم ترى المؤمنين . . . . .
) يَوْمَ تَرَى ( ظرف لقوله : ) وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( أو منصوب بإضمار ( اذكر )
تعظيماً لذلك اليوم . وإنما قال : ) بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ( لأنّ
السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ؛ كما أن الأشقياء يؤتونها من
شمائلهم ومن وراء ظهورهم ، فجعل النور في الجهتين شعاراً لهم وآية ؛ لأنهم هم
الذين بحسناتهم يهدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا ، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على
الصراط يسعون : سعى بسعيهم ذلك النور جنيبا لهم ومتقدماً . ويقول لهم الذين
يتلقونهم من الملائكة . ) بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ ( . وقرىء : ( ذلك الفوز ) .
) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ
انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ
فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن
مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ
وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الاٌّ مَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ
وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِىَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (
الحديد : ( 13 ) يوم يقول المنافقون . . . . .
) يَوْمَ يَقُولُ ( بدل من يوم ترى ) انظُرُونَا ( انتظرونا ، لأنهم يسرع بهم إلى
الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تزف بهم . وهؤلاء مشاة . وانظروا إلينا ؛ لأنهم
إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به . وقرىء : (
أنظرونا ) من
" صفحة رقم 474 "
النظرة وهي الإمهال : جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم أنظاراً لهم )
نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ( نصب منه ؛ وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به ) قِيلَ
ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً ( طرد لهم وتهكم بهم ، أي : ارجعوا
إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك ، فمن ثم يقتبس . أو أراجعوا
إلى الدنيا ، فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان . أو ارجعوا خائبين وتنحوا
عنا ، فالتمسوا نوراً آخر ، فلا سبيل لكم إلى هذا النور ، وقد علموا أن لا نور
وراءهم ؛ وإنما هو تخييب وإقناط لهم ) فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ( بين المؤمنين
والمنافقين بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار . وقيل : هو الأعراف لذلك السور )
بَابٌ ( لأهل الجنة يدخلون منه ) بَاطِنُهُ ( باطن السور أو الباب ، وهو الشق الذي
بلى الجنة ) وَظَاهِرُهُ ( ما ظهر لأهل النار ) مِن قَبْلِهِ ( من عنده ومن جهته )
الْعَذَابَ ( وهو الظلمة والنار . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما : ( فضرب بينهم
) على البناء للفاعل ) أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ( يريدون موافقتهم في الظاهر )
فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ( محنتموها بالنفاق وأهلكتموها ) وَتَرَبَّصْتُمْ (
بالمؤمنين الدوائر ) وَغرَّتْكُمُ الاْمَانِىُّ ( طول الآمال والطمع في امتداد
الأعمار ) حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ ( وهو الموت ) وَغَرَّكُم بِاللَّهِ
الْغَرُورُ ( وغرّكم الشيطان بأنّ الله عفوّ كريم لا يعذبكم . وقرىء : ( الغرور )
بالضم ) فِدْيَةٌ ( ما يفتدى به ) هِىَ مَوْلَاكُمْ ( قيل : هي أولى بكم ، وأنشد
قول لبيد : فَغَدَتْ كِلاَ الْفَرَجَيْنِ تَحْسِبُ أَنَّه
مُولِي المَخَافَةَ خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا
وحقيقة مولاكم : محراكم ومقمنكم . أي : مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم ، كما
قيل : هو مئنة للكرم ، أي مكان ؛ لقول القائل : إنه لكريم . ويجوز أن يراد : هي
ناصركم ، أي لا ناصر لكم غيرها . والمراد : نفي الناصر على البتات . ونحوه قولهم :
أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع . ومنه قوله تعالى : ( يغاثوا بماء كالمهل ) وقيل :
تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار .
) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن
قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاٌّ مَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ
فَاسِقُونَ ( 7 )
الحديد : ( 16 ) ألم يأن للذين . . . . .
" صفحة رقم 475 "
) أَلَمْ يَأْنِ ( من أنى الأمر يأني ، إذا جاء إناه ، أي : وقته . وقرىء : ( ألم
يئن ) من آن يئين بمعنى : أني يأني ، وألما يأن ، قيل : كانوا مجدبين بمكة ، فلما
هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه ، فنزلت . وعن ابن مسعود : ما
كان بين إسلامنا وبين أن عوتبتا بهذه الآية إلا أربع سنين . وعن ابن عباس رضي الله
عنهما : أنّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن
. وعن الحسن رضي الله عنه : أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل ما
تقرؤون . فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق . وعن أبي بكر رضي
الله عنه أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة ، فبكوا بكاءً
شديداً ، فنظر إليهم فقال هكذا كنا حتى قست القلوب . وقرىء : ( نزّل ونزل ) وأنزل
) وَلاَ يَكُونُواْ ( عطف على تخشع ، وقرىء بالتاء على الالتفات ، ويجوز أن يكون
نهياً لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا ، وذلك أنّ بني
إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم ، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا
لله ورقت قلوبهم ، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا
ما أحدثوا من التحريف وغيره . فإن قلت : ما معنى : ) لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا
نَزَلَ مِنَ الْحَقّ ( ؟ قلت : يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق : القرآن ؛
لأنه جامع للأمرين : للذكر والموعظة ، وأنه حق نازل من السماء ، وأن يراد خشوعها
إذا ذكر الله وإذا تلى القرآن كقوله تعالى : ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ( (
الأنفال : 2 ) أراد بالأمد : الأجل ، كقوله : . . . . . . إذَا انْتَهَى أَمَدُهْ
;
وقرىء : ( الأمدّ ) ، أي : الوقت الأطول ) وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (
خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين .
) اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الاٌّ رْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الاٌّ يَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (
الحديد : ( 17 ) اعلموا أن الله . . . . .
) اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( قيل : هذا تمثيل
لأثر الذكر في القلوب ، وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض .
) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (
" صفحة رقم 476 "
الحديد : ( 18 ) إن المصدقين والمصدقات . . . . .
) الْمُصَدّقِينَ ( المتصدّقين . وقرىء على الأصل ( والمصدّقين ) . من صدق ، وهم
الذين صدقوا الله ورسوله يعني المؤمنين . فإن قلت : علام عطف قوله ) وَأَقْرِضُواُ
( ؟ قلت : على معنى الفعل في المصدّقين ؛ لأنّ اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل
بمعنى أصدقوا ، كأنه قيل : إنّ الذين أصدقوا وأقرضوا . والقرض الحسن : أنّ يتصدق
من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة . وقرىء : ( يضعف ) ويضاعف
، بكسر العين ، أي : يضاعف الله .
) وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ
كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (
الحديد : ( 19 ) والذين آمنوا بالله . . . . .
يريد أنّ المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء ؛ وهم الذي
سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله ) لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ( أي :
مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم . فإن قلت : كيف يسوّي بينهم في الأجر ولا
بدّ من التفاوت ؟ قلت : المعنى أنّ الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله ،
حتى يساوي أجرهم مع إضعافه أجر أولئك . ويجوز أن يكون ) وَالشُّهَدَاء ( مبتدأ ، و
) لَهُمْ أَجْرُهُمْ ( خبره .
) اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ
وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الاٌّ مْوَالِ وَالاٌّ وْلْادِ كَمَثَلِ
غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ
يَكُونُ حُطَاماً وَفِى الاٌّ خِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (
الحديد : ( 20 ) اعلموا أنما الحياة . . . . .
أراد أنّ الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر
والتكاثر . وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام ، وهي : العذاب الشديد والمغفرة
ورضوان الله . وشبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث
فاستوى واكتهل وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ،
نبعث عليه العاهة فهاج واصفرّ وصار حطاماً عقوبة لهم على جحودهم ، كما فعل بأصحاب
الجنة وصاحب الجنتين . وقيل : ) الْكُفَّارِ ( الزراع . وقرىء : ( مصفاراً ) .
) سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ
السَّمَآءِ وَالاٌّ رْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
( 7 )
الحديد : ( 21 ) سابقوا إلى مغفرة . . . . .
" صفحة رقم 477 "
) سَابِقُواْ ( سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار ، إلى جنة )
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( قال السدي : كعرض سبع السموات وسبع
الأرضين ، وذكر العرض دون الطول ؛ لأنّ كل ماله عرض وطول فإنّ عرضه أقل من طوله ،
فإذا وصف عرضه بالبسطة : عرف أنّ طوله أبسط وأمدّ . ويجوز أن يراد بالعرض : البسطة
، كقوله تعالى : ) فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ ( ( فصلت : 51 ) لما حقر الدنيا وصغر
أمرها وعظم أمر الآخرة : بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك : وهي
المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة ) ذَلِكَ ( الموعود من
المغفرة والجنة ) فَضَّلَ اللَّهُ ( عطاؤه ) يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( وهم المؤمنون
.
) مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الاٌّ رْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى
كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ
الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ (
الحديد : ( 22 ) ما أصاب من . . . . .
المصيبة في الأرض : نحو الجدب وآفات الزروع والثمار . وفي الأنفس : نحو الأدواء
والموت ) فِى كِتَابِ ( في اللوح ) مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ( يعني الأنفس أو
المصائب ) إِنَّ ذَلِكَ ( إنّ تقدير ذلك وإثباته في كتاب ) عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
( وإن كان عسيراً على العباد ، ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه فقال : ) لّكَيْلاَ
تَأْسَوْاْ وَلاَ تَفْرَحُواْ ( يعني أنكم إذا علمتم أنّ كل شيء مقدر مكتوب عند
الله قلّ أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي ؛ لأنّ من علم أن ما عنده معقود لا
محالة : لم يتفاقم جزعه عند فقده ، لأنه وطن نفسه على ذلك ، وكذلك من علم أنّ بعض
الخير واصل إليه ، وأن وصوله لا يفوته بحال : لم يعظم فرحه عند نيله ) وَاللَّهُ
لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( لأنّ من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه :
اختال وافتخر به وتكبر على الناس . قرىء : ( بما آتاكم ) وأتاكم ، من الإيتاء
والإتيان . وفي قراءة ابن مسعود ( بما أوتيتم ) فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند
مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح . قلت : المراد : الحزن
المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين ،
والفرح المطغى الملهى عن الشكر ؛ فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع
الاستسلام ، والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر : فلا بأس بهما )
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ( بدل من قوله : ) كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( كأنه قال : لا
يحب الذين يبخلون ، يريد : الذين يفرحون الفرح المطغى إذا رزقوا مالاً وحظاً من
الدنيا فلحبهم له
" صفحة رقم 478 "
وعزته عندهم وعظمه في عيونهم : يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به ، ولا يكفيهم أنهم
بخلوا حتى يحملوا الناس على البخل ويرغبوهم في الإمساك ويزينوه لهم ، وذلك كله
نتيجة فرحهم به وبطرهم عند إصابته ) وَمَن يَتَوَلَّ ( عن أوامر الله ونواهيه ولم
ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي : فإنّ الله غني عنه . وقرىء
: ( بالبخل ) وقرأ نافع : ( فإنّ الله الغني ) ، وهو في مصاحف أهل المدينة والشام
كذلك .
) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ
بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ
وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ (
الحديد : ( 25 ) لقد أرسلنا رسلنا . . . . .
) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا ( يعني الملائكة إلى الأنبياء ) بِالْبَيِّنَاتِ (
بالحجج والمعجزات ) وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ ( أي الوحي ) وَالْمِيزَانَ
( روى أنّ جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به
) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد :
السندان ، والكلبتان ، والميقعة والمطرقة ، والإبرة . وروى : ومعه المر والمسحاة .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1132 ) ( أنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : أنزل الحديد ،
والنار ، والماء ، والملح . وعن الحسن ) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( : خلقناه ،
كقوله تعالى : ) وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ( ( الزمر : 60 ) وذلك أنّ
أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه ) فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ( وهو القتال به )
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ( في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم ، فما من صناعة إلا والحديد
آلة فيها ؛ أو ما يعمل بالحديد ) وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ (
باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين ) بِالْغَيْبِ (
غائباً عنهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ينصرونه ولا يبصرونه ) إِنَّ اللَّهَ
قَوِىٌّ عَزِيزٌ ( غني بقدرته وعزته في إهلاك من يريد هلاكه عنهم ، وإنما كلفهم
الجهاد لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب .
" صفحة رقم 479 "
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (
الحديد : ( 26 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . .
) وَالْكِتَابِ ( والوحي . وعن ابن عباس : الخط بالقلم ، يقال : كتب كتاباً وكتابة
) فَمِنْهُمْ ( فمن الذرية أو من المرسل إليهم ، وقد دل عليهم ذكر الإرسال
والمرسلين . وهذا تفصيل لحالهم ، أي : فمنهم مهتد ومنهم فاسق ، والغلبة للفساق .
) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىءَاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ
إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا
فَأاتَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ
فَاسِقُونَ (
الحديد : ( 27 ) ثم قفينا على . . . . .
قرأ الحسن : ( الأنجيل ) بفتح الهمزة ، وأمره أهون من أمر البرطيل والسكينة فيمن
رواهما بفتح الفاء ، لأنّ الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب . وقرىء : (
رآفة ) على : فعالة ، أي : وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم . ونحوه في صفة أصحاب
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( ( الفتح : 29 ) .
والرهبانية : ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين ، مخلصين أنفسهم للعبادة
، وذلك أنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى ، فقاتلوهم ثلاث مرات ،
فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل ، فخافوا أن يفتنوا في دينهم ، فاختاروا
الرهبانية : ومعناه الفعلة المنسوبة إلى الرهبان ، وهو الخائف : فعلان من رهب ،
كخشيان من خشى . وقرىء : ( ورهبانية ) بالضم ، كأنها نسبة إلى الرهبان : وهو جمع
راهب كراكب وركبان ، وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر :
" صفحة رقم 480 "
تقديره . وابتدعوا رهبانية ) ابتَدَعُوهَا ( يعني : وأحدثوها من عند أنفسهم
ونذروها ) مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ( لم نفرضها نحن عليهم ) إِلاَّ ابْتِغَاء
رِضْوانِ اللَّهِ ( استثناء منقطع ، أي : ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ) فَمَا
رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ( كما يجب على الناذر رعاية نذره ؛ لأنه عهد مع الله
لا يحل نكثه ) فَأاتَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ( يريد : أهل الرحمة والرأفة
الذين اتبعوا عيسى ) وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( الذين لم يحافظوا على نذرهم
. ويجوز أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها ، وابتدعوها : صفة لها في محل
النصب ، أي : وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم ، بمعنى :
وفقناهم للتراحم بينهم ولا بتداع الرهبانية واستحداثها ، ما كتبناها عليهم إلا
ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب ، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم
ليتخلصوا من الفتن ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه ، فما رعوها جميعاً حق رعايتها ؛
ولكن بعضهم ، فآتينا المؤمنين المراعين منهم للرهبانية أجرهم ، وكثير منهم فاسقون
. وهم الذين لم يرعوها .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (
الحديد : ( 28 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الَّذِينَ ءامنوا ( يجوز أن يكون خطاباً للذين آمنوا من أهل الكتاب
والذين آمنوا من غيرهم ، فإن كان خطاباً لمؤمني أهل الكتاب . فالمعنى : يا أيها
الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد ) يُؤْتِكُمْ ( الله ) كِفْلَيْنِ ( أي
نصيبين ) مّن رَّحْمَتِهِ ( لإيمانكم بمحمد وإيمانكم بمن قبله ) وَيَجْعَل لَّكُمْ
( يوم القيامة ) نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ( وهو النور المذكور في قوله : ) يَسْعَى
نُورُهُم ( ( الحديد : 12 ) . ) وَيَغْفِرْ لَكُمْ ( ما أسلفتم من الكفر والمعاصي
.
) لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّن
فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (
الحديد : ( 29 ) لئلا يعلم أهل . . . . .
) لّئَلاَّ يَعْلَمَ ( ليعلم ) أَهْلِ الْكِتَابِ ( الذين لم يسلموا . ولا مزيدة )
أَلاَّ يَقْدِرُونَ ( أن مخففة من الثقيلة ، أصله : أنه لا يقدرون ، يعني : أنّ
الشأن لا يقدرون ) عَلَى شَىْء مّن فَضْلِ اللَّهِ ( أي : لا ينالون شيئاً مما ذكر
من فضله من الكفلين : والنور والمغفرة ، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله ، فلم ينفعهم
إيمانهم بمن قبله ، ولم يكسبهم فضلاً قط . وإن كان
" صفحة رقم 481 "
خطاباً لغيرهم ، فالمعنى : اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله يؤتكم ما
وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله : ) أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم
مَّرَّتَيْنِ ( ( القصص : 54 ) ولا ينقصكم من مثل أجرهم ، لأنكم مثلهم في
الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله . روى :
( 1133 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث جعفراً رضي الله عنه في سبعين
راكباً إلى النجاشي يدعوه ، فقدم جعفر عليه فدعاه فاستجاب له ، فقال ناس ممن آمن
من أهل مملكته وهم أربعون رجلاً . ائذن لنا في الوفادة على رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، فأذن لهم فقدموا مع جعفر وقد تهيأ لوقعة أحد ، فلما رأوا ما
بالمسلمين من خصاصة : استأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فرجعوا وقدموا
بأموال لهم فآسوا بها المسلمين ، فأنزل الله ) الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
( ( البقرة : 121 ) إلى قوله : ) وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( ( البقرة :
3 ) فلما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله : ) يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ
( ( القصص : 54 ) فخروا على المسلمين وقالوا : أما من آمن بكتابكم وكتابنا فله
أجره مرّتين ، وأما من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم ، فما فضلكم علينا ؟ فنزلت
. وروي أنّ مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم
مرّتين ، وادعوا الفضل عليهم ، فنزلت . وقرىء : ( لكي يعلم ) و ( لكيلا يعلم ) . و
( ليعلم ) . و ( لأن يعلم ) ؛ بإدغام النون في الياء . و ( لين يعلم ) . بقلب
الهمزة ياء وإدغام النون في الياء . وعن الحسن : ( ليلا يعلم ) ، بفتح اللام وسكون
الياء . ورواه قطرب بكسر اللام . وقيل : في وجهها : حذفت همزة أن ، وأدغمت نونها
في لام لا ؛ فصار ( للا ) ثم أبدلت من اللام المدغمة ياء ، كقولهم : ديوان ،
وقيراط . ومن فتح اللام فعلى أن أصل لأم الجرّ الفتح ، كما أنشد : أُرِيدُ
لِأنْسَى ذِكْرَهَا . . . ;
وقرىء : ( أن لا يقدروا ) ) بِيَدِ اللَّهِ ( في ملكه وتصرفه . واليد مثل )
يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( ولا يشاء إلا إيتاء من يستحقه . عن رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم )
" صفحة رقم 482 "
:
( 1134 ) ( من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله ) .
" صفحة رقم 483 "
( سورة المجادلة )
مدنية ، وآياتها 22 ( نزلت بعد المنافقون )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى
إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (
المجادلة : ( 1 ) قد سمع الله . . . . .
) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ ( .
( 1135 ) قالت عائشة رضي الله عنها : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات : لقد كلمت
المجادلة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع ، وقد
سمع لها . وعن عمر أنه كان إذا دخلت عليه أكرمها وقال : قد سمع الله لها . وقرىء :
( تحاورك ) أي : تراجعك الكلام . وتحاولك ، أي : تسائلك ، وهو خولة بنت ثعلبة
امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة :
( 1136 ) رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم ، فلما سلمت راودها فأبت ، فغضب وكان به
خفة ولمم ، فظاهر منها ، فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : إن أوساً
تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، فلما خلا سني ونثرت بطني أي : كثر ولدي جعلني عليه
كأمّه . وروى :
( 1137 ) أنها قالت له : أنّ لي صبية صغاراً ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن
" صفحة رقم 484 "
ضممتهم إليّ جاعوا . فقال : ما عندي في أمرك شيء . وروى :
( 1138 ) أنه قال لها : حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله ، ما ذكر طلاقاً وإنما
هو أبو ولدي وأحب الناس إليّ ، فقال : حرمت عليه ، فقالت : أشكو إلى الله فاقنى ووجدي
، كلما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : حرمت عليه ، هتفت وشكت إلى الله ،
فنزلت ) فِى زَوْجِهَا ( في شأنه ومعناه ) إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( يصح أن
يسمع كل مسموع ويبصر كل مبصر . فإن قلت : ما معنى ( قد ) في قوله : ( قد سمع ) ؟
قلت : معناه التوقع ؛ لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمجادلة كانا
يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرّج عنها .
) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ
إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ
مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن
يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ
لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (
المجادلة : ( 2 - 4 ) الذين يظاهرون منكم . . . . .
) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ ( في ) مِنكُمْ ( توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في
الظهار ، لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم ) مَّا هُنَّ (
وقرىء : بالرفع على اللغتين الحجازية والتميمية . وفي قراءة ابن مسعود : (
بأمّهاتهم ) وزيادة الباء في لغة من ينصب . والمعنى أن من يقول لامرأته أنت عليّ
كظهر أمي : ملحق في كلامه هذا للزوج بالأم ، وجاعلها مثلها . وهذا تشبيه باطل
لتباين الحالين ) إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ ( يريد أن الأمهات
على الحقيقة إنما هنّ الوالدات وغيرهنّ ملحقات بهنّ لدخولهنّ في حكمهنّ ،
فالمرضعات أمّهات ؛ لأنهنّ لما أرضعن دخلن بالرضاع في حكم الأمهات ، وكذلك أزواج
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمهات المؤمنين ؛ لأن الله حرّم نكاحهن على
الأمة فدخلن بذلك في حكم الأمهات . وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة لأنهنّ لسن
بأمّهات على الحقيقة . ولا بداخلات في حكم الأمهات ، فكان قول المظاهر : منكراً من
القول تنكره الحقيقة وتنكره الأحكام الشرعية وزوراً وكذباً باطلاً منحرفاً عن الحق
) وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( لما سلف منه إذا تيب منه ولم يعد إليه ، ثم
قال : ) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن
" صفحة رقم 485 "
نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } يعني : والذين كانت عادتهم أن
يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام ، ثم يعودون لمثله ، فكفارة من عاد أن
يحرّر رقبة ثم يماس المظاهر منها لا تحل له مماستها إلا بعد تقديم الكفارة . ووجه
آخر : ثم يعودون لما قالوا : ثم يتداركون ما قالوا ؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه
. ومنه المثل : عاد غيث على ما أفسد ، أي : تداركه بالإصلاح . والمعنى : أن تدارك
هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظهار . ووجه ثالث :
وهو أن يراد بما قالوا : ما حرّموه على
" صفحة رقم 486 "
أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكرنا في قوله تعالى
: ) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ( ( مريم : 80 ) ويكون المعنى : ثم يريدون العود
للتماس . والمماسة : الاستمتاع بها من جماع ، أو لمس بشهوة ، أو نظر إلى فرجها
لشهوة ) ذَلِكُمْ ( الحكم ) تُوعَظُونَ ( لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب
الجناية ، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله
عليه . فإن قلت : هل يصح الظهار بغير هذا اللفظ ؟ قلت : نعم إذا وضع مكان أنت
عضواً منها يعبر به عن الجملة كالرأس والوجه والرقبة والفرج ، أو مكان الظهر عضواً
آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ . ومكان الأمّ ذات رحم محرم منه من نسب
أو رضاع أو صهر أو جماع ، نحو أن يقول : أنت علي كظهر أختي من الرضاع أو عمتي من
النسب أو امرأة ابني أو أبي أو أمّ امرأتي أو بنتها ، فهو مظاهر . وهو مذهب أبي
حنيفة وأصحابه . وعن الحسن والنخعي والزهري
" صفحة رقم 487 "
والأوزاعي والثوري وغيرهم نحوه . وقال الشافعي : لا يكون الظهار إلا بالأمّ وحدها
وهو قول قتادة والشعبي . وعن الشعبي : لم ينس الله أن يذكر البنات والأخوات
والعمات والخالات ؛ إذ أخبر أن الظهار إنما يكون بالأمّهات الوالدات دون المرضعات
. وعن بعضهم : لا بد من ذكر الظهر حتى يكون ظهاراً . فإن قلت : فإذا امتنع المظاهر
من الكفارة ، هل للمرأة أن ترافعه ؟ قلت : لها ذلك . وعلى القاضي أن يجبره على أن
يكفر ، وأن يحبسه ؛ ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها ،
لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والامتناع من الاستمتاع ، فيلزم إيفاء حقها . فإن
قلت : فإن مسّ قبل أن يكفر ؟ قلت : عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر ، لما روى :
( 1139 ) أن سلمة بن صخر البياض قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ظاهرت من
امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها ، فقال عليه الصلاة والسلام : (
استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر ) فإن قلت : أي رقبة تجزىء في كفارة الظهار ؟ قلت :
المسلمة والكافرة جميعاً ، لأنها في الآية مطلقة . وعند الشافعي لا تجزي إلا
المؤمنة . لقوله تعالى في كفارة القتل : ) فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ( (
النساء : 92 ) ولا تجزى أمّ الولد والمدبر والمكاتب الذي أدّى شيئاً ، فإن لم يؤدّ
شيئاً جاز . وعند الشافعي : لا يجوز : فإن قلت : فإن أعتق بعض الرقبة أو صام بعض
الصيام ثم مس ؟ قلت : عليه أن يستأنف نهاراً مس أو ليلاً ناسياً أو عامداً عند أبي
حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد : عتق بعض الرقبة عتق كلها فيجزيه ، وإن كان المسّ
يفسد الصوم استقبل ، وإلا بني . فإن قلت : كم يعطي المسكين في الإطعام ؟ قلت : نصف
صاع من برّ أو صاعاً من غيره عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي مدّاً من طعام بلده
الذي يقتات فيه . فإن قلت : ما بال التماس لم يذكر عند الكفارة
" صفحة رقم 488 "
بالإطعام كما ذكره عند الكفارتين ؟ قلت : اختلف في ذلك ، فعند أبي حنيفة : أنه لا
فرق بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس ، وإنما ترك ذكره عند الإطعام
دلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم إذا وقع في
خلاله . وعند غيره : لم يذكر للدلالة على أن التكفير قبله وبعده سواء . فإن قلت :
الضمير في أن يتماسا إلام يرجع ؟ قلت : إلى ما دلّ عليه الكلام من المظاهر
والمظاهر منها ) ذَلِكَ ( البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها لتصدقوا )
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره ، ورفض ما
كنتم عليه في جاهليتكم ) وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( التي لا يجوز تعدّيها )
وَلِلْكَافِرِينَ ( الذي لا يتبعونها ولا يعملون عليها ) عَذَابٌ أَلِيمٌ ( .
) إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ مُّهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا
عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ (
المجادلة : ( 5 ) إن الذين يحادون . . . . .
) يُحَآدُّونَ ( يعادون ويشاقون ) كُبِتُواْ ( أخزوا وأهلكوا ) كَمَا كُبِتَ ( من
قبلهم من أعداء الرسل . قيل : أريد كبتهم يوم الخندق ) وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايَاتٍ
بَيّنَاتٍ ( تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به ) وَلِلْكَافِرِينَ ( بهذه الآيات
) عَذَابٌ مُّهِينٌ ( يذهب بعزهم وكبرهم ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ( منصوب بلهم . أو
بمهين . أو بإضمار اذكر تعظيماً لليوم ) جَمِيعاً ( كلهم لا يترك منهم أحد غير
مبعوث . أو مجتمعين في حال واحدة ، كما تقول : حي جميع ) فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا
عَمِلُواْ ( تخجيلاً لهم وتوبيخاً وتشهيراً بحالهم ، يتمنون عنده المسارعة بهم إلى
النار ، لما يلحقهم من الخزى على رؤوس الأشهاد ) أَحْصَاهُ اللَّهُ ( أحاط به
عدداً لم يفته منه شيء ) وَنَسُوهُ ( لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه لم يبالوا به
لضراوتهم بالمعاصي ، وإنما تحفظ معظمات الأمور .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ
مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ
إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ
مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (
المجادلة : ( 7 ) ألم تر أن . . . . .
) مَا يَكُونُ ( من كان التامة . وقرىء بالياء والتاء ، والياء على أنّ النجوى
تأنيثها غير حقيقي ومن فاصله . أو على أنّ المعنى ما يكون شيء من النجوى . والنجوى
: التناجي ، فلا تخلو إما أن تكون مضافة إلى ثلاثة ، أي : من نجوى ثلاثة نفر . أو
موصوفة
" صفحة رقم 489 "
بها ، أي : من أهل نجوى ثلاثة ، فحذف الأهل . أو جعلوا نجوا في أنفسهم مبالغة ،
كقوله تعالى : ) خَلَصُواْ نَجِيّا ( ( يوسف : 80 ) وقرأ ابن أبي عيلة : ( ثلاثة
وخمسة ) ، بالنصب على الحال بإضمار يتناجون ؛ لأن نجوى يدل عليه . أو على تأويل
نجوى بمتناجين ، ونصبها من المستكن فيه . فإن قلت : ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة
والخمسة ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن قوما من المنافقين تحلقوا للتناجي مغايظة
للمؤمنين على هذين العددين : ثلاثة وخمسة ، فقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة
كما ترونهم يتناجون كذلك ) وَلاَ أَدْنَى مِن ( عدديهم ) وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ (
والله معهم يسمع ما يقولون ، فقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه : أنها نزلت في
ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية : كانوا يوماً يتحدثون ، فقال أحدهم : أترى
أن الله يعلم ما نقول ؟ فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً . وقال الثالث :
إن كان يعلم بعضاً فهو يعلم كله ؛ وصدق . لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد
علمها كلها لأن كونه عالماً بغير سبب ثابت له مع كل معلوم ، والثاني : أنه قصد أن
يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والمتخالين للشورى والمندبون لذلك
ليسوا بكل أحد وإنما هم طائفة مجتباة من أولى النهي والأحلام ، ورهط من أهل الرأي
والتجارب ، وأول عددهم الاثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال وحكم
الاستصواب . ألا ترى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة
ولم يتجاوز بها إلى سابع ، فذكر عز وعلا الثلاثة والخمسة وقال : ) وَلاَ أَدْنَى
مِن ذَلِكَ ( فدلّ على الاثنين والأربعة وقال ) وَلاَ أَكْثَرَ ( فدلّ على ما يلي
هذا العدد ويقاربه . وفي مصحف عبد الله : إلا الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله
خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ، ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا
انتجوا . وقرىء : ( ولا أدنى من ذلك ولا أكثر ) ، بالنصب على أن لا لنفي الجنس .
ويجوز أن يكون : ولا أكثر ، بالرفع معطوفاً على يحل مع أدنى ، كقولك : لا حول ولا قوّة
إلا بالله ، بفتح الحول ورفع القوّة . ويجوز أن يكون مرفوعين على الابتداء ، كقولك
: لا حول ولا قوّة إلا بالله ، وأن يكون ارتفاعهما عطفاً على محل ( لا ) ) مِن
نَّجْوَى ( كأنه قيل : ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم . ويجوز أن يكونا
مجرورين عطفاً على نجوى ، كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم .
وقرىء : ( ولا أكبر ) بالباء . ومعنى كونه معهم : أنه يعلم ما يتناجون به ولا يخفى
عليه ما هم فيه ، فكأنه مشاهدهم ومحاضرهم ، وقد تعالى عن المكان والمشاهدة . وقرىء
( ثم ينبئهم ) على التخفيف .
" صفحة رقم 490 "
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ
الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ
وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (
المجادلة : ( 8 ) ألم تر إلى . . . . .
كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ،
يريدون أن يغيظوهم ، فنهاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعادوا لمثل فعلهم ،
وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول ومخالفته . وقرىء :
( ينتجون بالإثم والعدوان ) بكسر العين ، ومعصيات الرسول ) حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ
يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ ( يعني أنهم يقولون في تحيتك : السام عليك يا محمد ؛ والسام
: الموت ؛ والله تعالى يقول : ) وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( (
النمل : 59 ) و ) اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( ( المائدة : 41 / 67 ) و )
مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىّ ( : ( الأنفال : 64 ) ) لَوْلاَ يُعَذّبُنَا
اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ( كانوا يقولون : ماله إن كان نبياً لا يدعو علينا حتى
يعذبنا الله بما نقول ، فقال الله تعالى : ) حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ( عذاباً .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ
بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا
النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ
بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(
المجادلة : ( 9 - 10 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الَّذِينَ كَفَرُواْ ( خطاب للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم . ويجوز أن
يكون للمؤمنين ، أي : إذا تناجيتم فلا تتشبهوا بأولئك في تناجيهم بالشر )
وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى ( وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1140 ) ( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه ) وروى : (
دون الثالث ) . وقرىء : ( فلا تناجوا ) وعن ابن مسعود : إذا انتجيتم فلا تنتجوا )
إِنَّمَا النَّجْوَى ( اللام إشارة إلى النجوى بالإثم والعدوان ، بدليل قوله تعالى
: ) لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( والمعنى : أنّ الشيطان يزينها لهم ، فكأنها
منه ليغيظ الذين آمنوا ويحزنهم ) وَلَيْسَ ( الشيطان أو الحزن ) بِضَارّهِمْ
شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( . فإن قلت : كيف لا يضرهم
" صفحة رقم 491 "
الشيطان أو الحزن إلا بإذن الله ؟ قلت : كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتغامزهم
أن غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا ، فقال : لا يضرهم الشيطان أو الحزن بذلك
الموهم إلا بإذن الله ، أي : بمشيئته ، وهو أن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة
على الغزاة . وقرىء : ( ليحزن ) وليحزن .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى
الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ
فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (
المجادلة : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
) تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ ( توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض ، من قولهم :
أفسح عني ، أي : تنح ؛ ولا تتضامّوا . وقرى : ( تفاسحوا ) والمراد : مجلس رسول
الله ، وكانوا يتضامّون فيه تنافساً على القرب منه ، وحرصاً على استماع كلامه ،
وقيل : هو المجلس من مجالس القتال ، وهي مراكز الغزاة ، كقوله تعالى : ) مَقَاعِدَ
لِلْقِتَالِ ( ( آل عمران : 121 ) وقرىء : ( في المجالس ) قيل : كان الرجل يأتي
الصف فيقول : تفسحوا ، فيأبون لحرصهم على الشهادة . وقرىء : ( في المجلس ) بفتح
اللام : وهو الجلوس ، أي : توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه ) يَفْسَحِ اللَّهُ
لَكُمْ ( مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر
وغير ذلك ) انشُزُواْ ( انهضوا للتوسعة على المقبلين . أو انهضوا عن مجلس رسول
الله إذا أمرتم بالنهوض عنه ، ولا تملوا رسول الله بالارتكاز فيه : أو انهضوا إلى
الصلاة والجهاد وأعمال الخير إذا استنهضتم ، ولا تثبطوا ولا تفرطوا ) يَرْفَعِ
اللَّهُ ( المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله ، والعالمين منهم خاصة )
دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ( قرىء : بالتاء والياء . عن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه : أنه كان إذا قرأها قال يا أيها الناس افهموا هذه الآية
ولترغبكم في العلم . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1141 ) بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر
" صفحة رقم 492 "
سبعين سنة ) . وعنه عليه السلام :
( 1142 ) ( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعنه
عليه السلام :
( 1143 ) ( يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ، ثم الشهداء ) فأعظم
بمرتبة هي واسطة بين النبوّة والشهادة بشهادة رسول الله . وعن ابن عباس : خيّر
سليمان بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطى المال والملك معه . وقال
عليه السلام :
( 1144 ) ( وأوحى الله إلى إبراهيم ، يا إبراهيم ، إني عليم أحب كل عليم ) وعن بعض
الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم ، وأي شيء فات من أدرك العلم ، وعن
الأحنف : كاد العلماء يكونون أرباباً ، وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير . وعن
الزبيري العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال .
" صفحة رقم 493 "
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ
بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ
تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أَءَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ
بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (
المجادلة : ( 12 - 13 ) يا أيها الذين . . . . .
) بَيْنَ يَدَىْ نَجْواكُمْ ( استعارة ممن له يدان . والمعنى : قبل نجواكم كقول
عمر : من أفضل ما أوتيت العرب الشعر ، يقدِّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم
ويستنزل به اللئيم ، يريد : قبل حاجته ( ذلكم ) خير ) خَيْرٌ لَّكُمْ ( في دينكم )
وَأَطْهَرُ ( لأنّ الصدقة طهرة . روى أن الناس أكثروا مناجاة رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) بما يريدون حتى أملوه وأبرموه ، فأريد أن يكفوا عن ذلك ، فأمروا بأن
من أراد يناجيه قدّم قبل مناجاته صدقة . قال علي رضي الله عنه :
( 1145 ) لما نزلت دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ما تقول في
دينار ؟ قلت : لا يطيقونه . قال : كم ؟ قلت : حبة أو شعيرة ؛ قال : إنك لزهيد .
فلما رأوا ذلك : اشتدّ عليهم فارتدعوا وكفوا . أما الفقير فلعسرته ، وأما الغنيّ
فلشحه . وقيل : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ . وقيل : ما كان إلا ساعة من نهار . وعن
علي رضي الله عنه :
( 1146 ) إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي : كان
لي دينار فصرفته ، فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم . قال الكلبي : تصدق به في عشر
كلمات سألهنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن ابن عمر : كان لعليّ ثلاث :
لو كانت لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه
الراية يوم خيبر ، وآية
" صفحة رقم 494 "
النجوى . قال ابن عباس : هي منسوخة بالآية التي بعدها ، وقيل : هي منسوخة بالزكاة
) أَءشْفَقْتُمْ ( أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه ، وأنّ
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ) فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ ( ما أمرتم به
وشق عليكم ، و ) تَابَ الله عَلَيْكُمْ ( وعذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوه ، فلا
تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات ) بِمَا تَعْمَلُونَ ( قرىء بالتاء والياء
.
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا
هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ
أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا
يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ
الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ
أُوْلَائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ
الخَاسِرُونَ (
المجادلة : ( 14 ) ألم تر إلى . . . . .
كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله تعالى : ( من لعنه
الله وغضب عليه ) ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين ) مَّا هُم مّنكُمْ (
يا مسلمون ) وَلاَ مِنْهُمْ ( ولا من اليهود ، كقوله تعالى : ) مُّذَبْذَبِينَ
بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء ( ( النساء : 143 ) ، )
وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ ( أي يقولون : والله إنا لمسلمون ، فيحلفون على
الكذب الذي هو ادعاء الإسلام ) وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( أن المحلوف عليه كذب بحت .
فإن قلت : فما فائدة قوله : ) وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( ؟ قلت : الكذب : أن يكون الخبر
لا على وفاق المخبر عنه ، سواء علم المخبر أو لم يعلم ، فالمعنى : أنهم الذين
يخبرون وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه ، وهم عالمون بذلك متعمدون له ، كمن يحلف
بالغموس وقيل :
( 1147 ) كان عبد الله بن نبتل المنافق يجالس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ،
ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه :
يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل ابن نبتل وكان أزرق ،
فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 495 "
: ( علام تشتمني أنت وأصحابك ) ؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال عليه السلام : ( فعلت )
فانطلق فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبوه ، فنزلت ) عَذَاباً شَدِيداً ( نوعاً
من العذاب متفاقماً ) إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( يعني أنهم كانوا
في الزمان الماضي المتطاول على سوء العمل مصرين عليه . أو هي حكاية ما يقال لهم في
الآخرة . وقرىء : ( إيمانهم ) بالكسر ، أي : اتخذوا أيمانهم التي حلفوا بها . أو
إيمانهم الذي أظهروه ) جُنَّةً ( أي سترة يتسترون بها من المؤمنين ومن قتلهم )
فَصَدُّواْ ( الناس في خلال أمنهم وسلامتهم ) عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( وكانوا يثبطون
من لقوا عن الدخول في الإسلام ويضعفون أمر المسلمين عندهم . وإنما وعدهم الله
العذاب المهين المخزي لكفرهم وصدهم ، كقوله تعالى : ) الَّذِينَ كَفَرُواْ
وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ( ( النحل
: 88 ) . ) مِنَ اللَّهِ ( من عذاب الله ) شَيْئاً ( قليلاً من الإغناء . وروي أنّ
رجلاً منهم قال : لنننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا ) فَيَحْلِفُونَ
( لله تعالى على أنهم مسلمون في الآخرة ) كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ( في الدنيا
على ذلك ) وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء ( من النفع ، يعني : ليس العجب من
حلفهم لكم ، فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر ، وأن لهم نفعاً في ذلك دفعاً عن
أرواحهم واستجرار فوائد دنيوية ، وأنهم يفعلونه في دار لا يضطرون فيها إلى علم ما
يوعدون ، ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة مع عدم النفع والإضطرار إلى
علم ما أنذرتهم الرسل ، والمراد : وصفهم بالتوغل في نفاقهم ومرونهم عليه ، وأن ذلك
بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل ، كما قال : ) وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ
لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( ( الأنعام : 28 ) وقد اختلف العلماء في كذبهم في الآخرة ،
والقرآن ناطق بثباته نطقاً مكشوفاً . كما ترى في هذه الآية وفي قوله تعالى : )
وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( ( الأنعام : 23 24 )
ونحو حسبانهم أنهم على شيء من النفع إذا حلفوا استنظارهم المؤمنين ليقتبسوا من
نورهم ، لحسبان أن الإيمان الظاهر مما ينفعهم . وقيل عند ذلك : يختم على أفواههم )
أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( يعني أنهم الغاية التي لا مطمح وراءها في
قول الكذب ، حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة ) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ (
استولى عليهم ، من حاذ الحمار العانة إذا جمعها وساقها غالباً لها . ومنه : كان
أحوذياً نسيج وحده ، وهو أحد ما جاء على الأصل ، نحو : استصوب واستنوق ، أي :
ملكهم ) الشَّيْطَانِ ( لطاعتهم له في كل ما يريده منهم ، حتى جعلهم رعيته وحزبه )
فَأَنسَاهُمْ ( أن يذكروا الله أصلاً لا بقلوبهم ولا بألسنتهم . قال أبو عبيدة :
حزب الشيطان جنده .
" صفحة رقم 496 "
) إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ فِى الاٌّ
ذَلِّينَ (
المجادلة : ( 20 ) إن الذين يحادون . . . . .
) فِى الاْذَلّينَ ( في جملة من هو أذل خلق الله لا ترى أحداً أذل منهم .
) كَتَبَ اللَّهُ لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ (
المجادلة : ( 21 ) كتب الله لأغلبن . . . . .
) كِتَابِ اللَّهِ ( في اللوح ) لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( بالحجة والسيف .
أو بأحدهما .
) لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ يُوَآدُّونَ
مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ
أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَائِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ
الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ
عَنْهُ أُوْلَائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (
المجادلة : ( 22 ) لا تجد قوما . . . . .
) لاَّ تَجِدُ قَوْماً ( من باب التخييل . خيل أن من الممتنع المحال : أن تجد
قوماً مؤمنين يوالون المشركين ، والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن
يمتنع ولا يوجد بحال ، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته ، والتوصية بالتصلب
في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم ، وزاد ذلك
تأكيداً وتشديداً بقوله : ) وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ ( وبقوله : ) أُوْلَئِكَ
كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( وبمقابلة قوله : ) أُوْلَئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ ( ( المجادلة : 99 ) بقوله : ( أولئك حزب الله ) فلا تجد شيئاً أدخل
في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، بل هو الإخلاص بعينه ) كَتَبَ
فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( أثبته فيها بما وفقهم فيه وشرح له صدورهم )
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ ( بلطف من عنده حييت به قلوبهم . ويجوز أن يكون
الضمير للإيمان ، أي : بروح من الإيمان ، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به .
وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان . وعن عبد العزيز بن
أبي رواد : أنه لقيه المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها . وعن النبي (
صلى الله عليه وسلم ) : أنه كان يقول :
( 1148 ) ( اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة ، فإني وجدت فيما
" صفحة رقم 497 "
أوحيت إليّ : لا تجد قوماً ) وروى :
( 1149 ) أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك أنّ أبا قحافة سب رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) فصكه صكة سقط منها ، فقال له رسول الله : ( أو فعلته ) ؟ قال
: نعم ، قال : لا تعد ) قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته . وقيل في أبي
عبيدة بن الجراح : قتل أباه عبد الله الجراح يوم أحد .
( 1150 ) وفي أبي بكر : دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وقال لرسول الله : دعني
أكرّ في الراعلة الأولى : قال : متعنا بنفسك يا أبا بكر ، أما تعلم أنك عندي
بمنزلة سمعي وبصري . وفي مصعب بن عمير : قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد . وفي عمر
: قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر . وفي علي وحمزة وعبيد بن الحرث : قتلوا عتبة
وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر . عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
:
( 1151 ) ( من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة ) .
" صفحة رقم 498 "
( سورة الحشر )
مدنية ، وهي أربع وعشرون آية ( نزلت بعد البينة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن
دِيَارِهِمْ لاًّوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ
أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى
الاٌّ بْصَارِ (
الحشر : ( 1 ) سبح لله ما . . . . .
( 1152 ) صالح بنو النضير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أن لا يكونوا عليه
ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية
، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين
راكباً إلى مكة فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة
الأنصاري فقتل كعباً غيلة وكان أخاه من الرضاعة ، ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار
مخطوم بليف فقال لهم : أخرجوا من المدينة ، فقالوا : الموت أحب إلينا من ذاك ،
فتنادوا بالحرب . وقيل : استمهلوا رسول الله عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ، فدس عبد
الله بن أبي المنافق وأصحابه إليهم : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا
نخذلكم ، ولئن خرجتم لنخرجنّ معكم ، فدربوا على الأزقة وحصنوها فحاصرهم إحدى
وعشرين ليلة ، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين : طلبوا
الصلح ، فأبى عليهم إلا الجلاء ؛ على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من
متاعهم فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات ، إلا أهل بيتين منهم : آل أبي الحقيق
وآل حيي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة
" صفحة رقم 499 "
بالحيرة . اللام في ) لاِوَّلِ الْحَشْرِ ( تتعلق بأخرج ، وهي اللام في قوله تعالى
: ) يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى ( ( الفجر : 24 ) وقولك : جئته لوقت
كذا . والمعنى : أخرج الذين كفروا عند أوّل الحشر . ومعنى أوّل الحشر : أن هذا
أوّل حشرهم إلى الشأم ، وكانوامن سبط لم يصبهم جلاء قط ، وهم أوّل من أخرج من أهل
الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام . أو هذا أوّل حشرهم ؛ وآخر حشرهم : إجلاء عمر
إياهم من خيبر إلى الشام . وقيل : آخر حشرهم حشر يوم القيامة ؛ لأنّ المحشر يكون
بالشام . وعن عكرمة : من شك أنّ المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية . وقيل :
معناه أخرجهم من ديارهم لأوّل ما حشر لقتالهم : لأنه أوّل قتال قاتلهم رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) : ) مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ( لشدة بأسهم ومنعتهم ،
ووثاقة حصونهم ، وكثرة عددهم وعدتهم ، وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم من بأس الله )
فَأَتَاهُمُ ( أمر الله ) مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ( من حيث لم يظنوا ولم
يخطر ببالهم : وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرّة على يد أخيه ، وذلك مما أضعف
قوتهم وفل من شوكتهم ، وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة بما قذف فيها من الرعب ،
وألهمهم أن يوافقوا المؤمنين في تخريب بيوتهم ويعينوا على أنفسهم ، وثبط المنافقين
الذين كانوا يتولونهم عن مظاهرتهم . وهذا كله لم يكن في حسبانهم . ومنه أتاهم
الهلاك . فإن قلت : أي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ، وبين
النظم الذي جاء عليه ؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم
بحصانتها ومنعها إياهم ؛ وفي تصيير ضميرهم إسماً لأن وإسناد الجملة إليه : دليل
على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعه لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع
في معازتهم ؛ وليس ذلك في قولك : وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم . وقرىء : ( فآتاهم الله
) أي : فآتاهم الهلاك . والرعب : الخوف الذي يرعب الصدر ، أي يملؤه ؛ وقذفه :
إثباته وركزه . ومنه قالوا في صفة الأسد : مقذف ، كأنما قذف باللحم قذفاً لاكتنازه
وتداخل أجزائه . وقرىء : ( يخرّبون ويخربون ) ، مثقلاً ومخففاً . والتخريب
والإخراب : الإفساد بالنقض والهدم . والخربة : الفساد ، كانوا يخربون بواطنها
والمسلمون ظواهرها : لما أراد الله من استئصال شأفتهم وأن لا يبقى لهم بالمدينة
دار ولا منهم ديار ، والذي دعاهم إلى التخريب : حاجتهم إلى
" صفحة رقم 500 "
الخشب والحجارة ليسدّوا بها أفواه الأزقة . وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها
مساكن للمسلمين ، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جد الخشب والساج المليح .
وأما المؤمنون فداعيهم إزالة متحصنهم ومتمنعهم . وأن يتسع لهم مجال الحرب . فإن
قلت : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمينن ؟ قلت : لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب
فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه ) فَاعْتَبِرُواْ ( بما دبر الله ويسر من أمر
إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال . وقيل : وعد رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فكان كما قال ب :
) وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى
الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (
الحشر : ( 3 ) ولولا أن كتب . . . . .
يعني : أنّ الله قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم وإراحة المسلمين من جوارهم
وتوريثهم أموالهم ، فلولا أنه كتب عليهم الجلاء واقتضته حكمته ودعاه إلى اختياره
أنه أشق عليهم من الموت ) لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا ( بالقتل كما فعل بإخوانهم
بني قريظة ) وَلَهُمْ ( سواء أجلوا أو قتلوا ) عَذَابَ النَّارِ ( يعني : إن نجوا
من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة .
) مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا
فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ (
الحشر : ( 5 ) ما قطعتم من . . . . .
) مّن لّينَةٍ ( بيان لما قطعتم . ومحل ( ما ) نصب بقطعتم ، كأنه قال : أي شيء
قطعتم ، وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله : ) أَوْ تَرَكْتُمُوهَا ( لأنه في
معنى اللينة . واللينة : النخلة من الألوان ، ضروب النخل ما خلا العجوة . والبرنية
، وهما أجود النخيل ، وياؤها عن واو ، قلبت لكسرة ما قبلها ، كالديمة . وقيل : (
اللينة ) النخلة الكريمة ، كأنهم اشتقوها من اللين . قال ذو الرمّة : كَأَنَّ
قُتُودِي فَوْقَهَا عُشُّ طَائِر
عَلَى لِينَةٍ سَوْقَاءَ تَهْفُو جُنُوبُهَا
" صفحة رقم 501 "
وجمعها لين . وقرىء : ( قوّما ) على أصلها . وفيه وجهان : أنه جمع أصل كرهن ورهن .
أو اكتفى فيه بالضمة عن الواو . وقرىء : ( قائماً على أصوله ) ذهاباً إلى لفظ ما )
فَبِإِذْنِ اللَّهِ ( فقطعها بإذن الله وأمره ) وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ (
وليذل اليهود ويغيظهم إذن في قطعها ، وذلك :
( 1153 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين أمر أن تقطع نخلهم وتحرق قالوا
: يا محمد ، قد كنت تنهي عن الفساد في الأرض ، فما بال قطع النخل وتحريقها ؟ فكان
في نفس المؤمنين من ذلك شيء . فنزلت ، يعني : أنّ الله أذن لهم في قطعها ليزيدكم
غيظاً ويضاعف لكم حسرة إذا رأيتموهم يتحكمون في أموالكم كيف أحبوا ويتصرفون فيها
ما شاؤوا . واتفق العلماء أنّ حصون الكفرة وديارهم لا بأس بأن تهدم وتحرق وتغرق
وترمي بالمجانيق . وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة . وعن ابن
مسعود : قطعوا منها ما كان موضعا للقتال . فإن قلت : لم خصت اللينة بالقطع ؟ قلت :
إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية ، وإن كانت من كرام النخل
فليكون غيظ اليهود أشد وأشق . وروى :
( 1154 ) أن رجلين كانا يقطعان : أحدهما العجوة ، والآخر اللون ، فسألهما رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال هذا : تركتها لرسول الله ، وقال هذا : قطعتها
غيظاً للكفار . وقد استدل به على جواز الاجتهاد ، وعلى جوازه بحضرة الرسول ( صلى
الله عليه وسلم ) ؛ لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك ، واحتج به من يقول : كل مجتهد مصيب
.
) وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ
مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن
يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
الاٌّ غْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (
الحشر : ( 6 - 7 ) وما أفاء الله . . . . .
) أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ( جعله له فيئاً خاصة . والإيجاف من الوجيف .
وهو السير السريع . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإفاضة من عرفات .
" صفحة رقم 502 "
( 1155 ) ( ليس البرّ بإيجاف الخيل ولا إيضاع الإبل على هينتكم ) ومعنى ) فَمَا
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ( فما أوجفتم على تحصيله وتغنمه خيلاً ولا ركاباً ، ولا
تعبتم في القتال عليه ، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم . والمعنى : أنّ ما خوّل الله
رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة ، ولكن سلطه الله عليهم
وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم ، فالأمر فيه مفوّض إليه يضعه
حيث يشاء ، يعني : أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهراً ،
وذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت . لم يدخل العاطف على هذه الجملة : لأنها بيان
للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها . بين لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما
يصنع بما أفاء الله عليه ، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوماً على
الأقسام الخمسة ( والدولة والدولة ) بالفتح والضم وقد قرىء : بهما ما يدول للإنسان
، أي يدور من الجد . يقال : دالت له الدولة . وأديل لفلان . ومعنى قوله تعالى : )
لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاْغْنِيَاء مِنكُمْ ( كيلا يكون الفيء الذي حقه أن
يعطي الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جداً بين الأغنياء يتكاثرون به . أو كيلا
يكون دولة جاهلية بينهم . ومعنى الدولة الجاهلية : أن الرؤساء منهم كانوا يستأخرون
بالغنيمة لأنهم أهل الرياسة والدولة والغلبة ، وكانوا يقولون من عزّ بزّ . والمعنى
: كيلا يكون أخذه غلبة وأثره جاهلية . ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولا ،
ومال الله دولاً ، يريد : من غلب منهم أخذه واستأثر به . وقيل : ( الدولة ) ما يتداول
، كالغرفة : اسم ما يغترف ، يعني : كيلا يكون الفيء شيئاً يتداوله الأغنياء بينهم
ويتعاورونه ، فلا يصيب الفقراء ، والدولة بالفتح : بمعنى التداول ، أي : كيلا يكون
ذا تداول بينهم . أو كيلا يكون إمساكه تداولاً بينهم لا يخرجونه إلى الفقراء ،
وقرىء : ( دولة ) بالرفع على ( كان ) التامة كقوله تعالى : ) وَإِن كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ ( يعني كيلا يقع دولة جاهلية ولينقطع أثرها أو كيلا يكون تداول له بينهم
. أو كيلا يكون شيء متعاور بينهم غير مخرج إلى الفقراء ) وَمَا ءاتَاكُمُ
الرَّسُولُ ( من قسمة غنيمة أو فيء ) فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ ( عن أخذه منها )
فَانتَهُواْ ( عنه ولا تتبعه أنفسكم ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( أن تخالفوه وتتهاونوا
بأوامره ونواهيه ) أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( لمن خالف رسوله ، والأجود
أن يكون عاماً في كل ما أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونهى عنه ، وأمر
الفيء داخل في عمومه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه :
" صفحة رقم 503 "
أنه لقي رجلاً محرماً وعليه ثيابه فقال له : انزع عنك هذا فقال الرجل : اقرأ عليّ
في هذا آية من كتاب الله . قال : نعم ، فقرأها عليه .
) لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (
الحشر : ( 8 ) للفقراء المهاجرين الذين . . . . .
) لِلْفُقَرَاء ( بدل من قوله : ) ذَا الْقُرْبَى ( والمعطوف عليه والذي منع
الإبدال
" صفحة رقم 504 "
من : لله وللرسول والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) أن الله عزّ وجلّ أخرج رسوله من الفقراء في قوله : ) وَيَنصُرُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ ( وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر
اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عزّ وجل ) أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( في
إيمانهم وجهادهم .
) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (
الحشر : ( 9 ) والذين تبوؤوا الدار . . . . .
) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا ( معطوف على المهاجرين ، وهم الأنصار فإن قلت : ما معنى
عطف الإيمان على الدار ، ولا يقال : تبوّؤا الإيمان ؟ قلت : معناه تبوّؤا الدار
وأخلصوا الإيمان ، كقوله : عَلَفْتُها تَيْنَاً وَمَاءً بَارِدَا
أو : وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطناً لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه ، كما
جعلوا المدينة كذلك . أو : أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في
الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه . أو
سمى المدينة لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان ) مِن قَبْلِهِمُ ( من
قبل المهاجرين ؛ لأنهم سبقوهم في تبوّىء دار الهجرة والإيمان . وقيل : من قبل
هجرتهم ) وَلاَ يَجِدُونَ ( ولا يعلمون في أنفسهم ) حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ ( أي
طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة ؛
يقال : خذ منه حاجتك ، وأعطاه من ماله حاجته ، يعني : أنّ نفوسهم لم تتبع ما أعطوا
ولم تطمح إلى شيء منه يحتاج إليه ) وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ( أي خلة ،
وأصلها : خصاص البيت ، وهي فروجه ؛ والجملة في موضع الحال ، أي : مفروضة خصاصتهم :
" صفحة رقم 505 "
( 1156 ) وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قسم أموال بني النضير على المهاجرين
ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين : أبادجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ،
والحرث بن الصمة . وقال لهم : ( إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم
وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكن شيء
من الغنيمة ، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة
ولا نشاركهم فيها ) . فنزلت ( الشح ) بالضم والكسر ، وقد قرىء بهما : اللؤم ، وأن
تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع ، كما قال : يُمَارِسُ نَفْساً بَيْنَ
جَنْبَيْهِ كَزَّة
إذَا هَمَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَتْ لَهُ مَهْلاَ
وقد أضيف إلى النفس ؛ لأنه غريزة فيها . وأما البخل فهو المنع نفسه . ومنه قوله
تعالى : ) وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ ( ( النساء : 128 ) . ) وَمَن يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ ( ومن غلب ما أمرته به منه وخالف هواها بمعونة الله وتوفيقه )
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( الظافرون بما أرادوا . وقرىء : ( ومن يوقَّ )
.
) وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا
غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (
الحشر : ( 10 ) والذين جاؤوا من . . . . .
) وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ ( عطف أيضاً على المهاجرين : وهم الذين
هاجروا من بعد . وقيل : التابعون بإحسان ) غِلاًّ ( وقرىء : ( غمرا ) وهما الحقد .
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ
وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ
مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ
لَيُوَلُّنَّ الاٌّ دْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( 7 )
الحشر : ( 11 ) ألم تر إلى . . . . .
" صفحة رقم 506 "
) لإِخْوَانِهِمُ ( الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر ، ولأنهم كانوا يوالونهم
ويواخونهم ، وكانوا معهم على المؤمنين في السر ) وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ ( في قتالكم
أحداً من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه . أو في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من
النصرة ) لَكَاذِبُونَ ( أي في مواعيدهم لليهود . وفيه دليل على صحة النبوّة :
لأنه إخبار بالغيوب . فإن قلت : كيف قيل ) وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ( بعد الإخبار
بأنهم لا ينصرونهم ؟ قلت : معناه : ولئن نصروهم على الفرض والتقدير ، كقوله تعالى
: ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( ( الزمر : 65 ) وكما يعلم ما يكون
، فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون . والمعنى : ولئن نصر المنافقون اليهود
لينهزمن المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك ، أي : يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم
نفاقهم لظهور كفرهم . أو ليهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين .
) لاّنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى
مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا
كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ
جَزَآءُ الظَّالِمِينَ (
الحشر : ( 13 ) لأنتم أشد رهبة . . . . .
) رَهْبَةً ( مصدر رهب المبني للمفعول ، كأنه قيل : أشد مرهوبية . وقوله : ) فِى
صُدُورِهِمْ ( دلالة على نفاقهم ، يعني أنهم يظهرون لكن في العلانية خوف الله وأنتم
أهيب في صدورهم من الله . فإن قلت : كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم
منهم أشدّ . قلت : معناه أن رهبتهم في السر منكم أشدّ من رهبتهم من الله التي
يظهرونها لكم وكانو يظهرون لهم رهبة شديدة من الله ويجوز أن يريد أنّ اليهود
يخافونكم في صدورهم أشدّ من خوفهم من الله ؛ لأنهم كانوا قوماً أولى بأس ونجدة ،
فكانوا يتشجعون لهم مع إضمار الخيفة في صدورهم ) لاَّ يَفْقَهُونَ ( لا يعلمون
الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته ) لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ ( لا يقدرون على مقاتلتكم
) جَمِيعاً ( مجتمعين متساندين ، يعني اليهود والمنافقين ) إِلاَّ ( كائنين ) فِى
قُرًى مُّحَصَّنَةٍ ( بالخنادق والدروب ) أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ ( دون أن يصحروا
لكم ويبارزوكم ، لقذف الله الرعب في قلوبهم ، وأن تأييد الله تعالى ونصرته معكم .
وقرىء : ( جدر ) ، بالتخفيف . وجدار . وجدر وجدر ، وهما : الجدار ) بَأْسُهُمْ
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ( يعني أنّ البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا
" صفحة رقم 507 "
اقتتلوا ؛ ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدّة ؛ لأنّ الشجاع يجبن والعزيز
يذل عند محاربة الله ورسوله ) تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ( مجتمعين ذوي ألفة واتحاد )
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ( متفرقة لا ألفة بينها ، يعني . أنّ بينهم إحنا وعداوات ،
فلا يتعاضدون حق التعاضد ، ولا يرمون عن قوس واحدة . وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع
لقلوبهم على قتالهم ) قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ( أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم
ويعين على أرواحهم ) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( أي مثلهم كمثل أهل بدر
في زمان قريب . فإن قلت : بم انتصب ) قَرِيبًا ( ؟ قلت : بمثل ، على : كوجود مثل
أهل بدر قريباً ) ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ ( سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، من قولهم كلأ وبيل : وخيم سيء العاقبة ، يعني ذاقوا
عذاب القتل في الدنيا ) وَلَهُمْ ( في الآخرة عذاب النار . مثل المنافقين في
إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم )
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ ( إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة ،
والمراد استغواؤه قريشاً يوم بدر ؛ وقوله لهم : ) لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ
مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ ( ( الأنفال : 48 ) إلى قوله : ) إِنّى
بَرِىء مّنكَ ( وقرأ ابن مسعود : ( خالدان فيها ) ، على أنه خبر أنّ ، و ) فِى
النَّارِ ( لغو ، وعلى القراءة المشهورة : الظرف مستقر ، وخالدين فيها : حال .
وقرىء : ( أنا بريء ) وعاقبتهما بالرفع .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ
أُولَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (
الحشر : ( 18 ) يا أيها الذين . . . . .
كرر الأمر بالتقوى تأكيداً : واتقوا الله في أداء الواجبات ؛ لأنه قرن بما هو عمل
، واتقوا الله في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد . والغد : يوم
القيامة ، سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له وعن الحسن : لم يزل يقربه حتى
جعله كالغد .
" صفحة رقم 508 "
ونحوه قوله تعالى : ) كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالاْمْسِ ( ( يونس : 24 ) يريد : تقريب
الزمان الماضي . وقيل : عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران : يوم وغد
. فإن قلت : ما معنى تنكير النفس والغد ؟ قلت : أما تنكير النفس فاستقلالاً للأنفس
النواظر فيما تدمن للآخرة ، كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك . وأما تنكير الغد
فلتعظيمه وإبهام أمره ، كأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لعظمه . وعن مالك بن دينار :
مكتوب على باب الجنة : وجدنا ما عملنا ، ربحنا ما قدّمنا . خسرنا ما خلفنا )
نَسُواْ اللَّهَ ( نسوا حقه ، فجعلهم ناسين حق أنفسهم بالخذلان ، حتى لم يسعوا لها
بما ينفعهم عنده . أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم ، كقوله
تعالى : ) لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ( ( إبراهيم : 43 ) .
) لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
هُمُ الْفَآئِزُونَ (
الحشر : ( 20 ) لا يستوي أصحاب . . . . .
هذا تنبيه للناس وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على
إيثار العاجلة وأتباع الشهوات : كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون
العظيم بين أصحابهما ، وأن الفوز مع أصحاب الجنة ؛ فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا
عليه ، كما تقول لمن يعق أباه : هو أبوك ، تجعله بمنزلة من لا يعرفه ، فتنبهه بذلك
على حق الأبوّة الذي يقتضي البر والتعطف . وقد استدل أصحاب الشافعي رضي الله عنه
بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر ، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين
بالقهر .
) لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً
مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاٌّ مْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ
هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ (
الحشر : ( 21 ) لو أنزلنا هذا . . . . .
هذا تمثيل وتخييل ، كما مرّ في قوله تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة ) وقد دل عليه
قوله : ) وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ( والغرض توبيخ الإنسان على
قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره . وقرىء : ( مصدّعاً
) على الإدغام ) وَتِلْكَ الاْمْثَالُ ( إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع
من التنزيل .
) هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ
" صفحة رقم 509 "
الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ
الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاٌّ سْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ
لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (
الحشر : ( 23 - 24 ) هو الله الذي . . . . .
) الْغَيْبِ ( المعدوم ) وَالشَّهَادَةِ ( الموجود المدرك كأنه يشاهده . وقيل : ما
غاب عن العباد وما شاهدوه . وقيل : السر والعلانية . وقيل : الدنيا والآخرة )
الْقُدُّوسُ ( بالضم والفتح وقد قرىء بهما البليغ في النزاهة عما يستقبح . ونظيره
: السبوح ، وفي تسبيح الملائكة : سبوح قدوس رب الملائكة والروح . و ) السَّلَامُ (
بمعنى السلامة . ومنه ) دَارُ السَّلَامِ ( ( يونس : 25 ) ) وَسَلَامٌ عَلَيْكُمْ
( ( الأنعام : 54 ) وصف به مبالغة في وصف كونه سليماً من النقائص . أو في إعطائه
السلامة ( والمؤمن ) واهب الأمن . وقرىء بفتح الميم بمعنى المؤمن به على حذف الجار
، كما تقول في قوم موسى من قوله تعالى : ) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( ( الأعراف
: 155 ) المختارون بلفظ صفة السبعين . و ) الْمُهَيْمِنُ ( الرقيب على كل شيء ،
الحافظ له ، مفيعل من الأمن ؛ إلا أن همزته قلبت هاء . و ) الْجَبَّارُ ( القاهر
الذي جبر خلقه على ما أراد ، أي أجبره ، و ) الْمُتَكَبِّرُ ( البليغ الكبرياء
والعظمة . وقيل : المتكبر عن ظلم عباده . و ) الْخَالِقُ ( المقدر لما يوجده (
والبارىء ) المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة . و ) الْمُصَوّرُ ( الممثل .
وعن حاطب بن أبي بلتعة أنه قرأ : ( البارىء المصوّر ) ، بفتح الواو ونصب الراء ،
أي : الذي يبرأ المصوّر أي : يميز ما يصوّره بتفاوت الهيئات . وقرأ ابن مسعود : (
وما في الأرض ) .
عن أبي هريرة رضي الله عنه :
( 1157 ) ( سألت حبيبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن اسم الله الأعظم فقال : ( عليك
بآخر الحشر فأكثر قراءته ) فأعدت عليه فأعاد عليّ ، فأعدت عليه فأعاد عليّ . عن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1158 ) ( من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) .
" صفحة رقم 510 "
( سورة الممتحنة )
مدنية ، وهي ثلاث عشرة آية ( نزلت بعد الأحزاب )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا
جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ
بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ
مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ
أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ
السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُواْ
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ
(
الممتحنة : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . .
روي :
( 1159 ) أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) بالمدينة وهو يتجهز للفتح ، فقال لها : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا .
قال : أفمهاجرة جئت ؟ قالت : لا . قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأهل والموالي
والعشيرة ، وقد ذهبت الموالي ، تعني : قتلوا يوم بدر ، فاحتجت حاجة شديدة فحث
عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزوّدوها ، فأناها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها
عشرة دنانير وكساها برداً ، واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي
بلتعة إلى أهل مكة ، اعلموا أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريدكم فخذوا
حذركم ، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
علياً وعماراً وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرساناً وقال :
انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة ،
فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها ،
" صفحة رقم 511 "
فأدركوها فجحدت وحلفت ، فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه : والله ما كذبنا ولا
كذب رسول الله ، وسل سيفه ، وقال : أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك ، فأخرجته من عقاص
شعرها . وروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمّن جميع الناس يوم الفتح إلا
أربعة : هي أحدهم ، فاستحضر رسول الله حاطباً وقال : ما حملك عليه ؟ فقال : يا
رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ؛
ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش . وروى : عزيزاً فيهم ، أي : غريباً ، ولم أكن من
أنفسها ، وكل من معكم من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري ،
فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أن الله تعالى ينزل عليهم
بأسه . وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فصدقه وقبل عذره ، فقال عمر : دعني يا رسول
الله أضرب عنق هذا المنافق ؛ فقال : ( وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع على
أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ففاضت عينا عمر وقال : الله
ورسوله أعلم ، فنزلت ، عدى ( اتخذ ) إلى مفعوليه ، وهما عدوي ، أولياء . والعدوّ :
فعول ، من عدا ؛ كعفوّ من عفا ؛ ولكونه على زنه المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على
الواحد . فإن قلت : ) تُلْقُونَ ( بم يتعلق ؟ قلت : يجوز أن يتعلق بلا تتخذوا
حالاً من ضميره ؛ وبأولياء صفة له . ويجوز أن يكون استئنافاً . فإن قلت : إذا
جعلته صفة لأولياء وقد جرى على غير من هوله ، فأين الضمير البارز وهو قولك : تلقون
إليهم أنتم بالمودّة ؟ قلت : ذلك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال ، لو قيل :
أولياء ملقين إليهم بالمودّة على الوصف . لما كان بد من الضمير البارز ؛ والإلقاء
عبارة عن إيصال المودّة والإفضاء بها إليهم : يقال ألقى إليه خراشي صدره ، وأفضى
إليه بقشوره . والباء في ) بِالْمَوَدَّةِ ( إما زائدة مؤكدة للتعدي مثلها في )
وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ( ( البقرة : 195 ) وإما ثابتة
على أن مفعول تلقون محذوف ، معناه : تلقون إليهم أخبار رسول الله بسبب المودّة
التي بينكم وبينهم . وكذلك قوله : ) تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ( أي :
تفضون إليهم بمودتكم سراً . أو تسرون إليهم أسرار رسول الله بسبب المودّة . فإن
قلت : ) وَقَدْ كَفَرُواْ ( حال مماذا ؟ قلت : إما من ) لاَ تَتَّخِذُواْ ( وإما
من ) تُلْقُونَ ( أي : لا تتولوهم أو توادّونهم وهذه حالهم . و ) يُخْرِجُونَ (
استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوّهم . أو حال من كفروا . و ) أَن تُؤْمِنُواْ ( تعليل
" صفحة رقم 512 "
ليخرجون ، أي يخرجونكم لإيمانكم ، و ) إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ ( متعلق بلا تتخذوا
، يعني : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي . وقول النحويين في مثله : هو شرط
جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه . و ) تُسِرُّونَ ( استئناف ، ومعناه : أيّ طائل
لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي لا تفاوت بينهما ،
وأما مطلع رسولي على ما تسرون ) وَمَن يَفْعَلْهُ ( ومن يفعل هذا الإسرار فقد أخطأ
طريق الحق والصواب . وقرأ الجحدري ( لما جاءكم ) أي : كفروا لأجل ما جاءكم ، بمعنى
: أن ما كان يجب أن يكون سبب إيمانهم جعلوه سبباً لكفرهم . ) إِن يَثْقَفُوكُمْ (
إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم ) يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء ( خالصي العداوة ، ولا
يكونوا لكم أولياء كما أنتم ) وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوء ( بالقتال والشتم ، وتمنوا لو ترتدون عن دينكم ، فإذن
مودة أمثالهم ومناصحتهم خطأ عظيم منكم ومغالطة لأنفسكم ونحوه قوله تعالى : ) لاَ
يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ( ( آل عمران : 118 ) فإن قلت : كيف أورد جواب الشرط
مضارعاً مثله ثم قال ) وَوَدُّواْ ( بلفظ الماضي ؟ قلت : الماضي وإن كان يجري في
باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب ، فإن فيه نكتة ، كأنه قيل : وودّوا قبل كل
شيء كفركم وارتدادكم ، يعني : أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين
جميعاً : من قتل الأنفس ، وتمزيق الأعراض ، وردّكم كفاراً ؛ وردكم كفاراً أسبق
المضارّ عندهم وأوّلها ؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم ، لأنكم بذَّالون
لها دونه ، والعدوّ أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه .
) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (
الممتحنة : ( 3 ) لن تنفعكم أرحامكم . . . . .
) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ( أي قراباتكم ) وَلاَ أَوْلَادُكُمْ ( الذين
توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم ، ثم قال : ) يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ( وبين أقاربكم وأولادكم ) يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ ( ( عبس : 34 ) الآية فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من
يفرّ منكم غداً : خطأ رأيهم في موالاة الكفار بما يرجع إلى حال من والوه أوّلاً ،
ثم بما يرجع إلى حال من اقتضى تلك الموالاة ثانياً ؛ ليريهم أن ما أقدموا عليه من
أي جهة نظرت فيه وجدته باطلاً . قرىء : ( يُفصَل ويُفصَّل ) ، على البناء للمفعول
. ويَفصِل ويُفصِّل ، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجل . ونفصل ونفصل ، بالنون
.
) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ
إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ
إِبْرَاهِيمَ لاًّبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ
مِن شَىْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ
" صفحة رقم 513 "
الْمَصِيرُ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ
لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (
الممتحنة : ( 4 ) قد كانت لكم . . . . .
وقرىء : ( أسوة وإسوة ) وهو اسم المؤتسى به ، أي كان فيهم مذهب حسن مرضي بأن يؤتسى
به ويتبع أثره ، وهو قولهم لكفار قومهم ما قالوا ، حيث كاشفوهم بالعداوة وقشروا
لهم العصا ، وأظهروا البغضاء والمقت ، وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم ليس إلا كفرهم
بالله ؛ ومادام هذا السبب قائماً كانت العداوة قائمة ، حتى إن أزالوه وآمنوا بالله
وحده انقلبت العداوة موالاة ، والبغضاء محبة ، والمقت مقة ، فأفصحوا عن محض
الإخلاص . ومعنى ) كَفَرْنَا بِكُمْ ( وبما تعبدون من دون الله : أنا لا نعتدّ
بشأنكم ولا بشأن آلهتكم ، وما أنتم عندنا على شيء . فإن قلت : مم استثني قوله : )
إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ ( ؟ قلت : من قوله : ) أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( لأنه أراد
بالأسوة الحسنة : قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذونه سنة يستنون بها . فإن
قلت : فإن كان قوله ) لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( مستثنى من القول الذي هو أسوة حسنة
، فما بال قوله : ) وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْء ( وهو غير حقيق
بالاستثناء . ألا ترى إلى قوله ) قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ( (
المائدة : 17 ) قلت : أراد استثناء جملة قوله لأبيه ، والقصد إلى موعد الاستغفار
له ، وما بعده مبنيّ عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا
الاستغفار . فإن قلت : بم اتصل قوله : ) رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا ( ؟ قلت
: بما قبل الاستثناء ، وهو من جملة الأسوة الحسنة . ويجوز أن يكون المعنى : قولوا
ربنا ، أمراً من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه ، وتعليماً منه لهم تتميماً لما
وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار ، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة
منهم ، وتنبيهاً على الإنابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر ،
والاستغفار مما فرط منهم . وقرى : ( برآء ) كشركاء . وبراء كظراف . وبراء على
إبدال الضم من الكسر ، كرخال ورباب . وبراء على الوصف بالمصدر . والبراء والبراءة
كالظماء والظماءة .
) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الاٌّ خِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ
الْحَمِيدُ (
الممتحنة : ( 6 ) لقد كان لكم . . . . .
ثم كرّر الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم ، ولذلك جاء به
مصدراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد ، وأبدل عن قوله : ) لَكُمْ ( قوله : )
لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ ( وعقبه بقوله : ) وَمَن
يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ( فلم يترك نوعاً من
" صفحة رقم 514 "
التأكيد إلا جاء به .
) عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم
مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (
الممتحنة : ( 7 ) عسى الله أن . . . . .
ولما نزلت هذه الآيات : تشدَّد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم
من المشركين ومقاطعتهم ، فلما رأى الله عز وجل منهم الجدّ والصبر على الوجه الشديد
وطول التمني للسبب الذي يبيح لهم الموالاة والمواصلة . رحمهم فوعدهم تيسير ما
تمنوه ، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم ، فأسلم قومهم ، وتمّ بينهم من
التحاب والتصافي ما تمّ . وقيل :
( 1160 ) تزوّج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمّ حبيبة ، فلانت عند ذلك عريكة
أبي سفيان واسترخت شكيمته في العداوة ، وكانت أمّ حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها
عبد الله بن أبي جحش إلى الحبشة ، فتنصر وأرادها على النصرانية ، فأبت وصبرت على
دينها ، ومات زوجها ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى النجاشي فخطبها
عليه ، وساق عنه إليها مهرها أربعمائة دينار ، وبلغ ذلك أباها فقال : ذلك الفحل لا
يقدع أنفه . و ) عَسَى ( وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج
: عسى أو لعل : فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك . أو قصد به إطماع المؤمنين ،
والله قدير على تقليب القلوب
" صفحة رقم 515 "
وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة ) وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( .
) لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ
وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ
فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (
الممتحنة : ( 8 ) لا ينهاكم الله . . . . .
) أَن تَبَرُّوهُمْ ( بدل من الذين لم يقاتلوكم . وكذلك ) أَن تَوَلَّوْهُمْ ( من
الذين قاتلوكم : والمعنى : لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء ، وإنما ينهاكم عن تولى هؤلاء
. وهذا أيضاً رحمة لهم لتشدّدهم وجدّهم في العداوة متقدّمة لرحمته بتيسير إسلام
قومهم ، حيث رخص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم .
وقيل : أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أن لا
يقاتلوه ولا يعينوا عليه . وعن مجاهد : هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا . وقيل :
هم النساء والصبيان . وقيل :
( 1161 ) قدمت على أسماء بنت أبي بكر أمّها قتيلة بنت عبد العزى وهي مشركة بهدايا
فلم تقبلها ولم تأذن لها في الدخول ، فنزلت ، فأمرها رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها . وعن قتادة : نسختها
آية القتال ) وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ ( وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم .
وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم ،
مترجمة عن حال مسلم يجترىء على ظلم أخيه المسلم .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ
فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ
وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ
تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْألُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْألُواْ
مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ
فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَاتَّقُواْ
اللَّهَ الَّذِى أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ
" صفحة رقم 516 "
(
الممتحنة : ( 10 - 11 ) يا أيها الذين . . . . .
) إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ ( سماهنّ مؤمنات لتصديقهنّ بألسنتهنّ ونطقهنّ
بكلمة الشهادة ولم يظهر منهنّ ما ينافي ذلك . أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهم
بالامتحان ) فَامْتَحِنُوهُنَّ ( فابتلوهن بالحلف والنظر في الأمارات ليغلب على
ظنونكم صدق إيمانهن .
( 1162 ) وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول للممتحنة : ( بالله الذي لا
إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج ، بالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، بالله ما
خرجت التماس دنيا ، بالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله ) ) اللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِهِنَّ ( منكم لأنكم لا تكسبون فيه علماً تطمئن معه نفوسكم ، وإن
استحلفتموهن ورزتم أحوالهن ، وعند الله حقيقة العلم به ) فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِنَاتٍ ( العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات )
فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ( فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين ،
لأنه لا حل بين المؤمنة والمشرك ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( وأعطوا
أزواجهنّ مثل ما دفعوا إليهنّ من
" صفحة رقم 517 "
المهور ، وذلك :
( 1163 ) أن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة ردّ إليهم ، ومن أتى
منكم مكة لم يردّ إليكم ؛ وكتبوا بذلك كتاباً وختموه ، فجاءت سبيعة بنت الحرث
الأسلمية مسلمة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافر
المخزومي . وقيل صيفي بن الراهب فقال : يا محمد ، أردد عليّ امرأتي فإنك قد شرطت
لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزلت بياناً لأن الشرط
إنما كان في الرجال دون النساء . وعن الضحاك : كان بين رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) وبين المشركين عهد : أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا
، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن تردّ على زوجها الذي أنفق عليها ، وللنبي ( صلى
الله عليه وسلم ) من الشرط مثل ذلك . وعن قتادة : ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد
براءة ، فاستحلفها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحلفت ، فأعطى زوجها ما أنفق
وتزوّجها عمر . فإن قلت : كيف سمى الظنّ علماً في قوله : ) فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ ( ؟ قلت : إيذاناً بأن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد
والقياس جار مجرى العلم ، وأن صاحبه غير داخل في قوله : ) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( ( الإسراء : 36 ) فإن قلت : فما فائدة قوله : ) اللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ( وذلك معلوم لا شبهة فيه ؟ قلت : فائدته بيان أن لا
سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن . فإنّ
ذلك مما استأثر به علام الغيوب ، وأن ما يؤدي إليه الامتحان من العلم كاف في ذلك ،
وأن تكليفكم لا يعدوه ؛ ثم نفى عنهم الجناح في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا آتوهنّ
أجورهنّ أي مهورهنّ ، لأن المهر أجر البضع ، ولا يخلو إما أن يراد بها ما كان يدفع
إليهنّ ليدفعنه إلى أزواجهنّ فيشترط في إباحة تزوجهنّ تقديم أدائه ، وإما أن يراد
أن ذلك إذا دفع إليهنّ على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس ، وإما أن
يبين لهم أن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق ، وبه احتج
أبو حنيفة على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً أو بذمة وبقي الآخر
حربياً : وقعت الفرقة ، ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها إلا أن تكون
حاملاً ) وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ( والعصمة ما يعتصم به من عقد
وسبب ، يعني : إياكم وإياهنّ ، ولا تكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية . قال
ابن عباس : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدنّ بها من نسائه ، لأن اختلاف
الدارين قطع عصمتها منه . وعن النخعي : هي المسلمة تلحق بدار
" صفحة رقم 518 "
الحر فتكفر . وعن مجاهد : أمرهم بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن ) ياأَيُّهَا
الَّذِينَ ءامَنُواْ ( من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ
ءامَنُواْ ( من مهور نسائهم المهاجرات . وقرىء : ( ولا تمسكوا ) بالتخفيف . ولا
تمسكوا بالتثقيل . ولا تمسكوا . أي : ولا تتمسكوا ) ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ( يعني
جميع ما ذكر في هذه الآية ) يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ( كلام مستأنف . أو حال من حكم
الله على حذف الضمير ، أي : يحكمه الله . أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة . روى
أنها لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى
أزواجهنّ المشركين ، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئاً من مهور الكوافر إلى أزواجهن
المسلمين ، فنزل قول : ) وَإِن فَاتَكُمْ ( وإن سبقكم وانفلت منكم ) شَىْءٌ ( من
أزواجكم : أحد منهن إلى الكفار ، وهو في قراءة ابن مسعود : أحد . فإن قلت : هل
لإيقاع شيء في هذا الموقع فائدة ؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه : أن لا يغادر شيء من
هذا الجنس وإن قل وحقر ، غير معوض منه تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه )
فَعَاقَبْتُمْ ( من العقبة وهي التوبة : شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من
أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه
كما يتعاقب في الركوب وغيره . ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر ، فآتوا من
فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة ، ولا تؤتوه زوجها الكافر ،
وهكذا عن الزهري : يعطي من صداق من لحق بهم . وقرىء : ( فأعقبتم ) فعقبتم بالتشديد
. فعقبتم بالتخفيف ، بفتح القاف وكسرها ، فمعنى أعقبتم : دخلتم في العقبة ، وعقبتم
: من عقبه إذا قفاه ، لأنّ كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم
بالتخفيف ، يقال : عقبه يعقبه . وعقبتم نحو تبعتم . وقال الزجاج : فعاقبتم
فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، والذي ذهبت زوجته كان يعطي من الغنيمة
المهر ، وفسر غيرها من القراآت فكانت العقبى لكم ، أي : فكانت الغلبة لكم حتى
غنمتم . وقيل : جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن
الإسلام ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة
بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة ، وبروع بنت عقبة كانت تحت
شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت
أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص . وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر ، فأعطاهم رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) مهور نسائهم من الغنيمة .
" صفحة رقم 519 "
) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن
لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ
يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ
أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (
الممتحنة : ( 12 ) يا أيها النبي . . . . .
) وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ ( وقرىء : ( يقتلن ) ، بالتشديد ، يريد : وأد
البنات ) وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ ( كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك . كنى
بالبهتان المفتري بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً ، لأنّ
بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين ) وَلاَ
يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ ( فيما تأمرهن به من المحسنات وتنهاهنّ عنه من المقبحات
. وقيل : كل ما وافق طاعة الله فهو معروف . فإن قلت : لو اقتصر على قوله : ) وَلاَ
يَعْصِينَكَ ( فقد علم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يأمر إلا بمعروف ؟
قلت : نبه بذلك على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي
والاجتناب . وروي :
( 1164 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة
الرجال : أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أسفل منه
يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً
من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعرفها فقال عليه الصلاة والسلام : (
أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً فرفعت هند رأسها وقالت : والله لقد عبدنا
الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على
الإسلام والجهاد ، فقال عليه الصلاة والسلام : و ( لا يسرقن ) فقالت : إنّ أبا
سفيان رجل شحيح ، وإني أصبت من ماله هنات ، فما أدري ، أتحل ليأم لا . فقال أبو
سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) وعرفها فقال لها : وإنك لهند بنت عتبة ؟ قالت : نعم فاعف عما سلف
يا نبي الله عفا الله عنك ، فقال : ( ولا يزنين ) : فقالت : أو تزني الحرة وفي
رواية : ما زنت منهن امرأة قط ، فقال عليه الصلاة والسلام ( ولا يقتلن أولادهن )
فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بنأبي
سفيان قد قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى
" صفحة رقم 520 "
استلقى ، وتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( لا يأتين ببهتان )
فقالت : والله إنّ البهتان لأمر قبيح ، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ،
فقال : ( ولا يعصينك في معروف ) فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن
نعصيك في شيء .
وقيل في كيفية المبايعة :
( 1165 ) دعا بقدح من ماء فعمس فيه يده ، ثم غمسن أيديهن . وقيل :
( 1166 ) صافحهن وكان على يده ثوب قطري . وقيل :
( 1167 ) كان عمر يصافحهن عنه .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاٌّ خِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ
أَصْحَابِ الْقُبُورِ (
الممتحنة : ( 13 ) يا أيها الذين . . . . .
روي أنّ بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم . فقيل
5" صفحة رقم 521 "
لهم ) لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً ( مغضوباً عليهم ) قَدْ يَئِسُواْ ( من أن يكون
لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهم يعلمون أنه
الرسول المنعوت في التوراة ) كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ ( من موتاهم أن يبعثوا
ويرجعوا أحياء . وقيل : ) مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( بيان للكفار ، أي : كما يئس
الكفار الذين قبروا من خير الآخرة ؛ لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1168 ) ( من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة .
" صفحة رقم 522 "
( سورة الصف )
مدنية ، وآياتها 14 ( نزلت بعد التغابن )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ
مَّرْصُوصٌ (
الصف : ( 1 ) سبح لله ما . . . . .
) لِمَ ( هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف
الجر في قولك : بم ، وفيم ، ومم ، وعم ، وإلام ، وعلام . وإنما حذفت الألف ؛ لأنّ
ما والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالهما كثيراً في كلام المستفهم ؛ وقد جاء استعمال
الأصل قليلاً والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان . ومن أسكن في الوصل فلإجرائه
مجرى الوقف ، كما سمع : ثلاثة ، أربعة : بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ،
وهذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الموعد . وروي أنّ المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال
: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ،
فدلهم الله تعالى على الجهاد في سبيله ، فولوا يوم أحد فعيرهم . وقيل : لما أخبر
الله بثواب شهداء بدر قالوا : لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ، ففروا يوم أحد
ولم يفوا . وقيل : كان الرجل يقول : قتلت ولم يقتل ، وطعنت ولم يطعن ، وضربت ولم
يضرب ، وصبرت ولم يصبر . وقيل :
( 1169 ) كان قد أذى المسلمين رجل ونكى فيهم ، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر ، فقال
عمر لصهيب : أخبر النبي عليه السلام أنك قتلته ، فقال : إنما قتلته لله
" صفحة رقم 523 "
ولرسوله ، فقال عمر : يا رسول الله قتله صهيب ، قال : كذلك يا أبا يحيى ؟ قال :
نعم ، فنزلت في المنتحل . وعن الحسن : نزلت في المنافقين . ونداؤهم بالإيمان :
تهكم بهم وبإيمانهم ؛ هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه قصد في ) كَبُرَ ( التعجب
من غير لفظه كقوله : غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَوَاءُهَا ;
ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين ؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء
خارج عن نظائره وأشكاله ، وأسند إلى أن تقولوا . ونصب ) مَقْتاً ( على تفسيره ،
دلالة على أنّ قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، لفرط تمكن المقت منه ؛
واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه . ومنه قيل : نكاح المقت ، للعقد على
الرابة ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيراً ، حتى جعل أشده وأفحشه . و ) عَندَ
اللَّهِ ( أبلغ من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته
وانزاحت عنه الشكوك . وعن بعض السلف أنه قيل له : حدّثنا ، فسكت ثم قيل له حدثنا ؛
فقال : تأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله . في قوله : ) إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ ( عقيب ذكر مقت المخلف : دليل على
أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار فلم يفوا . وقرأ زيد بن
علي ( يقاتلون ) بفتح التاء . وقرىء : ( يقتلون ) ) صَفّاً ( صافين أنفسهم أو
مصفوفين ) كَأَنَّهُم ( في تراصهم من غير فرجة ولا خلل ) بُنْيَانٌ ( رص بعضه إلى
بعض ورصف . وقيل : يجوز أن يريد استواء
" صفحة رقم 524 "
نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص . وعن بعضهم : فيه
دليل على فضل القتال راجلاً ؛ لأنّ الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة . وقوله : )
صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ ( حالان متداخلتان .
) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ
أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (
الصف : ( 5 ) وإذ قال موسى . . . . .
) وَإِذْ ( منصوب بإضمار اذكر . أو : وحين قال لهم ما قال كان كذا وكذا ) تُؤْذُونَنِى
( كانوا يؤذونه بأنواع الأذى من انتقاصه وعيبه في نفسه ، وجحود آياته ، وعصيانه
فيما تعود إليهم منافعه ، وعبادتهم البقر ، وطلبهم رؤية الله جهرة ، والتكذيب الذي
هو تضييع حق الله وحقه ) وَقَد تَّعْلَمُونَ ( في موضع الحال ، أي : تؤذونني
عالمين علماً يقيناً ) إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ( وقضية علمكم بذلك
وموجبه تعظيمي وتوقيري ، لا أن تؤذوني وتستهينوا بي ؛ لأن من عرف الله وعظمته عظم
رسوله ، علماً بأن تعظيمه في تعظيم رسوله ، ولأنّ من آذاه كان وعيد الله لاحقاً به
) فَلَمَّا زَاغُواْ ( عن الحق ) أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ( بأن منع ألطافه
عنهم ) وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( لا يلطف بهم
" صفحة رقم 525 "
لأنهم ليسوا من أهل اللطف . فإن قلت : ما معنى ( قد ) في قوله ) قَدْ تَعْلَمُونَ
( ؟ قلت : معناه التوكيد كأنه قال : وتعلمون علماً يقيناً لا شبهة لكم فيه .
) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنِّى رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم
بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (
الصف : ( 6 ) وإذ قال عيسى . . . . .
قيل : إنما قال : ( يا بني إسرائيل ) ولم يقل : يا قوم كما قال موسى ؛ لأنه لا نسب
له فيهم فيكونوا قومه . والمعنى : أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني ) مِنَ
التَوْرَاةِ ( وفي حال تبشيري ) بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى ( يعني : أن ديني
التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر . وقرىء : ( من بعدي ) ، بسكون
الياء وفتحها ، والخليل وسيبويه يختاران الفتح . وعن كعب : أن الحواريين قالوا
لعيسى : يا روح الله ، هل بعدنا من أمّة ؟ قال : نعم أمّة أحمد حكماء علماء أبرار
أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله
منهم باليسير من العمل . فإن قلت : بم انتصب مصدقاً ومبشراً ؟ أبما في الرسول من
معنى الإرسال أم بإليكم ؟ قلت : بل بمعنى الإرسال ؛ لأن ) إِلَيْكُم ( صلة للرسول
، فلا يجوز أن تعمل شيئاً لأن حروف الجرّ لا تعمل بأنفسها ، ولكن بما فيها من معنى
الفعل ؛ فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل ، فمنأين تعمل ؟ وقرىء : ( هذا ساحر
مبين ) .
) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى
الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (
الصف : ( 7 ) ومن أظلم ممن . . . . .
وأي الناس أشد ظلماً ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي له فيه سعادة
الدارين ، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله بقوله لكلامه الذي هو
دعاء عباده إلى الحق : هذا سحر ، لأنّ السحر كذب وتمويه . وقرأ طلحة بن مصرف : (
وهو يدعي ) ، بمعنى دعاه وادّعاه ، نحو : لمسه والتمسه . وعنه : يدّعي ، بمعنى
يدعو ، وهو الله عز وجل .
) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ
نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (
الصف : ( 8 ) يريدون ليطفئوا نور . . . . .
أصله ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ ( ( التوبة : 32 ) كما جاء في سورة براءة ،
وكأن هذه اللام زيدت مع
" صفحة رقم 526 "
فعل الإرادة تأكيداً له ، لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لإكرامك ، كما
زيدت اللام في : لا أبالك ، تأكيداً لمعنى الإضافة في : لا أباك ، وإطفاء نور الله
بأفواههم : تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن : هذا سحر ، مثلت
حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه ( والله متمّ نوره ) أي متمّ الحق
ومبلغه غايته . وقرىء : بالإضافة .
) هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (
الصف : ( 9 ) هو الذي أرسل . . . . .
) وَدِينِ الْحَقّ ( الملة الحنفية ) لِيُظْهِرَهُ ( ليعليه ) عَلَى الدّينِ
كُلّهِ ( على جميع الأديان المخالفة له ؛ ولعمري لقد فعل ، فما بقي دين من الأديان
إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام . وعن مجاهد : إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا
دين الإسلام . وقرىء : ( أرسل نبيه ) .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم
مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى
سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى
مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ
قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (
الصف : ( 10 ) يا أيها الذين . . . . .
) تُنجِيكُم ( قرىء مخففاً ومثقلاً . و ) تُؤْمِنُونَ ( استئناف ، كأنهم قالوا :
كيف : نعمل ؟ فقال : تؤمنون ، وهو خبر في معنى الأمر ؛ ولهذا أجيب بقوله : )
لِيَغْفِرَ لَكُمْ ( وتدل عليه قراءة ابن مسعود : آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا .
فإن قلت : لم جيء به على
" صفحة رقم 527 "
لفظ الخبر ؟ قلت : للإيذان بوجوب الامتثال ، وكأنه امتثل فهو يخبر عن إيمان وجهاد
موجودين . ونظيره قول الداعي : غفر الله لك ، ويغفر الله لك : جعلت المغفرة لقوّة
الرجاء ، كأنها كانت ووجدت . فإن قلت : هل لقول القراء أنه جواب ) هَلْ
أَدُلُّكُمْ ( وجه ؟ قلت : وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة ، والتجارة مفسرة
بالإيمان والجهاد ؛ فكأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم ؟ فإن قلت :
فما وجه قراءة زيد بن علي رضي الله عنهما : ) تُؤْمِنُواْ ( ؟ قلت : وجهها أن تكون
على إضمار لام الأمر ، كقوله : مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْس
إذَا مَا خفت مِنْ أَمْرٍ قَبَالاَ
وعن ابن عباس أنهم قالوا : لو نعم أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، فنزلت هذه الآية
، فمكثوا ما شاء الله يقولون : ليتنا نعلم ما هي ، فدلهم الله عليها بقوله : )
مَّا تُؤْمِنُونَ ( وهذا دليل على أن ) تُؤْمِنُونَ ( كلام مستأنف ، وعلى أنّ
الأمر الوارد على النفوس بعد تشوّف وتطلع منها إليه : أوقع فيها وأقرب من قبولها
له مما فوجئت به ) ذَلِكُمْ ( يعني ما ذكر من الإيمان والجهاد ) خَيْرٌ لَّكُمْ (
من أموالكم وأنفسكم . فإن قلت : ما معنى قوله : ) إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ؟ قلت
: معناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيراً لكم حينئذٍ ؛ لأنكم إذا علمتم ذلك
واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم ، فتخلصون
وتفلحون ) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ( ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة
والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم ، ثم فسرها بقوله : ) نَصْرٌ مّن
اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ( أي عاجل وهو فتح مكة . وقال الحسن : فتح فارس والروم .
وفي ) تُحِبُّونَهَا ( شيء من التوبيخ على محبة العاجل . فإن قلت : علام عطف قوله
) وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ؟ قلت : على ) تُؤْمِنُونَ ( لأنه في معنى الأمر ،
كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك .
فإن قلت : لم نصب من قرأ نصراً من الله وفتحاً قريباً ؟ قلت : يجوز أن ينصب على
الاختصاص . أو على تنصرون نصراً ، ويفتح
" صفحة رقم 528 "
لكم فتحاً . أو على : يغفر لكم ويدخلكم جنات ، ويؤتكم أخرى نصراً من الله وفتحاً .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَأامَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِى
إِسْرَاءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ (
الصف : ( 14 ) يا أيها الذين . . . . .
قرىء : ( كونوا أنصار الله وأنصاراً لله ) . وقرأ ابن مسعود : ( كونوا أنتم أنصار
الله ) . وفيه زيادة حتم للنصرة عليهم . فإن قلت : ما وجه صحة التشبيه وظاهره
تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى صلوات الله عليه : ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ
( ؟ قلت : التشبيه محمول على المعنى ، وعليه يصح . والمراد : كونوا أنصار الله كما
الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ( . فإن قلت :
ما معنى قوله : ) مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ( ؟ قلت : يجب أن يكون معناه
مطابقاً لجواب الحواريين ) نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( والذي يطابقه أن يكون
المعنى : من جندي متوجهاً إلى نصرة الله ، وإضافة ) أَنصَارِى ( خلاف إضافة )
أَنْصَارُ اللَّهِ ( فإنّ معنى ) نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( : نحن الذين ينصرون
الله . ومعنى ) مَنْ أَنصَارِى ( من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة
الله ؛ ولا يصح أن يكون معناه : من ينصرني مع الله ؛ لأنه لا يطابق الجواب . والدليل
عليه : قراءة من قرأ : ( من أنصار الله ) . والحواريون أصفياؤه وهم أوّل من آمن به
وكانوا اثنى عشر رجلاً ؛ وحواري الرجل : صفيه وخلصانه من الحوار وهو البياض الخالص
. والحوّاري : الدرمك . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1170 ) ( الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي ) وقيل : كانوا قصارين يحوّرون الثياب
يبيضونها . ونظير الحواري في زنته : الحوالي : الكثير الحيل ) يأَيُّهَا الَّذِينَ
( منهم بعيسى ) وَكَفَرَت ( به ) طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا ( مؤمنيهم على كفارهم ،
فظهروا عليهم . وعن زيد بن علي : كان ظهورهم بالحجة .
" صفحة رقم 529 "
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1171 ) ( من قرأ سورة الصف كان عيسى مصلياً عليه مستغفراً له ما دام في الدنيا
وهو يوم القيامة رفيقه ) .
" صفحة رقم 530 "
( سورة الجمعة )
مدنية ، وآياتها 11 ( نزلت بعد الصف )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ الْمَلِكِ
الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ
وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(
الجمعة : ( 1 ) يسبح لله ما . . . . .
قرئت صفات الله عزّ وعلا بالرفع على المدح ، كأنه قيل : هو الملك القدوس ، ولو
قرئت منصوبة لكان وجها ، كقول العرب : الحمد لله أهل الحمد . الأمي : منسوب إلى
أمّة العرب ، لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم . وقيل : بدأت
الكتابة بالطائف ، أخذوها من أهل الحيرة ، وأهل الحيرة من أهل الأنبار . ومعنى )
بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ ( بعث رجلاً أمياً في قوم أميين ، كما
جاء في حديث شعياء : أني أبعث أعمى في عميان ، وأميّاً في أميين وقيل منهم ، كقوله
تعالى : ) مّنْ أَنفُسِكُمْ ( ( التوبة : 128 ) يعلمون نسبه وأحواله . وقرىء : (
في الأمين ) ، بحذف ياءي النسب ) يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ ( يقرؤها عليهم مع
كونه أميّاً مثلهم لم تعهد منه قراءة ولم يعرف بتعلم ، وقراءة أمي بغير تعلم أية
بينة ) وَيُزَكّيهِمْ ( ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية ) وَيُعَلّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ( القرآن والسنة . وإن في ) وَإِن كَانُواْ ( هي المخففة
من الثقيلة واللام دليل عليها ، أي : كانوا في ضلال لا ترى ضلالاً أعظم منه )
وَءاخَرِينَ ( مجرور عطف على الأميين ، يعني : أنه بعثه في الأميين الذين على عهده
، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم ، وهم الذين بعد الصحابة
رضي الله عنهم . وقيل :
" صفحة رقم 531 "
لما نزلت قيل : من هم يا رسول الله ، فوضع يده على سلمان ثم قال : ( لو كان
الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء ) وقيل : هم الذين يأتون من بعدهم إلى
يوم القيامة ، ويجوز أن ينتصب عطفاً على المنصوب في ) وَيُعَلّمُهُمُ ( أي :
يعلمهم ويعلم آخرين ؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستنداً إلى
أوّله ، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه ) وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( في
تمكينه رجلاً أميّاً من ذلك الأمر العظيم ، وتأييده عليه ، واختياره إياه من بين
كافة البشر ) ذَلِكَ ( الفضل الذي أعطاه محمداً وهو أن يكون نبي أبناء عصره ، ونبي
أبناء العصور الغوابر . هو ) فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ( إعطاءه
وتقتضيه حكمته .
) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ
بِأايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (
الجمعة : ( 5 ) مثل الذين حملوا . . . . .
شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقرّاؤها وحفاظ ما فيها ، ثم إنهم غير عاملين بها
ولا منتفعين بآياتها ، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
والبشارة به ولم يؤمنوا به بالحمار حمل أسفاراً ، أي كتباً كباراً من كتب العلم ،
فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب . وكل من علم
ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ، وبئس المثل ) بِئْسَ ( مثلاً ) مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ ( وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله
الدالة على صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . ومعنى : ) حُمّلُواْ
التَّوْرَاةَ ( : كلفوا علمها والعمل بها ، ) ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ( ثم لم
يعملوا بها ، فكأنهم لم يحملوها . وقرىء : ( حملوا التوراة ) ، أي حملوها ثم لم
يحملوها في الحقيقة لفقد العمل . وقرىء : ( يحمل الأسفار ) فإن قلت : ( يحمل ) ما
محله ؟ قلت : النصب على الحال ، أو الجر على الوصف ؛ لأنّ الحمار كاللئيم في قوله
: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ;
) قُلْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ
لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ
يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ
مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 7 )
الجمعة : ( 6 ) قل يا أيها . . . . .
" صفحة رقم 532 "
هاد يهود : إذا تهود ) أَوْلِيَاء لِلَّهِ ( كانوا يقولون . نحن أبناء الله
وأحباؤه ، أي : إن كان قولكم حقاً وكنتم على ثقة ) فَتَمَنَّوُاْ ( عى الله أن
يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه ، ثم قال : ) وَلاَ
يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً ( بسبب ما قدّموا من الكفر ، وقد قال لهم رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) :
( 1172 ) ( والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه ) فلولا أنهم كانوا
موقنين بصدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لتمنوا ، ولكنهم علموا أنهم لو
تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد ، فما تمالك أحد منهم أن يتمنى ؛ وهي إحدى
المعجزات . وقرىء : ( فتمنوا الموت ) بكسر الواو ، تشبيهاً بلو استطعنا . ولا فرق
بين ( لا ) و ( لن ) في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل ، إلا أن في ( لن )
تأكيداً وتشديداً ليس في ( لا ) فأتى مرّة بلفظ التأكيد ) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ ( (
البقرة : 95 ) ومرّة بغير لفظه ) وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ ( ( الجمعة : 7 ) ثم قيل
لهم ) إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ ( ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن
تؤخذوا بوبال كفركم ؛ لا تفوتونه وهو ملاقيكم لا محالة ) ثُمَّ تُرَدُّونَ ( إلى
الله فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه : إنه
ملاقيكم . وفي قراءة ابن مسعود : تفرون منه ملاقيكم ، وهي ظاهرة . وأما التي
بالفاء ، فلتضمن الذي معنى الشرط ، وقد جعل ) إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ
مِنْهُ ( كلاماً برأسه في قراءة زيد ، أي : أنّ الموت هو الشيء الذي تفرّون منه ،
ثم استؤنف : إنه ملاقيكم .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ مِن يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ
فَانتَشِرُواْ فِى الاٌّ رْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ
اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (
الجمعة : ( 9 ) يا أيها الذين . . . . .
(يوم الجمعة ) يوم الفوج المجموع ، كقولهم : ضحكة ، للمضحوك منه . و ( يوم الجمعة
) ، بفتح الميم : يوم الوقت الجامع ، كقولهم : ضحكة ، ولعنة ، ولعبة ؛ ويوم الجمعة
تثقيل للجمعة ، كما قيل : عسرة في عسرة . وقرىء : بهن جميعاً . فإن قلت : من في
قوله : ) مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ ( ما هي ؟ قلت : هي بيان لإذا وتفسير له . والنداء
: الأذان . وقالوا : المراد به الأذان عند قعود الإمام على المنبر ، وقد :
" صفحة رقم 533 "
( 1173 ) كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مؤذن واحد ، فكان إذا جلس على
المنبر أذن على باب المسجد ؛ فإذا نزل أقام للصلاة ، ثم كان أبو بكر وعمر رضي الله
عنهما على ذلك ؛ حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذناً آخر ،
فأمر بالتأذين الأوّل على داره التي تسمى زوراء ، فإذا جلس على المنبر : أذن
المؤذن الثاني ، فإذا نزل أقام للصلاة ، فلم يعب ذلك عليه . وقيل : أول من سماها (
جمعة ) كعب بن لؤي ، وكان يقال لها : العروبة . وقيل :
( 1174 ) إنّ الأنصار قالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصارى مثل
ذلك ؛ فهلموا نجعل لنا يوم نجتمع فيه فنذكر الله فيه ونصلى . فقالوا : يوم السبت
لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوا يوم العروبة فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة
فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكرهم ، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، فأنزل الله آية
الجمعة ، فهي أوّل جمعة ، كانت في الإسلام وأما أوّل جمعة جمعها رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ، فهي :
( 1175 ) أنه لما قدم المدينة مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف ، وأقام بها
يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة
عامداً المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، فخطب
وصلى الجمعة . وعن بعضهم : قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث : افتخروا بأنهم
أولياء الله وأحباؤه ، فكذبهم في قوله : ) فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ
صَادِقِينَ ( ( الجمعة : 6 ) وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار
يحمل أسفاراً ؛ وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة . وعن النبي
( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 534 "
:
( 1176 ) ( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ،
وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تقوم الساعة ، وهو عند الله يوم المزيد . وعنه عليه
السلام :
( 1177 ) ( أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء وقال : هذه الجمعة يعرضها عليك ربك
لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك ، وهو سيد الأيام عندنا ، ونحن ندعوه إلى الآخرة
يوم المزيد ) . وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1178 ) ( إنّ لله تعالى في كل جمعة ستمائة ألف عتيق من النار . وعن كعب : إنّ
الله فضل من البلدان : مكة ، ومن الشهور : رمضان ، ومن الأيام : الجمعة . وقال
عليه الصلاة والسلام :
( 1179 ) ( ومن مات يوم الجمعة
" صفحة رقم 535 "
قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب ، يكتبون
الأوِّل فالأوَّل على مراتبهم ) وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر
مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج . وقيل : أوّل بدعة أحدثت في الإسلام :
ترك البكور إلى الجمعة . وعن ابن مسعود : أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه ، فاغتم
وأخذ يعاتب نفسه يقول : أراك رابع أربعة وما رابع أربعة بسعيد . ولا تقام الجمعة
عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا في مصر جامع ، لقوله عليه السلام :
( 1181 ) ( لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع ) والمصر الجامع :
ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام ، ومن شروطها الإمام أو من يقوم مقامه ،
لقوله عليه السلام :
( 1182 ) ( فمن تركها وله إمام عادل أو جائر . . . الحديث ) وقوله ( صلى الله عليه
وسلم )
" صفحة رقم 536 "
:
( 1183 ) ( أربع إلى الولاة : الفيء ، والصدقات ، والحدود ، والجمعات ) . فإن أمّ
رجل بغير إذن الإمام أو من ولاه من قاض أو صاحب شرطة : لم يجز ؛ فإن لم يكن
الاستئذان فاجتمعوا على واحد فصلى بهم : جاز ، وهي تنعقد بثلاثة سوى الإمام . وعند
الشافعي بأربعين . ولا جمعة على المسافرين والعبيد والنساء والمرضى والزمني ، ولا
على الأعمى عند أبي حنيفة ، ولا على الشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد . وقرأ عمر وابن
عباس وابن مسعود وغيرهم : ( فامضوا ) . وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقرأ :
( فاسعوا ) . فقال : من أقرأك هذا ؟ قال أبيّ بن كعب ، فقال : لا يزال يقرأ
بالمنسوخ ، لو كانت ) فَاسْعَوْاْ ( لسعيت حتى يسقط ردائي . وقيل : المراد بالسعي
القصد دون العدو ، والسعي : التصرف في كل عمل . ومنه قوله تعالى : ) فَلَمَّا
بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ ( ( الصافات : 102 ) ، ) وَأَنَّهُ لَّيْسَ لِلإنسَانِ
إِلاَّ مَا سَعَى ( ( النجم : 39 ) وعن الحسن : ليس السعي على الأقدام ، ولكنه على
النيات والقلوب . وذكر محمد بن الحسن رحمه الله في موطئه : أن عمر سمع الإقامة وهو
بالبقيع فأسرع المشي . قال محمد : وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه ) إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ ( إلى الخطبة والصلاة ، ولتسمية الله الخطبة ذكراً له قال أبو حنيفة رحمه
الله : إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكراً لله كقوله : الحمد لله ، سبحان الله
: جاز . وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال : الحمد لله وأرتج عليه ، فقال : إن أبا
بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً ، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى
إمام قوّال ، وستأتيكم الخطب ، ثم
" صفحة رقم 537 "
نزل ، وكان ذلك بحضرة الصحابة ولم ينكر عليه أحد . وعند صاحبيه والشافعي : لا بد
من كلام يسمى خطبة . فإن قلت : كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها ذكر غير الله ؟
قلت : ما كان من ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والثناء عليه وعلى خلفائه
الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله ، فأمّا ما عدا
ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم ، وهم أحقاء بعكس ذلك ؛ فمن
ذكر الشيطان وهو من ذكر الله على مراحل ، وإذا قال المنصت للخطبة لصاحبه ( صه )
فقد لغا ، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لاغياً ، نعوذ بالله من غربة الإسلام
ونكد الأيام . أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا ، وإنما خص البيع
من بينها لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم ، وينصبون إلى
المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا انتفخ النهار
وتعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة ، وحينئذٍ تحرّ التجارة ويتكاثر البيع والشراء ،
فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد ، قيل لهم :
بادروا تجارة الآخرة ، واتركوا تجارة الدنيا ، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء
أنفع منه وأربح ) وَذَرُواْ الْبَيْعَ ( الذي نفعه يسير وربحه مقارب . فإن قلت :
فإذا كان البيع في هذا الوقت مأموراً بتركه محرماً ، فهل هو فاسد ؟ قلت : عامّة
العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع . قالوا : لأنّ البيع لم يحرم لعينه ، ولكن
لما فيه من الذهول عن الواجب ، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب ،
والوضوء بماء مغصوب ، وعن بعض الناس : أنه فاسد . ثم أطلق لهم ما حظر عليهم بعد
قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح ، مع التوصية بإكثار الذكر ، وأن لا يلهيهم
شيء من تجارة ولا غيرها عنه ، وأن تكون هممهم
" صفحة رقم 538 "
في جميع أحوالهم وأوقاتهم موكلة به لا ينفضون عنه ، لأنّ فلاحهم فيه وفوزهم منوط
به : وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ، إنما هو عيادة المرضى وحضور
الجنائز وزيارة أخ في الله : وعن الحسن وسعيد بن المسيب : طلب العلم ، وقيل : صلاة
التطوّع : وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا نظراً
في هذه الآية .
) وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ
قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَازِقِينَ (
الجمعة : ( 11 ) وإذا رأوا تجارة . . . . .
روي :
( 1184 ) أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من
زيت الشام والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب يوم الجمعة ؛ فقاموا إليه ، خشوا أن
يسبقوا إليه ، فما بقي معه إلا يسير . قيل : ثمانية ، وأحد عشر ، واثنا عشر ،
وأربعون ، فقال عليه السلام :
" صفحة رقم 539 "
( والذي نفس محمد بيده ، لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً ) وكانوا
إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق ، فهو المراد باللهو : وعن قتادة :
فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل مقدم عير . فإن قلت : فإن افتق تفرق الناس عن الإمام في
صلاة الجمعة كيف يصنع ؟ قلت : إن بقي وحده أو مع أقل من ثلاثة ، فعند أبي حنيفة :
يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع . وعند صاحبيه : إذا كبر وهم معه مضى فيها
. وعند زفر : إذا نفروا قبل التشهد بطلت . فإن قلت : كيف قال : ) إِلَيْهَا ( وقد
ذكر شيئين ؟ قلت : تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهوا انفضوا إليه ؛
فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، وكذلك قراءة من قرأ : ( انفضوا إليه ) . وقراءة
من قرأ : ( لهوا أو تجارة انفضوا إليها ) وقرىء : ( إليهما ) .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1185 ) ( من قرأ سورة الجمعة أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة وبعدد
من لم يأتها في أمصار المسلمين ) .
" صفحة رقم 540 "
( سورة المنافقون )
مدنية ، وهي إحدى عشرة آية ( نزلت بعد الحج )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ
كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (
المنافقون : ( 1 ) إذا جاءك المنافقون . . . . .
أرادوا بقولهم : ) نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ( شهادة واطأت فيها قلوبهم
ألسنتهم . فقال الله عزّ وجلّ : قالوا ذلك ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ( أن الأمر كما
يدل عليه قولهم : إنك لرسول الله ، والله يشهد أنهم لكاذبون في قولهم : نشهد ؛
وادعائهم فيه المواطأة . أو إنهم لكاذبون فيه ، لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن
شهادة في الحقيقة ؛ فهم كاذبون في تسميته شهادة . أو أراد : والله يشهد إنهم
لكاذبون عند أنفسهم : لأنهم كانوا يعتقدون أنّ قولهم : ) إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
( كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه . فإن قلت : أي فائدة في قوله تعالى :
) وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ( ؟ قلت : لو قال : قالوا نشهد إنك
لرسول الله والله يشهد إنهم الكاذبون ، لكان يوهم أنّ قولهم هذا كذب ؛ فوسط بينهما
قوله : ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ( ؟ ليميط هذا الإيهام )
اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ( يجوز أن يراد أنّ قولهم نشهد إنك لرسول الله
يمين من أيمانهم الكاذبة ، لأنّ الشهادة تجري مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد
، يقول الرجل : أشهد وأشهد بالله ، وأعزم وأعزم بالله في موضع أقسم وأولى . وبه
استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن ( أشهد ) يمين . ويجوز أن يكون
" صفحة رقم 541 "
وصفاً للمنافقين في استجنانهم بالأيمان . وقرأ الحسن البصري : إيمانهم ، أي : ما
أظهروه من الإيمان بألسنتهم . ويعضده قوله تعالى : ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ
ثُمَّ كَفَرُوا ( . ) سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( من نفاقهم وصدهم الناس عن
سبيل الله . وفي ) سَآءَ ( معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين ) ذَلِكَ
( إشارة إلى قوله : ) سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( أي ذلك القول الشاهد عليهم
بأنهم أسوأ الناس أعمالا ( ب ) سبب ( أنهم آمنوا ثم كفروا ) أو إلى ما وصف من
حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان ، أي : ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم
كفروا ) فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( فجسروا على كل عظيمة . فإن قلت : المنافقون
لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم ، فما معنى قوله : ) ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ
( ؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : آمنوا ، أي : نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما
يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا : ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وتبين بما أطلع عليه
من قولهم : إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن حمير ، وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع
هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات . ونحوه قوله تعالى : ) يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ
إِسْلَامِهِمْ ( ( التوبة : 74 ) أي : وظهر كفرهم بعد أن أسلموا . ونحوه قوله
تعالى : ) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ( ( التوبة : 66
) والثاني آمنوا : أي نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم
استهزاء بالإسلام ، كقوله تعالى : ) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( (
البقرة : 14 ) إلى قوله تعالى : ) إِنَّمَا نَحْنُ ( ( البقرة : 14 ) والثالث : أن
يراد أهل الردة منهم . وقرىء : ( فطبع على
" صفحة رقم 542 "
قلوبهم ) ، وقرأ زيد بن علي : ( فطبع الله ) .
) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
(
المنافقون : ( 4 ) وإذا رأيتهم تعجبك . . . . .
كان عبد الله بن أبيّ رجلاً جسيماً صبيحاً ، فصيحاً ، ذلق اللسان وقوم من
المنافقين في مثل صفته ، وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) فيستندون فيه ، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ؛ فكان النبي (
صلى الله عليه وسلم ) ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم . فإن قلت : ما
معنى قوله : ) لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ( ؟ قلت : شبهوا في
استنادهم وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط ؛
ولأنّ الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما
دام متروكاً فارغاً غير منتفع به أسند إلى الحائط ، فشبهوا به في عدم الانتفاع .
ويجوز أن يراد بالخشب المسندة : الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان ؛
شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم ؛ والخطاب في ) رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ (
لرسول الله ، أو لكل من يخاطب . وقرىء : ( يُسمع ) على البناء للمفعول ، وموضع )
كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ ( رفع على : هم كأنهم خشب . أو هو كلام مستأنف لا محل له .
وقرىء : ( خشب ) جمع خشبة ، كبدنة وبدن . وخشب ، كثمرة وثمر . وخشب ، كمدرة ومدر ،
وهي في قراءة ابن عباس . وعن اليزيدي أنه قال في ) خُشُبٌ ( : جمع خشباء ،
والخشباء : الخشبة التي دعر جوفها : شبهوا بها في نفاقهم وفساد بواطنهم )
عَلَيْهِمْ ( ثاني مفعولي يحسبون ، أي : يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم ،
لجبنهم وهلعهم وما في قلوبهم من الرعب : إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة
أو أنشدت ضالة : ظنوه
" صفحة رقم 543 "
إيقاعاً بهم . وقيل : كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح
دماءهم وأموالهم . ومنه أخذ الأخطل : مَا زِلْتَ تَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُم
خَيْلاَ تَكِرُّ عَلَيْهِمُ وَرِجَالاَ
يوقب على ) عَلَيْهِمْ ( ويبتدأ ) هُمُ الْعَدُوُّ ( أي الكاملون في العداوة :
لأنّ أعدى الأعداء العدوّ المداجي ، الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي )
فَاحْذَرْهُمْ ( ولا تغترر بظاهرهم . ويجوز أن يكون ) هُمُ الْعَدُوُّ ( المفعول
الثاني ، كما لو طرحت الضمير . فإن قلت : فحقه أن يقال : هي العدوّ . قلت : منظور
فيه إلى الخبر ، كما في ذكر في ) هَاذَا رَبّى ( ( الأنعام : 76 ) وأن يقدر مضاف
محذوف على : يحسبون كل أهل صحية ) قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ( دعاء عليهم ، وطلب من
ذاته أن يلعنهم ويخزيهم . أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك ) أَنَّى
يُؤْفَكُونَ ( كيف يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم .
) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ
لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَآءٌ
عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (
المنافقون : ( 5 - 6 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ ( عطفوها وأمالوها إعراضاً عن ذلك واستكباراً . وقرىء
بالتخفيف والتشديد للتكثير .
) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ
حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَلَاكِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الاٌّ عَزُّ مِنْهَا الاٌّ ذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (
المنافقون : ( 7 ) هم الذين يقولون . . . . .
روى :
( 1186 ) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين لقي بني المصطلق على
" صفحة رقم 544 "
المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم : ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر
يقود فرسه ، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبيّ ، واقتتلا ، فصرخ جهجاء : يا
للمهاجرين : وسنان : يا للأنصار ؛ فأعان جهجاها جعال من فقراء المهاجرين ولطم
سنانا . فقال عبد الله لجعال . وأنت هناك ، وقال : ما صحبنا محمداً إلا لنلطم ، والله
ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة
ليخرجنّ الأعز منها الأذل ، عنى بالأعز : نفسه ، وبالأذل ، رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ، ثم قال لقومه : ماذا فعلتم بأنفسكم ؟ أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم
أموالكم ؛ أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ،
ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فسمع بذلك
زيد بن أرقم وهو حدث ، فقال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمد في
عزّ من الرحمن وقوّة من المسلمين ، فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب ؛ فأخبر
زيد رسول الله فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله ، فقال : إذن
ترعد أنف كثيرة بيثرب . قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجري . فأمر به أنصارياً فقال :
فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه ؛ وقال عليه الصلاة والسلام لعبد
الله : أنت صاحب الكلام الذي بلغني ؟ قال : والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت
شيئاً من ذلك ، وإن زيداً لكاذب ، وهو قوله تعالى : ) اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ
جُنَّةً ( ( المنافقون : 2 ) فقال الحاضرون : يا رسول الله : شيخنا وكبيرنا لا
تصدق عليه كلام غلام ، عسى أن يكون قد وهم . وروى أن رسول الله قال له : لعلك غضبت
عليه ؛ قال : لا ؛ قال : فلعله أخطأ سمعك ؛ قال : لا ؛ قال : فلعله شبه عليك ؛ قال
: لا . فلما نزلت : لحق رسول الله زيداً من خلفه فعرك أذنه وقال : وفت أذنك يا
غلام ، إنّ الله قد صدقك وكذب المنافقين . ولما أراد عبد الله أن يدخل المدينة :
اعترضه ابنه حباب ، وهو عبد الله بن عبد الله غير رسول الله اسمه ، وقال : إنّ
حباباً اسم شيطان . وكان مخلصاً وقال : وراءك ، والله ؛ لا تدخلها حتى تقول رسول
الله الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيساً في يده حتى أمره رسول الله بتخليته . وروي
أنه قال له : لئن لم تقرّ لله ورسوله بالعز لأضربن عنقك ، فقال : ويحك ، أفاعل أنت
؟ قال : نعم . فلما رأى منه الجدّ قال :
" صفحة رقم 545 "
أشهد أنّ العز لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال رسول الله لابنه : ( جزاك الله عن
رسوله وعن المؤمنين خيراً ) ؛ فلما بان كذب عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد
، فاذهب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال :
أمرتموني أن أومن فآمنت ، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت ، فما بقي إلا أن أسجد
لمحمد ، فنزلت : ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ
اللَّهِ ( ( المنافقون : 5 ) ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات ) سَوَاء
عَلَيْهِمْ ( الاستغفار وعدمه ، لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم . أو
لأن الله لا يغفر لهم . وقرىء : ( استغفرت ) على حذف حرف الاستفهام ؛ لأنّ ( أم )
المعادلة تدل عليه . وقرأ أبو جعفر ( آستغفرت ) ، إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار
والبيان ، لا قلبا لهمزة الوصل ألفاً ، كما في : آلسحر ، وآلله ) يَنفَضُّواْ (
يتفرقوا . وقرىء : ( ينفضوا ) من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم . وحقيقته : حان لهم
أن ينفضوا من أودهم ) وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( وبيده
الأرزاق والقسم ، وفهو رازقهم منها ؛ وإن أبي أهل المدينة أن ينفقوا عليهم ، ولكن
عبد الله وأضرابه جاهلون ) لاَّ يَفْقَهُونَ ( ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان .
وقرىء : ( ليخرجنّ الأعز منها الأذل ) بفتح الياء . وليخرجنّ ، على البناء للمفعول
. قرأ الحسن وابن أبي عبلة : لنخرجنّ ، بالنون ونسب الأعز والأذل . ومعناه : خروج
الأذل . أو إخراج الأذل . أو مثل الأذل ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ ( الغلبة والقوّة ،
ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين ، وهم الأخصاء بذلك ، كما أنّ المذلة
والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين . وعن بعض الصالحات وكانت في هيثة
رثة ألست على الإسلام ؟ وهو العز الذي لا ذل معه ، والغني الذي لا فقر معه . وعن
الحسن بن علي رضي الله عنهما : أنّ رجلاً قال له : إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيهاً
؛ قال : ليس بتيه ، ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ
أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ (
المنافقون : ( 9 ) يا أيها الذين . . . . .
) لاَ تُلْهِكُمْ ( لا تشغلكم ) أَمْوالَكُمْ ( والتصرف فيها : والسعي في تدبير
أمرها : والتهالك على طلب النماء فيها بالتجارة والاغتلال ، وابتغاء النتاج
والتلذذ بها ؛ والاستمتاع بمنافعها ) وَلاَ أَوْلَادُكُمْ ( وسروركم بهم ، وشفقتكم
عليهم ، والقيام بمؤنهم ، وتسوية ما يصلحهم من معايشهم في حياتكم وبعد مماتكم ،
وقد عرفتم قدر منفعة الأموال والأولاد ، وأنه أهون شيء وأدونه في جنب ما عند الله
) عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( وإيثاره عليها ) وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ( يريد الشغل
بالدنيا عن الدين ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( في تجارتهم حيث
" صفحة رقم 546 "
باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني . وقيل : ذكر الله الصلوات الخمس . وعن الحسن
: جميع الفرائض ، كأنه قال : عن طاعة الله . وقيل : القرآن . وعن الكلبي : الجهاد
مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
) وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ
أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (
المنافقون : ( 10 - 11 ) وأنفقوا من ما . . . . .
) من ( في ) مَا رَزَقْنَاكُمْ ( للتبعيض ، والمراد : الإنفاق الواجب ) مّن قَبْلِ
أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ( من قبل أن يرى دلائل الموت ، ويعاين ما ييأس
معه من الإمهال ، ويضيق به الخناق ، ويتعذر عليه الإنفاق ويفوت وقت القبول ،
فيتحسر على المنع ، ويعضّ أنامله على فقد ما كان متمكناً منه . وعن ابن عباس رضي
الله عنه : تصدّقوا قبل أن ينزل عليك سلطان الموت ، فلا تقبل متمكناً منه . وعن
ابن عباس رضي الله عنه : تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت ، فلا تقبل توبة ،
ولا ينفع عمل . وعنه : ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي ، وإذا أطاق الحج أن
يحج من قبل أن يأتيه الموت ، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها . وعنه : أنها نزلت في ما
نعى الزكاة ، ووالله لو رأى خيراً لما سأل الرجعة ، فقيل له : أما تتقي الله ،
يسأل المؤمنون الكرة ؟ قال : نعم ، أنا أقرأ عليكم به قرآنا ، يعني : أنها نزلت في
المؤمنين وهم المخاطبون بها ، وكذا عن الحسن : ما من أحد لم يزك ولم يصم ولم يحج
إلا سأل الرجعة . وعن عكرمة أنها نزلت في أهل القبلة ) لَوْلا أَخَّرْتَنِى ( .
وقرىء : ( أخرتن ) ، يريد : هلا أخرت موتى ) إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ( إلى زمان قليل
) فَأَصَّدَّقَ ( وقرأ أبي فأتصدق على الأصل . وقرى : ( وأكن ) ، عطفاً على محل )
فَأَصَّدَّقَ ( كأنه قيل : إن أخرتني أصدّق وأكن . ومن قرأ : ( وأكون ) على النصب
، فعلى اللفظ . وقرأ عبيد بن عمير : ( وأكون ) ، على ( وأنا أكون ) عدة منه
بالصلاح ) وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ ( نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه
منافاة المنفي الحكمة . والمعنى : إنكم إذا علمتم أنّ تأخير الموت عن وقته مما لا
سبيل إليه . وأنه هاجم لا محالة ، وأنّ الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها ، من منع
واجب وغيره : لم تبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات والاستعداد للقاء
الله . وقرىء : ( تعملون ) ؛ بالتاء والياء . عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
:
( 1187 ) ( من قرأ سورة المنافقين بريء من النفاق ) .
" صفحة رقم 547 "
( سورة التغابن )
مختلف فيها ، وهي ثمان عشرة آية ( نزلت بعد التحريم )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ
فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ
وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ
(
التغابن : ( 1 ) يسبح لله ما . . . . .
قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل ، وذلك
لأنّ الملك على الحقيقة له ، لأنه مبديء كل شيء ومبدعه ، والقائم به ، والمهيمن
عليه ؛ وكذلك الحمد ، لأنّ أصول النعم وفروعها منه . وأما ملك غيره فتسليط منه
واسترعاء ، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده ) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ
فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ( يعني : فمنكم آت بالكفر وفاعل له ومنكم
آت بالإيمان وفاعل له ، كقوله تعالى : ( وجعلنا في ذريتهما النبوّة والكتاب ) ، (
فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) والدليل عليه قوله تعالى : ) وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( أي عالم بكفركم وإيمانكم
" صفحة رقم 548 "
اللذين هما من عملكم . والمعنى : هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق
والإيجاد عن العدم ، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح ، وتكونوا بأجمعكم عباداً
شاكرين ، فما فعلتم مع تمكنكم ، بل تشعبتم شعباً ، وتفرقتم أمماً ؛ فمنكم كافر
ومنكم مؤمن ، وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم . وقيل : هو الذي خلقكم
فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ، ومنكم مؤمن به . فإن قلت : نعم ، إن العباد هم
الفاعلون للكفر ، ولكن قد سبق في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر
ولم يختاروا غيره ، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم ؟ وهل خلق القبيح
وخلق فاعل القبيح إلا واحد ؟ وهل مثله إلا مثل من وهب سيفا باترا لمن شهر بقطع
السبيل وقتل النفس المحرّمة فقتل به مؤمنا ؟ أما يطبق العقلاء على ذم الواهب
وتعنيفه والدق في فروته كما يذمون القاتل ؟ بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد ؟
قلت : قد علمنا أنّ الله حكيم عالم بقبح القبيح عالم بغناه عنه ، فقد علمنا أن
أفعاله كلها حسنة ، وخلق فاعل القبيح فعله ، فوجب أن يكون حسناً ، وأن يكون له وجه
حسن ؛ وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه ، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته
جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها ) بِالْحَقِّ ( بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وهو
أن جعلها مقارّ المكلفين ليعملوا فيجازيهم ) وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
( وقرىء : ( صوركم ) بالكسر ، لتشكروا . وإليه مصيركم فجزاؤكم على الشكر والتفريط
فيه . فإن قلت : كيف أحسن صوركم ؟ قلت : جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه ، بدليل أن
الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور . ومن حسن صورته
أنه خلق منتصباً غير منكب ، كما قال عز وجل : ) فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( ( التين
: 4 ) . فإن قلت : فيكم من دميم مشوّه الصورة سمج الخلقة تقتحمه العيون ؟ قلت : لا
سماجة ثم ولكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب ، فلانحطاط بعض الصور عن
مراتب ما فوقها انحطاطاً بيناً وإضافتها إلى الموفى عليها لا تستملح ، وإلا فهي
داخلة في حيز الحسن غير خارجة عن حدّه . ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا
ترى الدنيا بها ، ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن منها فينبو عن الأولى طرفك ،
وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها . وقالت الحكماء : شيئان لا
غاية لهما : الجمال ، والبيان . نبه بعلمه ما في السموات
" صفحة رقم 549 "
والأرض ، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه ، ثم بعلمه ذوات الصدور : أن شيئاً من
الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه ، فحقه أن يتقي ويحذر ولا يجترأ على
شيء مما يخاف رضاه . وتكوير العلم في معنى تكرير الوعيد ، وكل ما ذكره بعد قوله
تعالى : ) فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ( ( التغابن : 2 ) كما ترى في
معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته فما أجهل من يمزج
الكفر بالخلق ويجعله من جملته ، والخلق : أعظم نعمة من الله على عباده ، والكفر :
أعظم كفران من العباد لربهم .
) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَالِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ
رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ
وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ (
التغابن : ( 5 ) ألم يأتكم نبأ . . . . .
) أَلَمْ يَأْتِكُمْ ( الخطاب لكفار مكة . ) ذَالِكَ ( إشارة إلى ما ذكر من الوبال
الذي ذاقوه في الدنيا وما أعدّ لهم من العذاب في الآخرة ) بِأَنَّهُ ( بأنّ الشأن
والحديث ) كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ( أنكروا أن تكون
الرسل بشراً ، ولم ينكروا أن يكون الله حجراً ) وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ( أطلق
ليتناول كل شيء ، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم . فإن قلت : قوله : ) وَتَوَلَّواْ
وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ( يوهم وجود التولي والاستغناء معاً ، والله تعالى لم يزل
غنياً . قلت : معناه : وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم
إليه مع قدرته على ذلك .
) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (
التغابن : ( 7 ) زعم الذين كفروا . . . . .
الزعم : ادعاء العلم : ومنه قوله عليه السلام :
( 1188 ) ( زعموا مطية الكذب ) وعن شريح : لكل شيء كنية وكنية لكذب ( زعموا )
ويتعدّى إلى المفعولين تعدّي العلم . قال : . . . وَلَمْ أَزْعُمكِ عَنْ ذَاكَ
مَعْزِلاَ
" صفحة رقم 550 "
;
وإن مع ما في حيزه قائم مقامهما . والذين كفروا . أهل مكة . و ) بَلَى ( إثبات لما
بعد لن ، وهو البعث ) وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( أي لا يصرفه عنه صارف .
وعنى برسوله والنور : محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن .
) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن
يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ
وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ
أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ
بِأايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (
التغابن : ( 9 ) يوم يجمعكم ليوم . . . . .
وقرىء : ( نجمعكم ) ونكفر . وندخله ، بالياء والنون . فإن قلت : بم انتصب الظرف ؟
قلت : بقوله : لتنبئون ، أو بخبير ، لما فيه من معنى الوعيد ، كأنه قيل : والله
معاقبكم يوم يجمعكم أو بإضمار ( اذكر ) ) لِيَوْمِ الْجَمْعِ ( ليوم يجمع فيه
الأوّلون والآخرون . التغابن : مستعار من تغابن القوم في التجارة ؛ وهو أن يغبن
بعضهم بعضاً ، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ،
ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء . وفيه تهكم
بالأشقياء ؛ لأنّ نزولهم ليس بغبن . وفي حديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1189 ) ( ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ، ليزداد شكراً .
وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ، ليزداد حسرة ) ومعنى )
ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ( وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم : استعظام له وأن
تغابنه هو التغابن في الحقيقة ، لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت )
صَالِحاً ( صفة للمصدر ، أي : عملاً صالحاً .
) مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ
يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (
التغابن : ( 11 ) ما أصاب من . . . . .
) إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( إلا بتقديره ومشيئته ، كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه )
يَهْدِ قَلْبَهُ ( يلطف به ويشرحه للإزدياد من الطاعة والخير . وقيل : هو
الاسترجاع عند المصيبة . وعن الضحاك : يهد قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن
ليخطئه . وما أخطأه لم يكن ليصيبه . وعن مجاهد : إن ابتلى صبر ، وإن أعطى شكر ،
وإن ظلم غفر . وقرىء : ( يهد قلبه ) ، على البناء للمفعول ، والقلب : مرفوع أو منصوب
. ووجه النصب : أن يكون مثل سفه
" صفحة رقم 551 "
نفسه ، أي : يهد في قلبه . ويجوز أن يكون المعنى : أنّ الكافر ضال عن قلبه بعيد
منه ، والمؤمن واجد له مهتد إليه ، كقوله تعالى : ) لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( ( ق
: 37 ) وقرىء : ( نهد قلبه ) ، بالنون . ويهد قلبه ، بمعنى : يهتد . ويهدأ قلبه :
يطمئن . ويهد . ويهدا على التخفيف ) وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ ( يعلم ما
يؤثر فيه اللطف من القلوب مما لا يؤثر فيه فيمنحه ويمنعه .
) وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا
عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (
التغابن : ( 12 ) وأطيعوا الله وأطيعوا . . . . .
) فَإِن تَولَّيْتُمْ ( فلا عليه إذا توليتم ، لأنه لم يكتب عليه طاعتكم ، إنما
كتب عليه أن يبلغ ويبين فحسب ) وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (
بعث لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على التوكل عليه والتقوى به في أمره
، حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ
عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ
فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (
التغابن : ( 14 ) يا أيها الذين . . . . .
إنّ من الأزواج أزواجاً يعادين بعولتهنّ ويخاصمنهم ويجلبن عليهم ، ومن الأولاد
أولاداً يعادون آبائهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى ) فَاحْذَرُوهُمْ ( الضمير
للعدوّ أو للأزواج والأولاد جميعاً ، أي : لما علمتم أنّ هؤلاء لا يخلون من عدوّ ،
فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم ) وَأَن تَعْفُواْ ( عنهم إذا
اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها ، فإن الله يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم
. وقيل : إنّ ناساً أرادوا الهجرة عن مكة ، فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا :
تنطلقون وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا ، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا
في الدين : أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم ، فزين لهم العفو . وقيل : قالوا
لهم : أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم ، فغضبوا عليهم وقالوا : لئن
جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير ، فلما هاجروا منعوهم الخير ، فحثوا أن
يعفوا عنهم ويردّوا إليهم البر والصلة . وقيل : كان عوف بن مالك الأشجعي ذا أهل
وولد ، فإذا أراد أن يغزو تعلقوا به وبكوا إليه ورققوه ، فكأنه همّ بأذاهم ، فنزلت
) فِتْنَةً ( بلاء ومحنة ، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ، ولا بلاء أعظم منهما
؛ ألا ترى إلى قوله : ) وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( وفي الحديث :
" صفحة رقم 552 "
( 1190 ) ( يؤتى برجل يوم القيامة فيقال : أكل عياله حسناته ) وعن بعض السلف :
العيال سوس الطاعات . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1191 ) أنه كان يخطب ، فجاء الحسن ، والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان
، فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجره على المنبر فقال : ( صدق الله ) إِنَّمَا
أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ( رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما ) ثم
أخذ في خطبته . وقيل : إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتنكم الميل إلى الأموال
والأولاد عنهما .
) فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ
خَيْراً لاًّنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (
التغابن : ( 16 ) فاتقوا الله ما . . . . .
) مَّا اسْتَطَعْتُم ( جهدكم ووسعكم ، أي : ابذلوا فيها استطاعتكم ) وَاسْمَعُواْ
( ما توعظون به ) وَأَطِيعُواْ ( فيما تأمرون به وتنهون عنه ) وَأَنْفِقُواْ ( في
الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها ) خَيْراً لاِنفُسِكُمْ ( نصب بمحذوف ، تقديره
: ائتوا خيراً لأنفسكم ، وافعلوا ما هو خير لها وأنفع ؛ وهذا تأكيد للحث على
امتثال هذه الأوامر ، وبيان لأنّ هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما
أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا .
) إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (
التغابن : ( 17 ) إن تقرضوا الله . . . . .
وذكرُ القرض : تلطف في الاستدعاء ) يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ( يكتب لكم بالواحدة عشراً
، أو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة . وقرىء : ( يضعفه ) ) شَكُورٍ ( مجاز ، أي :
يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب ، وكذلك ) حَلِيمٌ ( يفعل بكم
ما يفعل من
" صفحة رقم 553 "
يحلم عن المسيء ، فلا يعاجلكم بالعقاب مع كثرة ذنوبكم .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1192 ) ( من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة ) .
" صفحة رقم 554 "
( سورة الطلاق )
مدنية ، وهي إحدى عشرة ، أو اثنتا عشرة ، أو ثلاث عشرة آية
( نزلت بعد الإنسان )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ياأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ
تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ
ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ
الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ
قَدْراً (
الطلاق : ( 1 ) يا أيها النبي . . . . .
خص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالنداء وعم بالخطاب ؛ لأنّ النبي إمام أمّته
وقدوتهم ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، إظهاراً
لتقدّمه واعتباراً لترؤسه ، وأنه مدرة قومه ولسانهم ، والذي يصدرون عن رأيه ولا
يستبدون بأمر دونه ، فكان هو وحده في حكم كلهم ، وسادّاً مسدّ جميعهم . ومعنى ) إِذَا
طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( إذا أردتم تطليقهنّ وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر
المشارف له منزلة الشارع فيه : كقوله عليه السلام :
( 1193 ) ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) ومنه كان الماشي إلى الصلاة والمنظر لها في
" صفحة رقم 555 "
حكم المصلي ) فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( فطلقوهن مستقبلات لعدتهن ، كقولك :
أتيته لليلة بقيت من المحرم ، أي : مستقبلاً لها . وفي قراءة رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) : في قبل عدتهنّ ، وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأوّل من
أقرائها ، فقد طلقت مستقبلة لعدتها . والمراد : أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه ،
ثم يخلين حتى تنقضى عدّتهن . وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده من الندم ،
ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أنّ أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ، ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى
تنقضي العدّة ، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار . وقال
مالك بن أنس رضي الله عنه : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة ، وكان يكره الثلاث
مجموعة كانت أو متفرقة . وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحد في
طهر واحد ، فأما مفرقاً في الأطهار فلا ؛ لما روى عن رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض :
( 1194 ) ما هكذا أمرك الله ، إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً ، وتطلقها لكل
" صفحة رقم 556 "
قرء تطليقة وروى أنه قال لعمر :
( 1195 ) مر ابنك فليراجعها ، ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ، ثم ليطلقها إن شاء ؛
فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء . وعند الشافعي رضي الله عنه : لا
بأس بإرسال الثلاث ، وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح . فما لك
تراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت ؛ وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت ؛ والشافعي
يراعي الوقت وحده . فإن قلت : هل يقع الطلاق المخالف للسنة ؟ قلت : نعم ، وهو آثم
؛ لما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1196 ) أنّ رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه ، فقال ؛ أتلعبون بكتاب الله وأنا
بين أظهركم . وفي حديث ابن عمر أنه قال :
( 1197 ) يا رسول الله ، أرأيت لو طلقتها ثلاثاً ، فقال له : إذن عصيت وبانت منك
امرأتك . وعن عمر رضي الله عنه :
( 1198 ) أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثاً إلا أوجعه ضرباً . وأجاز ذلك
" صفحة رقم 557 "
عليه . وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين : أنّ من خالف السنة في الطلاق
فأوقعه في حيض أو ثلث لم يقع ، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف . فإن قلت :
كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل وغير المدخول بها ؟ قلت : الصغيرة
والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر ،
وخالفما محمد وزفر في الحامل فقالا : لا تطلق للسنة إلا واحدة . وأما غير المدخول
بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة ، ولا يراعي الوقت . فإن قلت : هل يكره أن تطلق
المدخول بها واحدة بائنة ؟ قلت : اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا . والظاهر الكراهة
. فإن قلت : قوله إذا طلقتم النساء عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من
ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل ، فكيف صحّ تخصيصه بذوات الأقراء المدخول
بهن ؟ قلت : لا عموم ثم ولا خصوص ، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس ، وهذه
الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن ، فجاز أن يراد بالنساء هذاوذاك ، فلما قيل :
) فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( علم أنه أطلق على بعضهنّ وهنّ المدخول بهن من
المعتدات بالحيض ) وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ ( واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء
مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن ، ) لاَ تُخْرِجُوهُنَّ ( حتى تنقضي عدتهنّ ) مِن
بُيُوتِهِنَّ ( من مساكنهنّ التي يسكنها قبل العدة ، وهي بيوت الأزواج ؛ وأضيفت
إليهنّ لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى . فإن قلت : ما معنى الجمع بين إخراجهم أو
خروجهن ؟ قلت : معنى الإخراج : أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن
، أو لحاجة لهم إلى المساكن ، وأن لا يأذنوا لهنّ في الخروج إذا طلبن ذلك ،
إيذاناً بأنّ إذنهم لا أثر له في رفع الحظر ، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك )
إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ ( قرىء : بفتح للياء وكسرها . قيل :
هي الزنا ، يعني إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن وقيل : إلا أن يطلقن على
النشوز ، والنشوز يسقط حقهن في السكنى . وقيل : إلا أن يبذون فيحل إخراجهنّ
لبذائهنّ ؛ وتؤكده قراءة أبي ( إلا أن يفحش عليكم ) وقيل : خروجها قبل انقضاء
العدة فاحشة في نفسه . الأمر الذي يحدثه الله : أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها
، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها . ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه
" صفحة رقم 558 "
فيراجعها . والمعنى : فطلقوهنّ لعدتهن وأحصوا العدة ، لعلكم ترغبون وتندمون
فتراجعون ) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ( وهو آخر العدة وشارفته ، فأنتم بالخيار
: إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان ، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة
واتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلاً للعدة عليها
وتعذيباً لها ) وَأَشْهِدُواْ ( يعني عند الرجعة والفرقة جميعاً . وهذا الإشهاد
مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله : ) وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ( ( البقرة
: 282 ) وعند الشافعي : هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة . وقيل : فائدة
الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد ، وأن لا يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما
فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث ) مِّنكُمْ ( قال الحسن : من المسلمين . وعن قتادة
: من أحراركم ) لِلَّهِ ( لوجهه خالصاً ، وذلك أن تقيموها لا للمشهود عليه ، ولا
لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم ، كقوله تعالى : ) كُونُواْ
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( ( النساء :
135 ) أي : ) ذَلِكُمْ ( الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط ،
) يُوعَظُ بِهِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق
من إجراء أمر الطلاق على السنة ، وطريقه الأحسن والأبعد من الندم ، ويكون المعنى :
ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد )
يَجْعَلْ ( الله ) لَّهُ مَخْرَجاً ( مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في
المضايق ، ويفرج عنه وينفس ويعطه الخلاص ) وَيَرْزُقْهُ ( من وجه لا يخطره بباله
ولا يحتسبه إن أوفى المهر وأدى الحقوق والنفقات وقل ماله . وعن النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) :
( 1199 ) أنه سئل عمن طلق ثلاثاً أو ألفاً ، هل له من مخرج ؟ فتلاها . وعن ابن
عباس أنه سئل عن ذلك فقال : لم تتق الله فلم يجعل لك مخرجا ، بانت منك بثلاث
والزيادة إثم في عنقك . ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله : )
ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ ( يعني : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ومخلصاً من غموم
الدنيا والآخرة . وعن الني ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 559 "
:
( 1200 ) أنه قرأها فقال : مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم
القيامة . وقال عليه السلام :
( 1201 ) إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( فما
زال يقرؤها ويعيدها . وروى :
( 1202 ) أنّ عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً . فأتى رسول
الله فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة ؛ فقال : ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق
الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، ففعل فبينا هو في بيته إذ قرع
ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها ، فنزلت هذه الآية )
بَالِغُ أَمْرِهِ ( أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب . وقرىء : (
بالغ أمره ) بالإضافة ( وبالغ أمره ) بالرفع ، أيّ : نافذ أمره وقرأ المفضل : (
بالغاً أمره ) ، على أنّ قوله : ) قَدْ جَعَلَ اللَّهُ ( خبر إن ، وبالغاً حال )
قَدْراً ( تقديراً وتوقيتاً . وهذا بيان لوجوب التوكل على الله ، وتفويض
" صفحة رقم 560 "
الأمر إليه ؛ لأنه إذا علم أنّ كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته
: لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل .
) وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الاٌّ
حْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل
لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن
يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (
الطلاق : ( 4 ) واللائي يئسن من . . . . .
روي أن ناساً قالوا : قد عرفنا عدة ذوات الأقراء ، فما عدة اللائي لا يحضن ؛ فنزلت
: فمعنى ) إِنِ ارْتَبْتُمْ ( : إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا
حكمهنّ ، وقيل : إن ارتبتم في ذم البالغات مبلغ اليأس وقد قدروه بستين سنة وبخمس
وخمسين ، أهو دم حيض أو استحاضة ؟ ) فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ( وإذا
كانت هذه عدة المرتاب بها ، فغير المرتاب بها أولى بذلك ) وَاللاَّئِى لَمْ
يَحِضْنَ ( هن الصغائر . والمعنى : فعدتهن ثلاثة أشهر ، فحذف لدلالة المذكور عليه
. اللفظ مطلق في أولات الأحمال ، فاشتمل على المطلقات والمتوفى عنهن . وكان ابن
مسعود وأبيّ وأبو هريرة وغيرهم لا يفرقون . وعن علي وابن عباس : عدة الحامل
المتوفى عنها أبعد الأجلين . وعن عبد الله : من شاء لاعنته أنّ سورة النساء القصرى
نزلت بعد التي في البقرة ، يعني : أنّ هذا اللفظ مطلق في الحوامل . وروت أم سلمة :
" صفحة رقم 561 "
( 1203 ) أنّ سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بليال ، فذكرت ذلك لرسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) فقال لها : قد حللت فأنكحي ) يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ
يُسْراً ( ييسر له من أمره ويحلل له من عقده بسبب التقوى ) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ
( يريد ما علم من حكم هؤلاء المعتدات . والمعنى : ومن يتق الله في العمل بما أنزل
الله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه مما ذكر من الإسكان وترك
الضرار والنفقة على الحوامل وإيتاء أجر المرضعات وغير ذلك : استوجب تكفير السيئات
والأجر العظيم .
) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَأاتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلاَّ مَآ ءَاتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (
الطلاق : ( 6 ) أسكنوهن من حيث . . . . .
) أَسْكِنُوهُنَّ ( وما بعده : بيان لما شرط من التقوى في قوله : ) وَمَن يَتَّقِ
اللَّهَ ( كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات ؟ فقيل : اسكنوهن . فإن
قلت : من في ) مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم ( ما هي ؟ قلت : هي من التبعيضية مبعضها محذوف
معناه : أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم ، أي بعض مكان سكناكم ، كقوله تعالى : )
يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ( ( النور : 30 ) أي بعض أبصارهم . قال قتادة : إن
لم يكن إلا بيت واحد ، فأسكنها في بعض جوانبه . فإن قلت : فقوله : ( من وجدكم ) ؟
قلت : هو عطف بيان لقوله : ) مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم ( وتفسير له ، كأنه قيل :
أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه . والوجد : الوسع والطاقة . وقرىء بالحركات
الثلاث . والسكنى والنفقة : واجبتان لكل مطلقة . وعند مالك والشافعي : ليس
للمبتوتة إلا السكنى ولا نفقة لها . وعن الحسن وحماد : لا نفقة لها ولا سكنى ؛
لحديث فاطمة بنت قيس :
( 1204 ) أن زوجها أبتّ طلاقها ، فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لا
سكنى لك ولا
" صفحة رقم 562 "
نفقة . وعن عمر رضي الله عنه :
( 1205 ) لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها : سمعت
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لها السكنى والنفقة ) ) وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ (
ولا تستعملوا معهن الضرار ) لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ ( في المسكن ببعض الأسباب :
من إنزال من لا يوافقهن ، أو يشغل مكانهن ، أو غير ، ذلك ، حتى تضطروهن إلى الخروج
. وقيل : هو أن يراجعها إذا بقي من عدتها يومان ليضيق عليها أمرها . وقيل : هو أن
يلجئها إلى أن تفتدي منه . فإن قلت : فإذا كانت كل مطلقة عندكم تجب لها النفقة ،
فما فائدة الشرط في قوله : ) وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ
عَلَيْهِنَّ ( قلت : فائدته أن مدة الحمل ربما طالت فظن ظان أن النفقة تسقط إذا
مضى مقدار عدة الحائل ، فنفى ذلك الوهم . فإن قلت : فما تقول في الحامل المتوفى
عنها ؟ قلت : مختلف فيها ؛ فأكثرهم على أنه لا نفقة لها ، لوقوع الإجماع على أنّ
من أجبر الرجل على النفقة عليه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله
بعد موته ، فكذلك الحامل . وعن علي وعبد الله وجماعة : أنهم أوجبوا نفقتها )
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ( يعني هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولداً من غيرهنّ أو
منهنّ بعد انقطاع عصمة الزوجية ) الظَّالِمِينَ ( حكمهن في ذلك حكم الأظار ، ولا
يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم الاستئجار إذا كان الولد منهم ما لم
يبنّ . ويجوز عند الشافعي . الائتمار بمعنى التآمر ، كالاشتوار بمعنى التشاور .
يقال : ائتمر القوم وتآمروا ، إذا أمر
" صفحة رقم 563 "
بعضهم بعضاً . والمعنى : وليأمر بعضكم بعضاً ، والخطاب للآباء والأمهات )
بِمَعْرُوفٍ ( بجميل وهو المسامحة ، وأن لا يماكس الأب ولا تعاسر الأم ؛ لأنه
ولدهما معا ، وهما شريكان فيهوفي وجوب الإشفاق عليه ) وَإِن تَعَاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه ؛ وفيه طرف من
معاتبة الأم على المعاسرة ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتواني : سيقضيها غيرك ،
تريد : لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم ، وقوله : ) لَهُ ( أي للأب ، أي : سيجد الأب
غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه ) لِيُنفِقْ ( كل واحد من الموسر والمعسر
ما بلغه سعه يريد : ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات ، كما قال : )
وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ( (
البقرة : 236 ) وقرىء : ( لينفق ) بالنصب ، أي شرعنا ذلك لينفق . وقرأ ابن أبي
عبلة ( قدر ) ) سَيَجْعَلُ اللَّهُ ( موعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق
عليهم ، أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصروا .
) وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ
فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ
وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ
عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الأَلْبَابِ الَّذِينَ
ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ
ءَايَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ
وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (
الطلاق : ( 8 ) وكأين من قرية . . . . .
) عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا ( أعرضت عنه على وجه العتوّ والعناد ) حِسَاباً
شَدِيداً ( بالاستقصاء والمناقشة ) عَذَاباً نُّكْراً ( وقرىء : ( نكرا ) منكراً
عظيماً ، والمراد : حساب الآخرة وعذابها ما يذوقون فيها من الوبال ويلقون من الخسر
، وجيء به على لفظ الماضي ، كقوله تعالى : ) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ( ، )
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ ( ( الأعراف : 50 ) ونحو ذلك ؛ لأنّ المنتظر من وعد
الله ووعيده ملقى في الحقيقة ، وما هو كائن فكان قد . وقوله : ) أَعَدَّ اللَّهُ
لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ( تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقباً ، كأنه قال : أعد
الله لهم هذا العذاب فليكن لكم ذلك ) وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَابِ ( من
المؤمنين لطفاً
" صفحة رقم 564 "
في تقوى الله وحذر عقابه . ويجوز أن يراد إحصاء السيئات ، واستقصاؤها عليهم في
الدنيا ، وإثباتها في صحائف الحفظة ، وما أصيبوا به من العذاب في العاجل ؛ وأن
يكون ) عَتَتْ ( وما عطف عليه : صفة للقرية . وأعد الله لهم : جواباً لكأين )
رَسُولاً ( هو جبريل صلوات الله عليه : أبدل من ذكرا ، لأنه وصف بتلاوة آيات الله
، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر فصح إبداله منه . أو أريد بالذكر : الشرف ، من
قوله : ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( ( الزخرف : 44 ) فأبدل منه ،
كأنه في نفسه شرف : إما لأنه شرف للمنزل عليه ، وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله ،
كقوله تعالى : ) عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ ( ( التكوير : 20 ) أو جعل لكثرة
ذكره لله وعبادته كأنه ذكر . أو أريد : ذا ذكر ، أي ملكاً مذكوراً في السموات وفي
الأمم كلها . أو دل قوله : ) أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ( ( الطلاق : 10
) على : أرسل فكأنه قيل : أرسل رسولا ؛ أو أعمل ذكراً في رسولا إعمال المصدر في
المفاعيل ، أي : أنزل الله أن ذكر رسولا أو ذكره رسولا . وقرىء : ( رسول ) ، على :
هو رسول . أنزله ) لّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( بعد إنزاله ، أي ليحصل لهم ما
هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح : لأنهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين ،
وإنما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ . أو ليخرج الذين عرف منهم أنهم يؤمنون . قرىء :
( يدخله ) ، بالياء والنون ) قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً ( فيه معنى
التعجب والتعظيم ، لما رزق المؤمن من الثواب .
) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الاٌّ رْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الاٌّ مْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا (
) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ ( مبتدأ وخبر . وقرىء : ( مثلهنّ ) بالنصب ، عطفاً على
سبع سموات ؛ وبالرفع على الابتداء ، وخبره : من الأرض . قيل : ما في القرآن آية
تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه . وقيل : بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام ، وغلظ
كل سماء كذلك ، والأرضون مثل السموات ) يَتَنَزَّلُ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ ( أي
يجري أمر الله وحكمه بينهن ، وملكه ينفذ فيهن . وعن قتادة : في كل سماء وفي كل أرض
خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه . وقيل : هو ما يدبر فيهنّ من عجائب
تدبيره . وقرىء : ( ينزل الأمر ) ، وعن ابن عباس : أن نافع بن الأزرق سأله هل تحت
الأرضين خلق ؟ قال : نعم . قال : فما الخلق ؟ قال : إما ملائكة أو جنّ ( لتعلموا )
قرىء بالتاء والياء .
" صفحة رقم 565 "
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( 1206 ) ( من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
" صفحة رقم 566 "
( سورة التحريم )
مدنية ، وتسمى سورة النبي ( صلى الله عليه وسلم )
وهي ثنتا عشرة آية ( نزلت بعد الحجرات )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى
مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (
التحريم : ( 1 ) يا أيها النبي . . . . .
روي :
( 1207 ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خلا بمارية في يوم عائشة ، وعلمت
بذلك حفصة ،
" صفحة رقم 567 "
فقال لها : اكتمي عليّ ، وقد حرمت مارية على نفسي ، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان
بعدي أمر أميّ ، فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين . وقيل : خلا بها في يوم حفصة ،
فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم ، فطلقها واعتزل نساءه ؛ ومكث تسعاً وعشرين ليلة
في بيت مارية . وروى :
( 1208 ) أن عمر قال لها : لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك ، فنزل جبريل
" صفحة رقم 568 "
عليه السلام وقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة ، وإنها لمن نسائك في الجنة . وروي
:
( 1209 ) أنه شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش ، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له :
إنا نشم منك ريح المغافير ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يكره التفل ،
فحرّم العسل ، فمعناه ) لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( من ملك اليمين
أو العسل . و ) تَبْتَغِى ( إما تفسير لتحرم . أو حال : أو استئناف ، وكان هذا زلة
منه لأنه ليس لأحد أن يحرّم ما أحلّ الله لأن الله عزّ وجل إنما أحل ما أحل لحكمة
ومصلحة عرفها في إحلاله ، فإذا حرّم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة ) وَاللَّهُ
غَفُورٌ ( قد غفر لك ما زلتت فيه ) رَّحِيمٌ ( قد رحمك فلم يؤاخذك به ) قَدْ
فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ( فيه معنيان ، أحدهما : قد شرع
الله لكم الاستثناء في أيمانكم ، من قولك : حلل فلان في يمينه ، إذا استثنى فيها .
ومنه : حلا أبيت اللعن ، بمعنى : استثن في يمينك إذا أطلقها ؛ وذلك أن يقول : ( إن
شاء الله ) عقيبها ، حتى لا يحنث . والثاني : قد شرع الله لكم تحلتها بالكفارة .
ومنه قوله عليه السلام :
( 1210 ) ( لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم ) وقول ذي الرمّة
: قَلِيلاً كَتَحْلِيلِ الأُلِيِّ ;
فإن قلت : ما حكم تحريم الحلال ؟ قلت : قد اختلف فيه ، فأبو حنيفة براه يميناً في
كل شيء ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرّمه ؛ فإذا حرّم طعاماً فقد حلف على
أكله ، أو أمة فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية ؛ وإن
نوى الظهار فظهار ؛ وإن نوى الطلاق فطلاق بائن ( وكذلك إن نوى ثنتين وإن نوى
ثلاثاً فكما نوى ، وإن قال :
" صفحة رقم 569 "
نويت الكذب ديِّن فيما بينه وبين الله تعالى ، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء
. وإن قال : كل حلال عليّ حرام فعل الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى
، ولا يراه الشافعي يميناً . ولكن سبباً في الكفارة في النساء وحده وحدهنّ ، وإن
نوى الطلاق فهو رجعي عنده . وعن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد رضي الله
عنهم : أنّ الحرام يمين وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي . وعن علي رضي الله عنه :
ثلاث . وعن زيد : واحدة بائنة . وعن عثمان : ظهار . وكان مسروق لا يراه شيئاً
ويقول : ما أبالي أحرمتها أم قصعة من ثريد ، وكذلك عن الشعبي قال : ليس بشيء ،
محتجاً بقوله تعالى : ) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ
هَاذَا حَلَالٌ وَهَاذَا حَرَامٌ ( ( النحل : 116 ) وقوله تعالى : ) لاَ
تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ( ( المائدة : 87 ) وما لم
يحرمه الله تعالى فليس لأحد أن يحرّمه ولا أن يصير بتحريمه حراماً ، ولم يثبت عن رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لما أحله الله : هو حرام عليّ ، وإنما امتنع
من مارية ليمين تقدمت منه ، وهو قوله عليه السلام : والله لا أقربها بعد اليوم ،
فقيل له : ) لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( أي لم تمتنع منه بسبب
اليمين ، يعني : أقدم على ما حلفت عليه ، وكفر عن يمينك . ونحوه قوله تعالى : (
وحرّمنا عليه المراضع ) أي ؛ منعناه منها . وظاهر قوله تعالى : ) قَدْ فَرَضَ
اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ( أنه كانت منه يمين . فإن قلت : هل كفر
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لذلك ؟ قلت : عن الحسن : أنه لم يُكَفِّر ؛ لأنه
كان مغفرواً له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وإنما هو تعليم للمؤمنين . وعن مقاتل
: أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعتق رقبة في تحريم مارية ) وَاللَّهُ
مَوْلَاكُمْ ( سيدكم ومتولي أموركم ) وَهُوَ الْعَلِيمُ ( بما يصلحكم فيشرعه لكم )
الْحَكِيمُ ( فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما توجبه الحكمة . وقيل : مولاكم أولي
بكم من أنفسكم ، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم .
) وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا
نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن
بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ
الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (
التحريم : ( 3 ) وإذ أسر النبي . . . . .
) بَعْضِ أَزْواجِهِ ( حفصة . والحديث الذي أسر إليها : حديث مارية وإمامة الشيخين
) نَبَّأَتْ بِهِ ( أفشته إلى عائشة . وقرىء : ( أنبأت ) به ) وَأَظْهَرَهُ (
وأطلع النبي عليه السلام ) عَلَيْهِ ( على الحديث ، أي : على إفشائه على لسان
جبريل . وقيل : أظهر الله الحديث على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الظهور )
عَرَّفَ بَعْضَهُ ( أعلم ببعض الحديث تكرماً . قال سفيان : ما
" صفحة رقم 570 "
زال التغافل من فعل الكرام . وقرىء : ( عرف بعضه ) ، أي : جاز عليه ، من قولك
للمسيء : لأعرفن لك ذلك ، وقد عرفت ما صنعت . ومنه : أولئك الذين يعلم الله ما في
قلوبهم ، وهو كثير في القرآن ؛ وكان جزاؤه تطليقه إياها . وقيل : المعرف : حديث
الإمامة ، والمعرض عنه : حديث مارية : وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لها :
ألم أقل لك اكتمي عليّ ، قالت : والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة
التي خص الله بها أباها . فإن قلت : هلا قيل : فلما نبأت به بعضهن وعرفها بعضه ؟
قلت : ليس الغرض بيان من المذاع إليه ومن المعرف ، وإنما هو ذكر جناية حفصة في
وجود الإنباء به وإفشائه من قبلها ، وأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكرمه
وحلمه ، لم يوجد منه إلا الإعلام ببعضه ، وهو حديث الإمامة . ألا ترى أنه لما كان
المقصود في قوله : ) فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا (
ذكر المنبأ . كيف أتى بضميره .
) إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا
عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَالِكَ ظَهِيرٌ (
التحريم : ( 4 ) إن تتوبا إلى . . . . .
) إِن تَتُوبَا ( خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ، ليكون أبلغ في معاتبتهما
. وعن ابن عباس :
( 1211 ) لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عنهما حتى حج وحججت معه ، فلما كان ببعض
الطريق عدل وعدلت معه بالإداوة ، فسكبت الماء على يده فتوضأ ، فقلت : من هما ؟
فقال : عجباً يا ابن عباس كأنه كره ما سألته عنه ثم قال : هما حفصة وعائشة )
فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( فقد وجد منكما ما يوجب التوبة ، وهو ميل قلوبكما عن
الواجب في مخالصة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه
. وقرأ ابن مسعود : ( فقد زاغت ) ) وَإِن تَظَاهَرَا ( وإن تعاونا ) عَلَيْهِ (
بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره ، فلن يعدم هو من يظاهره ، وكيف يعلم
المظاهر من الله مولاه أي وليه وناصره ؛ وزيادة ) هُوَ ( إيذان بأن نصرته عزيمة من
عزائمه ، وأنه يتولى ذلك بذاته ) وَجِبْرِيلُ ( رأس الكروبيين ؛ وقرن ذكره بذكره
مفرداً له من بين الملائكة تعظيماً له وإظهاراً لمكانته عنده ) وَصَالِحُ ( ومن
صلح من المؤمنين ، يعني : كل من آمن وعمل صالحاً . وعن سعيد بن جبير : من برىء
منهم من النفاق . وقيل : الأنبياء وقيل : الصحابة . وقيل :
" صفحة رقم 571 "
الخلفاء منهم . فإن قلت : صالح المؤمنين واحد أم جمع ؟ قلت : هو واحد أريد به
الجمع ، كقولك : لا يفعل هذا الصالح من الناس ، تريد الجنس ، كقولك : لا يفعله من
صلح منهم . ومثله قولك : كنت في السامر والحاضر . ويجوز أن يكون أصله : صالحوا
المؤمنين بالواو ، فكتب بغير واو على اللفظ ؛ لأنّ لفظ الواحد والجمع واحد فيه ،
كما جاءت أشياء في المصحف متبوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط ) الْمَوْتِ
وَالْمَلَئِكَةُ ( على تكاثر عددهم ، وامتلاء السموات من جموعهم ) بَعْدَ ذَلِكَ (
بعد نصرة الله وناموسه وصالحي المؤمنين ) ظَهِيرٍ ( فوج مظاهر له ، كأنه يد واحدة
على من يعاديه ، فما يبلغ تظاهر امرأتين علي من هؤلاء ظهراؤه ؟ فإن قلت : قوله : )
بَعْدَ ذَلِكَ ( تعظيم للملائكة ومظاهرتهم . وقد تقدّمت نصرة الله وجبريل وصالح
المؤمنين ، ونصرة الله تعالى أعظم وأعظم . قلت : مظاهرة الملائكة من جملة نصرة
الله ، فكأنه فضل نصرته تعالى بهم وبمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته تعالى ،
لفضلهم على جميع خلقه . وقرىء : ( تظاهرا ) وتتظاهرا . وتظهرا .
) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ
مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ
وَأَبْكَاراً (
التحريم : ( 5 ) عسى ربه إن . . . . .
قرىء : ( يبدله ) ، بالتخفيف والتشديد للكثرة ) مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ ( مقرّات
مخلصات ) سَائِحَاتٍ ( صائمات . وقرىء : ( سيحات ) ، وهي أبلغ . وقيل للصائم :
سائح ؛ لأنّ السائح لا زاد معه ، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه ، فشبه به
الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره . وقيل : سائحات مهاجرات ، وعن زيد بن
أسلم : لم تكن في هذه الأمّة سياحة إلى الهجرة . فإن قلت : كيف تكون المبدلات
خيراً منهن ، ولم تكن على وجه الأرض نساء خير من أمّهات المؤمنين ؟ قلت : إذا
طلقهن رسول الله لعصيانهن له وإيذائهن إياه ، لم يبقين على تلك الصفة ، وكان غيرهن
من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والنزول
على هواه ورضاه خيراً منهن ، وقد عرض بذلك في قوله : ) قَانِتَاتٍ ( لأنّ القنوت
هو القيام بطاعة الله ، وطاعة الله في طاعة رسوله . فإن قلت : لم أخليت الصفات
كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار ؟ قلت : لأنهما
" صفحة رقم 572 "
صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات ، فلم يكن به من الواو .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ
يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ياأَيُّهَا
الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ (
التحريم : ( 6 ) يا أيها الذين . . . . .
) قُواْ أَنفُسَكُمْ ( بترك المعاصي وفعل الطاعات ) وَأَهْلِيكُمْ ( بأن تأخذوهم
بما تأخذون به أنفسكم . وفي الحديث :
( 1212 ) ( رحم الله رجلاً قال يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم
جيرانكم لعلّ الله يجمعهم معه في الجنة ، وقيل : إنّ أشد الناس عذاباً يوم القيامة
من جهل أهله . وقرىء : ( وأهلوكم ) ، عطفاً على واو ) قُواْ ( وحسن العطف للفاصل .
فإن قلت : أليس التقدير : قوا أنفسكم ، وليق أهلوكم أنفسهم ؟ قلت : لا ، ولكن
المعطوف مقارن في التقدير للواو ، وأنفسكم واقع بعده ، فكأنه قيل : قوا أنتم
وأهلوكم أنفسكم لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه ، فجعلت ضميرهما معاً على
لفظ المخاطب ) نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ( نوعاً من النار لا
يتقد إلا بالناس والحجارة ، كما يتقد
" صفحة رقم 573 "
غيرها من النيران بالحطب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي حجارة الكبريت ، وهي
أشدّ الأشياء حراً إذا أوقد عليها . وقرىء : ( وقودها ) بالضم ، أي ذو وقودها )
فَإِنَّ ( يلي أمرها وتعذيب أهلها ) مَلَائِكَةٌ ( يعني الزبانية التسعة عشر
وأعوانهم ) غِلاَظٌ شِدَادٌ ( في أجرامهم غلظة وشدّة ، أي : جفاء وقوّة . أو في
أفعالهم جفاء وخشونة ، لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له والانتقام من
أعدائه ) مَا أَمَرَهُمْ ( في محل النصب على البدل ، أي : لا يعصون ما أمر الله .
أي : أمره ، كقوله تعالى : ) أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى ( ( طه : 93 ) أو لا يعصونه
فيما أمرهم . فإن قلت : أليست الجملتان في معنى واحد ؟ قلت : لا ، فإنّ معنى
الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ، ومعنى الثانية
: أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثافلون عنه ولا يتوانون فيه . فإن قلت : قد خاطب
الله المشركين المكذبين بالوحي بهذا بعينه في قوله تعالى : ) فَإِن لَّمْ
تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ ( ( البقرة : 24 ) وقال : ) أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( ( البقرة :
24 ) فجعلها معدّة للكافرين ، فما معنى مخاطبته به بالمؤمنين ؟ قلت : الفساق وإن
كانت دركاتهم فوق دركات الكفار ، فإنهم مساكنون الكفار في دار واحدة فقيل للذين
آمنوا : قوا أنفسكم باجتناب الفسوق مساكنة الكفار الذين أعدت لهم هذه النار
الموصوفة . ويجوز أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد ، والندم على الدخول في الإسلام ،
وأن يكون خطاباً للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون ؛ ويعضد ذلك قوله تعالى على
أثره ) يُؤْمَرُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( أي : يقال لهم ذلك عند دخولهم
النار لا تعتذروا ، لأنه لا عذر لكم . أو لأنه لا ينفعكم الاعتذار .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى
رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى
مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ
ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ
شَىْءٍ قَدِيرٌ (
التحريم : ( 8 ) يا أيها الذين . . . . .
) تَوْبَةً نَّصُوحاً ( وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازى ؛ والنصح : صفة
التائبين ، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم ، فيأتوا بها على طريقها متداركة للفرطات
ماحية للسيئات ، وذلك : أن يتوبوا عن القبائح لقبحها ، نادمين عليها ، مغتمين أشدّ
الاغتمام لارتكابها ، عازمين على أنهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود
اللبن في الضرع ، موطنين أنفسهم على ذلك . وعن علي رضي الله تعالى عنه : أنه سمع
أعرابياً يقول : اللهم إني استغفرك وأتوب إليك ، فقال : يا هذا ، إنّ سرعة اللسان
بالتوبة توبة
" صفحة رقم 574 "
الكذابين . قال : وما التوبة ؟ قال : يجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب :
الندامة ، وللفرائض : الإعادة ، ورد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وأن تعزم على أن
لا تعود ، وأن تذيب نفسك في طاعة الله ، كما ربيتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة
الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي . وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن
الذنب ثم يعود فيه . وعن شهر بن حوشب : أن لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار .
وعن ابن السماك : أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد
لمنتظرك . وقيل : توبة لا يتاب منها . وعن السدي : لا تصح التوبة إلا بنصيحة النفس
والمؤمنين ، لأن من صحت توبته أحب أن يكون الناس مثله . وقيل : نصوحاً من نصاحة
الثوب ، أي : توبة ترفو خروقك في دينك ، وترمّ خالك . وقيل : خالصة ، من قولهم :
عسل ناصح إذا خلص من الشمع . ويجوز أن يراد : توبة تنصح الناس ، أي : تدعوهم إلى
مثلها لظهور أثرها في صاحبها ، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها .
وقرأ زيد بن علي ( توبا نصوحا ) وقرىء : ( نصوحا ) بالضم ، وهو مصدر نصح . والنصح
والنصوح ، كالشكر والشكور ، والكفر والكفور أي : ذات نصوح . أو تنصح نصوحاً . أو
توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له ) عَسَى رَبُّكُمْ ( إطماع من الله لعباده ،
وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة بعسى ولعل
. ووقوع ذلك منهم موقع القطيع والبت . والثاني : أن يجيء به تعليماً للعباد وجوب
الترجح بين الخوف والرجاء ، والذي يدل على المعنى الأول وأنه في معنى البت : قراءة
ابن أبي عبلة : ( ويدخلكم بالجزم ) ، عطفاً على محل ( عسى أن يكفر ) كأنه قيل :
توبوا يوجب لكم تكفير سيآتكم ويدخلكم ) يَوْمٌ لاَّ عَبْدُ اللَّهِ ( نصب بيدخلكم
، ولا يخزي : تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسوق ، واستحماد إلى المؤمنين
على أنه عصمهم من مثل حالهم ) نُورُهُمْ يَسْعَى ( على الصراط ) أَتْمِمْ لَنَا
نُورَنَا ( قال ابن عباس : يقولون ذلك إذا طفىء نور المنافقين إشفاقاً . وعن الحسن
: الله متممه لهم ولكنهم يدعون تقرباً إلى الله ، كقوله تعالى : ) وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنبِكَ ( ( غافر : 55 ) وهو مغفور له . وقيل : يقوله أدناهم منزلة ، لأنهم
يعطون من النور قدر ما يبصرون به مواطىء أقدامهم ، لأنّ النور على قدر الأعمال
فيسألون إتمامه تفضلاً . وقيل : السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط ،
وبعضهم كالريح ، وبعضهم حبوا وزحفاً ؛ فأولئك الذين يقولون : ) رَبَّنَا أَتْمِمْ
لَنَا نُورَنَا ( فإن قلت : كيف
" صفحة رقم 575 "
يشفقون والمؤمنون آمنون ، ) مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( (
فصلت : 40 ) . ) لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ( ( يونس : 62 ) ، ) لاَ يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( ( الأنبياء : 103 ) أو كيف يتقربون وليست الدار دار تقرّب
؟ قلت : أما الإشفاق فيجوز أن يكون على عادة البشرية وإن كانوا معتقدين الأمن .
وأما التقرّب فلما كانت حالهم كحال المتقربين حيث يطلبون ما هو حاصل لهم من الرحمة
: سماه تقرّبا .
) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (
التحريم : ( 9 ) يا أيها النبي . . . . .
) جَاهِدِ الْكُفَّارَ ( بالسيف ) وَالْمُنَافِقِينَ ( بالاحتجاج ؛ واستعمل الغلظة
والخشونة على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة . وعن قتادة : مجاهدة
المنافقين لإقامة الحدود عليهم . وعن مجاهد : بالوعيد . وقيل : بإفشاء أسرارهم .
) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ
لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا
فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ
الدَاخِلِينَ (
التحريم : ( 10 ) ضرب الله مثلا . . . . .
مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة
مثلهم من غير إبقاء ولا محاباة ، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم
من لحمة نسب أو وصلة صهر ؛ لأن عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق وبت
الوصل ، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد ، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبيا
من أنبياء الله بحال امرأة نوح وامرأة لوط : لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن
الرسولان عنهما بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناء ما من عذاب الله )
وَقِيلَ ( لهما عند موتهما أو يوم القيامة : ) ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ ( سائر )
الدخِلِينَ ( الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء . أو مع داخليها من إخوانكما من
قوم نوح وقوم لوط . ومثل حال المؤمنين في أنّ وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص
شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى ، مع
كونها زوجة أعدى أعداء الله الناطق بالكلمة العظمى ، ومريم ابنة عمران وما أوتيت
من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين ، مع أنّ قومها كانوا كفاراً
. وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأميّ المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة وما فرط
منهما من التظاهر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما كرهه وتحذير لهما على
أغلظ وجه وأشد ، لما في التمثيل من ذكر الكفر . ونحوه في التغليظ قوله تعالى : )
وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( وإشارة إلى أن من حقهما
أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا تتكلا على أنهما
زوجا رسول الله ، فإنّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين ، والتعريض
بحفصة
" صفحة رقم 576 "
أرجح ، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله ، وأسرار التنزيل
ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره .
فإن قلت ، ما فائدة قوله : ) مّنْ عِبَادِنَا ( ؟ قلت : لما كان مبني التمثيل على
وجود الصلاح في الإنسان كائناً من كان ، وأنه وحده هو الذي يبلغ به الفوز وينال ما
عند الله : قال عبدين من عبادنا صالحين ، فذكر النبيين المشهورين العلمين بأنهما
عبدان لم يكونا إلا كسائر عبادنا ، من غير تفاوت بينهما وبينهم إلا بالصلاح وحده
إظهاراً وإبانة ، لأن عبداً من العباد لا يرجح عنده إلا بالصلاح لا غير ، وأن ما
سواه مما يرجح به الناس عند الناس ليس بسبب للرجحان عنده . فإن قلت : ما كانت
خيانتهما ؟ قلت : نفاقهما وإبطانهما الكفر ، وتظاهرهما على الرسولين ، فامرأة نوح
قالت لقومه : إنه مجنون ، وامرأة لوط دلت على ضيفانه . ولا يجوز أن يراد بالخيانة
الفجور لأنه سمج في الطباع نقيصة عند كل أحد ، بخلاف الكفر فإن الكفار لا
يستسمجونه بل يستحسنونه ويسمونه حقاً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما بغت
امرأة نبي قط .
) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ
قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ
الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ
بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (
التحريم : ( 11 ) وضرب الله مثلا . . . . .
وامرأة فرعون : آسية بنت مزاحم . وقيل : هي عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت
بتلقف عصا موسى الإفك ، فعذبها فرعون . عن أبي هريرة : أن فرعون وتد امرأته بأربعة
أوتاد ، واستقبل بها الشمس ؛ وأضجعها على ظهرها ، ووضع رحى على صدرها . وقيل : أمر
بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله فرقي بروحها ، فألقيت الصخرة على جسد لا روح
فيه . وعن الحسن : فنجاها الله أكرم نجاة ؛ فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب
وتتنعم فيها . وقيل : لما قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة : أريت بيتها في
الجنة يبنى . وقيل : إنه من درة . وقيل : كانت تعذب في الشمس فتظلها الملائكة .
فإن قلت : ما معنى الجمع بين عندك وفي الجنة ؟ قلت طلبت القرب من رحمة الله والبعد
من عذاب أعدائه ، ثم بينت مكان القرب بقولها : ) فِى الْجَنَّةِ ( أو أرادت ارتفاع
الدرجة في الجنة وأن تكون جنتها من الجنان التي هي أقرب إلى العرش وهي جنات المأوى
، فعبرت عن القرب إلى العرش بقولها : ) عِندَكَ ( . ) مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ (
من عمل فرعون . أو
" صفحة رقم 577 "
من نفس فرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم ، وخصوصاً من عمله وهو : الكفر ، وعبادة
الأصنام ، والظلم ، والتعذيب بغير جرم ) وَنَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (
من القبط كلهم . وفيه دليل على أنّ الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص
منه عند المحن والنوازل : من سير الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين : ) فَافْتَحْ
بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ، (
الشعراء : 118 ) ) رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ( يونس : 86 ) . ) فِيهِ (
في الفرج . وقرأ ابن مسعود : فيها ، كما قرىء في سورة الأنبياء ، والضمير للجملة ،
وقد مرّ لي في هذا الظرف كلام . ومن بدع التفاسير : أنّ الفرج هو جيب الدرع ،
ومعنى أحصنته : منعته جبربل ، وأنه جمع في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج
لها ، تسلية للأرامل وتطييباً لأنفسهنّ ) وَصَدَّقَتْ ( قرىء بالتشديد والتخفيف
على أنها جعلت الكلمات والكتب صادقة ، يعني : وصفتها بالصدق ، وهو معنى التصديق
بعينه . فإن قلت : فما كلمات الله وكتبه ؟ قلت : يجوز أن يراد بكلماته : صحفه التي
أنزلها على إدريس وغيره ، سماها كلمات لقصرها ، وبكتبه : الكتب الأربعة ، وأن يراد
جميع ما كلم الله به ملائكته وغيرهم ، وجميع ما كتبه في اللوح وغيره . وقرىء : (
بكلمة الله وكتابه ) ، أي : بعيسى وبالكتاب المنزل عليه وهو الإنجيل . فإن قلت :
لم قيل ) مِنَ الْقَانِتِينَ ( على التذكير ؟ قلت : لأنّ القنوت صفة تشمل من قنت
من القبيلين ، فغلب ذكوره على إناثه . و ) مِنَ ( للتبعيض ويجوز أن يكون لابتداء
الغاية ، على أنهاولدت من القانتين ؛ لأنها من أعقاب هرون أخي موسى صلوات الله
عليهما . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1213 ) ( كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت
" صفحة رقم 578 "
مزاحم امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد .
وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) وأما ما روي أنّ عائشة سألت
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كيف سمى الله المسلمة ؟ تعني مريم ، ولم يسم
الكافرة ؟ فقال : بغضاً لها : قالت : وما اسمها ؟ قال : اسم امرأة نوح ( واعلة )
واسم امرأة لوط ( واهلة ) فحديث أثر الصنعة عليه ظاهر بين ، ولقد سمى الله تعالى
جماعة من الكفار بأسمائهم وكناهم ، ولو كانت التسمية للحب وتركها للبغض لسمي آسية
، وقد قرن بينها وبين مريم في التمثيل للمؤمنين ، وأبي الله إلا أن يجعل المضنوع
أمارة تنم عليه ، وكلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحكم وأسلم من ذلك .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1214 ) ( من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحاً ) .
" صفحة رقم 579 "
( سورة الملك )
مكية ، وهي ثلاثون آية ( نزلت بعد الطور )
وتسمى : الواقية ، والمنجية ؛ لأنهاتقي وتنجي قارئها من عذاب القبر
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ
الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا
مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى
مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ
خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (
الملك : ( 1 - 4 ) تبارك الذي بيده . . . . .
) تَبَارَكَ ( تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين ) الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ( على
كل موجود ) وَهُوَ عَلَى كُلّ ( ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة ) قَدِيرٌ ( وذكر
اليد مجاز عن الإحاطة بالملك والاستيلاء عليه . والحياة : ما يصح بوجوده الإحساس .
وقيل : ما يوجب كون الشيء حياً ، وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر . والموت عدم ذلك
فيه ، ومعنى خلق الموت والحياة : إيجاد ذلك المصحح وإعدامه . والمعنى : خلق موتكم
وحياتكم أيها المكلفون ) لِيَبْلُوَكُمْ ( وسمى علم الواقع منهم باختيارهم ( بلوى
) وهي الخبرة استعارة من فعل المختبر . ونحوه قوله تعالى : ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ ( ( محمد : 31 ) . فإن قلت : من أين تعلق
قوله : ) أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( بفعل البلوى ؟
" صفحة رقم 580 "
قلت : من حيث أنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملا ؛ وإذا
قلت : علمته أزيد أحسن عملا أم هو ؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه
، كما تقول : علمته هو أحسن عملا . فإن قلت : أتسمى هذا تعليقاً ؟ قلت : لا ، إنما
التعليق أن توقع بعده ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعاً ، كقولك : علمت أيهما عمرو ،
وعلمت أزيد منطلق . ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده
مصدراً بحرف الإستفهام وغير مصدر به ، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما
افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق . وعلمت زيداً منطلقاً : ) أَحْسَنُ عَمَلاً (
. قيل : أخلصه وأصوبه ؛ لأنه إذا كان خالصاً غير صواب لم يقبل ، وكذلك إذا كان
صواباً غير خالص ؛ فالخالص : أن يكون لوجه الله تعالى ؛ والصواب : أن يكون على
السنة . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه تلاها ، فلما بلغ قوله : )
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( قال :
( 1215 ) ( أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ) يعني : أيكم
أتم عقلا عن الله وفهما لأغراضه ؛ والمراد : أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها
على العمل وتستمكنون منه ، وسلط علكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن
على القبيح ، لأن وراءه البعث والجزاء الذي لا بد منه . وقدم الموت على الحياة ،
لأنّ أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى
الغرض المسوق له الآية أهم ) وَهُوَ الْعَزِيزُ ( الغالب الذي لا يعجزه من أساء
العمل ) الْغَفُورُ ( لمن تاب من أهل الإساءة ) طِبَاقاً ( مطابقة بعضها فوق بعض ،
من طابق النعل : إذا خصفها طبقاً على طبق ، وهذا وصف بالمصدر . أو على ذات طباق ،
أو على : طوبقت طباقاً ) مِن تَفَاوُتٍ ( وقرىء : ( من تفوت ) ، ومعنى البناءين
واحد ، كقولهم : تظاهروا من نسائهم . وتظهروا . وتعاهدته وتعهدته ، أي : من اختلاف
واضطراب في الخلقة ولا تناقض ؛ إنما هي مستوية مستقيمة . وحقيقة التفاوت : عدم
التناسب ، كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه . ومنه قولهم : خلق متفاوت . وفي
نقيضه : متناصف . فإن قلت : كيف موقع هذه الجملة مما قبلها ؟ قلت : هي صفة مشايعة
لقوله : ) طِبَاقاً ( وأصلها : ما ترى فيهنّ من تفاوت ، فوضع مكان الضمير قوله : )
خَلْقِ الرَّحْمَانِ ( تعظيماً لخلقهنّ ،
" صفحة رقم 581 "
وتنبيهاً على سبب سلامتهنّ من التفاوت : وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه بباهر قدرته هو
الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب ، والخطاب في ما ترى للرسول أو لكل مخاطب .
وقوله تعالى : ) فَارْجِعِ الْبَصَرَ ( متعلق به على معنى التسبيب ؛ أخبره بأنه لا
تفاوت في خلقهنّ ، ثم قال : ) فَارْجِعِ الْبَصَرَ ( حتى يصح عندك ما أخبرت به
بالمعاينة ، ولا تبقى معك شبهة فيه ) هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ( من صدوع وشقوق : جمع
فطر وهو الشق . يقال : فطره فانفطر . ومنه : فطر ناب البعير ، كما يقال : شق وبزل
. ومعناه : شق اللحم فطلع . وأمره بتكرير البصر فيهنّ متصفحاً ومتتبعاً يلتمس
عيباً وخللاً ) يَنقَلِبْ إِلَيْكَ ( أي إن رجعت البصر وكررت النظر لم يرجع إليك
بصرك بما التمسته من رؤية الخلل وإدراك العيب ، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور ، أي
: بالبعد عن إصابة الملتمس ، كأنه يطرد عن ذلك طرداً بالصغار والقماءة ، وبالإعياء
والكلال لطول الإجالة والترديد . فإن قلت : كيف ينقلب البصر خاسئاً حسيراً برجعه
كرّتين اثنتين ؟ قلت : معنى التثنية التكرير بكثرة ، كقولك : لبيك وسعديك ، تريد
إجابات كثيرة بعضها في أثر بعض ، وقولهم في المثل : دهدرّين سعد القين من ذلك ، أي
: باطلاً بعد باطل . فإن قلت : فما معنى ثم ارجع ؟ قلت : أمره برجع البصر ، ثم
أمره بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى وبالنظرة الحمقاء ، وأن يتوقف بعدها ويجم بصره ،
ثم يعاود ويعاود ، إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة ، فإنه لا يعثر على شيء من
فطور .
) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً
لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (
الملك : ( 5 ) ولقد زينا السماء . . . . .
) الدُّنْيَا ( القربى ؛ لأنها أقرب السموات إلى الناس ، ومعناها : السماء الدنيا
منكم . والمصابيح السرج ، سميت بها الكواكب ، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بأثقاب
" صفحة رقم 582 "
المصابيح ، فقيل : ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها ) بِمَصَابِيحَ ( أي بأي
مصابيح لا توازيهامصابيحكم إضاءة ، وضممنا إلى ذلك منافع أخر : أنا ( جعلنا رجوما
ل ) أعدائكم : ل ( لشياطين ) الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات وتهتدون بها في
ظلمات البر والبحر . قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوماً
للشياطين ، وعلامات يهتدي بها . فمن تأوّل فيها غير ذلك فقد تكلف مالا علم له به
وعن محمد بن كعب : في السماء والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم ، ولكنهم
يبتغون الكهانة ويتخذون النجوم علة . والرجوم : جمع رجم : وهو مصدر سمي به ما يرجم
به . ومعنى كونها مراجم للشياطين : أنّ الشهب التي تنقض لرمي المسترقة منهم منفصلة
من نار الكواكب ، لا أنهم يرجمون بالكواكب أنفسها ؛ لأنها قارة في الفلك على حالها
. وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار ، والنار ثابتة كاملة لا تنقص . وقيل : من
الشياطين المرجومة من يقتله الشهاب . ومنهم من يخبله . وقيل : معناه وجعلناها
ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم النجامون . ) وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ
عَذَابَ السَّعِيرِ ( في الآخرة بعد عذاب الإحراق بالشهب في الدنيا .
) وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَآ
أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ
الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا
مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ
وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ
السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لاًّصْحَابِ السَّعِيرِ إِنَّ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (
الملك : ( 6 ) وللذين كفروا بربهم . . . . .
) وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ ( أي : ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم
) عَذَابَ جَهَنَّمَ ( ليس الشياطين المرجومين مخصوصين بذلك . وقرىء : ( عذاب جهنم
) بالنصب عطفاً على عذاب السعير ) إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا ( أي طرحوا كما يطرح
الحطب في النار العظيمة ، ويرمي به . ومثله قوله تعالى : ) حَصَبُ جَهَنَّمَ ( (
الأنبياء : 98 ) . ) سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا ( إمّا لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها
. أو من أنفسهم ، كقوله : ) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ
" صفحة رقم 583 "
وَشَهِيقٌ ( ( هود : 106 ) وإما للنار تشبيهاً لحسيسها المنكر الفظيع بالشهيق )
وَهِىَ تَفُورُ ( تغلى بهم غليان المرجل بما فيه . وجعلت كالمغتاظة عليهم لشدة
غليانها بهم ، ويقولون : فلان يتميز غيظاً ويتقصف غضباً ، وغضب فطارت منه شقة في
الأرض وشقة في السماء : إذا وصفوه بالإفراط فيه . ويجوز أن يراد : غيظ الزبانية )
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ( توبيخ يزدادون به عذاباً إلى عذابهم وحسرة إلى حسرتهم
. وخزنتها : مالك وأعوانه من الزبانية ) قَالُواْ بَلَى ( اعتراف منهم بعدل الله ،
وإقرار بأن الله عز وعلا أزاح عللهم ببعثه الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه ، وأنهم لم
يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة ؛ وإنما أتوا من قبل أنفسهم ، واختيارهم خلاف ما
اختار الله وأمر به وأوعد على ضده . فإن قلت : ) إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ
كَبِيرٍ ( من المخاطبون به ؟ قلت : هو من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين ، على
أنّ النذير بمعنى الإنذار . والمعنى : ألم يأتكم أهل نذير . أو وصف منذروهم لغلوهم
في الإنذار ، كأنهم ليسوا إلا إنذاراً ؛ وكذلك ) قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ ( ونظيره
قوله تعالى : ) إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( ( الشعراء : 16 ) أي حاملاً
رسالته . ويجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول : أرادوا حكاية ما
كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا . أو أرادوا بالضلال ؛ الهلاك . أو سموا عقاب
الضلال باسمه . أو من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة ، أي قالوا لنا هذا فلم نقبله )
لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ ( الإنذار سماع طالبين للحق . أم نعقله عقل متأمّلين . وقيل
: إنما جمع بين السمع والعقل ؛ لأنّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل . ومن بدع
التفاسير : أنّ المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي ،
كأنّ هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين ، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين
قد أنزل الله وعيدهم ، وكأن من كان من هؤلاء فهو من الناجين لا محالة ؛ وعدّة
المبشرين من الصحابة : عشرة ، لم يضم إليهم حادي عشر ، وكأن من يجوز على الصراط
أكثرهم لم يسمعوا باسم هذين الفريقين ) بِذَنبِهِمْ ( بكفرهم
" صفحة رقم 584 "
في تكذيبهم الرسل ) فَسُحْقًا ( قرىء بالتخفيف والتثقيل ، أي : فبعداً لهم ،
اعترفوا أو جحدوا ؛ فإنّ ذلك لا ينفعهم .
) وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (
الملك : ( 13 ) وأسروا قولكم أو . . . . .
ظاهره الأمر بأحد الأمرين : الإسرار والإجهار . ومعناه : ليستو عندكم إسراركم
وإجهاركم في علم الله بهما ، ثم أنه علله ب ( بأنه عليم بذات الصدور ) أي بضمائرها
قبل أن تترجم الألسنة عنها ، فكيف لا يعلم ما تكلم به . ثم أنكر أن لا يحيط علماً
بالمضمر والمسر والمجهر ) مِنْ خَلَاقٍ ( الأشياء ، وحاله أنه اللطيف الخبير ،
المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن . ويجوز أن يكون ) مِنْ خَلَاقٍ (
منصوباً بمعنى : ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله . وروى أنّ المشركين كانوا يتكلمون
فيما بينهم بأشياء ، فيظهر الله رسوله علتها ، فيقولون : أسروا قولكم لئلا يسمعه
إله محمد ، فنبه الله على جهلهم . فإن قلت : قدرت في ) أَلاَ يَعْلَمُ ( مفعولاً
على معنى : ألا يعلم ذلك المذكور مما أضمر في القلب وأظهر باللسان من خلق ، فهلا
جعلته مثل قولهم : هو يعطي ويمنع ؛ وهلا كان المعنى : ألا يكون عالماً من هو خالق
؛ لأنّ الخلق لا يصح إلا مع العلم ؟ قلت : أبت ذلك الحال التي هي قوله : ) وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( لأنك لو قلت : ألا يكون عالماً من هو خالق وهو اللطيف
الخبير : لم يكن معنى صحيحاً ؛ لأنّ ألا يعلم معتمد على الحال . والشيء لا يوقت
بنفسه ، فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم
" صفحة رقم 585 "
بكل شيء .
) هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ رْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا
وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (
الملك : ( 15 ) هو الذي جعل . . . . .
المشي في مناكبها : مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية ؛ لأنّ المنكبين وملتقاهما
من الغارب أرق شيء من البعير وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا
جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك . وقيل : مناكبها جبالها . قال الزجاج
: معناه سهل لكم السلوك في جبالها ، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها ، فهو أبلغ
التذليل . وقيل : جوانبها . والمعنى : وإليه نشوركم ، فهو مسائلكم عن شكر ما أنعم
به عليكم .
) أَءَمِنتُمْ مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الاٌّ رْضَ فَإِذَا هِىَ
تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً
فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ
وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَانُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ
بَصِيرٌ (
الملك : ( 16 - 19 ) أأمنتم من في . . . . .
) مَّن فِى السَّمَاء ( فيه وجهان : أحدهما من ملكوته في السماء ؛ لأنها مسكن
ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره
ونواهيه . والثاني : أنهم كانوا يعتقدون التشبيه ، وأنه في السماء ، وأنّ الرحمة
والعذاب ينزلان منه ، وكانوا يدعونه من جهتها ، فقيل لهم على حسب اعتقادهم :
أأمنتم من تزعمون أنه في السماء ، وهو متعال عن المكان أن يعذبكم بخسف أو بحاصب ،
كما تقول لبعض المشبهة : أما تخاف من فوق العرش أن يعاقبك بما تفعل ، إذا رأيته
يركب بعض المعاصي ) فَسَتَعْلَمُونَ ( قرىء : بالتاء والياء ) كَيْفَ نَذِيرِ ( أي
إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم ) صَافَّاتٍ ( باسطات
أجنحتهنّ في الجوّ عند طيرانها ؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً )
وَيَقْبِضْنَ ( ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن . فإن قلت : لم قيل : ويقبضن ، ولم
يقل : وقابضات ؟ قلت : لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة ؛ لأنّ الطيران في
الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مدّ الأطراف وبسطها . وأما القبض
فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل ،
على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح
" صفحة رقم 586 "
) مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَانُ ( بقدرته وبما دبر لهن من القوادم
والخوافي ، وبني الأجسام على شكل وخصائص قد تأتى منها الجري في الجو ) إِنَّهُ
بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ ( يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب .
) أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَانِ
إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ
أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (
الملك : ( 20 ) أم من هذا . . . . .
) أَمَّنْ ( يشار إليه من الجموع ويقال ) هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ
يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ اللَّهِ ( إن أرسل عليكم عذابه ) أَمَّنْ ( يشار إليه ويقال
) هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ( وهذا على التقدير . ويجوز
أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة
آلهتهم ، فكأنهم الجند الناصر والرازق . ونحوه قوله تعالى : ) أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ
تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا ( ( الأنبياء : 43 ) . ) بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ
وَنُفُورٍ ( بل تمادوا في عناد وشراد عن الحق لثقله عليهم فلم يتبعوه .
) أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ الَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالاٌّ بْصَارَ وَالاٌّ فْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِى
ذَرَأَكُمْ فِى الاٌّ رْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (
الملك : ( 22 ) أفمن يمشي مكبا . . . . .
يجعل ( أكب ) مطاوع ( كبه ) يقال : كببته فأكب ، من الغرائب والشواذ . ونحوه :
قشعت الريح السحاب فأقشع ، وما هو كذلك ؛ ولا شيء من بناء أفعل مطاوعاً ، ولا يتقن
نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه ؛ وإنما ( أكب ) من باب ( انفض ، وألأم ) ومعناه :
دخل في الكب ، وصار ذا كب ؛ وكذلك أقشع السحاب : دخل في القشع . ومطاوع كب وقشع :
انكب وانقشع . فإن قلت ما معنى ) يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ ( ؟ وكيف قابل )
يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ( الملك : 22 ) ؟ قلت : معناه :
يمشي معتسفاً في مكان معتاد غير مستو فيه انخفاض وارتفاع ، فيعثر كل ساعة فيخر على
وجهه منكباً ، فحاله نقيض حال من يمشي سوياً ، أي : قائماً سالماً من العثور
والخرور . أو مستوى الجهة قليل الانحراف خلاف المعتسف الذي ينحرف هكذا وهكذا على
طريق مستو . ويجوز أن يراد الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف ، فلا يزال
ينكب على وجهه ، وأنه ليس كالرجال السوي
" صفحة رقم 587 "
الصحيح البصر الماشي في الطريق المهتدي له ، وهو مثل للمؤمن والكافر . وعن قتادة :
الكافر أكب على معاصي الله تعالى فحشره الله يوم القيامة على وجهه . وعن الكلبي :
عني به أبو جهل بن هشام . وبالسويّ : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقيل :
حمزة بن عبد المطلب .
) وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ
زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَاذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ
تَدَّعُونَ (
الملك : ( 25 ) ويقولون متى هذا . . . . .
) فَلَمَّا رَأَوْهُ ( الضمير للوعد . والزلفة : القرب ، وانتصابها على الحال أو
الظرف ، أي : رأوه ذا زلفة أو مكاناً ذا زلفة ) سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ ( أي ساءت رؤية الوعد وجوههم : بأن عليها الكآبة وغشيها الكسوف والقترة ،
وكلحوا ، وكما يكون وجه من يقاد إلى القتل أو يعرض على بعض العذاب ) وَقِيلَ (
القائلون : الزبانية ) تَدْعُونَ ( تفتعلون من الدعاء ، أي : تطلبون وتستعجلون به
. وقيل : هو من الدعوى ، أي : كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون . وقرىء : ( تدعون
) ، وعن بعض الزهاد : أنه تلاها في أول الليل في صلاته ، فبقي يكررها وهو يبكي إلى
أن نودي لصلاة الفجر ، ولعمري إنها لو قاذة لمن تصور تلك الحالة وتأملها .
) قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا
فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (
الملك : ( 28 ) قل أرأيتم إن . . . . .
كان كفار مكة يدعون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى المؤمنين بالهلاك ،
فأمر بأن يقول لهم : نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين : إما أن نهلك كما تتمنون
فننقلب إلى الجنة ، أو نرحم بالنصرة والإدالة للإسلام كما نرجو ، فأنتم ما تصنعون
؟ من يجيركم وأنتم كافرون من عذاب النار ؟ لا بدّ لكم منه ، يعني : إنكم تطلبون
لنا الهلاك الذي هو استعجال للفوز والسعادة ، وأنتم في أمر هو الهلاك الذي لا هلاك
بعده ، وأنتم غافلون لا تطلبون الخلاص منه . أو إن أهلكنا الله بالموت فمن يجيركم
بعد موت هداتكم ، والآخذين بحجزكم من النار ، وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم
وقتلكم فمن يجيركم ؛ فإنّ المقتول على أيدينا هالك . أو إن أهلكنا الله في الآخرة
بذنوبنا ونحن مسلمون ، فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم ؛ وإن رحمنا
بالإيمان فيمن يجير من لا إيمان له .
" صفحة رقم 588 "
) قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ
مَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ (
الملك : ( 29 ) قل هو الرحمن . . . . .
فإن قلت لم أخر مفعول آمنا وقدم مفعول توكلنا ؟ قلت : لوقوع آمنا تعريضاً بالكافرين
حين ورد عقيب ذكرهم ، كأنه قيل : آمنا ولم نكفر كما كفرتم ، ثم قال : وعليه توكلنا
خصوصاً لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم .
) قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ
مَّعِينٍ (
الملك : ( 30 ) قل أرأيتم إن . . . . .
) غورا ( غائراً ذاهباً في الأرض . وعن الكلبي لا تناله الدلاء ، وهو وصف بالمصدر
كعدل ورضا . وعن بعض الشطار أنها تليت عنده فقال : تجيء به الفؤوس والمعاول ، فذهب
ماء عينيه ؛ نعوذ بالله من الجراءة على الله وعلى آياته .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1216 ) ( من قرأ سورة الملك فكأنما أحيا ليلة القدر ) .
" صفحة رقم 589 "
( سورة ن )
مكية ، وهي إثنان وخمسون آية ( نزلت بعد العلق )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (
القلم : ( 1 ) ن والقلم وما . . . . .
قرىء : ( ن والقلم ) بالبيان والإدغام ، وبسكون النون وفتحها وكسرها ، كما في ص .
والمراد هذا الحرف من حروف المعجم : وأمّا قولهم : هو الدواة فما أدري أهو وضع
لغوي أم شرعي ؟ ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن
كان جنساً فأين الإعراب والتنوين ، وإنّ كان علماً فأين الإعراب ، وأيهما كان فلا
بد له من موقف في تأليف الكلام . فإن قلت : هو مقسم به وجب إن كان جنساً أن تجرّه
وتنوّنه ، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة ، كأنه قيل : ودواة والقلم ، وإن كان
علماً أن تصرفه وتجرّه ، أو لا تصرفه وتفتحه للعلمية والتأنيث ، وكذلك التفسير
بالحوت : إما أن يراد نون من النينان ، أو يجعل علماً للبهموت الذي يزعمون ،
والتفسير باللوح من نور أو ذهب ، والنهر في الجنة نحو ذلك ، وأقسم بالقلم :
تعظيماً له ، لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ، ولما فيه من
المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف ) وَمَا يَسْطُرُونَ ( وما يكتب من كتب
وقيل ما يستره الحفظة وما موصولة أو مصدرية ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون
الضمير في ) يَسْطُرُونَ ( لهم كأنه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم . أو سطورهم ،
ويراد بهم كل ما يسطر ، أو الحفظة .
) مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاّجْراً غَيْرَ
مَمْنُونٍ (
القلم : ( 2 ) ما أنت بنعمة . . . . .
فإن قلت : بم يتعلق الباء في ) بِنِعْمَةِ رَبّكَ ( وما محله ؟ قلت : يتعلق بمجنون
منفياً ، كما يتعلق بعاقل مثبتاً في قولك : أنت بنعمة الله عاقل ، مستوياً في ذلك
الإثبات والنفي استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً ، وما ضرب زيد عمراً : تعمل
الفعل مثبتاً ومنفياً
" صفحة رقم 590 "
إعمالاً واحداً ؛ ومحله النصب على الحال ، كأنه قال : ما أنت بمجنون منعماً عليك
بذلك ؛ ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله ، لأنها زائدة لتأكيد النفي .
والمعنى ؛ استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً ، وأنه من إنعام الله
عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوّة ، بمنزل ) وَإِنَّ لَكَ
( على احتمال ذلك وإساغة الغصة فيه والصبر عليه ) لاجْرًا ( لثواباً ) غَيْرُ
مَمْنُونٍ ( غير مقطوع كقوله : ) عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( ( هود : 108 ) أو غير
ممنون عليك به ، لأنّه ثواب تستوجبه على عملك ، وليس بتفضل ابتداء ؛ وإنما تمنّ
الفواضل لا الأجور على الأعمال .
) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (
القلم : ( 4 ) وإنك لعلى خلق . . . . .
استعظم خلقه لفرط احتماله الممضات من قومه وحسن مخالفته ومداراته لهم . وقيل : هو
الخلق الذي أمره الله تعالى به في قوله تعالى : ) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( ( الأعراف : 199 ) وعن عائشة رضي الله
عنها :
( 1217 ) أن سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت :
كان خلقه القرآن ، ألست تقرأ القرآن : قد أفلح المؤمنون .
) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (
القلم : ( 5 ) فستبصر ويبصرون
) الْمَفْتُونُ ( المجنون ، لأنه فتن : أي محن بالجنون . أو لأن العرب يزعمون أنه
من تخبيل الجن ، وهم الفتان للفتاك منهم ، والباء مزيدة . أو المفتون مصدر
كالمعقول والمجلود ، أي : بأيكم الجنون ، أو بأي الفريقين منكم الجنون ، أبفريق
المؤمنين أم بفريق الكافرين ؟ أي : في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم : وهو تعريض
بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما ، وهذا كقوله تعالى : )
سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاْشِرُ ( ( القمر : 26 ) .
" صفحة رقم 591 "
) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ
فَيُدْهِنُونَ (
القلم : ( 7 ) إن ربك هو . . . . .
) إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ( بالمجانين على الحقيقة ، وهم الذين ضلوا عن
سبيله ) وَهُوَ أَعْلَمُ ( بالعقلاء وهم المهتدون . أو يكون وعيداً ووعداً ، وأنه
أعلم بجزاء الفريقين ) فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ ( تهييج وإلهاب للتصميم على
معاصاتهم ، وكانوا قد أرادوه على أن يعبد الله مدة ، وآلهتهم مدة ، ويكفوا عنه
غوائلهم ) لَوْ تُدْهِنُ ( لو تلين وتصانع ) فَيُدْهِنُونَ ( فإن قلت : لم رفع )
فَيُدْهِنُونَ ( ولم ينصب بإضمار ( أن ) وهو جواب التمني ؟ قلت : قد عدل به إلى
طريق آخر : وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم يدهنون ، كقوله تعالى : ) فَمَن
يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ ( ( الجن : 13 ) على معنى : ودوا لو تدهن فهم
يدهنون حينئذٍ . أو ودوا إدهانك فهم الآن يدهنون ؛ لطمعهم في إدهانك . قال سيبويه
: وزعم هرون أنها في بعض المصاحف ودوا لو تدهن فيدهنوا .
) وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ
لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ
وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (
القلم : ( 10 ) ولا تطع كل . . . . .
) حَلاَّفٍ ( كثير الحلف في الحق والباطل ، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف . ومثله
قوله تعالى : ) وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لاِيْمَانِكُمْ ( ( البقرة :
224 ) . ) مُّهِينٌ ( من المهانة وهي القلة والحقارة ، يريد القلة في الرأي
والتمييز . أو أراد الكذاب لأنه حقير عند الناس ) هَمَّازٍ ( عياب طعان . وعن
الحسن . يلوى شدقيه في أفقية الناس ) مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ( مضرب نقال للحديث من
قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم . والنميم والنميمة : السعاية ،
وأنشدني بعض العرب : تَشَبَّبِي تَشَبُّبَ النَّمِيمَه
تَمْشِي بِهَا زَهْرَا إِلَى تَمِيمَه
) مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ ( بخيل . والخير : المال . أو مناع أهه الخير وهو الإسلام
، فذكر الممنوع منه دون الممنوع ، كأنه قال : مناع من الخير . قيل : هو الوليد بن
المغيرة
" صفحة رقم 592 "
المخزومي : كان موسراً ، وكان له عشرة من البنين ، فكان يقول لهم وللحمته : من
أسلم منكم منعته رفدي عن ابن عباس . وعنه : أنه أبو جهل . وعن مجاهد : الأسود بن
عبد يغوث . وعن السدي : الأخنس ابن شريق ، أصله في ثقيف وعداده في زهرة ، ولذلك
قيل : زنيم ) مُعْتَدٍ ( مجاوز في الظلم حده ) أَثِيمٍ ( كثير الآثام ) عُتُلٍ (
غليظ جاف ، من عتله : إذا قاده بعنف وغلظة ) بَعْدَ ذَلِكَ ( بعدما عدّ له من
المثالب والنقائص ) زَنِيمٍ ( دعي . قال حسان : وَأنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي ءَالِ
هَاشِم
كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ
وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده .
وقيل : بغت أمّه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية ، جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه ، لأنه
إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية ، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت
خبث الناشىء منها . ومن ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1218 ) ( لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده ) و ) بَعْدَ ذَلِكَ (
نظير ( ثم ) في قوله : ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( ( البلد : 17 )
وقرأ الحسن : ( عتل ) رفعاً على الذم وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك .
والزنيم : من الزنمة وهي الهنة من جلد الماعزة تقتلع فتخلى معلقة في حلقها ، لأنه
زيادة معلقة بغير أهله ) أَن كَانَ ذَا مَالٍ
" صفحة رقم 593 "
( متعلق بقوله : ) وَلاَ تُطِعِ ( يعني ولا تطعه مع هذه المثالب ، لأن كل ذا مال .
أي : ليساره وحظه من الدنيا . ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى : لكونه متمولاً
مستظهراً بالبنين كذب آياتنا ولا يعمل فيه ) قَالَ ( الذي هو جواب إذا ، لأن ما
بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب . وقرىء :
( أأن كان ) ؟ على الاستفهام على : إلا لأن كان ذا مال وبنين ، كذب . أو أتطيعه
لأن كان ذا مال . وروى الزبيري عن نافع : إن كان ، بالكسر والشرط للمخاطب ، أي :
لا تطع كل حلاف شارطاً يساره ، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه فكأنه اشترط في الطاعة
الغنى ، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجي إليه في قوله تعالى : ) لَّعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ ( ( طه : 44 ) الوجه : أكرم موضع في الجسد ، والأنف أكرم موضع من
الوجه لتقدمه له ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية ، واشتقوا منه الأنفة . وقالوا
الأنف في الأنف ، وحمى أنفه ، وفلان شامخ العرنين . وقالوا في الذليل : جدع أنفه ،
ورغم أنفه ، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة ، لأن السمة على
الوجه شين وإذالة ، فكيف بها على أكرم موضع منه ، ولقد :
( 1219 ) وسم العباس أباعر في وجوهها ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
: زأكرموا الوجوه ) فوسمها في جواعرها وفي لفظ ( الخرطوم ) استخفاف به واستهانة .
وقيل معناه : سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يبين بها عن سائر الكفرة ، كما عادى
رسول االله ( صلى الله عليه وسلم ) عدارة بأن بها عنهم . وقيل : خطم يوم بدر
بالسيف فبقيت سمة على خرطومه . وقيل : سنشهره بهذه الشتيمة في الدارين جميعاً ،
فلا تخفى ، كما لا تخفى السمة على الخرطوم . وعن النضر بن شميل : أن الخرطوم الخمر
، وأن معناه : سنحده على شربها وهو تعسف . وقيل للخمر : الخرطوم ، كما قيل لها :
السلافة . وهي ما سلف من عصير العنب . أو لأنها تطير في الخياشيم .
) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ
لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن
رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ
أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ
" صفحة رقم 594 "
فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ
عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا
قَالُواْ إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ
أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا
ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُواْ ياوَيْلَنَآ
إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ
إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَةِ أَكْبَرُ
لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (
القلم : ( 17 ) إنا بلوناهم كما . . . . .
إنا بلونا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم )
كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ( وهم قوم من أهل الصلاة كانت لأبيهم هذه
الجنة دون صنعاء بفرسخين ، فكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي ، وكان يترك
للمساكين ما أخطأه المنجل ، وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب ، وما
بقي على البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت ، فكان يجتمع لهم شيء كثير ، فلما
مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال ،
فحلفوا ليصرمنها مصبحين في السدف خفية عن المساكين ، ولم يستثنوا في يمينهم ،
فأحرق الله جنتهم . وقيل : كانوا من بني إسرائيل ) مُّصْبِحِينَ ( داخلين في الصبح
مبكرين ) وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ( ولا يقولون إن شاء الله . فإن قلت : لم سمي
استثناء ، وإنما هو شرط ؟ قلت : لأنه يؤدي مؤدي الاستثناء ، من حيث أن معنى قولك :
لأخرجنّ إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله . واحد ) فَطَافَ عَلَيْهَا (
بلاء أو هلاك ) طَئِفٌ ( كقوله تعالى : ) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ( ( الكهف : 42 )
وقرىء : ( طيف ) ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( كالمصرومة لهلاك ثمرها . وقيل :
الصريم الليل ، أي .
" صفحة رقم 595 "
احترقت فاسودت . وقيل : النهار أي : يبست وذهبت خضرتها . أو لم يبق شيء فيها ، من
قولهم : بيض الإناء ، إذا فرغه . وقيل الصريم الرمال ) صَارِمِينَ ( حاصدين . فإن
قلت : هلا قيل : اغدوا إلى حرثكم ؛ وما معنى ( على ) ؟ قلت : لما كان الغدوّ إليه
ليصرموه ويقطعوه : كان غدوّا عليه ، كما تقول : غداً عليهم العدوّ . ويجوز أن يضمن
الغدوّ معنى الإقبال ، كقولهم : يفدى عليه بالجفنة ويراح ، أي : فأقبلوا على حرثكم
باكرين ) يَتَخَافَتُونَ ( يتسارّون فيما بينهم . وخفى ، وخفت ، وخفد : ثلاثتها في
معنى الكتم ؛ ومنه الخفدود للخفاش ) أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ( أن مفسرة . وقرأ
ابن مسعود بطرحها بإضمار القول ، أي تخافتون يقولون لا يدخلنها ؛ والنهي عن الدخول
للمسكين نهي لهم عن تمكينه منه ، أي : لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل كقولك : لا
أرينك ههنا . الحرد : من حردت السنة إذا منعت خيرها ؛ وحاردت الإبل إذا منعت درّها
. والمعنىّ : وغدوا قادرين على نكد ، لا غير عاجزين عن النفع ، يعني أنهم عزموا أن
يتنكدوا على المساكين ويحرموهم وهم قادرون على نفعهم ، فغدوا بحال فقر وذهاب مال
لا يقدرون فيها إلا على النكد والحرمان ، وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا
الحرمان والمسكنة . أو وغدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها قادرين ، بدل كونهم
قادرين على إصابة خيرها ومنافعها ، أي : غدوا حاصلين على الحرمان مكان الانتفاع ،
أو لما قالوا اغدوا على حرثكم وقد خبثت نيتهم : عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم
وحرموا خيرها ، فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد . و ) قَادِرِينَ ( من عكس
الكلام للتهكم ، أي : قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين ، وعلى
حرد ليس بصلة قادرين ، وقيل : الحرد بمعنى الحرد . وقرىء : ( على حرد ) ، أي لم
يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض ، كقوله تعالى : ) يَتَلَاوَمُونَ ( (
القلم : 30 ) وقيل : الحرد القصد والسرعة ؛ يقال : حردت حردك . وقال : أقْبَلَ
سَيْلٌ جَاءَ مِنْ أمرِ اللَّه
يَحْرُدُ حَرْدَ الْجَنَّةِ اْلمُغْلَّةْ
وقطا حراد : سراع ، يعني : وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة ونشاط ، قادرين عند
أنفسهم ، يقولون : نحن نقدر على صرامها وزيّ منفعتها عن المساكين . وقيل : )
حَرْدٍ ( علم للجنة ، أي غدواً على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم . أو
مقدرين
" صفحة رقم 596 "
أن يتم لهم مرادهم من الصرام والحرمان ) قَالُواْ ( في بديهة وصولهم ) إِنَّا
لَضَالُّونَ ( أي ضللنا جنتنا ، وما هي بها لما رأوا من هلاكها ؛ فلما تأملوا
وعرفوا أنها هي قالوا : ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( حرمنا خيرها لجنايتنا على
أنفسنا ) أَوْسَطُهُمْ ( أعدلهم وخيرهم ، من قولهم : هو من سطة قومه ، وأعطني من
سلطات مالك . ومنه قوله تعالى : ) أُمَّةً وَسَطًا ( ( البقرة : 143 ) . ) لَوْلاَ
تُسَبّحُونَ ( لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم ، كأن أوسطهم قال لهم
حين عزموا على ذلك : اذكروا الله وانتقامه من المجرمين ، وتوبوا عن هذه العزيمة
الخبيثة من فوركم ، وسارعواإلى حسم شرها قبل حلول النقمة ، فعصوه فعيرهم . والدليل
عليه قولهم : ) سُبْحَانَ رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( فتكلموا بما كان
يدعوهم إلى التكلم به على أثر مقارفة الخطيئة ، ولكن بعد خراب البصرة . وقيل :
المراد بالتسبيح . الاستثناء لالتقائهما في معنى التعظيم لله ، لأنّ الاستثناء
تفويض إليه ، والتسبيح تنزيه له ؛ وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم . وعن الحسن
: هو الصلاة ، كأنهم كانوا يتوانون في الصلاة ؛ وإلاّ لنهتهم عن الفحشاء والمنكر ،
ولكانت لهم لطفاً في أن يستثنوا ولا يحرموا ) سُبْحَانَ رَبّنَا ( سبحوا الله
ونزهوه عن الظلم وعن كل قبيح ، ثم اعترفوا بظلمهم في منع المعروف وترك الاستثناء )
يَتَلَاوَمُونَ ( يلوم بعضهم بعضاً ؛ لأنّ منهم من زين ، ومنهم من قبل ، ومنهم من
أمر بالكف وعذر ومنهم من عصى الأمر ، ومنهم من سكت وهو أراض ) أَن يُبْدِلَنَا (
قرىء بالتشديد والتخفيف ) إِلَى رَبّنَا راغِبُونَ ( طالبون منه الخير راجون لعفوه
) كَذَلِكَ الْعَذَابُ ( مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب
الدنيا ) وَلَعَذَابُ الاْخِرَةِ ( أشد وأعظم منه ، وسئل قتادة عن أصحاب الجنة :
أهم من أهل الجنة أم من أهل النار ؟ فقال : لقد كلفتني تعباً . وعن مجاهد : تابوا
فأبدلوا خيراً منها . وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه : بلغني أنهم أخلصوا وعرف
الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان : فيها عنب يحمل البغل منه
عنقوداً .
) إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (
القلم : ( 34 ) إن للمتقين عند . . . . .
) عِندَ رَبّهِمْ ( أي في الآخرة ) جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( ليس فيها إلا التنعم
الخالص ، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنان الدنيا .
) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ
لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (
القلم : ( 35 ) أفنجعل المسلمين كالمجرمين
كان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها ، فإذا سمعوا
بحديث الآخرة وما وعد الله المسلمين قالوا : إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد
" صفحة رقم 597 "
ومن معه لم تكن حالهم وحالنا إلا مثل ما هي في الدنيا ، وإلا لم يزيدوا علينا ولم
يفضلونا ، وأقصى أمرهم أن يساوونا ، فقيل : أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين
. ثم قيل لهم على طريقة الالتفات ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( هذا الحكم
الأعوج ؟ كأنّ أمر الجزاء مفوّض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم ) أَمْ لَكُمْ
كِتَابٌ ( من السماء ) تَدْرُسُونَ ( في ذلك الكتاب أنّ ما تختارونه وتشتهونه لكم
، كقوله تعالى : ) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ ( فأتوا بكتابكم والأصل تدرسون
أنّ لكم ما تخيرون ، بفتح أنّ ؛ لأنه مدروس ؛ فلما جاءت اللام كسرت . ويجوز أن
تكون حكاية للدروس ، كما هو ، كقوله : ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاٌّ خِرِينَ
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ ( . وتخير الشيء واختاره : أخذ خيره ،
ونحوه : تنخله وانتخله : إذا أخذ منخوله . لفلان عليّ يمين بكذا : إذا ضمنته منه
وحلفت له على الوفاء به ، يعني : أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية
في التوكيد فإن قلت : بم يتعلق ) إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ( ؟ قلت : المقدر في
الظرف ، أي : هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج عن عهدتها إلا يومئذٍ
إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون . ويجوز أن يتعلق ببالغة ، على أنها تبلغ ذلكم
اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم .
وقرأ الحسن ( بالغة ) بالنصب على الحال من الضمير في الظرف ) إِنَّ لَكُمْ لَمَا
تَحْكُمُونَ ( جواب القسم ؛ لأنّ معنى ) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا ( أم
أقسمنا لكم .
) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَالِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ
بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ (
القلم : ( 40 - 41 ) سلهم أيهم بذلك . . . . .
) أَيُّهُم بِذالِكَ ( الحكم ) زَعِيمٌ ( أي قائم به وبالاحتجاج لصحته ، كما يقوم
الزعيم المتكلم عن القوم المتكفل بأمورهم ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء ( أي ناس
يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم عليه ويذهبون مذهبهم فيه ) فَلْيَأْتُواْ ( بهم
) إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ( في دعواهم ، يعني : أنّ أحداً لا يسلم لهم هذا ولا
يساعدهم عليه ، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ، ولا عهد لهم به عند الله ، ولا زعيم
لهم يقوم به .
) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى
السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ( 7 )
القلم : ( 42 ) يوم يكشف عن . . . . .
" صفحة رقم 598 "
الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام : مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب ، وأصله في
الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهنّ في الهرب ، وإبداء خدامهن عند ذلك . قال
حاتم : أَخُو الْحَرْبِ إنْ غَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا
وَإنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا
وقال ابن الرقيات : تُذْهِلُ الشَّيْخَ عَنْ بَنِيهِ وَتُبْدِي
عَنْ خِدَامِ الْعَقِيلَةِ الْعَذْرَاءِ
فمعنى ) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ( في معنى : يوم يشتدّ الأمر ويتفاقم ، ولا كشف
ثم ولا ساق ، كماتقول للأقطع الشحيح : يده مغلولة ، ولا يد ثم ولا غل ؛ وإنما هو
مثل في البخل . وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان ، والذي غرّه منه
حديث ابن مسعود رضي الله عنه :
( 1220 ) ( يكشف الرحمن عن ساقه ؛ فأمّا المؤمنون فيخرّون سجداً ، وأما المنافقون
فتكون ظهورهم طبقاً طبقاً كأنّ فيها سفافيد ) ومعناه : يشتد أمر الرحمن ويتفاقم
هوله ، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة ، ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب
إليه المشبه ، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن . فإن قلت : فلم جاءت
منكرة في التمثيل ؟ قلت : للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة منكر خارج عن المألوف
، كقوله : ) يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْء نُّكُرٍ ( ( القمر : 6 ) كأنه
قيل : يوم يقع أمر فظيع هائل ؛ ويحكى هذا التشبيه عن مقاتل : وعن أبي عبيدة : خرج
من خراسان رجلان ، أحدهما : شبه حتى مثل ، وهو مقاتل بن سليمان ، والآخر نفي حتى
عطل وهو جهم بن صفوان ؛ ومن أحس بعظم مضارّ فقد هذا العلم علم مقدار عظم منافعه .
وقرىء : ( يوم نكشف ) بالنون . وتكشف بالتاء على البناء للفاعل والمفعول جميعاً ،
والفعل للساعة أو
" صفحة رقم 599 "
للحال ، أي : يوم تشتدّ الحال أو الساعة ، كما تقول : كشفت الحرب عن ساقها ، على
المجاز . وقرىء : ( تكشف ) بالتاء المضمومة كسر الشين ، من أكشف : إذا دخل في
الكشف . ومنه . أكشف الرجل فهو مكشف ، إذا انقلبت شفته العليا . وناصب الظرف :
فليأتوا . أو إضمار ( اذكر ) أو يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت ، فحذف للتهويل
البليغ . وإن ثم من الكوائن ما لا يوصف لعظمه . عن ابن مسعود رضي الله عنه : تعقم
أصلابهم واحداً ، أي ترد عظاماً بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض . وفي الحديث
: وتبقى أصلابهم طبقا واحدا ، أيّ ، فقارة واحدة . فإن قلت : لم يدعون إلى السجود
ولا تكليف ؟ قلت : لا يدعون إليه تعبداً وتكليفاً ، ولكن توبيخاً وتعنيفاً على
تركهم السجود في الدنيا ، مع إعقام أصلابهم والحيلولة بينهم وبين الاستطاعة
تحسيراً لهم وتنديماً على ما فرّطوا فيه حين دعوا إلى السجود ، وهم سالمون الأصلاب
والمفاصل ممكنون مزاحو العلل فيما تعبدوا به .
) فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ
لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ (
القلم : ( 44 ) فذرني ومن يكذب . . . . .
يقال : ذرني وإياه ، يريدون كله إليّ ، فإني أكفيكه ، كأنه يقول : حسبك إيقاعاً به
أن تكل أمره إليّ وتخلى بيني وبينه ، فإني عالم بما يجب أن يفعل به مطيق له ،
والمراد : حسبي مجازياً لمن يكذب بالقرآن ، فلا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عليّ في
الانتقام منه تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وتهديداً للمكذبين .
استدرجه إلى كذا : إذا استنزله إليه درجة فدرجة ، حتى يورطه فيه . واستدراج الله
العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة ، فيجعلوا رزق الله ذريعة ومتسلقاً إلى ازدياد
الكفر والمعاصي ) مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ( أي : من الجهة التي لا يشعرون أنه
استدراج وهو الإنعام عليهم ، لأنهم يحسبونه إيثاراً لهم وتفضيلاً على المؤمنين ،
وهو سبب لهلاكهم ) وَأُمْلِى لَهُمْ ( وأمهلهم ، كقوله تعالى : ) إِنَّمَا نُمْلِى
لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( والصحة والرزق والمدّ في العمر : إحسان من الله
وإفضال يوجب عليهم الشكر والطاعة ، ولكنهم يجعلونه سبباً في الكفر باختيارهم ،
فلما تدرجوا به إلى الهلاك وصف المنعم بالاستدراج . وقيل : كم من مستدرج بالإحسان
إليه ، وكم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه . وسمي إحسانه
وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً ، لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للتورّط في
الهلكة ، ووصفه
" صفحة رقم 600 "
بالمتانة لقوّة أثر إحسانه في التسبب للهلاك .
) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (
القلم : ( 46 ) أم تسألهم أجرا . . . . .
المغرم : الغرامة ، أي لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجراً ، فيثقل عليهم حمل
الغرامات في أموالهم ، فيثبطهم ذلك عن الإيمان ) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ ( أي
اللوح ) فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( منه ما يحكمون به .
) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ
مَكْظُومٌ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ
وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (
القلم : ( 48 ) فاصبر لحكم ربك . . . . .
) لِحُكْمِ رَبّكَ ( وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم ) وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ
الْحُوتِ ( يعني : يونس عليه السلام ) إِذْ نَادَى ( في بطن الحوت ) وَهُوَ
مَكْظُومٌ ( مملوء غيظاً ، من كظم السقاء إذا ملأه ، والمعنى : لا يوجد منك ما وجد
منه من الضجر والمغاضبة ، فتبتلى ببلائه ، حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه
. وقرأ ابن عباس وابن مسعود : ( تداركته ) . وقرأ الحسن : ( تداركه ) ، أي تتداركه
على حكاية الحال الماضية ، بمعنى : لو أن كان يقال فيه تتداركه ، كما يقال : كان
زيد سيقوم فمنعه فلان ، أي كان يقال فيه سيقوم . والمعنى : كان متوقعاً منه القيام
. ونعمة ربه : أن أنعم عليه بالتوفيق للتوبة وتاب عليه . وقد اعتمد في جواب ( لولا
) على الحال ، أعني قوله : ) وَهُوَ مَذْمُومٌ ( يعني أنّ حاله كانت على خلاف
الذمّ حين نبذ بالعراء ، ولولا توبته لكانت حاله على الذمّ . روى أنها نزلت بأحد
حين حل برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما حل به ، فأراد أن يدعو على الذين
انهزموا . وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف . وقرىء : ( رحمة من ربه ) )
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ ( فجمعه إليه ، وقربه بالتوبة عليه ، كما قال : ) ثُمَّ
اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ( ( طه : 122 ) ) فَجَعَلَهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ ( أي من الأنبياء . وعن ابن عباس : ردّ الله إليه الوحي وشفعه في
نفسه وقومه .
) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا
سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ
لِّلْعَالَمِينَ (
القلم : ( 51 - 52 ) وإن يكاد الذين . . . . .
أن مخففة من الثقيلة والام علمها . وقرأ ليزلقونك بضم الياء وفتحها وزلقة وأزلقة
بمعنى ، ويقال زلق الرأس وأزلقه حلقه ، وقرأ ليزهقونك من زهقت نفسه وأزهقها : يعنى
أنهم من شدة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك
أو قولهم نظر إلى نظرا ويكاد
" صفحة رقم 601 "
يأكلني : أي لو أمكنه بنظره الصراع أو الأكل لفعله ، قال : يتقارضون إذا التقوا في
موطن
نظرا يزل مواطأ الأقدام
مقيل كانت العين في بنى أسد فكان الرجل منهم يتجول ثلاثة أيام فلا يمر به شأ فيقول
فيه : لم أركاليوم مثله إلا عانه ، فأرد بعض العيانين على أن يقول فى رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) مثل ذلك ، فقال : لم أركاليوم رجلا فعصمه لله . وعن الحسن :
دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية ( لما سمعوا ذلك ) أى القران لم يملكوا
أنفسهم حسدا على ما أوتيت من النبوة ( ويقولون إنه لمجنون ) حيرة فى أمره وتنفيرا
عنه وإلا فقد علموا أنه أعقلهم ، والمعنى : أنهم جننوه لأجل القرآن ( وماهو إلا
بذكر ) وموعظة ( للعالمين ) فكيف يجن بمثله .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين
حسن الله أخلاقهم )
" صفحة رقم 602 "
( سورة الحاقة )
مكية ، وآياتها 52 ( نزلت بعد الملك )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ
وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا
عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ
لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (
الحاقة : ( 1 ) الحاقة
) الْحَاقَّةُ ( الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء ، التي هي آتية لا ريب فيها
. أو التي فيها حواق الأمور من الحساب والثواب والعقاب . أو التي تحق فيها الأمور
، أي : تعرف على الحقيقة ، من قولك لا أحق هذا ، أي : لا أعرف حقيقته . جعل الفعل
لها وهو لأهلها وارتفاعها على الابتداء وخبرها ) مَا الْحَآقَّةُ ( والأصل :
الحاقة ما هي ، أي أيّ شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها ، فوضع الظاهر موضع
المضمر ؛ لأنه أهول لها ) وَمَآ أَدْرَاكَ ( وأيّ شيء أعلمك ما الحاقة ، يعني :
أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها ، عى أنه من العظم والشدة بحيث لا يبلغه دراية
أحد ولا وهمه ، وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك ، و ( ما ) في موضع الرفع على
الابتداء . و ) أَدْرَاكَ ( معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام . ( القارعة ) التي
تقرع الناس بالأفزاع والأهوال ، والسماء بالانشقاق والإنفطار ، والأرض والجبال
بالدك والنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار . ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع
. في الحاقة : زيادة في وصف شدتها ؛ ولما ذكرها وفخمها أتبع ذكر من كذب بها وما حل
بهم بسبب التكذيب ، تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم )
بِالطَّاغِيَةِ ( بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة . واختلف فيها ، فقيل : الرجفة
. وعن ابن عباس : الصاعقة . وعن قتادة : بعث الله عليهم صيحة فأهمدتهم . وقيل :
الطاغية مصدر كالعافية ، أي : بطغيانهم ؛ وليس بذاك لعدم الطباق بينها وبين قوله )
بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ( والصرصر : الشديدة الصوت لها صرصرة . وقيل : الباردة من الصر ،
كأنها التي كرر فيها البرد وكثر : فهي تحرق لشدة بردها ) عَاتِيَةٍ ( شديدة العصف
والعتو استعارة . أو عتت على عاد ، فما قدروا على ردّها
" صفحة رقم 603 "
بحيلة ، من استتار ببناء ، أو لياذ بجبل ، أو اختفاء في حفرة ؛ فإنها كانت تنزعهم
من مكامنهم وتهلكهم . وقيل : عتت على خزانها ، فخرجت بلا كيل ولا وزن : وروي عن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1222 ) ( ما أرسل الله سفينة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال إلا
يوم عاد ويوم نوح ، فإنّ الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه السبيل ،
ثم قرأ : ) إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ ( (
الحاقة : 11 ) وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ )
بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ( ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها . الحسوم : لا
يخلو من أن يكون جمع حاسم كشهود وقعود . أو مصدراً كالشكور والكفور ؛ فإن كان
جمعاً فمعنى قوله : ) حُسُوماً ( نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة . أو متتابعة
هبوب الرياح : ماخفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في
إعادة الكي على الداء ، مرة بعد أخرى حتى ينحسم . وإن كان مصدراً : فإما أن ينتصب
بفعله مضمراً ، أي : تحسم حسوماً ، بمعنى تستأصل استئصالاً . أو يكون صفة كقولك :
ذات حسوم . أو يكون مفعولاً له ، أي : سخرها للاستئصال . وقال عبد العزيز ابن
زرارة الكلابي : فَفَرَّقَ بَيْنَ بَيْنِهِمُ زَمَان
تَتَابَعَ فِيهِ أَعْوَامٌ حُسُوم
وقرأ السدى ( حسوماً ) ، بالفتح حالاً من الريح ، أي : سخرها عليهم مستأصلة . وقيل
: هي أيام العجوز ؛ وذلك أن عجوزاً من عاد توارت في سرب ، فانتزعتها الريح في
اليوم الثامن فأهلكتها . وقيل : هي أيام العجز ، وهي آخر الشتاء : وأسماؤها : الصن
والصنبر ، والوبر . والآمر ، والمؤتمر ، والمعلل ، ومطفىء الجمر . وقيل : مكفيء
الظعن ومعنى ) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ ( سلطها عليهم كما شاء ) فِيهَا ( في مهابها
. أو في الليالي والأيام . وقرىء : ( أعجاز نخيل ) ) مّن بَاقِيَةٍ ( من بقية أو
من نفس باقية . أو من بقاء ،
" صفحة رقم 604 "
كالطاغية : بمعنى الطغيان .
) وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ
فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (
الحاقة : ( 9 ) وجاء فرعون ومن . . . . .
) وَمِن قَبْلِهِ ( يريد : ومن عنده من تباعه . وقرىء : ( ومن قبله ) ، أي : ومن
تقدمه . وتعضد الأولى قراءة عبد الله وأبي ( ومن معه ) وقراءة أبي موسى : ( ومن
تلقاءه ) ) وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ( قرى قوم لوط ) بِالْخَاطِئَةِ ( بالخطأ . أو
بالفعلة ، أو الأفعال ذات الخطأ العظيم ) رَّابِيَةً ( شديدة زائدة في الشدة ، كما
زادت قبائحهم في القبح . يقال : ربا الشيء يربو : إذا زاد ) لّيَرْبُوَاْ فِى
أَمْوَالِ النَّاسِ ( ( الروم : 39 ) .
) إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا
لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (
الحاقة : ( 11 - 12 ) إنا لما طغى . . . . .
) حَمَلْنَاكُمْ ( حملنا آباءكم ) فِى الْجَارِيَةِ ( في سفينة ؛ لأنهم إذا كانوا
من نسل المحمولين الناجين ، كان حمل آبائهم منة عليهم ، وكأنهم هم المحمولون ، لأن
نجاتهم سبب ولادتهم ) لِنَجْعَلَهَا ( الضمير للفعلة : وهي نجاة المؤمنين وإغراق
الكفرة ) تَذْكِرَةٌ ( عظة وعبرة ) أُذُنٌ واعِيَةٌ ( من شأنها أن تعي وتحفظ ما
سمعت به ولا تضيعه بترك العمل ، وكل ما حفظته في نفسك فقد وعيته وما حفظته في غير
نفسك فقد أوعيته كقولك : وعيت الشيء في الظرف . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
.
( 1223 ) أنه قال لعليّ رضي اللَّه عنه عند نزول هذه الآية : ( سألت اللَّه أن
يجعلها أذنك يا عليّ ) قال عليّ رضي اللَّه عنه : فما نسيت شيئاً بعد وما كان لي
أن أنسى . فإن قلت : لم قيل : أذن واعية ، على التوحيد والتنكير ؟ قلت : للإيذان
بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ؛ وللدلالة على أن الأذن
الواحدة إذا وعت وعقلت عن اللَّه فهي السواد الأعظم عند اللَّه ، وأن ما سواها لا
يبالي بهم بالة وإن ملئوا ما بين الخافقين . وقرىء : ( وتعيها ) بسكون العين
للتخفيف : شبه تعي بكبد .
) فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الاٌّ رْضُ
وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ
" صفحة رقم 605 "
وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (
الحاقة : ( 13 ) فإذا نفخ في . . . . .
أسند الفعل إلى المصدر ، وحسن تذكيره للفصل . وقرأ أبو السمال ( نفخة واحدة )
بالنصب مسنداً للفعل إلى الجار والمجرور . فإن قلت : هما نفختان ، فلم قيل : واحدة
؟ قلت معناه أنها لا تثني في وقتها . فإن قلت : فأي النفختين هي ؟ قلت الأولى لأن
عندها فساد العالم ، وهكذا الرواية عن ابن عباس . وقد روى عنه أنها الثانية . فإن
قلت : أما قال بعد ، ) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ( والعرض إنما هو عند النفخة
الثانية ؟ قلت : جعل اليوم إسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان والصعقة
والنشور والوقوف والحساب ، فلذلك قيل : ) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ( كما تقول :
جئته عام كذا ؛ وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته ) وَحُمِلَتِ ( ورفعت من
جهاتها بريح بلغت من قوّة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال . أو بخلق من الملائكة .
أو بقدرة اللَّه من غير سبب . وقرىء : ( وحملت ) بحذف المحمل وهو أحد الثلاثة )
فَدُكَّتَا ( فدكت الجملتان : جملة الأرضين وجملة الجبال ، فضرب بعضها ببعض حتى
تندقّ وترجع كثيباً مهيلا وهباء منبثاً والدك أبلغ من الدق . وقيل : فبسطتا بسطة
واحدة ، فصارتا أرضاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا ، من قولك : اندكّ السنام إذا
انفرش وبعير أدك وناقة دكاء . ومنه : الدكان ) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ
( فحينئذٍ نزلت النازلة وهي القيامة ) وَاهِيَةٌ ( مسترخية ساقطة القوّة جدّا بعد
ما كانت محكمة مستمسكة . يريد : والخلق الذي يقال له الملك ، وردّ إليه الضمير
مجموعاً في قوله : ) فَوْقَهُمُ ( على المعنى : فإن قلت : ما الفرق بين قوله : )
وَالْمَلَكُ ( ، وبين أن يقال ( والملائكة ) ؟ قلت : الملك أعمّ من الملائكة ، ألا
ترى أن قولك : ما من ملك إلا وهو شاهد ، أعم من قولك : ما من ملائكة ) عَلَى
أَرْجَائِهَا ( على جوانبها : الواحد رجا مقصور ، يعني : أنها تنشق ، وهي مسكن
الملائكة ، فينضوون إلى أطرافها وما حولها من حافاتها ) ثَمَانِيَةٌ ( أي : ثمانية
منهم . وعن رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 606 "
:
( 1224 ) ( هم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين
فيكونون ثمانية ) وروي : ثمانية أملاك : أرجلهم في تخوم الأرض السابعة ، والعرش
فوق رؤوسهم ، وهم مطرقون مسبحون . وقيل : بعضهم على صورة الإنسان ، وبعضهم على
صورة الأسد ، وبعضهم على صورة الثور ، وبعضهم على صورة النسر . وروي : ثمانية
أملاك في خلق الأوعال ، ما بين أظلافها إلى ركبها : مسيرة سبعين عاماً . وعن شهر
بن حوشب : أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ؛
وأربعة يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك وعن الحسن :
الله أعلم كم هم ، أثمانية أم ثمانية آلاف ؟ وعن الضحاك : ثمانية صفوف لا يعلم
عددهم إلا الله . ويجوز أن تكون الثمانية من الروح ، أو من خلق آخر ، فهو القادر
على كل خلق ، سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا
يعلمون . العرض : عبارة عن المحاسبة والمساءلة . شبه ذلك بعرض السلطان العسكر
لتعرف أحواله . وروى أنّ في يوم القيامة ثلاثة عرضات . فأما عرضتان فاعتذار
واحتجاج وتوبيخ ، وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب فيأخذ الفائز كتابه بيمينه
والهالك كتابه بشماله ) خَافِيَةٌ ( سريرة وحال كانت تخفي في الدنيا بستر اللَّه
عليكم .
) فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ
كِتَابيَهْ إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ
رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ
هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى الاٌّ يَّامِ الْخَالِيَةِ (
الحاقة : ( 19 ) فأما من أوتي . . . . .
) فَأَمَّا ( تفصيل للعرض : ها : صوت يصوت به فيفهم منه معنى ( خذ ) كأف وحس ، وما
أشبه ذلك . و ) كِتَابيَهْ ( منصوب بهاؤم عند الكوفيين ، وعند البصريين باقرؤا ،
لأنه أقرب العاملين . وأصله : هاؤم كتابي اقرؤا كتابي ، فحذف الأوّل لدلالة الثاني
عليه . ونظيره ) اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ( ( الكهف : 96 ) ، قالوا :
ولو كان العامل الأوّل لقيل : اقرؤه وأفرغه ، والهاء للسكت في ) كِتَابيَهْ ( ،
وكذلك في ) حِسَابِيَهْ ( و ) مَالِيَهْ ( و
" صفحة رقم 607 "
) سُلْطَانِيَهْ ( وحق هذه الهآت أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل ، وقد استحب
إيثار الوقف إيثاراً لثباتها في المصحف . وقيل : لا بأس بالوصل والإسقاط . وقرأ
ابن محيصن بإسكان الياء بغير هاء . وقرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف
جميعاً لاتباع المصحف ) ظَنَنتُ ( علمت . وإنما أجري الظن مجرى العلم ، لأن الظن
الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام . ويقال : أظن ظناً كاليقين أنّ الأمر
كيت وكيت ) رَّاضِيَةٍ ( منسوبة إلى الرضا ؛ كالدارع والنابل . والنسبة نسبتان :
نسبة بالحرف ، ونسبة بالصيغة . أو جعل الفعل لها مجازاً وهو لصاحبها ) عَالِيَةٍ (
مرتفعة المكان في السماء . أو رفيعة الدرجات . أو رفيعة المباني والقصور والأشجار
) دَانِيَةٌ ( ينالها القاعد والنائم . يقال لهم ) كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً
( أكلا وشرباً هنيئاً . أو هنيتم هنيئاً على المصدر ) بِمَا أَسْلَفْتُمْ ( بما قدمتم
من الأعمال الصالحة ) فِى الاْيَّامِ الْخَالِيَةِ ( الماضية من أيام الدنيا . وعن
مجاهد : أيام الصيام ، أي : كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله
. وروى يقول الله عز وجل : يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم
عن الأشربة ؛ وغارت أعينكم ، وخمصت بطونكم ، فكونوا اليوم في نعيمكم ، وكلوا
وأشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية .
) وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ
كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَآ
أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ (
الحاقة : ( 25 - 29 ) وأما من أوتي . . . . .
الضمير في ) يالَيْتَهَا ( للموتة : يقول : يا ليت الموتة التي منها ) كَانَتِ
الْقَاضِيَةَ ( أي القاطعة لأمري ، فلم أبعث بعدها ؛ ولم ألق ما ألقى . أو للحالة
، أي : ليت هذه الحالة
" صفحة رقم 608 "
كانت الموتة التي قضت عليّ ، لأنه رأى تلك الحالة أبشع وأمر مما ذاقه من مرارة
الموت وشدته ؛ فتمناه عندها ) مَا أَغْنَى ( نفي أو استفهام على وجه الإنكار ، أي
: أي شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار ) هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ ( ملكي
وتسلطى على الناس ، وبقيت فقيراً ذليلاً . وعن ابن عباس : أنها نزلت في الأسود بن
عبد الأشد . وعن فناخسرة الملقب بالعضد ، أنه لما قال : عَضُدُ الدَّوْلَةِ
وَابْنُ رُكْنِهَا
مَلِكُ الأمْلاَكِ غَلاَّبُ الْقَدَرْ
لم يفلح بعده وجنّ فكان لا ينطق لسانه إلا بهذه الآية . وقال ابن عباس : ضلت عني
حجتي . ومعناه : بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا .
) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا
سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ
وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا
حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ
الْخَاطِئُونَ (
الحاقة : ( 30 - 37 ) خذوه فغلوه
) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ( ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى ، لأنه
كان سلطاناً يتعظم على الناس . يقال : صلى النار وصلاة النار . سلكه في السلسلة :
أن تلوى على جسده حتى تلتف عليه ألمناؤها ؛ وهو فيما بينها مرهق مضيق عليه لا يقدر
على حركة ؛ وجعلها سبعين ذراعاً إرادة الوصف بالطول . كما قال : إن تستغفر لهم
سبعين مرة ، يريد : مرات كثيرة ، لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد . والمعنى في
تقديم السلسلة على السلك : مثله في تقديم الجحيم على النصلية . أي : لا تسلكوه إلا
في هذه السلسلة ، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم . ومعنى ) ثُمَّ (
الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية بالجحيم ، وما بينها وبين السلك في
السلسلة ، لا على تراخي المدة ( أنه ) تعليل على طريق الاستئناف ، وهو أبلغ ؛ كأنه
قيل : ما له يعذب هذا العذاب الشديد ؟ فأجيب بذلك . وفي قوله : ) وَلاَ يَحُضُّ
عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين ،
أحدهما : عطفه على الكفر ، وجعله قرينة له . والثاني : ذكر الحض دون الفعل ، ليعلم
أنّ تارك الحض بهذه المنزلة ، فكيف بتارك الفعل ، وما أحسن قول القائل :
" صفحة رقم 609 "
إذَا نَزَلَ الأضْيَافُ كَانَ عَذَوَّرا
عَلَى الْحَىِّ حَتَّى تَسْتَقِلَّ مَرَاجِلُهْ
يريد حضهم على القرى واستعجلهم وتشاكس عليهم . وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته
على تكثير المرق لأجل المساكين ، وكان يقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا
نخلع نصفها الآخر ؟ وقيل : هو منع الكفار . وقولهم : ) أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ
يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ ( ( يس : 47 ) والمعنى على بذل طعام المسكين ) حَمِيمٌ
( قريب يدفع عنه ويحزن عليه ، لأنهم يتحامونه ويفرون منه ، كقوله : ) وَلاَ
يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( ( المعارج : 10 ) ، والغسلين : غسالة أهل النار وما
يسيل من أبدانهم من الصديد والدم ؛ قعلين من الغسل ) الْخَاطِئُونَ ( الآثمون
أصحاب الخطايا . وخطىء الرجل : إذا تعمد الذنب ، وهم المشركون : عن ابن عباس :
وقرىء : ( الخاطيون ) بإبدال الهمزة ياء ، والخاطون بطرحها . وعن ابن عباس : ما
الخاطون ؟ كلنا نخطو ، وروى عنه أبو الأسود الدؤلي : ما الخاطون ؟ إنما هو
الخاطئون ؛ ما الصابون ؟ إنما هو الصابئون : ويجوز أن يراد : الذين يتخطون الحق
إلى الباطل ، ويتعدوّن حدود اللَّه .
) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ
بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ
(
الحاقة : ( 38 - 43 ) فلا أقسم بما . . . . .
هو إقسام بالأشياء كلها على الشمول والإحاطة ، لأنها لا تخرج من قسمين : مبصر وغير
مبصر . وقيل : الدنيا والآخرة ، والأجسام والأرواح ، والإنس والجنّ ، والخلق
والخالق ، والنعم الظاهرة والباطنة ، إن هذا القرآن ) لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (
أي يقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند اللَّه ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ
( ولا كاهن كما تدعون والقلة في معنى العدم . أي : لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتة .
والمعنى : ما أكفركم وما أغفلكم ) تَنزِيلَ ( هو تنزيل . بياناً لأنه قول رسول نزل
عليه ) مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ ( وقرأ أبو السمال : تنزيلاً ، أي نزل تنزيلاً .
وقيل ( الرسول الكريم ) جبريل عليه السلام . وقوله : ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ
شَاعِرٍ ( دليل على أنه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : لأنّ المعنى على إثبات أنه
رسول ، لا شاعر ولا كاهن .
) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاٌّ قَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ
مِنكُم مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ
" صفحة رقم 610 "
لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (
الحاقة : ( 44 ) ولو تقول علينا . . . . .
التقوّل : افتعال القول ، لأن فيه تكلفاً من المفتعل ، وسمى الأقوال المتقولة (
أقاويل ) تصغيراً بها وتحقيراً ، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة
من القول والمعنى : ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراً ، كما يفعل الملوك
بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام ، فصوّر قتل الصبر بصورته ليكون أهول :
وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته . وخص اليمين عن اليسار لأن القتال إذا أراد أن يوقع
الضرب في قفاه أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف ، وهو
أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ومعنى ) لاخَذْنَا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ ( لأخذنا بيمينه ، كما أن قوله ) لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (
لقطعنا وتينه ، وهذا بين ، والوتين : نياط القلب وهو حبل الوريد : إذا قطع مات
صاحبه . وقرىء : ( ولو تقول ) على البناء للمفعول قيل ) حَاجِزِينَ ( في وصف أحد ؛
لأنه في معنى الجماعة ، وهو اسم يقع في النفي العام مستوياً فيه الواحد والجمع
والمذكر والمؤنث . ومنه قوله تعالى : ) لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ
( ( البقرة : 285 ) ، ) لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء ( ( الأحزاب : 32 ) ،
والضمير في عنه للقتل ، أي : لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه . أو
لرسول الله ، أي : لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه ؛ والخطاب
للناس ، وكذلك في قوله تعالى : ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ (
وهو إيعاد على التكذيب . وقيل الخطاب للمسلمين . والمعنى : أن منهم ناساً سيكفرون
بالقرآن ) وَإِنَّهُ ( الضمير للقرآن ) لَحَسْرَةٌ ( على الكافرين به المكذبين له
إذا رأوا ثواب المصدقين به . أو للتكذيب ، وأن القرآن اليقين حق اليقين ، كقولك :
هو العالم حق العالم ، وجدّ العالم . والمعنى : لعين اليقين ، ومحض اليقين )
فَسَبّحْ ( اللَّه بذكر اسمه العظيم وهو قوله : سبحان اللَّه ؛ وأعبده شكراً على
ما أهلك له من إيحائه إليك .
عن رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1225 ) ( من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حساباً يسيراً ) .
" صفحة رقم 611 "
( سورة المعارج )
مكية ، وآياتها 44 ( نزلت بعد الحاقة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ
اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ
كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ
يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلاَ يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيماً
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ
بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُأوِيهِ وَمَن فِى
الاٌّ رْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى
تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى (
المعارج : ( 1 ) سأل سائل بعذاب . . . . .
ضمن ) سَأَلَ ( معنى دعا ، فعدّى تعديته ، كأنه قيل : دعا داع ) بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
( من قولك : دعا بكذا . إذا استدعى وطلبه . ومنه قوله تعالى : ( يدعون فيها بكل
فاكهة ) وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : هو النضر بن الحرث قال : إن كان هذا هو
الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . وقيل : هو رسول
اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، استعجل بعذاب للكافرين . وقرىء : ( سال سائل )
وهو على وجهين : إما أن يكون من السؤال وهي لغة قريش ، يقولون : سلت تسأل ، وهما
يتسايلان ؛ وأن يكون من السيلان . ويؤيده قراءة ابن عباس ( سال سيل ) ، والسيل :
مصدر في معنى السائل ، كالغور بمعنى الغائر . والمعنى : اندفع عليهم وادى عذاب
فذهب بهم وأهلكهم . وعن قتادة : سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع ؟
فنزلت ، وسأل على هذا الوجه مضمن معنى : عنى واهتم فإن قلت : بم يتصل قوله : )
لِّلْكَافِرِينَ ( قلت : هو على القول الأوّل متصل بعذاب صفة له ، أي : بعذاب واقع
كائن للكافرين ، أو بالفعل ، أي : دعا للكافرين بعذاب واقع ، أو بواقع ؛ أي :
بعذاب نازل لأجلهم ، وعلى الثاني : هو كلام مبتدأ جواب للسائل ، أي : هو للكافرين
. فإن قلت : فقوله ) مِنَ اللَّهِ ( بم يتصل ؟ قلت : يتصل بواقع ، أي واقع من عنده
، أو بدافع ؛ بمعنى : ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته وأوجبت الحكمة وقوعه ) ذِي
الْمَعَارِجِ ( ذي المصاعد جمع معرج ، ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلو
والارتفاع فقال : ) تَعْرُجُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ( إلى عرشه وحيث
" صفحة رقم 612 "
تهبط منه أوامره ) فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ( كمقدار مدة ) خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ ( مما يعد الناس . والروح . جبريل عليه السلام ، أفرده لتميزه بفضله . وقيل
: الروح خلق هم حفظة على الملائكة ، كما أنّ الملائكة حفظة على الناس . فإن قلت :
بم يتعلق قوله ) فَاصْبِرْ ( ؟ قلت : يسأل سائل ؛ لأنّ استعجال النصر بالعذاب إنما
كان على وجه الاستهزاء برسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) والتكذيب بالوحي ،
وكان ذلك مما يضجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأمر بالصبر عليه ، وكذلك
من سأل عن العذاب لمن هو ، فإنما سأل على طريق التعنت ، وكان من كفار مكة . ومن
قرأ : ( سال سائل ) أو سيل ، فمعناه : جاء العذاب لقرب وقوعه ، فأصبر فقد شارفت
الانتقام ، وقد جعل ) فِى يَوْمٍ ( من صلة ) وَاقِعٍ ( أي : يقع في يوم طويل مقداره
خمسون ألف سنة من سنيكم ، وهو يوم القيامة : إما أن يكون استطالة له لشدّته على
الكفار ، وإما لأنه على الحقيقة كذلك . قيل : فيه خمسون موطئاً كل موطن ألف سنة ،
وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر . الضمير في ) يَرَوْنَهُ (
للعذاب الواقع ، أو ليوم القيامة فيمن علق ( في يوم ) بواقع ؛ أي : يستبعدونه على
جهة الإحالة ) وَنَرَاهُ ( نحن ) يَكُونَ قَرِيبًا ( هيناً في قدر في قدرتنا غير
بعيد علينا ولا متعذر ، فالمراد بالبعيد من الإمكان ، وبالقريب : القريب منه نصب )
يَوْمَ تَكُونُ ( بقريباً ، أي : يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم . أو بإضمار يقع ،
لدلالة ( واقع ) عليه أو يوم تكون السماء كالمهل . كان كيت وكيت . أو هو بدل عن (
في يوم ) فيمن علقه بواقع ) كَالْمُهْلِ ( كدردى الزيت . وعن ابن مسعود : كالفضة
المذابة وغرابيب سود ، فإذا بست وطيرت في الجو : أشبهت العهن المنقوش إذا طيرته
الريح ) وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( أي لا يسأله بكيف حالك ولا يكلمه ، لأن
بكل أحد ما يشغله عن المساءلة ) يُبَصَّرُونَهُمْ ( أي يبصر الأحماء الأحماء ، فلا
يخفون عليهم ، فما يمنعهم من المساءلة أنّ بعضهم لا يبصر بعضاً ، وإنما يمنعهم التشاغل
: وقرىء : ( يبصرونهم ) وقرىء : ( ولا يسئل ) على البناء للمفعول ، أي : لا يقال
الحميم أين حميمك ولا يطلب منه ؛ لأنهم يبصرونهم فلا يحتاجون إلى السؤال والطلب .
فإن قلت : ما موقع يبصرونهم ؟ قلت : هو كلام مستأنف ، كأنه لما قال ) وَلاَ
يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( قيل : لعله لا يبصره ، فقيل : يبصرونهم ولكنهم
لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم . فإن قلت : لم جمع الضميران في )
يُبَصَّرُونَهُمْ ( وهما للحميمين ؟ قلت : المعنى
" صفحة رقم 613 "
على العموم لكل حميمين لا لحميمين اثنين . ويجوز أن يكون ) يُبَصَّرُونَهُمْ ( صفة
، أي : حميماً مبصرين معرّفين إياهم . قرىء : ( يومئذ ) بالجرّ والفتح على البناء
للإضافة إلى غير متمكن ، ومن عذاب يومئذ ، بتنوين ( عذاب ) ونصب ) يَوْمَئِذٍ (
وانتصابه بعذاب . لأنه في معنى تعذيب ) وَفَصِيلَتِهِ ( عشيرته الأدنون الذين فصل
عنهم ) تُوِيهِ ( تضمه انتماء إليها ، أو لياذاً بها في النوائب . ) يُنجِيهِ (
عطف على يفتدي ، أي : يودّ لو يفتدى ، ثم لو ينجيه الافتداء . أو من في الأرض .
وثم : لاستبعاد الإنجاء ، يعني : تمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده وبذلهم في فداء
نفسه ، ثم ينجيه ذلك وهيهات أن ينجيه ) كَلاَّ ( ردّ للمجرم عن الودادة ، وتنبيه
على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب ، ثم قال : ) إِنَّهَا ( والضمير
للنار ، ولم يجر لها ذكر ؛ لأنّ ذكر العذاب دل عليها . ويجوز أن يكون ضميراً
مبهماً ترجم عنه الخبر ، أو ضمير القصة . و ) لَظَى ( علم للنار ، منقول من اللظى
: بمعنى اللهب . ويجوز أن يراد اللهب . و ) نَزَّاعَةً ( خبر بعد خبر ؛ لأنّ أو
خبر للظى إن كانت الهاء ضمير القصة ، أو صفة له إن أردت اللهب ، والتأنيث لأنه في
معنى النار . أو رفع على التهويل ، أي : هي نزاعة . وقرىء : ( نزاعة ) بالنصب على
الحال المؤكدة ، أو على أنها متلظية نزاعة ؛ أو على الاختصاص للتهويل . والشوى :
الأطراف أو جمع شواة : وهي جلدة الرأس تتزعها نزعاً فتبتكها ؟ ثم تعاد ) تَدْعُواْ
( مجاز عن إحضارهم ، كأنها تدعوهم فتحضرهم . ونحوه قول ذي الرمّة : . . . . . .
تَدْعُو أَنْفَهُ الرِّببُ ;
وقوله :
لَيَالِى اللَّهْوِ يُطْبِينِي فَأَتْبَعُهُ ;
وقول أبي النجم :
تَقُولُ للِرَّائِدِ أَعْشَبْتَ انْزِلِ
" صفحة رقم 614 "
;
وقيل : تقول لهم : إليّ إليّ يا كافر يا منافق . وقيل : تدعو المنافقين والكافرين
بلسان فصيح ثم تلتقطهم التقاط الحب ، فيجوز أن يخلق الله فيها كلاماً كما يخلقه في
جلودهم وأيديهم وأرجلهم ، وكما خلقه في الشجرة ويجوز أن يكون دعاء الزبانية . وقيل
: تدعو تهلك ، من قول العرب : دعاك الله ، أي : أهلكك . قال :
دَعَاكَ اللَّهُ مِنْ رَجُلٍ بِأفْعَى
) مَنْ أَدْبَرَ ( عن الحق ) وَتَوَلَّى وَجُمِعَ ( المال فجعله في وعاء وكنزه ولم
يؤدّ الزكاة والحقوق الواجبة فيه ، وتشاغل به عن الدين ؛ وزهي بإقتنائه وتكبر .
) إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا
مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ
دَآئِمُونَ وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ
وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ
عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ
ذَالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاًّمَانَاتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ
هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَائِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (
المعارج : ( 19 ) إن الإنسان خلق . . . . .
أريد بالإنسان الناس ؛ فلذلك استثنى منه إلا المصلين . والهلع : سرعة الجزع عند
مسّ المكروه وسرعة المنع عند مسّ الخير ، من قولهم : ناقة هلواع سريعة السير . وعن
أحمد بن يحيى ، قال لي محمد بن عبد اللَّه بن طاهر : ما الهلع ؟ فقلت : قد فسره
اللَّه ، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدّة الجزع ،
وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس والخير : المال والغنى ؛ والشرّ : الفقر . أو
الصحة والمرض : إذا صحّ الغني منع المعروف وشحّ بماله ، وإذا مرض جزع وأخذ يوصي .
والمعنى : أن
" صفحة رقم 615 "
الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه ورسوخهما فيه ، كأنه مجبول عليهما
مطبوع ، وكأنه أمر خلقي وضروري غير اختياري ، كقوله تعالى : ) خُلِقَ الإنْسَانُ
مِنْ عَجَلٍ ( ( الأنبياء : 37 ) والدليل عليه أنه حين كان في البطن والمهد لم يكن
به هلع ، ولأنه ذمّ والله لا يذمّ فعله ، والدليل عليه : استثناء المؤمنين الذين
جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وظلّفوها عن الشهوات ، حتى لم يكونوا جازعين
ولا مانعين . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
( 1226 ) ( شرّ ما أعطى ابن آدم شحّ هالع وجبن خالع ) فإن قلت : كيف قال : ) عَلَى
صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ( ثم على صلاتهم يحافظون ؟ قلت : معنى دوامهم عليها أن
يواظبوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشىء من الشواغل ، كما روي عن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
( 1227 ) ( أفضل العمل أدومه وإن قلّ ) وقول عائشة :
( 1228 ) كان عمله ديمة . ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها
ويقيموا أركانها ويكملوها بسنتها وآدابها ، ويحفظوها من الإحباط باقتراف المآثم ،
فالدوام يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها ) حَقٌّ مَّعْلُومٌ ( هو
الزكاة ، لأنها مقدرة معلومة ؛ أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات
معلومة . السائل : الذي يسأل ) وَالْمَحْرُومِ ( الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنياً
فيحرم ) يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدّينِ ( تصديقاً بأعمالهم واستعدادهم له ، ويشفقون
من عذاب ربهم ، واعتراض بقوله : ) إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ( أي
لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الطاعة والاجتهاد أن يأمنه . وينبغي أن يكون مترجحاً
بين الخوف والرجاء . قرىء : ( بشهادتهم ) ( وبشهاداتهم ) والشهادة من جملة
الأمانات . وخصها من بينها إبانة لفضلها ، لأنّ في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها
. وفي
" صفحة رقم 616 "
زيها : تضييعها وإبطالها .
) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ عِزِينَ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ
نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ
الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً
مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ
حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاٌّ
جْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ
تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ (
المعارج : ( 36 ) فمال الذين كفروا . . . . .
كان المشركون يحتفون حول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حلقاً حلقاً وفرقاً فرقاً ،
يستمعون ويستهزؤون بكلامه . ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها
قبلهم ، فنزلت ) مُهْطِعِينَ ( مسرعين نحوك ، مادّى أعناقهم إليك ، مقبلين
بأبصارهم عليك ) عِزِينَ ( فرقا شتى جمع عزة ، وأصلها عزوة ، كأن كل فرقة تعتزى
إلى غير من تعتزى إليه الأخرى : فهم مفترقون . قال الكميت . وَنَحْنُ وَجَنْدَلٌ
بَاغٍ تَرَكْنَا
كَتَائِبَ جَنْدَكٍ شَتَّى عِزِيناً
وقيل : كان المستهزؤون خمسة أرهط ) كَلاَّ ( ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة ، ثم
علل ذلك بقوله : ) إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ ( إلى آخر السورة ، وهو
كلام دال على إنكارهم البعث ، فكانه قال : كلا إنهم منكرون للبعث والجزاء ؛ فمن
أين يطعمون في دخول الجنة ؟ فإن قلت : من أي وجه دل هذا الكلام على إنكار البعث ؟
قلت : من حيث أنه احتجاج عليهم بالنشأة الأولى ، كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من
التنزيل ، وذلك قوله : ) خَلَقْنَاهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ ( أي من النطف ،
وبالقدرة على أن يهلكهم ويبدل ناساً خيراً منهم ، وأنه ليس بمسبوق على ما يريد
تكوينه لا يعجزه شيء ، والغرض أن من قدر على ذلك لم تعجزه الإعادة . ويجوز أن يراد
: إنا خلقناهم مما يعلمون ، أي : من النطفة المذرة ، وهي منصبهم الذي لا منصب أوضع
منه . ولذلك أبهم وأخفى : إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره ، فمن أين يتشرفون
ويدعون التقدم ويقولون : لندخلن الجنة قبلهم . وقيل : معناه إنا خلقناهم من نطفة
كما خلقنا بني آدم كلهم ، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد منهم الجنة إلا بالإيمان
والعمل الصالح ، فلم يطمع أن يدخلها من ليس له إيمان وعمل . وقرىء : ( برب المشرق
والمغرب ) ويخرجون ، ويخرجون ومن الأجداث سراعاً ، بالإظهار والإدغام . ونصب ،
ونصب : وهو كل ما نصب فعبد من دون الله
" صفحة رقم 617 "
) يُوفِضُونَ ( يسرعون إلى الداعى مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1229 ) ( من قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون
) .
" صفحة رقم 618 "
( سورة نوح ـ عليه السلام ـ )
مكية ، وهي ثمان وعشرون آية ( نزلت بعد النحل )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن
يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ
اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ
يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (
نوح : ( 1 ) إنا أرسلنا نوحا . . . . .
) أَنْ أَنذِرِ ( أصله : بأن أنذر ، فخذف الجار وأوصل الفعل : وهي أن الناصبة
للفعل ، والمعنى : أرسلناه بأن قلنا له أنذر ، أي : أرسلناه بالأمر بالإنظار .
ويجوز أن تكون مفسرة ؛ لأنّ الإرسال فيه معنى القول . وقرأ ابن مسعود ( أنذر ) بغير
( أن ) على إرادة القول . و ) أَنِ اعْبُدُواْ ( نحو ) أَنْ أَنذِرِ ( في الوجهين
. فإن قلت : كيف قال ) وَيُؤَخّرْكُمْ ( مع إخباره بامتناع تأخير الأجل ، وهل هذا
إلا تناقض ؟ قلت : قضى الله مثلاً أنّ قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة ، وإن بقوا
على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة . فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى ، أي :
إلى وقت سماه الله وضربه أمداً تنتهون إليه لا تتجاوزونه ، وهو الوقت الأطول تمام
الألف ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ، ولم تكن
لكم حيلة ، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير .
) قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعَآئِى إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ
وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً
ثُمَّ إِنِّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ
مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ
وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ
خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَاللَّهُ
أَنبَتَكُمْ مِّنَ الاٌّ رْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ
إِخْرَاجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ رْضَ بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا
سُبُلاً فِجَاجاً (
نوح : ( 5 ) قال رب إني . . . . .
) لَيْلاً وَنَهَاراً ( دائباً من غير فتور مستغرقاً به الأوقات كلها ) فَلَمْ
يَزِدْهُمْ دُعَائِى ( جعل الدعاء فاعل زيادة الفرار . والمعنى على أنهم ازدادوا
عنده فراراً ؛ لأنه سبب الزيادة . ونحوه ) فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ
( ( التوبة : 125 ) ) فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ( ( التوبة : 124 )
" صفحة رقم 619 "
) لِتَغْفِرَ لَهُمْ ( ليتوبوا عن كفرهم فتغفر لهم ، فذكر المسبب الذي هو حظهم
خالصاً ليكون أقبح لإعراضهم عنه . سدّوا مسامعهم عن استماع الدعوة )
وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ ( وتغطوا بها ، كأنهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم ، أو
تغشيهم لئلا يبصروه كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله . وقيل لئلا يعرفهم
؛ ويعضده قوله تعالى : ) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ
مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ ( ( هود : 5 ) ، الإصرار : من أصر
الحمار على العانة إذا صرّ أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها : استعير للإقبال على
المعاصي والإكباب عليها ) وَاسْتَكْبَرُواْ ( وأخذتهم العزة من اتباع نوح وطاعته ،
وذكر المصدر تأكيد ودلالة على فرط استقبالهم وعتوهم . فإن قلت : ذكر أنه دعاهم
ليلا ونهاراً ، ثم دعاهم جهاراً ، ثم دعاهم في السر والعلن ؛ فيجب أن تكون ثلاث
دعوات مختلفات حتى يصح العطف . قلت : قد فعل عليه الصلاة والسلام كما يفعل الذي
يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر : في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد ،
فافتتح بالمناصحة في السر ، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلث
بالجمع بين الإسرار والإعلان . ومعنى ) ثُمَّ ( الدلالة على تباعد الأحوال ، لأن
الجهار أغلظ من الإسرار ؛ والجمع بين الأمرين ، أغلظ من إفراد أحدهما . و )
جِهَاراً ( منصوب بدعوتهم ، نصب المصدر لأنّ الدعاء أحد نوعيه الجهار ، فنصب به
نصب القرفصاء بقعد ، لكونها أحد أنواع القعود . أو لأنه أراد بدعوتهم جاهرتهم .
ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا ، بمعنى دعاء جهاراً ، أي : مجاهراً به . أو مصدراً
في موضع الحال ، أي : مجاهراً . أمرهم بالاستغفار الذي هو التوبة عن الكفر
والمعاصي ، وقدّم إليهم الموعد بما هو أوقع في نفوسهم وأحبّ إليهم من المنافع
الحاضرة والفوائد العاجلة ، ترغيباً في الإيمان وبركاته والطاعة ونتائجها من خير
الدارين ، كما قال : ) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللَّهِ ( ( الصف : 13
) ، ) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم
بَرَكَاتٍ ( ( الأعراف : 96 ) ، ) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ
وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ ( (
المائدة : 66 ) ، ) وَإِنَّ لُوطاً اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ
لاَسْقَيْنَاهُم ( ( الجن : 16 ) ، وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة : حبس
الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة . وروى : سبعين فوعدهم أنهم إن
آمنوا رزقهم الله تعالى الخصب ودفع عنهم ما كانوا فيه . وعن عمر رضي اللَّه عنه :
أنه خرج يستسقي ، فما زاد على الاستغفار ، فقيل له : ما رأيناك
" صفحة رقم 620 "
استسقيتا فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر شبه الاستغفار
بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء وعن الحسن : أنّ رجلاً شكا إليه الجدب فقال :
استغفر الله ؛ وشكا إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم
كلهم بالاستغفار ، فقال له الربيع بن صبيح : أتاك رجال يشكون أبواباً ويسألون
أنواعاً ، فأمرتهم كلهم بالاستغفارا فتلا له هذه الآية . والسماء : المظلة ؛ لأنّ
المطر منها ينزل إلى السحاب ؛ ويجوز أن يراد السحاب أو المطر ، من قوله :
إذَا نَزَلَ السَّمَاءِ بِأَرْضِ قَوْمٍ
والمدرار : الكثير الدرور ، ومفعال مما يستوى فيه المذكر والمؤنث ، كقولهم : رجل
أو امرأة معظارو متفال ) جَنَّاتُ ( بساتين ) لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( لا
تأملون له توقيراً أي تعظيماً . والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها
تعظيم الله إياكم في دار الثواب ، و ) لِلَّهِ ( بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صلة
للوقار . وقوله : ) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ( في موضع الحال ، كأنه قال : ما
لكم لا تؤمنون باللَّه والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به ، لأنه خلقكم أطواراً
: أي تارات : خلقكم أوّلا تراباً ، ثم خلقكم نطفاً ، ثم خلقكم علقاً ، ثم خلقكم
مضغاً ، ثم خلقكم عظاماً ولحماً ، ثم أنشأكم خلقاً آخر . أولا تخافون لله حلماً
وترك معاجلة العقاب فتؤمنوا ؟ وقيل : ما لكم لا تخافون لله عظمة ؟ وعن ابن عباس :
لا تخافون لله عاقبة ، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب ، من
( وقر ) إذا ثبت واستقرّ . نبههم على النظر في أنفسهم أوّلاً ؛ لأنها أقرب منظور
فيه منهم ، ثم على النظر في العالم وما سوّى فيه من العجائب الشاهدة على الصانع
الباهر قدرته وعلمه من السموات والأرض والشمس والقمر ) فِيهِنَّ ( في السموات ،
وهو في السماء الدنيا ؛ لأنّ بين السموات ملابسة من حيث أنها طباق فجاز أن يقال :
فيهنّ كذا وإن لم يكن في جميعهنّ ، كما يقال : في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها
. وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما : أنّ الشمس والقمر وجوههما مما
" صفحة رقم 621 "
يلي السماء وظهورهما مما يلي الأرض ) وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ( يبصر أهل
الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى أبصاره ، والقمر
ليس كذلك ، إنما هو نور لم يبلغ قوّة ضياء الشمس . ومثله قوله تعالى : ) هُوَ
الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ( ( يونس : 5 ) ، والضياء :
أقوى من النور . استعير الإنبات للإنشاء ، كما يقال : زرعك الله للخير ، وكانت هذه
الاستعارة أدلّ على الحدوث ، لأنهم إذا كانوا نباتاً كانوا محدثين لا محالة حدوث
النبات : ومنه قيل للحشوية : النابتة والنوابت ، لحدوث مذهبهم في الإسلام من غير
أوّلية لهم فيه . ومنه قولهم : نجم فلان لبعض المارقة . والمعنى : أنبتكم فنبتم
نباتاً . أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم ) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ( مقبورين
ثم ) يُخْرِجُكُمْ ( يوم القيامة ، وأكده بالمصدر كأنه قال يخرجكم حقاً ولا محالة
جعلها بساطاً مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه ) فِجَاجاً ( واسعة
منفجة .
) قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ
مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُواْ لاَ
تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ
وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ
إِلاَّ ضَلاَلاً (
نوح : ( 21 - 24 ) قال نوح رب . . . . .
) وَاتَّبِعُواْ ( رؤسهم المقدمين أصحاب الأموال والأولاد ، وارتسموا ما رسموا لهم
من التمسك بعبادة الأصنام ، وجعل أموالهم وأولادهم التي لم تزدهم إلا وجاهة ومنفعة
في الدنيا زائدة ) خَسَارًا ( في الآخرة ، وأجرى ذلك مجرى صفة لازمة لهم وسمة
يعرفون بها ، تحقيقاً له وتثبيتاً ، وإبطالاً لما سواه . وقرىء : ( وولده ) بضم
الواو وكسرها ) وَمَكَرُواْ ( معطوف على لم يزده ، وجمع الضمير وهو راجع إلى من ؛
لأنه في معنى الجمع والماكرون : هم الرؤساء ومكرهم : احتيالهم في الدين وكيدهم
لنوح ، وتحريش الناس على أذاه ، وصدّهم عن الميل إليه والاستماع منه . وقولهم لهم
: لانذرون آلهتكم إلى عبادة رب نوح ) مَكْراً كُبَّاراً ( قرىء بالتخفيف والتثقيل
. والكبار كبر من الكبير والكبار أكبر من الكبار ، ونحوه : طوال وطوّال ) وَلاَ
تَذَرُنَّ وَدّاً ( كأن هذه المسميات كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم ، فخصوها
بعد قولهم ) لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ ( وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى
العرب ، فكان ودّ لكلب ، وسواع لهمذان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لمراد ، ونسر لحمير ؛
ولذلك سمت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث ، وقيل هي أسماء رجال صالحين . وقيل : من
أولاد آدم ماتوا ، فقال إبليس لمن بعدهم : لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ،
ففعلوا ؛ فلما مات أولئك قال لمن بعدهم : إنهم كانوا يعبدونهم ؛ فعبدوهم . وقيل :
كان ودّ على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ،
" صفحة رقم 622 "
ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر . وقرىء ( ودّا )
بضم الواو . وقرأ الأعمش ( ولا يغوثا ويعوقا ) بالصرف ، وهذه قراءة مشكلة ، لأنهما
إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سبباً منع الصرف : إما التعريف ووزن الفعل ، وإما
التعريف والعجمة ؛ ولعله قصد الازدواج فصرفهما ، لمصادفته أخواتهما منصرفات ودا
وسواعاً ونسراً ، كما قرىء : ( وضحاها ) بالإمالة ، لوقوعه مع الممالات للازدواج )
وَقَدْ أَضَلُّواْ ( الضمير للرؤساء . ومعناه : وقد أضلوا ) كَثِيراً ( قبل هؤلاء
الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام ليسوا بأوّل من أضلوهم . أو وقد أضلوا
بإضلالهم كثيراً ، يعني أنّ هؤلاء المضلين فيهم كثرة . ويجوز أن يكون للأصنام ،
كقوله تعالى : ) إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( ( إبراهيم : 36 )
. فإن قلت : علام عطف قوله : ) وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ ( ؟ قلت : على قوله : )
رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى ( على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد ) قَالَ ( وبعد
الواو النائبة عنه : ومعناه قال رب إنهم عصوني ، وقال : لا تزد الظالمين إلا
ضلالاً ، أي : قال هذين القولين وهما في محل النصب ، لأنهما مفعولا ( قال ) كقولك
: قال زيد نودي للصلاة وصل في المسجد ؛ تحكى قوليه معطوفاً أحدهما على صاحبه . فإن
قلت : كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته ؟ قلت : المراد بالضلال : أن
يخذلوا ويمنعوا الألطاف ، لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم ، وذلك حسن
جميل يجوز الدعاء به ، بل لا يحسنَ الدعاء بخلافه . ويجوز أن يريد بالضلال :
الضياع والهلاك ، لقوله تعالى : ) وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ( (
نوح : 28 ) .
) مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ
لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاٌّ
رْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ
وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً (
نوح : ( 25 - 27 ) مما خطيئاتهم أغرقوا . . . . .
تقديم ) مّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ ( لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان ، فإدخالهم
النار إلا من أجل خطيئاتهم ، وأكد هذا المعنى بزيادة ( ما ) وفي قراءة ابن مسعود (
من خطيئاتهم ما أغرقوا ) بتأخير الصلة ، وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا ، فإن كفر
قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم ، وإن كانت كبراهنّ ، وقد نعيت عليهم سائر خطيئاتهم
كما نعى عليهم كفرهم ، ولم يفرق بينه وبينهن في استيجاب العذاب ، لئلا يتكل المسلم
الخاطىء على إسلامه ، ويعلم أنّ معه ما يستوجب به العذاب وإن خلا من الخطيئة
الكبرى . وقرىء ( خطيئاتهم ) بالهمزة . وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها وخطاياهم
وخطيئتهم بالتوحيد على
" صفحة رقم 623 "
إرادة الجنس . ويجوز أن يراد الكفر ) فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( جعل دخولهم النار في
الآخرة كأنه متعقب لإغراقهم ، لاقترابه ، ولأنه كائن لا محالة ، فكأنه قد كان . أو
أريد عذاب القبر . ومن مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع والطير : أصابه ما
يصيب المقبور من العذاب . وعن الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب .
وتنكير النار إما لتعظيمها ، أو لأن الله أعد لهم على حسب خطيئاتهم نوعاً من النار
) فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً ( تعريض بإتخاذهم آلهة من
دون الله وأنها غير قادرة على نصرهم ، وتهكم بهم ، كأنه قال : فلم يجدوا لهم من
دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله ، كقوله تعالى : ) أَمْ لَهُمْ
الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا ( ( الأنبياء : 43 ) . ) دَيَّاراً ( من
الأسماء المستعملة في النفي العام ، يقال : ما بالدار ديار وديور ، كقيام وقيوم ؛
وهو فيعال من الدور . أو من الدار ؛ أصله ديوار ، ففعل به ما فعل بأصل سيد وميت ،
ولو كان فعالاً لكان دوّاراً . فإن قلت : بم علم أن أولادهم يكفرون ، وكيف وصفهم
بالكفر عند الولادة ؟ قلت : لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فذاقهم وأكلهم
وعرف طباعهم وأحوالهم ، وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه ، ويقول : أحذر هذا ،
فإنه كذاب ، وإن أبي حذرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك ؛ وقد أخبره الله
عزّ وجل أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ؛ ومعنى ) لا يَلِدُواْ إِلاَّ
فَاجِراً كَفَّاراً ( لا يلدوا إلا من سيفجر ويكفر . فوصفهم بما يصيرون إليه ،
كقوله عليه السلام .
( 1230 ) ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) .
) رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً (
نوح : ( 28 ) رب اغفر لي . . . . .
) وَلِوَالِدَىَّ ( أبوه لمك بن متوشلخ ، وأمه شمخا بنت أنوش : كانا مؤمنين . وقيل
هما آدم وحواء . وقرأ الحسين بن علي ( ولولدي ) يريد : ساما وحاما ) بَيْتِىَ (
منزلي . وقيل : مسجدي . وقيل : سفينتي ؛ خص أوّلا من يتصل به ؛ لأنهم أولى وأحق
بدعائه ، ثم عم المؤمنين والمؤمنات ) تَبَاراً ( هلاكاً . فإن قلت : ما فعل
صبيانهم حين أغرقوا ؟
" صفحة رقم 624 "
قلت : غرقوا معهم لا على وجه العقاب ، ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت ،
وكم منهم من يموت بالغرق والحرق ، وكأن ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمهات إذا
أبصروا أطفالهم يغرقون . ومنه قوله عليه السلام :
( 1231 ) ( يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى ) وعن الحسن : أنه سئل عن ذلك
فقال : علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب . وقيل : أعقم الله أرحام نسائهم وأيبس
أصلاب آبائهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة ، فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1232 ) ( من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذي تدركهم دعوة نوح عليه السلام ) .
" صفحة رقم 625 "
( سورة الجن )
مكية ، وآياتها 28 ( نزلت بعد الأعراف )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُواْ
إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَأامَنَّا بِهِ
وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا
اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى
اللَّهِ شَطَطاً وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى
اللَّهِ كَذِباً (
الجن : ( 1 ) قل أوحي إلي . . . . .
قرىء ( أحى ) وأصله وحي ؛ يقال : أوحي إليه ووحى إليه ، فقلبت الواو همزة ، كما
يقال : أعد وأزن ) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقّتَتْ ( ( المرسلات : 11 ) ، وهو من القلب
المطلق جوازه في كل واو مضمومة ؛ وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضاً كإشاح
وإسادة ، وإعاء أخيه ، وقرأ ابن أبي عبلة ( وحى ) على الأصل ) أَنَّهُ اسْتَمَعَ (
بالفتح ، لأنه فاعل أوحى . وإنا سمعنا : بالكسر ؛ لأنه مبتدأ محكي بعد القول ، ثم
تحمل عليهما البواقي ، فما كان من الوحي فتح ، وما كان من قول الجنّ كسر : وكلهن
من قولهم إلا الثنتين الأخريين ) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ ( ( الجن : 18 ) ، )
وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ ( ( الجن : 19 ) ، ومن فتح كلهنّ فعطفاً على محل الجار
والمجرور في آمنا به ، كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه كان
يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي ) نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ ( جماعة منهم ما بين الثلاثة
إلى العشرة . وقيل : كانوا من الشيصبان ، وهم أكثر الجنّ عدداً وعامة جنود إبليس
منهم ) فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا ( أي : قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم ، كقوله
: ) فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ يأَبَانَا
قَوْمُنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً ( ( الأحقاف : 29 30 ) ، ) عَجَبًا ( بديعاً
مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه ، قائمة فيه دلائل الإعجاز . وعجب
مصدر يوضع موضع العجيب . وفيه مبالغة : وهو ما خرج عن حد أشكاله ونظائره ) يَهْدِى
إِلَى الرُّشْدِ ( يدعو إلى الصواب . وقيل : إلى توحيد والإيمان . والضمير في )
بِهِ ( للقرآن ؛ ولما كان الإيمان به إيماناً بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك :
قالوا : ) وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً ( أي : ولن نعود إلى ما كنا عليه من
الإشراك به في طاعة الشيطان . ويجوز أن يكون الضمير لله عز وجل ؛ لأنّ قوله : )
بِرَبّنَا ( يفسره ) جَدُّ رَبّنَا ( عظمته من قولك : جدّ
" صفحة رقم 626 "
فلان في عيني ، أي : عظم . وفي حديث عمر رضي اللَّه عنه : كان الرجل منا إذا قرأ
البقرة وآل عمران جدّ فينا . وروى في أعيننا أو ملكه وسلطانه أو غناه ، استعارة من
الجد الذي هو الدولة والبخت ؛ لأن الملوك والأغنياء هم المجدودون والمعنى : وصفه
بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته . أو لسلطانه وملكوته أو لغناه . وقوله : ) مَا
اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً ( بيان لذلك . وقرىء ( جدّا ربنا ) على التمييز
وجدّ ربنا ، بالكسر : أي صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد ، وذلك
أنهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان : تنبهوا على الخطأ فيما اعتقده
كفرة الجنّ من تشبيه الله بخلقه واتخاذه صاحبة وولداً ، فاستعظموه ونزهوه عنه .
سفيههم : إبليس لعنه الله أو غيره من مردة الجن . والشطط : مجاوزة الحدّ في الظلم
وغيره . ومنه : أشط في السوم ، إذا أبعد فيه ، أي : يقول قولا هو في نفسه شطط ؛
لفرط ما أشط فيه ، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله ، وكان في ظننا أنّ أحداً من
الثقلين لن يكذب على الله ولن يفتري عليه ما ليس بحق ، فكنا نصدّقهم فيم أضافوا
إليه من ذلك ، حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم وافتراؤهم ) كَذِبًا ( قولاً كذباً ، أي
: مكذوباً فيه . أو نصب نصب المصدر لأنّ الكذب نوع من القول . ومن قرأ ( أن لن
تقوّل ) وضع كذباً موضع تقوّلا ، ولم يجعله صفة ؛ لأنّ التقوّل لا يكون إلا كذباً
.
) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ
فَزَادوهُمْ رَهَقاً وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ
اللَّهُ أَحَداً (
الجن : ( 6 ) وأنه كان رجال . . . . .
والرهق : غشيان المحارم . والمعنى : أنّ الإنس بإستعاذتهم بهم زادوهم كبراً وكفراً
؛ وذلك أنّ الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره وخاف على نفسه
قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، يريد الجن وكبيرهم ؛ فإذا سمعوا بذلك
استكبروا وقالوا : سدنا الجن والإنس ؛ فذلك رهقهم . أو فزاد الجن الإنس رهقاً
بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم ) وَإِنَّهُمْ ( وأنّ الإنس ) ظَنُّواْ كَمَا
ظَنَنتُمْ ( وهو من كلام الجن ، يقوله بعضهم لبعض . وقيل الآيتان من جملة الوحي .
والضمير في ( وأنهم ظنوا ) للجنّ ، والخطاب في ) ظَنَنتُمْ ( لكفار قريش .
) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً
وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن
يَسْتَمِعِ الاٌّ نَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ( 7 )
الجن : ( 8 ) وأنا لمسنا السماء . . . . .
" صفحة رقم 627 "
اللمس : المس ، فاستعير للطلب ؛ لأن الماس طالب متعرف قال : مَسَسْنَا مِنَ
الآبَاءِ شَيْئاً وَكُلُّنَا
إلى نَسَبٍ في قَوْمِهِ غَيْرِ وَاضِعِ
يقال : لمسه والتمسه ، وتلمسه ( كطلبه وأطلبه وتطلبه ) ونحوه : الجس . وقولهم ؛
جسوه بأعينهم وتجسسوه . والمعنى : طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها . والحرس
: اسم مفرد في معنى الحرّاس ، كالخدم في معنى الخدّام ؛ ولذلك وصف بشديد ، ولو ذهب
إلى معناه لقيل : شداداً ؛ ونحوه . أَخْشَى رُجَيْلاً أَوْ رُكُيْباً غَادِيَا
لأنّ الرجل والركب مفردان في معنى الرجال والركاب . والرصد : مثل الحرس : اسم جمع
للراصد ، على معنى : ذوى شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب
، ويمنعونهم من الاستماع . ويجوز أن يكون صفة للشهاب . بمعنى الراصد أو كقوله :
. . . . . . وَمعى جِيَاعاً يعني يجد شهاباً راصداً له ولأجله . فإن قلت : كأن
الرجم لم يكن في الجاهلية ، وقد قال الله تعالى : ) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء
الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( ( الملك : 5 )
، فذكر فائدتين في خلق الكواكب : التزيين ، ورجم الشياطين ؟ قلت : قال بعضهم حدث
بعد مبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو إحدى آياته ، والصحيح أنه كان قبل
المبعث ؛ وقد جاء ذكره في شعر أهل الجاهلية . قال بشر بن أبي خازم :
" صفحة رقم 628 "
وَالْعِيرُ يُرْهِقُهَا الْغُبَارُ وَجَحْشُهَا
يَنْقَضُّ خَلْفَهُمَا انْقِضَاضَ الْكَوْكَبِ
وقال أوس بن حجر : وَانْقَضَّ كَالدُّرِّيِّ يَتْبَعُه
نَقْعٌ يَثُورُ تَخَالهُ طُنُبَا
وقال عوف بن الخرع : يَرُدُّ عَلَيْنَا الْعِبرَ مِنْ دُونِ إلْفِه
أَوِ الثَّوْرَ كَالدُّرِّىِّ يَتْبَعُهُ الدَّمُ
ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال ، فلما بعث رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) : كثر الرجم وزاد زيادة ظاهرة ؛ حتى تنبه لها الإنس والجن ، ومنع الاستراق
أصلاً . وعن معمر : قلت للزهري : أكان يرمي بالنجوم في الجاهلية ؟ قال : نعم . قلت
: أرأيت قوله تعالى : ) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ ( فقال : غلظت وشدد أمرها حين بعث
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي
اللَّه عنهما :
( 1233 ) بينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس في نفر من الأنصار إذ رمى
بنجم فاستنار ، فقال : ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية ؟ فقالوا : كنا نقول
: يموت عظيم أو يولد عظيم . وفي قوله : ) مُلِئَتْ ( دليل على أن الحادث هو المل
والكثرة ، وكذلك قوله : ) نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ ( أي كنا نجد فيها بعض
المقاعد خالية من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلها ، وهذا ذكر ما حملهم على
الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واستمعوا قراءته
.
) وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الاٌّ رْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ
رَبُّهُمْ رَشَداً (
الجن : ( 10 ) وأنا لا ندري . . . . .
يقولون : لما حدث هذا الحادث من كثرة الرجم ومنع الاستراق ، قلنا : ما هذا إلا
لأمر أراده الله بأهل الأرض ، ولا يخلو من أن يكون شراً أو رشداً ، أي : خيراً ،
من عذاب أو رحمة ، أو من خذلان أو توفيق .
" صفحة رقم 629 "
) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً
(
الجن : ( 11 ) وأنا منا الصالحون . . . . .
) مِنَّا الصَّالِحُونَ ( منا الأبرار المتقون ) وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ( ومنا قوم
دون ذلك ، فحذف الموصوف ، كقوله : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) وهم المقتصدون في
الصلاح غير الكاملين فيه أو أرادوا الطالحين ) كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ( بيان
للقسمة المذكورة ، أي : كنا ذوي مذاهب مفترقة مختلفة . أو كنا في اختلاف أحوالنا
مثل الطرائق المختلفة . أو كنا في طرائق مختلفة ، كقوله :
كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
أو كانت طرائقنا طرائق قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق وإقامة الضمير المضاف
إليه مقامه ؛ والقدّة من قدّ ، كالقطعة من قطع ، ووصفت الطرائق بالقدد ، لدلالتها
على معنى التقطع والتفرّق .
) وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاٌّ رْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ
هَرَباً (
الجن : ( 12 ) وأنا ظننا أن . . . . .
) فِى الاْرْضِ ( و ) هَرَباً ( حالان ، أي : لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا
فيها ، ولن نعجزه مار بين منها إلى السماء . وقيل : لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا
أمراً ، ولن نعجزه هرباً إن طلبنا . والظن بمعنى اليقين ؛ وهذه صفة أحوال الجن وما
هم عليه من أحوالهم وعقائدهم : منهم أخيار ، وأشرار ، ومقتصدون ؛ وأنهم يعتقدون
أنّ الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب ولا ينجى عنه مهرب .
) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىءَامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ
فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً (
الجن : ( 13 ) وأنا لما سمعنا . . . . .
) لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ( هو سماعهم القرآن وإيمانهم به ) فَلاَ يَخَافُ (
فهو لا يخاف ، أي فهو غير خائف ؛ ولأنّ الكلام في تقدير مبتدأ وخبر دخلت الفاء ،
ولولا ذاك لقيل : لا يخف . فإن قلت : أي فائدة : في رفع الفعل وتقدير مبتدأ قبله
حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء ، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال : لا يخف
؟ قلت : الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك ، فكأنه قيل : فهو لا يخاف ، فكان دالاً على
تحقيق أنّ المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره وقرأ الأعمش : فلا
يخف ، على النهي ) بَخْساً وَلاَ رَهَقاً ( أي جزاء بخس ولا رهق ، لأنه لم يبخس
أحداً حقاً ولا رهق ظلم أحد فلا
" صفحة رقم 630 "
يخاف جزاءهما . وفيه دلالة على أن من حق من آمن باللَّه أن يجتنب المظالم . ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام .
( 1234 ) ( المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم ) ويجوز أن يراد : فلا يخاف
أن يبخس بل يجزي الجزاء الأوفى ، ولا أن ترهقه ذلة ، من قوله عز وجل : ( وترهقهم
ذلة ) .
) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ
فَأُوْلَائِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ
حَطَباً (
الجن : ( 14 - 15 ) وأنا منا المسلمون . . . . .
) الْقَاسِطُونَ ( الكافرون الجائرون عن طريق الحق . وعن سعيد بن جبير رضي الله
عنه : أنّ الحجاج قال له حين أراد قتله : ما تقول فيّ ؟ قال : قاسط عادل ، فقال
القوم : ما أحسن ما قال ، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل ؛ فقال الحجاج : يا جهلة ،
إنه سماني ظالماً مشركاً ، وتلا لهم قوله تعالى : ) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ (
وقوله تعالى : ) ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ( ( الأنعام :
1 ) ، وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً أنّ الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم
؛ وكفى به وعداً أن قال : ) فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً ( فذكر سبب الثواب
وموجبه ، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد .
) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لاّسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً
لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً
صَعَداً (
الجن : ( 16 - 17 ) وأن لو استقاموا . . . . .
) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ ( أن مخففة من الثقيلة ، وهو من جملة الموحى والمعنى :
وأوحي إليّ أن الشأن والحديث لو استقام الجن على الطريقة المثلى ، أي : لو ثبت
أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله والطاعة ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم
يكفر وتبعه ولده على الإسلام ، لأنعمنا عليهم ولوسعنا رزقهم . وذكر الماء الغدق
وهو الكثير بفتح الدال وكسرها . وقرىء بهما ، لأنه أصل المعاش وسعة الرزق )
لّلْعَالَمِينَ فِيهِ ( لنختبرهم فيه
" صفحة رقم 631 "
كيف يشكرون ما خوّلوا منه . ويجوز أن يكون معناه : وأن لو استقام الجن الذين
استمعوا على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاسماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام
لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم ، لنفتنهم فيه : لتكون النعمة سبباً في اتباعهم
شهواتهم ، ووقوعهم في الفتنة ، وإزديادهم إثماً ؛ أو لنعذبهم في كفران النعمة )
عَن ذِكْرِ رَبّهِ ( عن عبادته أو عن موعظته أو عن وحيه ) يَسْلُكْهُ ( وقرىء
بالنون مضمومة ومفتوحة ، أي : ندخله ) عَذَاباً ( والأصل : نسلكه في عذاب ، كقوله
: ) مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( ( المدثر : 42 ) فعدّى إلى مفعولين : إمّا بحذف
الجار وإيصال الفعل ، كقوله : ) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( ( الأعراف : 155 )
وإمّا بتضمينه معنى ( ندخله ) يقال : سلكه وأسلكه قال : حَتَّى إذَا أسْلَكُوهُمْ
في قتَائِدَةٍ ;
والصعد : مصدر صعد ، يقال : صعد صعداً وصعوداً ، فوصف به العذاب ، لأنه يتصعد
المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه . ومنه قول عمر رضي اللَّه عنه : ما تصَّعْدَني
شيء ما تصعَّدَتني خطبة النكاح ، يريد : ما شق على ولا غلبني .
) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً (
الجن : ( 18 ) وأن المساجد لله . . . . .
) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ ( من جملة الموحى . وقيل معناه : ولأن المساجد ) لِلَّهِ
فَلاَ تَدْعُواْ ( على أنّ اللام متعلقة بلا تدعوا ، أي : فلا تدعوا ) مَعَ
اللَّهِ أَحَداً ( في المساجد ، لأنها لله خاصة ولعبادته . وعن الحسن : يعني الأرض
كلها ؛ لأنها جعلت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مسجداً . وقيل : المراد بها
المسجد الحرام ، لأنه قبلة المساجد . ومنه قوله تعالى : ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن
مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ( ( البقرة : 114 ) وعن
قتادة : كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله ، فأمرنا أن
نخلص لله الدعوة إذا دخلنا المساجد . وقيل : المساجد أعضاء السجود السبعة . قال
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1235 ) ( أمرت أن أسجد على سبعة آراب : وهي الجبهة ، والأنف ، واليدان ،
" صفحة رقم 632 "
والركبتان ، والقدمان ) وقيل : هي جمع مسجد وهو السجود .
) وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ
لِبَداً (
الجن : ( 19 ) وأنه لما قام . . . . .
) عَبْدُ اللَّهِ ( النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . فإن قلت : هلا قيل : رسول الله
أو النبي ؟ قلت : لأن تقديره : وأوحى إليَّ أنه لما قام عبد الله فلما كان واقعاً
في كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن نفسه : جيء به على ما يقتضيه التواضع
والتذلل أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله لله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا
مستنكر ، حتى يكونوا عليه لبداً . ومعنى ( قام يدعوه ) قام يعبده ، يريد : قيامه
لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن فاستمعوا لقراءته ( صلى الله عليه وسلم ) )
كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( أي يزدحمون عليه متراكمين تعجباً مما رأوا
ممن عبادته واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً وساجداً ، وإعجاباً بما تلا من
القرآن ، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره . وقيل معناه
: لما قام رسولاً يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه :
كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين ) لِبَداً
( جمع لبدة وهو ما تلبد بعضه على بعض ، ومنها ( لبدة الأسد ) وقرىء ( لبدا )
واللبدة في معنى اللبدة ؛ ولبدا : جمع لابد ، كساجد وسجد ولبدا بضمتين : جمع لبود
، كصبور وصبر وعن قتادة : تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله إلا
أن ينصره ويظهره على من ناوأه . ومن قرأ ( وإنه ) بالكسر : جعله من كلام الجن :
قالوه لقومهم حين رجعوا إليهم حاكين ما رأوا من صلاته وازدحام أصحابه عليه في
ائنمامهم به .
) قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّى لاَ
أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ
أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ
وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ
مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا
تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّى أَمَداً عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ
عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ
رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَداً
( 7 )
الجن : ( 20 ) قل إنما أدعو . . . . .
" صفحة رقم 633 "
( قال ) للمتظاهرين عليه ) إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّى ( يريد : ما أتيتكم بأمر منكر
، إنما أعبد ربي وحده ) وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ( وليس ذاك مما يوجب إطباقكم
على مقتى وعداوتي . أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين : ليس ما ترون من عبادتي
الله ورفضي الإشراك به بأمر يتعجب منه ، إنما يتعجب ممن يدعو غير الله ويجعل له شريكاً
. أو قال الجن لقومهم ذلك حكاية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وَلاَ
رَشَداً ( ولا نفعاً أو أراد بالضر : الغيّ ويدل عليه قراءة أبيّ ( غياً ولا رشداً
) والمعنى لا أستطيع أن أضركم وأن أنفعكم ، إنما الضارّ والنافع الله . أو لا
أستطيع أن أقسركم على الغيّ والرشد ، إنما القادر على ذلك الله عز وجل : و )
إِلاَّ بَلاَغاً ( استثناء منه . أي لا أملك إلا بلاغاً من الله و ) قُلْ إِنّى
لَن يُجِيرَنِى ( جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه
، على معنى أنّ الله إن أراد به سوأ من مرض أو موت أو غيرهما : لم يصح أن يجيره
منه أحد أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه : والملتحد الملتجأ ، وأصله المدَّخل ، من
اللحد . وقيل : محيصاً ومعدلاً وقرىء ( قال لا أملك ) أي قال عبد الله للمشركين أو
للجن . ويجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم . وقيل : ( بلاغاً ) بدل من )
مُلْتَحَدًا ( أي : لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به . وقيل : )
إِلاَّ ( هي ( أن لا ) ومعناه : أن لا أبلغ بلاغاً كقولك : إن لا قياماً فقعوداً )
وَرِسَالَاتِهِ ( عطف على بلاغاً ، كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ
" صفحة رقم 634 "
والرسالات . والمعنى : إلا أن أبلغ عن الله فأقول : قال الله كذا ، ناسباً لقوله
إليه ، وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان . فإن قلت : ألا
يقال : بلغ عنه ومنه قوله عليه الصلاة والسلام .
( 1236 ) ( بلغوا عني بلغوا عني ) ؟ قلت : من ليست بصلة للتبليغ ، إنما هي بمنزلة
من في قوله : ) بَرَاءةٌ مّنَ اللَّهِ ( ( التوبة : 1 ) بمعنى بلاعاً كائناً من
الله . وقرىء ( فأن له نار جهنم ) على : فجزاؤه أنّ له نار جهنم كقوله : ) فَأَنَّ
للَّهِ خُمُسَهُ ( ( الأنفال : 41 ) أي : فحكمه أنّ لله خمسه . وقال : ) خَالِدِينَ
( حملا على معنى الجمع في من . فإن قلت : بم تعلق ( حتى ) ، وجعل ما بعده غاية له
؟ قلت : بقوله : ) يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( ( الجن : 19 ) على أنهم يتظاهرون
عليه بالعداوة ، ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم ) حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا
يُوعَدُونَ ( من يوم بدر وإظهار الله له عليهم . أو من يوم القيامة )
فَسَيَعْلَمُونَ ( حينئذ أنهم ) أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ( ويجوز أن
يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال : من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده ، كأنه قال
: لا يزالون على ما هم عليه ) حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ ( قال
المشركون : متى يكون هذا الموعود ؟ إنكاراً له ، فقيل ) قُلْ ( إنه كائن لا ريب
فيه ، فلا تنكروه ؛ فإن الله قد وعد ذلك وهو لا يخلف الميعاد . وأما وقته فما أدري
متى يكون ؛ لأنّ الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة . فإن قلت : ما
معنى قوله : ) أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً ( والأمد يكون قريباً وبعيداً ألا
ترى إلى قوله : ) تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا ( (
آل عمران : 30 ) ؟ قلت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يستقرب الموعد ،
فكأنه قال : ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية أي : هو )
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ ( فلا يطلع و ) مِن رَّسُولٍ ( تبيين لمن ارتضى
، يعني : أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة ، لا كل
مرتضى . وفي هذا إبطال للكرامات ؛ لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين
، فليسوا
" صفحة رقم 635 "
برسل . وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة
والتنجيم ، لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط ) فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ( يدي من ارتضى للرسالة ) وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (
حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين يطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم
، حتى يبلغ ما أوحى به إليه . وعن الضحاك ما بعث نبيّ إلا ومعه ملائكة يحرسونه من
الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك ) لِيَعْلَمَ ( الله ) أَن قَدْ أَبْلَغُواْ
رِسَالَاتِ رَبّهِمْ ( يعني الأنبياء : وحد أولا على اللفظ في قوله : ( من بين
يديه ومن خلفه ) ثم جمع على المعنى ، كقوله : ) فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ ( ( الجن : 23 ) ، والمعنى : ليبلغوا رسالات ربهم كما هي ، محروسة من
الزيادة والنقصان ؛ وذكر العلم كذكره في قوله تعالى : ) حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجَاهِدِينَ ( ( محمد : 31 ) ، وقرىء : ( ليعلم ) على البناء للمفعول )
وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ( بما عند الرسل من الحكم والشرائع ، لا يفوته منها
شيء ولا ينسى منها حرفاً ، فهو مهيمن عليها حافظ لها ) وَأَحْصَى كُلَّ شَىْء
عَدَداً ( من القطر والرمل وورق الأشجار ، وزبد البحار ، فكيف لا يحيط بما عند
الرسل من وحيه وكلامه وعدداً : حال ، أي : وضبط كل شيء معدوداً محصوراً . أو مصدر
في معنى إحصاء .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1237 ) ( من قرأ سورة الجن كان له بعدد كل جن صدق محمداً ( صلى الله عليه وسلم )
وكذب به عتق رقبة ) .
" صفحة رقم 636 "
( سورة المزمل )
مكية ( إلا الآيات 10 و 11 و 20 فمدنية )
وآياتها 19 وقيل 20 نزلت بعد القلم
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ
مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً (
المزمل : ( 1 ) يا أيها المزمل
) الْمُزَّمّلُ ( المتزمّل ، وهو الذي تزمّل في ثيابه : أي تلفف بها ، بإدغام
التاء في الزاي : ونحوه : المدثر في المتدثر وقرىء ( المتزمّل ) على الأصل :
والمزمل بتخفيف الزاي وفتح الميم وكسرها . على أنه اسم فاعل أو مفعول ، من زمله ،
وهو الذي زمله ، وهو الذي زمله غيره أو زمل نفسه ؛ وكان رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) نائماً بالليل متزملاً في قطيعه فنبه ونودي بما يهجن إليه الحالة التي كان
عليها من التزمل في قطيفته واستعداده للاستثقال في النوم ، كما يفعل من لا يهمه
أمر ولا يعنيه شأن . ألا ترى إلى قول ذي الرمّة :
" صفحة رقم 637 "
وَكَائِنْ تَخَطَّتْ نَاقتِي مِنْ مَفَازَة
وَمِنْ نَائِمٍ عَنْ لَيْلِهَا مُتَزَمِّلِ
يريد : الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب ، ولا يحمل
نفسه المشاق والمتاعب ، ونحوه : فَأَنْتَ بِهِ حُوشَ الْفُؤَادِ مُبَطَّنا
سُهُداً إذَا مَا نَامَ لَيْلُ الْهَوْجَلِ
وفي أمثالهم : أَوْرَدَهَا سَعْدٌ وَسَعْدٌ مُشْتَمِل
مَا هكَذَا تُورَدُ يَا سَعْدُ الإِبِلْ
فذمه بالاشتمال بكسائه ، وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس ، وأمر بأن يختار على الهجود
التهجد ، وعلى التزمل التشمر ، والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله ، لا جرم أنّ
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد تشمر لذلك مع أصحابه حتى التشمر ، وأقبلوا
على إحياء لياليهم ، ورفضوا له الرقاد والدعة ، وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم
واصفرت ألوانهم ، وظهرت السيمى في وجوههم وترامى أمرهم إلى حد رحمهم له ربهم .
فخفف عنهم . وقيل كان متزملا في مرط لعائشة يصلي ، فهو على هذا ليس بتهجين ، بل هو
ثناء عليه وتحسين لحاله التي كان عليها ، وأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه . وعن
عائشة رضي اللَّه عنها : أنها سئلت ما كان تزميله ؟ قالت : كان مرطا طوله أربع
عشرة ذراعاً نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي ، فسئلت : ما كان ؟ قالت :
والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مر عزي ولا إبريسما ولا صوفاً : كان سداه شعراً
ولحمته وبراً . وقيل : دخل على خديجة ، وقد جئت فرقا أول ما أتاه جبريل وبوادره
ترعد ، فقال : زملوني زملوني ، وحسب أنه عرض له ؛ فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل
: يا أيها المزمل . وعن عكرمة : أنّ المعنى : يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً ، أي
: حمله ، والزمل :
" صفحة رقم 638 "
الحمل . وازدمله : احتمله وقرىء ( قم الليل ) بضم الميم وفتحها . قال عثمان بن جنى
: الغرض بهذه الحركة التبلغ بها هرباً من التقاء الساكنين ، فبأي الحركات تحرّك
فقد وقع الغرض ) نّصْفَهُ ( بدل من الليل . وإلا قليلاً : استثناء من النصف ، كأنه
قال : قم أقل من نصف الليل . والضمير في منه وعليه للنصف ، والمعنى التخيير بين
أمرين ؛ بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما
النقصان من النصف والزيادة عليه . وإن شئت جعلت نصفه بدلا من قليلاً ، وكان
تخييراً بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه وبين قيام
الزائد عليه ؛ وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل ، وإن شئت قلت : لما كان
معنى ) قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ ( إذا أبدلت النصف من الليل ، قم
أقل من نصف الليل ، رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف ، فكأنه قيل : قم
أقل من نصف الليل . أو : قم أنقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلاً . فيكون التخيير
فيما وراء النصف بينه وبين الثلث . ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلا وفسرته به أن
تجعل قليلاً الثاني بمعنى نصف النصف : وهو الربع ، كأنه قيل أو انقص منه قليلاً
نصفه . وتجعل المزيد على هذا القليل ، أعني الربع ، نصف الربع كأنه قيل : أو زد
عليه قليلاً نصفه . ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث ، فيكون
تخييراً بين النصف والثلث والربع . فإن قلت : أكان القيام فرضاً أم نفلاً ؟ قلت :
عن عائشة رضي اللَّه عنها أنّ الله جعله تطوّعاً بعد أن كان فريضة . وقيل كان
فرضاً قبل أن تفرض الصلوات الخمس ، ثم نسخ بهنّ إلا ما تطوّعوا به . وعن الحسن :
كان قيام ثلث الليل فريضة ، وكانوا على ذلك سنة . وقيل : كان واجباً ، وإنما وقع
التخيير في المقدار ، ثم نسخ بعد عشر سنين . وعن الكلبي : كان يقوم الرجل حتى يصبح
مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين ؛ ومنهم من قال : كان نفلاً بدليل
التخيير في المقدار ، ولقوله تعالى : ) وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نَافِلَةً لَّكَ ( ( الإسراء : 79 ) ، ترتيل القرآن : قراءته على ترسل وتؤدة
بتبيين الحروف وإشباع الحركات ، حتى يجيء المتلوّ منه شبيها بالثغر المرتل : وهو
المفلج المشبه بنور الأقحوان ، وأن بهذه هذا ولا يسرده سرداً ، كما قال عمر رضي
الله عنه : شر السير الحقحقة . وشر القراءة الهذرمة ، حتى يشبه المتلو في تتابعه
الثغر الألص . وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ؟ فقالت : لا كسردكم هذا ، لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها و ) تَرْتِيلاً (
تأكيد في إيجاب الأمر به ، وأنه ما لا بد منه للقارىء .
) إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (
المزمل : ( 5 ) إنا سنلقي عليك . . . . .
هذه الآية اعتراض ، ويعني بالقول الثقيل : القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي
التي
" صفحة رقم 639 "
هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين ، خاصة على رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم )
لأنه متحملها بنفسه ومحملها أمته ؛ فهي أثقل عليه وأبهظ له وأراد بهذا الاعتراض :
أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن ،
لأنّ الليل وقت السبات والراحة والهدوء فلا بد لمن أحياه مضادة لطبعه ومجاهدة
لنفسه . وعن ابن عباس رضي الله عنه : كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد له
جلده . وعن عائشة رضي اللَّه عنها :
( 1238 ) رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليرفض
عرقاً . وعن الحسن : ثقيل في الميزان . وقيل : ثقيل على المنافقين . وقيل : كلام
له وزن ورجحان ليس بالسفساف .
) إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً (
المزمل : ( 6 ) إن ناشئة الليل . . . . .
) نَاشِئَةَ الَّيْلِ ( النفس الناشئة بالليل ، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة ،
أي : تنهض وترتفع ، من نشأت السحابة : إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه ونشز : إذا نهض
، قال : نَشَأْنَا إلى خُوصٍ بَرَى نَيَّهَا السُّرَى
وَأَلْصَقَ مِنْهَا مُشْرِفَاتِ الْقَمَاحِدِ
وقيام الليل ، على أن الناشئة مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعلة : كالعاقبة ويدل
عليه ما روى عن عبيد بن عمير : قلت لعائشة : رجل قام من أوّل الليل ، أتقولين له
قام ناشئة ؟ قالت لا ؛ إنما الناشئة القيام بعد النوم . ففسرت الناشئة بالقيام عن
المضجع أو العبادة التي تنشأ بالليل ، أي : تحدث ، وترتفع . وقيل : هي ساعات الليل
كلها ؛ لأنها تحدث واحدة بعد أخرى . وقيل : الساعات الأول منه . وعن علي بن الحسين
رضي اللَّه عنهما أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ويقول : أما سمعتم قول الله
تعالى : ) إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ ( هذه ناشئة الليل ) هِىَ أَشَدُّ وَطْأً ( هي
خاصة دون ناشئة النهار ، أشدّ مواطأة يواطىء قلبها لسانها : إن أردت النفس . أو
يوطىء فيها قلب القائم لسانه : إن أردت القيام أو العبادة أو الساعات . أو أشدّ
موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص . وعن الحسن : أشدّ موافقة بين السر والعلانية
، لانقطاع رؤية الخلائق . وقرىء : ( أشدّ وطأ ) بالفتح
" صفحة رقم 640 "
والكسر . والمعنى : أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل . أو أثقل وأغلظ على المصلى من صلاة
النهار ، من قوله عليه السلام .
( 1239 ) ( اللهم اشدد وطأتك على مضر ) ) وَأَقْوَمُ قِيلاً ( وأسد مقالا وأثبت
قراءة لهدوّ الأصوات . وعن أنس رضي الله عنه أنه قرأ : وأصوب قيلا ، فقيل له : يا
أبا حمزة ، إنما هي : وأقوم ؛ فقال : إنّ أقوم وأصوب وأهيأ واحد . وروى أبو زيد
الأنصاري عن أبي سرار الغنوي أنه كان يقرأ : فحاسوا ، بحاء غير معجمة ، فقيل له :
إنما هو ( جاسوا ) بالجيم ، فقال : وجاسوا وحاسوا واحد .
) إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً (
المزمل : ( 7 ) إن لك في . . . . .
) سَبْحاً ( تصرفاً وتقلباً في مهماتك وشواغلك ، ولا تفرغ إلا بالليل ؛ فعليك
بمناجاة الله التي تقتض فراغ البال وانتفاء الشواغل . وأما القراءة بالخاء
فاستعارة من سبخ الصوف ، وهو نفشه ونشر أجزائه ؛ لانتشار الهم وتفرّق القلب
بالشواغل : كلفه قيام الليل ، ثم ذكر الحكمة فيما كلفه منه : وهو أن الليل أعون
على المواطأة وأشد للقراءة ، لهدوّ الرجل وخفوت الصوت : وأنه أجمع للقلب وأضم لنشر
الهم من النهار ؛ لأنه وقت تفرق الهموم وتوزع الخواطر والتقلب في حوائج المعاش
والمعاد . وقيل : فراغاً وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك وقيل : إن فاتك من الليل شيء
فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه .
) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً وَاصْبِرْ عَلَى مَا
يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (
المزمل : ( 8 - 10 ) واذكر اسم ربك . . . . .
) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ ( ودم على ذكره في ليلك ونهارك ، واحرص عليه ، وذكر الله
يتناول كل ما كان من ذكر طيب : تسبيح ، وتهليل ، وتكبير ، وتمجيد ، وتوحيد ، وصلاة
، وتلاوة قرآن ، ودراسة علم ، وغير ذلك مما كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
يستغرق به ساعة ليله ونهاره ) وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ ( وانقطع إليه . فإن قلت : كيف
قيل ) تَبْتِيلاً ( مكان تبتلا ؟ قلت : لأن معنى تبتل بتل نفسه ، فجيء به على
معناه مراعاة لحق الفواصل ) رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( قرىء مرفوعاً على
المدح ، ومجروراً على البدل من ربك . وعن ابن عباس : على القسم بإضمار حرف القسم ،
كقولك الله لأفعلنّ ، وجوابه ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( كما تقول : والله لا أحد
في الدار إلا زيد . وقرأ ابن عباس ( رب المشارق والمغارب ) ) فَاتَّخِذْهُ
وَكِيلاً
" صفحة رقم 641 "
( مسبب على التهليلة ؛ لأنه هو وحده هو الذي يجب لتوحده بالربوبية أن توكل إليه
الأمور . وقيل ) وَكِيلاً ( : كفيلاً بما وعدك من النصر والإظهار الهجر الجميل :
أن يجانبهم بقلبه وهواه ، ويخالفهم مع حسن المخالفة والمداراة والإغضاء وترك
المكافأة . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه : إنا لنكشر في وجوه قوم ونضحك إليهم ،
وإن قلوبنا لتقليهم وقيل : هو منسوخ بآية السيف .
) وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ
لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً
يَوْمَ تَرْجُفُ الاٌّ رْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً
(
المزمل : ( 11 ) وذرني والمكذبين أولي . . . . .
إذا عرف الرجل من صاحبه أنه مستهم بخطب يريد أن يكفاه ، أو بعدوّ يشتهي أن ينتقم
له منه وهو مضطلع بذلك مقتدر عليه قال : ذرني وإياه أي : لا تحتاج إلى الظفر
بمرادك ومشتهاك ، إلا أن تخلى بيني وبينه بأن تكل أمره إليّ وتستكفينيه ، فإنّ فيّ
ما يفرغ بالك ويجلي همك ، وليس ثم منع حتى يطلب إليه أن يذره وإياه إلا ترك
الاستكفاء والتفويض ، كأنه إذا لم يكل أمره إليه ، فكأنه منعه منه ؛ فإذا وكله
إليه فقال أزال المنع وتركه وإياه ، وفيه دليل على الوثوق بأنه يتمكن من الوفاء
بأقصى ما تدور حوله أمنية المخاطب وبما يزيد عليه النعمة بالفتح التنعم ، وبالكسر
: الإنعام وبالضم : المسرة ؛ يقال : نعم ، ونعمة عين ، وهم صناديد قريش ، وكانوا
أهل تنعم وترفه ) إِنَّ لَدَيْنَا ( ما يضاد تنعمهم من أنكال : وهي القيود الثقال
: عن الشعبي ، إذا ارتفعوا استقلت بهم . الواحد : نكل ونكل . ومن جحيم : وهي النار
الشديدة الحر والاتقاد . ومن طعام ذي غصة وهو الذي ينشب في الحلوق فلا يساغ يعني
الضريع وشجر الزقوم . ومن عذاب أليم من سائر العذاب فلا ترى موكولاً إليه أمرهم
موذوراً بينه وبينهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام . وروي :
( 1240 ) أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية فصعق وعن الحسن : أنه
أمسى صائماً . فأتي بطعام ، فعرضت له هذه الآية ؛ فقال : ارفعه ، ووضع عنده الليلة
الثانية ، فعرضت له ، فقال : ارفعه ، وكذلك الليلة الثالثة ، فأخبر ثابت البناني
ويزيد الضبي ويحيى البكاء ،
" صفحة رقم 642 "
فجاؤا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق ) يَوْمَ تَرْجُفُ ( منصوب بما في لدينا
. والرجفة . الزلزلة الشديدة . والكثيب : الرمل المجتمع من كثب الشيء إذا جمعه ،
كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله . ومنه الكثبة من اللبن ، قالت الضائنة : أجز جفالا
وأحلب كثباً عجالا ، أي : كانت مثل رمل مجتمع هيل هيلا ، أي : نثر وأسيل .
) إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ
إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً
وَبِيلاً (
المزمل : ( 15 - 16 ) إنا أرسلنا إليكم . . . . .
الخطاب لأهل مكة ) شَاهِداً عَلَيْكُمْ ( يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم
. فإن قلت : لم نكر الرسول ثم عرف ؟ قلت : لأنه أراد : أرسلنا إلى فرعون بعض الرسل
، فلما أعاده ، وهو معهود بالذكر أدخل لام التعريف إشارة إلى المذكور بعينه )
وَبِيلاً ( ثقيلاً غليظاً ، من قولهم : كلأ وبيل وخم لا يستمرأ لثقله . والوبيل :
العصا الضخمة ومنه الوابل للمطر العظيم .
) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً
السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (
المزمل : ( 17 ) فكيف تتقون إن . . . . .
) يَوْماً ( مفعول به ، أي : فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهو له ، إن بقيتم على
الكفر . ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً . ويجوز أن يكون ظرفاً ، أي : فكيف لكم بالتقوى
في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا ويجوز أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم ، أي
فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء : لأن تقوى الله خوف عقابه
) يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ( مثل في الشدة يقال في اليوم الشديد : يوم يشيب
نواصي الأطفال والأصل فيه : أنّ الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه
الشيب . قال أبو الطيب : وَالْهَمُّ يَخْتَرِمُ الْجَسِيمَ نَحَافَة
وَيُشِيبُ نَاصِيَةَ الصَّبِيِّ وَيُهْرِمُ
وقد مرّ بي في بعض الكتب أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب . وأصبح وهو أبيض
الرأس واللحية كالثغامة ، فقال : أريت القيامة والجنة والنار في المنام ، ورأيت
الناس يقادون في السلاسل إلى النار ، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون . ويجوز أن
" صفحة رقم 643 "
يوصف اليوم بالطول . وأنّ الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب ) السَّمَاء
مُنفَطِرٌ بِهِ ( وصف لليوم بالشدّة أيضاً . وأنّ السماء على عظمها وإحكامها تنفطر
فيه ، فما ظنك بغيرها من الخلائق . وقرىء : ( منفطر ومتفطر ) والمعنى : ذات انفطار
. أو على تأويل السماء بالسقف أو على تأويل السماء شىء منفطر والباء في ) بِهِ (
مثلها في قولك : فطرت العود بالقدوم فانفطر به ، يعني : أنها تنفطر بشدة ذلك اليوم
وهو له كما ينفطر الشيء بما يفطر به . ويجوز أن يراد السماء مثقلة به إثقالاً
يؤدّي إلى انفطارها لعظمه عليها وخشيتها من وقوعه ، كقوله : ) ثَقُلَتْ فِى
السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ( الأعراف : 187 ) ، ) وَعْدَهُ ( من إضافة المصدر إلى
المفعول ، والضمير لليوم . ويجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل وهو الله عز وعلا ،
ولم يجر له ذكر لكونه معلوماً .
) إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (
المزمل : ( 19 ) إن هذه تذكرة . . . . .
) إِنَّ هَاذِهِ ( الآيات الناطقة بالوعيد الشديد ) تَذْكِرَةٌ ( موعظة ) فَمَن
شَآءَ ( اتعظ بها . واتخذ سبيلاً إلى الله بالتقوى والخشية . ومعنى اتخاذ السبيل
إليه : التقرّب والتوسل بالطاعة .
) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُأَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ
الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ
مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى
وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاٌّ رْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ
وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ
وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لاًّنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ
هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ (
المزمل : ( 20 ) إن ربك يعلم . . . . .
) أدنى من ثلثي اليل ( أقل منهما ؛ وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل ؛ لأن
المسافة بين الشيئين إذا دنت : قل ما بينهما من الأحياز ؛ وإذا بعدت كثر ذلك .
وقرىء ( ونصفه وثلثه ) بالنصب على أنك تقوم أقل من الثلثين ، وتقوم النصف والثلث :
وهو مطابق لما مرّ في أوّل السورة : من التخيير بين قيام النصف بتمامه وبين قيام
الناقص منه وهو الثلث وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين . وقرىء (
ونصفه ) ، وثلثه : بالجرّ ، أي : تقوم أقل من الثلين وأقل من النصف والثلث ، وهو
مطابق للتخيير بين النصف : وهو أدنى من الثلثين والثلث : وهو أدنى من النصف .
والربع : وهو أدنى من الثلث ، وهو الوجه الأخير ) وَطَائِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ
( ويقوم ذلك جماعة من أصحابك ) وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ( ولا
يقدر على تقدير الليل والنهار ومعرفة مقادير ساعاتهما إلا
" صفحة رقم 644 "
الله وحده ؛ وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه يقدّر : هو الدال على معنى
الاختصاص بالتقدير ؛ والمعنى : إنكم لا تقدرون عليه ، والضمير في ) لَّن تُحْصُوهُ
( لمصدر يقدّر ، أي علم أنه لا يصح منكم ضبط الأوقات ولا يتأتى حسابها بالتعديل
والتسوية ، إلا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط : وذلك شاق عليكم بالغ منكم ) فَتَابَ
عَلَيْكُمْ ( عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدّر . كقوله : ) فَتَابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ ( ( البقرة : 187 ) والمعنى :
أنه رفع التبعة في تركه عنكم ، كما يرفع التبعة عن التائب . وعبر عن الصلاة
بالقراءة ؛ لأنها بعض أركانها ، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود يريد :
فصلوا ما تيسر عليكم ، ولم يتعذر من صلاة الليل ؛ وهذا ناسخ للأوّل ، ثم نسخا
جميعاً بالصلوات الخمس . وقيل هي قراءة القرآن بعينها ؛ قيل : يقرأ مائة آية ومن
قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن ، وقيل : من قرأ مائة آية كتب من القانتين .
وقيل : خمسين آية . وقد بين الحكمة في النسخ . وهي تعذر القيام على المرضى ،
والضاربين في الأرض للتجارة ، والمجاهدين في سبيل الله . وقيل : سوّى الله بين
المجاهدين والمسافرين لكسب الحلال . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
( 1241 ) أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً ، فباعه
بسعر يومه : كان عند الله من الشهداء . وعن عبد الله بن عمر : ما خلق الله موتة
أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل : أضرب في الأرض
أبتغى من فضل الله . و ) عَلِمَ ( استئناف على تقدير السؤال عن وجه النسخ )
وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ ( يعني المفروضة والزكاة الواجبة وقيل : زكاة الفطر ؛
لأنه لم يكن بمكة زكاة . وإنما وجبت بعد ذلك . ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر
السورة مدنيا ) وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ( يجوز أن يريد : سائر
الصدقات وأن يريد : أداء الزكاة على أحسن وجه : من إخراج أطيب المال وأعوده على
الفقراء ، ومراعاة النية وابتغاء وجه الله ، والصرف إلى المستحق ، وأن يريد : كل
شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال ) خَيْرًا ( ثاني مفعولي وجد . وهو فصل
. وجاز وإن لم يقع بين معرفتين . لأنّ أفعل من=
10. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون
الأقاويل في وجوه التأويل
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي
" صفحة رقم 645 "
أشبه في امتناعه من حرف التعريف المعرفة . وقرأ أبو السمال ( هو خير وأعظم أجراً )
بالرفع على الابتداء والخبر .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1242 ) ( من قرأ سورة المزمّل دفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة ) .
" صفحة رقم 646 "
( سورة المدثر )
مكية ، وهي ست وخمسون آية ( نزلت بعد المزمل
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ياأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (
المدثر : ( 1 ) يا أيها المدثر
) الْمُدَّثّرُ ( لابس الدثار ، وهو ما فوق الشعار : وهو الثوب الذي يلي الجسد .
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1243 ) ( الأنصار شعار والناس دثار ) وقيل : هي أوّل سورة نزلت . وروى جابر بن
عبد الله عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1244 ) ( كنت على جبل حراء فنوديت : يا محمد ، إنك رسول الله ، فنظرت عن يميني
ويساري فلم أر شيئاً ، فنظرت فوقي فرأيت شيئا ) وفي رواية عائشة : ( فنظرت فوقي
فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض يعني الملك الذي ناداه فرعبت ورجعت إلى
خديجة فقلت : دثروني دثروني ، فنزل جبريل وقال : ( يا أيها المدثر ) وعن الزهري :
( 1245 ) أوّل ما نزل : سورة ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ( إلى قوله : ) مَا لَمْ
يَعْلَمْ ( فحزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجعل يعلو شواهق الجبال ، فأتاه
جبريل فقال : إنك نبيّ الله ، فرجع إلى
" صفحة رقم 647 "
خديجة وقال : دثروني وصبوا عليّ ماء بارداً ، فنزل : يا أيها المدثر . وقيل : سمع
من قريش ما كرهه فاغتم ، فتغطى بثوبه مفكراً كما يفعل المغموم . فأمر أن لا يدع
إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه . وعن عكرمة أنه قرأ على لفظ اسم المفعول . من دثره .
وقال : دثرت هذا الأمر وعصب بك ، كما قال في المزمّل : قم من مضجعك أو قم قيام عزم
وتصميم ) فَأَنذِرْ ( فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا . والصحيح أنّ المعنى :
فأفعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد ) وَرَبَّكَ فَكَبّرْ ( واختص ربك بالتكبير :
وهو الوصف بالكبرياء ؛ وأن يقال : الله أكبر . ويروي :
( 1246 ) أنه لما نزل قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الله أكبر ) فكبرت
خديجة وفرحت ، وأيقنت أنه الوحي ؛ وقد يحمل على تكبير الصلاة ، ودخلت الفاء لمعنى
الشرط كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره ) وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ ( أمر بأن تكون
ثيابه طاهرة من النجاسة ؛ لأنّ طهارة الثياب شرط في الصلاة لا تصح إلا بها ، وهي
الأولى والأحب في غير الصلاة ، وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثاً . وقيل : هو أمر
بتقصيرها ، ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول ، وذلك ما لا يؤمن معه
إصابة النجاسات . وقيل : هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ويستهجن من
العادات . يقال : فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل والأردان إذا وصفوه بالنقاء
من المعايب ومدانس الأخلاق . وفلان دنس الثياب للغادر ؛ وذلك لأنّ الثوب يلابس
الإنسان ويشتمل عليه ، فكنى به عنه . ألا ترى إلى قولهم : أعجبني زيد ثوبه ، كما
يقولون : أعجبني زيد عقله وخلقه ، ويقولون : المجد في ثوبه ، والكرم تحت حلته ؛
ولأنّ الغالب أنّ من طهر باطنه ونقاه عنى بتطهير الظاهر وتنقيته ، وأبي إلا اجتناب
الخبث وإيثار الطهر في كل شيء ( والرجز ) قرىء بالكسر والضم ، وهو العذاب ، ومعناه
: اهجر ما يؤدي إليه من عبادة الأوثان وغيرها من المآثم . والمعنى : الثبات على
هجره ؛ لأنه كان بريثاً منه .
) وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (
المدثر : ( 6 ) ولا تمنن تستكثر
قرأ الحسن ( ولا تمنّ ) ( وتستكثر ) مرفوع منصوب المحل على الحال ، أي : ولا
" صفحة رقم 648 "
تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه كثيراً ، أو طالباً للكثير : نهى عن الاستغزار :
وهو أن يهب شيئاً وهو يطمع أن يتعوّض من الموهوب له أكثر من الموهوب ، وهذا جائز .
ومنه الحديث :
( 1247 ) ( المستغزر يثاب من هبته ) وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون نهياً خاصاً
برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ لأنّ الله تعالى اختار له أشرف الآداب وأحسن
الأخلاق ، والثاني : أن يكون نهى تنزيه لا تحريم له ولأمته وقرأ الحسن ( تستكثر )
بالسكون . وفيه ثلاثة أوجه : الإبدال من تمن . كأنه قيل : ولا تمنن لا تستكثر ؛
على أنه من المنّ في قوله عز وجل : ( ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى ) لأنّ
من شأن المنان بما يعطي أن يستكثره ، أي : يراه كثيراً ويعتدّ به ، وأن يشبه ثرو
بعضد ، فيسكن تخفيفاً ، وأن يعتبر حال الوقف . وقرأ الأعمش بالنصب بإضمار ( أن )
كقوله :
أَلاَ أَيُّهذَا الزَّاجِرِى أحْضُرُ الْوَغَىء
وتؤيده قراءة ابن مسعود ( ولا تمنن أن تستكثر ) ويجوز في الرفع أن تحذف ( أن )
ويبطل عملها ، كما روي : أحضر الوغى بالرفع ، ) وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ ( ولوجه الله
فاستعمل الصبر . وقيل : على أذى المشركين . وقيل : على أداء الفرائض . وعن النخعى
: على عطيتك ، كأنه وصله بما قبله ، وجعله صبراً على العطاء من غير استكثار ،
والوجه أن يكون أمراً بنفس الفعل ، وأن يتناول على العموم كل مصبور عليه ومصبور
عنه ، ويراد الصبر على أذى الكفار ؛ لأنه أحد ما يتناوله العام .
) فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى
الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (
المدثر : ( 8 ) فإذا نقر في . . . . .
والفاء في قوله : ) فَإِذَا نُقِرَ ( للتسبيب ، كأنه قال : أصبر على أذاهم فبين
أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم ، وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه . والفاء في )
فَذَلِكَ ( للجزاء فإن قلت : بم انتصب إذا ، وكيف صح أن يقع ) يَوْمَئِذٍ ( ظرفاً
ليوم عسير ؟ قلت : انتصب إذا بما دلّ عليه الجزاء ، لأنّ المعنى : فإذا نقر في
الناقور عسر الأمر على الكافرين ، والذي أجاز وقوع ) يَوْمَئِذٍ ( ظرفاً ليوم عسير
: أنّ المعنى : فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير ، لأنّ يوم القيامة يأتي ويقع حين
ينقر في الناقور . واختلف في أنها النفخة الأولى أم الثانية . ويجوز أن يكون يومئذ
مبنياً مرفوع المحل ، بدلا من ) ذالِكَ ( و
" صفحة رقم 649 "
) عَسِيرٌ ( خبر ، كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير . فإن قلت : فما فائدة قوله : )
غَيْرُ يَسِيرٍ ( و ) عَسِيرٌ ( مغن عنه ؟ قلت : لما قال : ) عَلَى الْكَافِرِينَ
( فقصر العسر عليهم قال : ) غَيْرُ يَسِيرٍ ( ليؤذن بأن لا يكون عليهم كما يكون
على المؤمنين يسيراً هيناً ، ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشار المؤمنين
وتسليتهم ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً ، كما يرجى تيسر العسر من
أمور الدنيا .
) ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً وَبَنِينَ
شُهُوداً وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ
كان لاٌّ يَاتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ
إِنْ هَاذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (
المدثر : ( 11 ) ذرني ومن خلقت . . . . .
) وَحِيداً ( حال من الله عز وجل على معنيين ، أحدهما : ذرني وحدي معه ، فأنا
أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم . والثاني : خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد
. أو حال من المخلوق على معنى : خلقته وهو وحيد فريد لا مال له ولا ولد ، كقوله :
) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ( (
الأنعام : 94 ) ، وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وكان يلقب في قومه
بالوحيد ، ولعله لقب بذلك بعد نزول الآية ؛ فإن كان ملقباً به قبل فهو تهكم به
وبلقبه ، وتغيير له عن الغرض الذي كانوا يؤمونه من مدحه ، والثناء عليه بأنه وحيد
قومه لرياسته ويساره وتقدّمه في الدنيا إلى وجه الذم والعيب : وهو أنه خلق وحيداً
لا مال له ولا ولد ، فآتاه الله ذلك ، فكفر بنعمة الله وأشرك به واستهزأ بدينه )
مَّمْدُوداً ( مبسوطاً كثيراً : أو ممدّاً بالنماء ، من مدّ الهر ومدّ نهره آخر .
قيل : كان له الزرع والضرع والتجارة . وعن ابن عباس : هو ما كان له بين مكة
والطائف من صنوف الأموال . وقيل : كان له بستان بالطائف لا ينقطع ثماره صيفاً
وشتاء . وقيل : كان له ألف مثقال . وقيل : أربعة آلاف وقيل تسعة آلاف وقيل : ألف
ألف وعن ابن جريج : غلة شهر بشهر ) وَبَنِينَ شُهُوداً ( حضوراً معه بمكة لا
يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة ، لأنهم مكفيون لوفور نعمة أبيهم واستغنائهم عن
التكسب وطلب المعاش بأنفسهم ، فهو مستأنس بهم لا يشتغل قلبه بغيبتهم ، وخوف معاطب
السفر عليهم ولا يحزن لفراقهم والاشتياق إليهم . ويجوز أن يكون معناه : أنهم رجال
يشهدون معه المجامع والمحافل . أو تسمع شهادتهم فيما يتحاكم فيه . وعن مجاهد : كان
له عشرة بنين . وقيل : ثلاثة عشر . وقيل : سبعة كلهم رجال : الوليد بن الوليد ،
وخالد ، وعمارة ، وهشام ، والعاص ، وقيس ، وعبد شمس : أسلم منهم ثلاثة : خالد ،
وهشام ، وعمارة
" صفحة رقم 650 "
) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ( وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه ، فأتمت
عليه نعمتي المال والجاه واجتماههما : هو الكمال عند أهل الدنيا . ومنه قول الناس
: آدام الله تأييدك وتمهيدك ، يريدون : زيادة الجاه والحشمة . وكان الوليد من
وجهاء قريش وصناديدهم ؛ ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش ) ثُمَّ يَطْمَعُ ( استبعاد
واستنكار لطمعه وحرصه ، يعنى أنه لا مزيد على ما أوتي سعة وكثرة وقيل : إنه كان
يقول : إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي ) كَلاَّ ( ردع له وقطع لرجائه
وطمعه ) إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً ( تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن
قائلا قال : لم لا يزاد ؟ فقيل : إنه عاند آيات المنعم وكفر بذلك نعمته ، والكافر
لا يستحق المزيد : ويروى أنه ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله حتى هلك
) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ( سأغشيه عقبة شاقة المصعد : وهو مثل لما يلقى من العذاب
الشاق الصعد الذي لا يطاق وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1248 ) ( يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت ، فإذا رفعها عادت
، وإذا وضع رجله ذابت ، فإذا رفعها عادت ) وعنه عليه السلام :
( 1249 ) ( الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبداً ) ، )
إِنَّهُ فَكَّرَ ( تعليل للوعيد ، كأن الله تعالى عاجله بالفقر بعد الغنى ، والذل
بعد العز في الدنيا بعناده ، ويعاقب في الآخرة بأشدّ العذاب وأفظعه لبلوغه بالعناد
غايته وأقصاه في تفكيره ، وتسميته القرآن سحراً . ويجوز أن تكون كلمة الردع متبوعة
بقوله : ) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ( ردّاً لزعمه أن الجنة لم تخلق إلا له ؛
وإخباراً بأنه من أشدّ أهل النار عذاباً ، ويعلل ذلك بعناده ، ويكون قوله : )
إِنَّهُ فَكَّرَ ( بدلاً من قوله : ) إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً ( بياناً
لكنه عناده . ومعناه فكر ماذا يقول في القرآن ) وَقَدَّرَ ( في نفسه ما يقول وهيأه
) فَقُتِلَ
" صفحة رقم 651 "
كَيْفَ قَدَّرَ ( تعجيب من تقديره وإصابته فيه المحز . ورميه الغرض الذي كان
تنتحيه قريش . أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به أو هي حكاية لما كرروه من
قولهم . قتل كيف قدّر تهكما بهم وبإعجابهم بتقديره ، واستعظامهم لقوله . ومعنى قول
القائل : قتله الله ما أشجعه . وأخزاه الله ما أشعره : الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ
الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك . روي :
( 1250 ) أنّ الوليد قال لبني مخزوم : والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو
من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإن أعلاه
لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى ؛ فقالت قريش : صبأ والله الوليد ،
والله لتصبأن قريش كلهم ؛ فقال أبو جهل : أنا اكفيكموه ، فقعد إليه حزيناً وكلمه
بما أحماه فقام فأتاهم فقال : تزعمون أن محمداً مجنون ، فهل رأيتموه يخنق ؛
وتقولون إنه كاهن ، فهل رأيتموه قط يتكهن ؛ وتزعمون أنه شاعر ، فهل رأيتموه يتعاطى
شعراً قط ؛ وتزعمون أنه كذاب ، فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب ، فقالوا في كل ذلك
: اللهم لا ، ثم قالوا : فما هو ؟ ففكر فقال : ما هو إلا ساحر . أما رأيتموه يفرّق
بين الرجل وأهله وولده ومواليه ، وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل
بابل ، فارتج النادي فرحاً ، وتفرّقوا معجبين بقوله متعجبين منه ) ثُمَّ نَظَرَ (
في وجوه الناس ، ثم قطب وجهه ، ثم زحف مدبراً ، وتشاوس مستكبراً لما خطرت بباله
الكلمة الشنعاء ، وهمّ بأن يرمي بها وصف أشكاله التي تشكل بها حتى استنبط ما
استنبط ، استهزاء به . وقيل : قدرّ ما يقوله ، ثم نظر فيه ، ثم عبس لما ضاقت عليه
الحيل ولم يدر ما يقول . وقيل : قطب في وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) )
ثُمَّ أَدْبَرَ ( عن الحق ) وَاسْتَكْبَرَ ( عنه فقال ما قال . و ) ثُمَّ نَظَرَ (
عطف على ) فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( والدعاء : اعتراض بينهما . فإن قلت : ما معنى )
ثُمَّ ( الداخلة في تكرير الدعاء ؟ قلت ؛ الدلالة على أن الكرّة الثانية أبلغ من
الأولى . ونحوه قوله :
أَلاَ يَا اسْلَمِى ثُمَّ اسْلَمِى ثُمَّتَ اسْلَمِى
فإن قلت : ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها ؟ قلت : الدلالة على أنه قد
تأتي في التأمّل وتمهل ، وكأنّ بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد . فإن قلت : فلم
قيل
" صفحة رقم 652 "
) فَقَالَ إِنْ هَاذَا ( بالفاء بعد عطف ما قبله بثم ؟ قلت : لأن الكلمة لما خطرت
بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث . فإن قلت : فلم لم يوسط حرف
العطف بين الجملتين ؟ قلت : لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التوكيد من المؤكد .
) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ
لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ
النَّارِ إِلاَّ مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً
لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ
الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ
وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ
مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ
وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ
إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (
المدثر : ( 26 ) سأصليه سقر
) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( بدل من ) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ( ( المدثر : 17 ) ، ) لاَ
تُبْقِى ( شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته ؛ وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يعاد . أو لا
تبقي على شيء ، ولا تدعه من الهلاك ، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة )
لَوَّاحَةٌ ( من لوح الهجير . قال : تَقُولُ مَا لاَحَكَ يَا مُسَافِر
يَا آبْنَةَ عَمِّي لاَحَنِى الْهَوَاجِرُ
قيل : تلفح الجلد لفحة فتدعه أشدّ سواداً من الليل . والبشر : أعالي الجلود . وعن
الحسن . تلوح للناس ، كقوله : ) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ( (
التكاثر : 7 ) وقرىء ( لواحة ) نصباً على الاختصاص للتهويل ) عَلَيْهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ ( أي يلي أمرها ويتسلط على أهلها تسعة عشر ملكاً . وقيل : صنفاً من
الملائكة . وقيل : صفة . وقيل : نقيباً . وقرىء : ( تسعة عشر ) بسكون العين لتوالي
الحركات في ما هو في حكم اسم واحد وقرىء ( تسعة أعشر ) جمع عشير ، مثل : يمين
وأيمن جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس ، فلا يأخذهم ما يأخذ
المجانس من الرأفة والرقة ، ولا يستروحون إليهم ، ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله
وبالغصب له ، فتؤمن هوادتهم ، ولأنهم أشد الخلق بأساً وأقواهم بطشاً . عن عمرو بن
دينار : واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر . وعن النبي (
صلى الله عليه وسلم ) .
( 1251 ) ( كأن أعينهم البرق ، وكأن أفواههم الصياصى يجرون أشعارهم ، لأحدهم مثل
قوّة الثقلين ، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمى بهم في النار بالجبل عليهم
) وروي أنه لما نزلت ) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ( قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم
أمهاتكم ،
" صفحة رقم 653 "
أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ، أيعجز كل عشرة
منكم أن يبطشوا برجل منهم ، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحى وكان شديد
البطش ، أنا أكفيكم سبعة عشر ، فأكفوني أنتم اثنين ، فأنزل الله ) وَمَا جَعَلْنَا
أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَةً ( أي ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون .
فإن قلت : قد جعل افتنان الكافرين بعدة الزبانية سبباً لاستيقان أهل الكتاب وزيادة
إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين ، فما وجه صحة ذلك ؟ قلت ما جعل
افتتانهم بالعدة سبباً لذلك ، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سبباً ، وذلك أن
المراد بقوله ) وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ
( وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر ، فوضع ) فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( موضع )
تِسْعَةَ عَشَرَ ( ويعترض ويستهزيء ، ولا يذعن إذعان المؤمن ، وإن خفى عليه وجه
الحكمة ، كأنه قيل ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها ، لأجل استيقان
المؤمنين وحيرة الكافرين واستيقان أهل الكتاب ، لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين ،
فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله ، وازدياد المؤمنين إيماناً
لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل ، ولما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم
أنه كذلك . فإن قلت : لم قال ) وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ
وَالْمُؤْمِنُونَ ( والاستيقان وازدياد الإيمان دالا على انتفاء الارتياب ؟ قلت
لأنه إذا جمع لهم إثبات اليقين ونفي الشك . كان آكد وأبلغ لوصفهم بسكون النفس وثلج
الصدر ، ولأن فيه تعريضاً بحال من
" صفحة رقم 654 "
عداهم ، كأنه قال : ولتخالف حالهم حال الشاكين المرتابين من أهل النفاق والكفر .
فإن قلت : كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون ، والسورة مكية ، ولم يكن
بمكة نفاق ، وإنما نجم بالمدينة ؟ قلت : معناه وليقول المنافقون الذين ينجمون في
مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة ) وَالْكَافِرُونَ ( بمكة ) مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِهَاذَا مَثَلاً ( وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب ،
وذلك لا يخالف كون السورة مكية . ويجوز أن يراد بالمرض : الشك والارتياب ، لأن أهل
مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم قاطعين بالكذب . فإن قلت : قد علل جعلهم تسعة عشر
بالاستيقان وانتفاء الارتياب وقول المنافقين والكافرين غرضاً ؟ قلت : أفادت اللام
معنى العلة والسبب ، ولا يجب في العلة أن تكون غرضاً ، ألا ترى إلى قولك : خرجت من
البلد لمخافة الشر ، فقد جعلت المخافة علة لخروجك وما هي بغرضك . ) مَثَلاً (
تمييز لهذا ، أو حال منه ، كقوله : ) هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءايَةً ( (
هود : 64 ) ، فإن قلت : لم سموه مثلا ؟ قلت : هو استعارة من المثل المضروب . لأنه
مما غرب من الكلام وبدع ، استغراباً منهم لهذا العدد واستبداعاً له . والمعنى : أي
شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ، وأي غرض قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا
عشرين سواء ، ومرادهم إنكاره من أصله ، وأنه ليس من عند الله ، وأنه لو كان من عند
الله لما جاء بهذا العدد الناقص . الكاف في ) كَذَلِكَ ( نصب ، وذلك : إشارة إلى
ما قبله من معنى الإضلال والهدى ، أي : مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين
ويهدي المؤمنين ، يعني : يفعل فعلا حسناً مبنياً على الحكمة والصواب ، فيراه
المؤمنون حكمة ويذعنون له لاعتقادهم أن أفعال الله كلها حسنة وحكمة فيزيدهم
إيماناً ، وينكره الكافرون ويشكون فيه فيزيدهم كفراً وضلالا ) وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبّكَ ( وما عليه كل جدد من العدد الخاص من كون بعضها على عقد كامل
وبعضها على عدد ناقص ، وما في اختصاص كل جند بعدده من الحكمة ) إِلاَّ هُوَ ( ولا
سبيل لأحد إلى معرفة ذلك كما لا يعرف الحكمة في أعداد السموات والأرضين وأيام
السنة والشهور والبروج والكواكب وأعداد النصب والحدود والكفارات والصلوات في
الشريعة أو : وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو ، فلا يعز عليه تتميم الخزنة
عشرين ، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها وهو يعلمها . وقيل : هو جواب
لقول أبي جهل : أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر ، وما جعلنا أصحاب النار إلى قوله
إلا هو : اعتراض . وقوله : ) وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى ( متصل بوصف سقر وهي
ضميرها أي : وما سقر وصفتها إلا تذكرة ) لِلْبَشَرِ ( أو ضمير الآيات التي ذكرت
فيها .
" صفحة رقم 655 "
) كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ
إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِّلْبَشَرِ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن
يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (
المدثر : ( 32 ) كلا والقمر
) كَلاَّ ( إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى ، لأنهم لا يتذكرون ، أو ردع
لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيراً . و ) دُبُرٍ ( بمعنى أدبر ، كقبل بمعنى أقبل
. ومنه صاروا كأمس الدابر . وقيل : هو من دبر الليل والنهار إذا خلفه . وقرىء (
إذا أدبر ) ) إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ ( جواب القسم أو تعليل لكلا ، والقسم
معترض للتوكيد . والكبر : جمع الكبرى ، جعلت ألف التأنيث كتائها ، فلما جمعت فعلة
على فعل : جمعت فعلى عليها ، ونظير ذلك : السوافي في جمع السافياء . والقواصع في
جمع القاصعاء ، كأنها جمع فاعلة ، أي : لإحدى البلايا أو الدواهي الكبر ، ومعنى
كونها إحداهنّ : أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظيرة لها . كما تقول : هو أحد
الرجال ، وهي إحدى النساء و ) نَذِيراً ( تمييز من إحدى ، على معنى : إنها لإحدى
الدواهي إنذاراً ، كما تقول : هي إحدى النساء عفافاً . وقيل هي حال . وقيل : هو
متصل بأوّل السورة ، يعني : قم نذيراً ، وهو من بدع التفاسير . وفي قراءة أبي (
نذير ) بالرفع خبر بعد خبر ( لأن ) أو بحذف المبتدأ ) أَن يَتَقَدَّمَ ( في موضع
الرفع بالابتداء . ولمن شاء : خبر مقدّم عليه ، كقولك : لمن توضأ أن يصلي ؛ ومعناه
مطلق لمن شاء التقدّم أو التأخر أن يتقدّم أو يتأخر ، والمراد بالتقدّم والتأخر :
السبق إلى الخير والتخلف عنه : وهو كقوله : ) فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء
فَلْيَكْفُرْ ( ( الكهف : 29 ) ، ويجوز أن يكون ) لِمَن شَآءَ ( بدلاً من )
لّلْبَشَرِ ( على أنها منذرة للمكلفين الممكنين : الذين إن شاؤا تقدّموا ففازوا
وإن شاؤا تأخروا فهلكوا .
) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِى
جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ
لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ
مَعَ الُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا
الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (
المدثر : ( 38 ) كل نفس بما . . . . .
) رَهِينَةٌ ( ليست بتأنيث رهين في قوله : ) كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ (
( الطور : 21 ) ، لتأنيث النفس ؛ لأنه لو قصدت الصفة لقيل : رهين ؛ لأنّ فعيلاً
بمعنى مفعول يستوى فيه المذكر والمؤنث ، وإنما هي اسم بمعنى الرهن ، كالشتيمة
بمعنى الشتم ، كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهن ، ومنه بيت الحماسة :
" صفحة رقم 656 "
أبَعْدَ الَّذيِ بِالنَّعْفِ نَعْفِ كُوَيكِب
رَهِينَةِ رَمْس ذِي تُرَابٍ وَجَنْدَلِ
كأنه قال : رهن رمس . والمعنى : كل نفس رهن بكسبها عند بكسبها عند الله غير مفكوك
) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم ، كما
يخلص الراهن رهنه بأداء الحق . وعن علي رضي الله عنه أنه فسر أصحاب اليمين
بالأطفال ، لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها . وعن ابن عباس رضي الله عنه : هم
الملائكة ) فِى جَنَّاتٍ ( أي هم في جنات لا يكتنه وصفها ) يَتَسَاءلُونَ عَنِ
الْمُجْرِمِينَ ( يسأل بعضهم بعضاً عنهم . أو يتساءلون غيرهم عنهم ، كقولك : دعوته
وتداعيناه . فإن قلت : كيف طابق قوله ) مَا سَلَكَكُمْ ( وهو سؤال للمجرمين : قوله
: ) يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ( وهو سؤال عنهم ؟ وإنما كان يتطابق ذلك لو
قيل : يتساءلون المجرمين ماسلككم قلت : ماسلككم ليس ببيان للتساؤل عنهم ، وإنما هو
حكاية قول المسؤولين عنهم ؛ لأنّ المسؤلين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين
المجرمين ، فيقولون : قلنا لهم ماسلككم ) فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلّينَ ( إلا أن الكلام وجيء به على الحذف والاختصار ، كما هو نهج التنزيل
في غرابة نظمه الخوض : الشروع في الباطل وما لا ينبغي فإن قلت : لم يسألونهم وهم
عالمون بذلك قلت : توبيخا لهم وتحسيراً ، وليكون حكاية الله ذلك في كتابه تذكرة
للساميعن . وقد عضد بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالأطفال : أنهم إنما سألوهم لأنهم
ولدان لا يعرفون موجب دخول النار . فإن قلت : أيريدون أنّ كل واحد منهم بمجموع هذه
الأربع دخل النار ، أم دخلها بعضهم بهذه وبعضهم بهذه ؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعاً
. فإن قلت : لم أخر التكذيب وهو أعظمها ؟ قلت : أرادوا أنهم بعد ذلك كله كانوا
مكذبين بيوم الدين تعظيماً للتكذيب . كقوله ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ
ءامَنُواْ ( ( البلد : 17 ) ، و ) الْيَقِينُ ( الموت ومقدماته ، أي : لو شفع لهم
الشافعون جميعاً من الملائكة والنبيين وغيرهم ؛ لم تنفعهم شفاعتهم : لأنّ الشفاعة
لمن
" صفحة رقم 657 "
ارتضاه الله وهم مسخوط عليهم . وفيه دليل على أنّ الشفاعة تنفع يومئذ ؛ لأنها تزيد
في درجات المرتضين .
) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ
فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى
صُحُفاً مُّنَشَّرَةً كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الاٌّ خِرَةَ كَلاَّ إِنَّهُ
تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ
هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (
المدثر : ( 49 - 56 ) فما لهم عن . . . . .
) عَنِ التَّذْكِرَةِ ( عن التذكير وهو العظة ، يريد : القرآن أو غيره من المواعظ
و ) مُعْرِضِينَ ( نصب على الحال ، كقولك : مالك قائماً ( والمستنفرة ) الشديدة
النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له وحملها عليه . وقرىء بالفتح : وهي
المنفرة المحمولة على النفار : والقسورة : جماعة الرماة الذين يتصيدونها . وقيل :
الأسد يقال : ليوث قساور وهي فعولة من القسر : وهو القهر والغلبة ، وفي وزنه (
الحيدرة ) من أسماء الأسد . وعن ابن عباس : ركز الناس وأصواتهم . وعن عكرمة : ظلمة
الليل ، شبههم في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر والموعظة وشرادهم عنه ، بحمر
جدت في نفارها مما أفزعها . وفي تشبيههم بالحمر : مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين .
كما في قوله : ) كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ( ( الجمعة : 5 ) ، وشهادة
عليهم بالبله وقلة العقل . ولا ترى مثل نفار حمير الوحش واطرادها في العدو إذا
رأبها رائب ؛ ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل وشدّة سيرها بالحمر ،
وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص ) صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ( قراطيس تنشر وقرأ
كالكتب التي يتكاتب بها أو كتباً كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت
منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد ؛ وذلك أنهم قالوا لرسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) : لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب
العالمين إلى فلان بن فلان ، نؤمر فيها باتباعك ونحوه قوله : ) وَقَالُواْ لَن
نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ ( ( الإسراء : 93 )
، وقال : ) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ ( الآية ( الأنعام : 7 ) . وقيل : قالوا إن كان محمد صادقاً فليصبح عند
رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار . وقيل : كانوا يقولون : بلغنا
أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً على رأسه ذنبه وكفارته ، فأتنا بمثل ذلك
؛ وهذا من الصحف المنشرة بمعزل . إلا أن يراد بالصحف المنشرة : الكتابات الظاهرة
المكشوفة . وقرأ سعيد بن جبير : ( صحفا منشرة ) بتخفيفهما ، على أن أنشر الصحف
ونشرها : واحد ، كأنزله ونزله . ردعهم بقوله ) كَلاَّ ( عن تلك الإرادة ، وزجرهم
عن اقتراح الآيات ، ثم قال : ) بَل لاَّ يَخَافُونَ الاْخِرَةَ ( فلذلك أعرضوا عن
التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف ، ثم
" صفحة رقم 658 "
ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال : ) إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( يعني تذكرة بليغة
كافية ، مبهم أمرها في الكفاية ) فَمَن شَآءَ ( أن يذكره ولا ينساه ويجعله عينه
فعل ، فإنّ نفع ذلك راجع إليه . والضمير في ) إِنَّهُ ( و ) ذَكَرَهُ ( للتذكرة في
قوله ) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( ( المدثر : 49 ) وإنما ذكر
لأنها في معنى الذكر أو القرآن ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ (
يعني : إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه . لأنهم مطبوع على قلوبهم . معلوم
أنهم لا يؤمنون اختياراً ) هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( هو
حقيق بأن يتقيه عباده ، ويخافوا عقابه ، فيؤمنوا ويطيعوا ، وحقيق بأن يغفر لهم إذا
آمنوا وأطاعوا وروى أنس عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1252 ) ( هو أهل أن يتقي ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه ) وقرىء ( يذكرون ) بالياء
والتاء مخففاً ومشدداً .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1253 ) ( من قرأ سورة المدثر أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وكذب به
بمكة ) .
" صفحة رقم 659 "
( سورة القيامة )
مكية ، وآياتها 40 ( نزلت بعد القارعة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ
أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن
نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْألُ
أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (
القيامة : ( 1 ) لا أقسم بيوم . . . . .
إدخال ( لا ) النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس :
لاَ وَأَبِيك ابْنَةَ الْعَامِرِي
لاَ يَدَّعِى الْقَوْمُ أَنِّي أقِرّ
وقال غوثة بن سلمى : أَلاَ نَادَتْ أُمَامَةُ بِاحْتِمال
لِتَخْزُنَني فَلاَ بِكِ ما أُبَالِي
وفائدتها توكيد القسم ، وقالوا إنها صلة مثلها في ( لئلا يعلم أهل الكتاب ) وفي
قوله : في بئْرِ لاحورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ ;
واعتراضوا عليه بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوّله ، وأجابوا بأنّ القرآن
في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض ، والاعتراض صحيح ؛ لأنها لم تقع مزيدة إلا في
وسط الكلام ، ولكن الجواب غير سديد . ألا ترى إلى امرىء القيس كيف زادها في مستهل
قصيدته . والوجه أن يقال : هي للنفي . والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا
إعظاماً له يدلك عليه قوله تعالى : ) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ
" صفحة رقم 660 "
عَظِيمٌ ( ( الواقعة : 75 76 ) ، فكأنه بإدخال حرف النفي يقول : إنّ إعظامي له
بإقسامي به كلا إعظام ؛ يعني أنه يستأهل فوق ذلك . وقيل إن ( لا ) نفي لكلام وردّ
له قبل القسم ، كأنهم أنكروا البعث فقيل : لا ، أي ليس الأمر على ما ذكرتم ، ثم
قيل : أقسم بيوم القيامة . فإن قلت : قوله تعالى : ) فَلاَ وَرَبّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ ( ( النساء : 65 ) والأبيات التي أنشدتها : المقسم عليه فيها منفي ،
فهلا زعمت أنّ ( لا ) التي قبل القسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له ، وقدرت
المقسم عليه المحذوف ههنا منفياً ، كقوله : ) لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ
( ، لا تتركون سدى ؟ قلت : لو قصر الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول
مساغ ، ولكنه لم يقصر . ألا ترى كيف لقي ) لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ ( (
البلد : 1 ) ، بقوله : ) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ ( ( التين : 4 ) ، وكذلك )
فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( ( الواقعة : 75 ) ، بقوله : ( إنه لقرآن
كريم ) وقرىء : ( لأقسم ) على أنّ اللام للابتداء . وأقسم خبر مبتدأ محذوف ، معناه
: لأنا أقسم . قالوا : ويعضده أنه في الإمام بغير ألف ) بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ
( بالنفس المتقية التي تلوم النفوس فيه أي في يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى
أو بالتي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان . وعن الحسن : إن المؤمن لا
تراه إلا لائماً نفسه ، وإنّ الكافر يمضي قدما لا يعاتب نفسه . وقيل : هي التي
تتلوّم يومئذ على ترك الازدياد إن كانت محسنة . وعلى التفريط إن كانت مسيئة . وقيل
: هي نفس آدم ، لم تزل تتلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة . وجواب القسم ما دل
عليه قوله ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( وهو لتبعثن .
وقرأ قتادة : ( أن لن تُجمِع عظامه ) ، على البناء للمفعول . والمعنى : نجمعها بعد
تفرقها ورجوعها رميماً ورفاتا مختلطاً بالتراب ، وبعدما سفتها الرياح وطيرتها في
أباعد الأرض . وقيل إن عدي ابن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول فيهما :
( 1254 ) ( اللهم اكفني جاري السوء ) قال لرسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) :
يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره ؟ فأخبره رسول اللَّه ( صلى الله
عليه وسلم ) ؛ فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن به أو يجمع
الله العظام ، فنزلت ) بَلَى ( أوجبت ما بعد النفي وهو الجمع ، فكأنه قيل ) بَلَى
( نجمعها و ) قَادِرِينَ ( حال من الضمير في نجمع ، أي : نجمع العظام قادرين على
تأليف جميعها وإعادتها إلى التركيب الأول إلى أن نسوي
" صفحة رقم 661 "
بنانه أي : أصابعه التي هي أطرافه ، وآخر ما يتم به خلقه . أو على أن نسوي بنانه
ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولاً من غير نقصان ولا
تفاوت ، فكيف بكبار العظام . وقيل : معناه بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي
أصابع يديه ورجليه ، أي نجعلها مستوية شيئاً واحداً كخف البعير وحافر الحمار لا
تفرق بينها ، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاً مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل
والأنامل من فنون الأعمال ، والبسط والقبض ، والتأني لما يريد من الحوائج . وقرىء
( قادرون ) أي : نحن قادرون ، ) بَلْ يُرِيدُ ( عطف على ) أَيَحْسَبُ ( فيجوز أن
يكون مثله استفهاماً ، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر . أو
يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب ) لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( ليدوم على فجوره فيما بين
يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه . وعن سعيد بن جبير رضي الله
عنه : يقدم الذنب ويؤخر التوبة . يقول : سوف أتوب ، سوف أتوب : حتى يأتيه الموت
على شرّ أحواله وأسوأ أعماله ) يَسْئَلُ ( سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة في قوله
) أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( ونحوه : ويقولون متى هذا الوعد .
) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ
وَأَخَّرَ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ
(
القيامة : ( 7 - 15 ) فإذا برق البصر
) بَرِقَ الْبَصَرُ ( تحير فزعا ؛ وأصله من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره
. وقرىء : ( برق ) من البريق ، أي لمع من شدة شخوصه . وقرأ أبو السمال ( بلق ) إذا
انفتح وانفرج . يقال : بلق الباب وأبلقته وبلقته : فتحته ) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (
وذهب ضوؤه ، أو ذهب بنفسه . وقرىء : ( وخسف ) على البناء للمفعول ) وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( حيث يطلعهما الله من المغرب . وقيل : وجمعا في ذهاب الضوء
وقيل : يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار . وقيل يجمعان ثم
يقذفان في البحر ، فيكون نار الله الكبرى ) الْمَفَرُّ ( بالفتح المصدر ؛ وبالكسر
: المكان . ويجوز أن يكون مصدراً كالمرجع . وقرىء بهما ) كَلاَّ ( ردع عن طلب
المفرّ ) لاَ ( لا ملجأ ، وكل ما التجأت إليه من جبل أو غيره وتخلصت به فهو وزرك )
إِلَى رَبِّكَ ( خاصة ) يَوْمَئِذٍ ( مستقرّ العباد ، أي استقرارهم . يعني : أنهم
لا يقدرون أن يستقرّوا إلى غيره وينصبوا إليه أو إلى حكمه
" صفحة رقم 662 "
ترجع أمور العباد ، لا يحكم فيها غيره ، كقوله : ) لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ( (
غافر : 16 ) ، أو إلى ربك مستقرّهم ، أي : موضع قرارهم من جنة أو نار ، أي : مفوض
ذلك إلى مشيئته ، من شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار ) بِمَا قَدَّمَ ( من
عمل عمله ) و ( بما ) إِلَاهاً ءاخَرَ ( منه لم يعمله أو بما قدم من ماله فتصدق به
، أو بما أخره فخلفه . وبما قدم من عمل الخير والشر ، وبما أخر من سنة حسنة أو
سيئة فعمل بها بعده . وعن مجاهد : بأوّل عمله وآخره . ونحوه : فينبئهم بما عملوا
أحصاه الله ونسوه ) بَصِيرَةٌ ( حجة بينة وصفت بالبصارة على المجاز ، كما وصفت
الآيات بالإبصار في قوله : ) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءايَاتُنَا مُبْصِرَةً ( ( النمل
: 13 ) أو عين بصيرة . والمعنى أنه ينبأ بأعماله وإن لم ينبأ ، ففيه ما يجزيء عن
الإنباء ؛ لأنه شاهد عليها بما عملت ؛ لأنّ جوارحه تنطق بذلك ) يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ ( ( النور : 24 ) ، ) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ( ولو جاء بكل
معذرة يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها . وعن الضحاك : ولو أرخى ستوره ، وقال :
المعاذير الستور ، واحدها معذار ، فإن صح فلأنه يمنع رؤية المحتجب ، كما تمنع
المعذرة عقوبة المذنب . فإن قلت : أليس قياس المعذرة أن تجمع معاذر لا معاذير ؟
قلت : المعاذير ليس بجمع معذرة ، إنما هو اسم جمع لها ، ونحوه : المناكير في
المنكر .
) لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا
بَيَانَهُ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الاٌّ خِرَةَ وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ
تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (
القيامة : ( 16 ) لا تحرك به . . . . .
الضمير في ) بِهِ ( للقرآن . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا لقن الوحي
نازع جبريل القراءة ، ولم يصبر إلى أن يتمها ، مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن
يتفلت منه ، فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه ، حتى يقضى إليه وحيه ،
ثم يقفيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه . والمعنى : لا تحرّك لسانك بقراءة الوحي ما
دام جبريل صلوات الله عليه يقرأ ) لِتَعْجَلَ بِهِ ( لتأخذه على عجلة ، ولئلا
يتفلت منك . ثم علل النهي عن العجلة بقوله ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ( في صدرك
وإثبات قراءته في لسانك ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ( جعل قراءة جبريل قراءته : والقرآن
القراءة ) فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ ( فكن مقفياً له فيه ولا تراسله ، وطأمن نفسك أنه
لا يبقى غير محفوظ ، فنحن في ضمان تحفيظه ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( إذا
أشكل عليك شيء من معانيه ، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعاً ، كما
ترى بعض الحراص على العلم ؛ ونحوه ) وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن
يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ( ( طه : 114 ) ، ) كَلاَّ ( ردع لرسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) عن عادة العجلة وإنكار لها عليه ، وحث على الأناة
" صفحة رقم 663 "
والتؤدة ، وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله : ) بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( كأنه
قال : بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ، ومن
ثم تحبون العاجلة ) وَتَذَرُونَ الاْخِرَةَ ( وقرىء بالياء وهو أبلغ فإن قلت : كيف
اتصل قوله ) لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ ( ( القيامة : 16 ) إلى آخره ، بذكر
القيامة ؟ قلت : اتصاله به من جهة هذا للتخلص منه ، إلى التوبيخ بحب العاجلة ،
وترك الأهتمام بالآخرة . الوجه : عبارة عن الجملة والناضرة من نضرة النعيم ) إِلَى
رَبّهَا نَاظِرَةٌ ( تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم
المفعول ، ألا ترى إلى قوله : ) إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( ، )
إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( ، ) إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاْمُورُ ( (
الشورى : 53 ) ، ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( ( آل عمران : 28 ) ، ) وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ ( ( البقرة : 245 ) ، ) عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( (
هود : 88 ) ، كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص ، ومعلوم أنهم ينظرون إلى
أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم ،
فإنّ المئمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليه ولا هم يحزنون ،
فاختصاصه ينظرهم إليه لو كان منظوراً إليه : محال ، فوجب حمله على معنى يصح معه
الاختصاص ، والذي يصح معه أن يكون من قوله الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ،
تريد معنى التوقع والرجاء . ومنه قول القائل : وَإذَا نَطَرْتُ إلَيْكَ مِنْ ملك
وَالْبَحْرُ دُونَكَ زِدْتَني نِعَمَا
وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ، ويأوون إلى مقائلهم
، تقول : عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة
والكرامة إلا من ربهم ، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه ،
والباسر : الشديد العبوس ، والباسل : أشد منه ، ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد
كلوحه ) تَظُنُّ (
" صفحة رقم 664 "
تتوقع أن يفعل بها فعل هو في شدّته وفظاعته ) فَاقِرَةٌ ( داهية تقصم فقار الظهر ،
كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير .
) كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ
الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ
(
القيامة : ( 26 ) كلا إذا بلغت . . . . .
) كَلاَّ ( ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة ، كأنه قيل : ارتدعوا عن ذلك ، وتنبهوا
على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم ، وتنتقلون إلى الآجلة
التي تبقون فيها مخلدين . والضمير في ) بَلَغَتِ ( للنفس وإن لم يجر لها ذكر ،
لأنّ الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها ، كما قال حاتم : أَمَاوِيَّ مَا يُغْني
الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى
إذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
وتقول العرب : أرسلت ، يريدون : جاء المطر ، ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء )
التَّرَاقِىَ ( العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال . ذكرهم صعوبة الموت
الذي هو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها : وقال حاضرة
واصاحبها وهو المحتضر بعضهم لبعض ) مَنْ رَاقٍ ( أيكم يرقيه مما به ؟ وقيل : هو
كلام ملائكة الموت : أيكم يرقى بروحه ؟ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ )
وَظَنَّ ( المحتضر ) أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( أنّ هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا
المحبوبة ) وَالْتَفَّتِ ( ساقه بساقه والتوت عليها عند علز الموت . وعن قتادة :
ماتت رجلاه فلا تحملانه ، وقد كان عليهما جوالاً . وقيل : شدّة فراق الدنيا بشدّة
إقبال الآخرة ، على أن الساق في الشدّة . وعن سعيد بن المسيب : هما ساقاه حين
تلفان في أكفانه ) الْمَسَاقُ ( أي يساق إلى الله وإلى حكمه .
) فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى
أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (
القيامة : ( 31 ) فلا صدق ولا . . . . .
) فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى ( يعني الإنسان في قوله : ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ
أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( ( القيامة : 3 ) ألا ترى إلى قوله : ) أَيَحْسَبُ
الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( ( القيامة : 36 ) ، وهو معطوف على ) يَسْئَلُ
أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( ( القيامة : 6 ) أي : لا يؤمن بالبعث ، فلا صدق
بالرسول والقرآن . ولا صلى ويجوز أن يراد : فلا صدق ماله ، بمعنى : فلا زكاة .
وقيل : نزلت في أبي جهل ) يَتَمَطَّى ( يتبختر . وأصله يتمطط ، أي : يتمدد ، لأن
" صفحة رقم 665 "
المتبختر يمدّ خطاه . وقيل : هو من المطا وهو الظهر ، لأنه يلويه . وفي الحديث :
( 1255 ) ( إذا مشت أمتى المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد جعل بأسهم بينهم ) يعني
: كذب برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتولى عنه وأعرض ، ثم ذهب إلى قومه
يتبختر افتخاراً بذلك ) أَوْلَى لَكَ ( بمعنى ويل لك ، وهو دعاء عليه بأن يليه ما
يكره .
) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ
يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى
(
القيامة : ( 36 ) أيحسب الإنسان أن . . . . .
) فَخَلَقَ ( فقدر ) فَسَوَّى ( فعدل ) مِنْهُ ( من الإنسان ) الزَّوْجَيْنِ (
الصنفين ) أَلَيْسَ ذَلِكَ ( الذي أنشأ هذا الإنشاء ) بِقَادِرٍ ( على الإعادة .
وروى :
( 1256 ) أنّ رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قرأها قال ( سبحانك بلى
) .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1257 ) ( من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أنه كان مؤمناً
بيوم القيامة ) .
" صفحة رقم 666 "
( سورة الإنسان )
مدنية ، ورياتها 31 ( نزلت بعد الرحمن
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً
مَّذْكُوراً (
الإنسان : ( 1 ) هل أتى على . . . . .
هل بمعنى ( قد ) في الاستفهام خاصة ، والأصل : أهل ، بدليل قوله : أَهَلْ
رَأَوْنَا بِسَفْعِ الْقَاعِ ذِي الأكمِ ;
فالمعنى : أقد أتى ؟ على التقرير والتقريب جميعاً ، أي : أتى على الإنسان قبل زمان
قريب ) حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن ( فيه ) شَيْئاً مَّذْكُوراً ( أي كان
شيئاً منسياً غير مذكور نطفة في الأصلاب والمراد بالإنسان : جنس بني آدم ، بدليل
قوله : ) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ ( ( الإنسان : 2 ) ؟ قلت :
محله النصب على الحال من الإنسان ، كأنه قيل : هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور
. أو الرفع على الوصف لحين ، كقوله : ) يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ
( ( لقمان : 33 ) ، وعن بعضهم : أنها تليت عنده فقال : ليتها تمت ، أراد : ليت تلك
الحالة تمت ، وهي كونه شيئاً غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف .
) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ
فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (
الإنسان : ( 2 ) إنا خلقنا الإنسان . . . . .
) نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ( كبرمة أعشار ، وبرد أكياش : وهي ألفاظ مفردة غير جموع ،
ولذلك وقعت صفات للأفراد . ويقال أيضاً : نطفة مشج ، قال الشماخ :
" صفحة رقم 667 "
طَوَتْ أَحْشَاءُ مُرْتَجَةٍ لِوَقْت
عَلَى مَشَجٍ سُلاَلَتُهُ مَهِينُ
ولا يصحّ أمشاج أن يكون تكسيراً له ، بل هما مثلان في الإفراد ، لوصف المفرد بهما
. ومشجه ومزجه : بمعنى . والمعنى من نطفة قد امتزج لها الما آن . وعن ابن مسعود :
هي عروق النطفة . وعن قتادة : أمشاج ألوان وأطوار ، يريد : أنها تكون نطفة ، ثم
علقة ، ثم مضغة ) نَّبْتَلِيهِ ( في موضع الحال ، أي : خلقناه مبتلين له ، بمعنى :
مريدين ابتلاءه ، كقولك : مررت برجل معه صقر صائداً به غداً ، تريد : قاصداً به
الصيد غداً . ويجوز أن يراد : ناقلين له من حال إلى حال ، فسمي ذلك ابتلاء على
طريق الاستعارة . وعن ابن عباس : نصرفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة . وقيل : هو في
تقدير التأخير ، يعني : فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه ، وهو من التعسف .
) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (
الإنسان : ( 3 ) إنا هديناه السبيل . . . . .
شاكراً وكفوراً : حالان من الهاء في هديناه ، أي : مكناه وأقدرناه في حالتيه
جميعاً . أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل ( السمع ) كان معلوماً منه أنه يؤمن
أو يكفر لإلزام الحجة . ويجوز أن يكونا حالين من السبيل ، أي : عرفناه السبيل إما
سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً كقوله : ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( ( البلد
: 10 ) ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز . وقرأ أبو السمال بفتح الهمزة في ( أما )
وهي قراءة حسنة والمعنى : أما شاكراً فبتوفيقنا ، وأما كفوراً فبسوء اختياره .
) إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً (
الإنسان : ( 4 ) إنا أعتدنا للكافرين . . . . .
ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد . وقرىء ( سلاسل ) غير منون .
" صفحة رقم 668 "
( وسلاسلا ) ، بالتنوين . وفيه وجهان : أحدهما أن تكون هذه النون بدلا من حرف
الإطلاق ، ويجري الوصل مجرى الوقف . والثاني : أن يكون صاحب القراءة به ممن ضري
برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف .
) إِنَّ الاٌّ بْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً
يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى
حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ
لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً
عَبُوساً قَمْطَرِيراً (
الإنسان : ( 5 ) إن الأبرار يشربون . . . . .
) الاٌّ بْرَارَ ( جمع برّ أو بارّ ، كرب وأرباب ، وشاهد وأشهاد . وعن الحسن : هم
الذين لا يؤذون الذرّ والكأس : الزجاجة إذا كانت فيها خمر ، وتسمى الخمر نفسها :
كأساً ) مِزَاجُهَا ( ما تمزج به ) كَافُوراً ( ماء كافور ، وهو اسم عين في الجنة
ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده . و ) عَيْناً ( بدل منه . وعن قتادة : تمزج
لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك . وقيل : تخلق فها رائحة الكافور وبياضه وبرده ،
فكأنها مزجت بالكافور . و ) عَيْناً ( على هذين القولين : بدل من محل ) مِن كَأْسٍ
( على تقدير حذف مضاف ، كأنه قيل : يشربون فيها خمراً خمر عين . أو نصب على
الاختصاص . فإن قلت : لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أوّلاً ، وبحرف الإلصاق
آخراً ؟ قلت : لأنّ الكأس مبدأ شربهم وأوّل غايته ؛ وأما العين فبها يمزجون شرابهم
فكان المعنى : يشرب عباد الله بها الخمر ، كما تقول : شربت الماء بالعسل )
يُفَجّرُونَهَا ( يجرونها حيث شاؤا من منازلهم ) تَفْجِيرًا ( سهلا لا يمتنع عليهم
) يُوفُونَ ( جواب من عسى ، يقول : ما لهم يرزقون ذلك ، والوفاء بالنذر مبالغة في
وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات ؛ لأنّ من وفي بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله
كان بما أوجبه الله عليه أوفي ) مُسْتَطِيراً ( فاشياً منتشراً بالغاً أقصى
" صفحة رقم 669 "
المبالغ ، من استطار الحريق ، واستطار الفجر . وهو من طار ، بمنزلة استنفر من نفر
) عَلَى حُبِّهِ ( الضمير للطعام ، أي : مع اشتهائه والحاجة إليه . ونحوه )
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( ( البقرة : 177 ) ، ) لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ
حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( ( آل عمران : 92 ) ، وعن الفضيل بن عياض :
على حب الله ) وَأَسِيراً ( عن الحسن : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى
آله وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول : أحسن إليه ؛ فيكون عنده
اليومين والثلاثة ، فيؤثره على نفسه . وعند عامة العلماء : يجوز الإحسان إلى
الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات وعن قتادة : كان أسيرهم يومئذ
المشرك ، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه . وعن سعيد بن جبير وعطاء : هو الأسير من أهل
القبلة ، وعن أبي سعيد الخدري : هو الملوك والمسجون . وسمى رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم الغريم : أسيراً ، فقال ( غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك ) )
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ ( على إرادة القول . ويجوز أن يكون قولا باللسان منعاً لهم
عن المجازاة بمثله أو بالشكر ؛ لأن إحسانهم مفعول لوجه الله ؛ فلا معنى لمكافأة
الخلق . وأن يكون قولهم لهم لطفاً وتفقها وتنبيهاً ، على ما ينبغي أن يكون عليه من
أخلص لله . وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ، ثم تسأل
الرسول ما قالوا ؟ فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند
الله . ويجوز أن يكون ذلك بياناً وكشفاً عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا
شيئاً . وعن مجاهد : أما إنهم ما تكلموا به ، ولكن علمه الله منهم فأثنى عليهم .
والشكور والكفور : مصدران كالشكر والكفر ) إِنَّا نَخَافُ ( يحتمل إن إحساننا
إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم ، لا لإرادة مكافأتكم ؛ وإنا لا نريد منكم المكافأة
لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدقة . ووصف اليوم بالعبوس . مجاز على
طريقين : أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء ، كقولهم : نهارك صائم : روي أن الكافر
يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران ، وأن يشبه في شدته وضرره
بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل : والقمطرير : الشديد العبوس الذي يجمع ما بين
عينيه . قال الزجاج : يقال : اقمطرت الناقة : إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت
بأنفها فاشتقه من القطر وجعل الميم مزيدة . قال أسد بن ناعصة . وَاصْطَلَيْتُ
الْحُرُوبَ فِي كُلِّ يَوْم
بَاسِلَ الشَّرِّ قَمْطَرِيرَ الصَّبَاحِ
" صفحة رقم 670 "
) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاٌّ
رَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ
ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأانِيَةٍ
مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ
قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً
عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ
مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً وَإِذَا
رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ
خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ
شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم
مَّشْكُوراً (
الإنسان : ( 11 - 22 ) فوقاهم الله شر . . . . .
) وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ( أي : أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في
الوجوه وسروراً في القلوب ، وهذا يدل على أنّ اليوم موصوف بعبوس أهله ) بِمَا
صَبَرُواْ ( بصبرهم على الإيثار . وعن ابن عباس رضي الله عنه :
( 1258 ) أنّ الحسن والحسين مرضا ، فعادهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في
ناس معه ؛ فقالوا : يا أبا الحسن ، لو نذرت على ولدك ، فنذر عليّ وفاطمة وفضة
جارية لهما إن برآ مما بهما : أن يصوموا ثلاثة أيام ، فشفيا وما معهم شيء ،
فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً
واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال
: السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من
موائد الجنة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء ، وأصبحوا صياماً ؛ فلما أمسوا
ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم ، فآثروه ؛ ووقف عليهم أسير في الثالثة ،
ففعلوا مثل ذلك ؛ فلما أصبحوا أخد علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة
الجوع قال : ماأشد ما يسوءني ما أرى بكم ،
" صفحة رقم 671 "
وقام فانطلق ، معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها .
فساءه ذلك ، فنزل جبريل وقال : خذها يا محمد هنأك اللَّه في أهل بيتك فأقرأه
السورة . فإن قلت : ما معنى ذكر الحرير مع الجنة ؟ قلت : المعنى وجزاهم بصبرهم على
الإيثار وما يؤدّي إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مأكل هنيّ ، وحريراً فيه ملبس
بهيّ . يعني : أن هواءها معتدل ، لا حرّ شمس يحمي ولا شدّة برد تؤذي . وفي الحديث
: هواء الجنة سجسج ، لا حرّ ولا قرّ . وقيل : الزمهرير القمر . وعن ثعلب : أنه في
لغة طيىء . وأنشد : وَلَيْلَةٍ ظَلاَمُهَا قَدِ اعتَكَر
قَطَعْتُهَا وَالزَّمْهَرِيرُ مَا زَهَرْ
والمعنى : أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها شمس وقمر . فإن قلت : ) وَدَانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا ( علام عطفت ؟ قلت : على الجملة التي قبلها ؛ لأنها في موضع
الحال من المجزيين ؛ وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في عليهم ، إلا
أنها اسم مفرد ، وتلك جملة في حكم مفرد تقديره : غير رائين فيها شمساً ولا
زمهريراً ، ودانية عليهم ظلالها ؛ ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم
، كأنه قيل : وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحرّ والقرّ ودنوّ الظلال
عليهم وقرىء ( ودانية ) بالرفع ، على أن ظلالها مبتدأ ، ودانية خبر ، والجملة في
موضع الحال ؛ والمعنى : لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ، والحال أن ظلالها دانية
عليهم ؛ ويجوز أن تجعل ) مُتَّكِئِينَ ( و ) لاَ يَرَوْنَ ( و ) دَانِيَةٌ ( كلها
صفات لجنة . ويجوز أن يكون ) وَدَانِيَةً ( معطوفة على جنة ، أي : وجنة أخرى دانية
عليهم ظلالها ، على أنهم وعدوا جنتين ، كقوله ) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ
جَنَّتَانِ ( ( الرحمن : 46 ) ، لأنهم وصفوا بالخوف : ) إِنَّا نَخَافُ مِن
رَّبّنَا ( ( الإنسان : 10 ) ، فإن قلت : فعلام عطف ) وَذُلِّلَتْ ( ؟ قلت : هي
إذا رفعت ) وَدَانِيَةً ( جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية ، وإذا نصبتها على
الحال ، فهي حال من دانية ، أي : تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم . أو
معطوفة عليها على : ودانية عليهم ظلالها ، ومذللة قطوفها ؛ وإذا نصبت )
وَدَانِيَةً ( على الوصف ، فهي صفة مثلها ؛ ألا ترى أنك لو قلت : جنة ذللت قطوفها
: كان صحيحاً ؛ وتذليل القطوف : أن تجعل ذللا لا تمتنع على قطافها كيف شاؤا . أو
تجعل ذليلة لهم خاضعة متقاصرة ، من قولهم : حائط ذليل إذا كان
" صفحة رقم 672 "
قصيراً ) قَوارِيرَ قَوارِيرَ ( قرئا غير منونين ، وبتنوين الأول ، ، وبتنوينهما .
وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق ، لأنه فاصلة ؛ وفي الثاني لإتباعه الأوّل ،
ومعنى قوارير من ) فِضَّةٍ ( أنها مخلوقة من فضة ، وهي مع بياض الفضة وحسنها في
صفاء القوارير وشفيفها . فإن قلت : ما معنى كانت ؟ قلت هو من ( يكون ) في قوله : )
كُنْ فَيَكُونُ ( ( البقرة : 117 ) أي : تكوّنت قوارير ، بتكون الله تفخيماً لتلك
الخلقة العجيبة الشأن ، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين . ومنه كان في قوله
: كان مزاجها كافوراً . وقرىء ( قوارير من فضة ) بالرفع على : هي قوارير )
قَدَّرُوهَا ( صفة لقوارير من فضة . ومعنى تقديرهم لها : أنهم قدروها في أنفسهم أن
تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدّروا . وقيل : الضمير
للطائفين بها ، دل عليهم قوله : ) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ ( ( الإنسان : 15 ) ، على
أنهم قدروا شرابها على قدر الري ، وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل
عنها ولا يعجز . وعن مجاهد : لا تفيض ولا تغيض . وقرىء : ( قدّروها ) على البناء
للمعفول . ووجهه أن يكون من قدر ، منقولا من قدر . تقول : قدرت الشيء وقدرنيه فلان
: إذا جعلك قادراً له . ومعناه : جعلوا قادرين له كما شاؤا . وأطلق لهم أن يقدروا
على حسب ما اشتهوا ، سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها ، والعرب تستلذه
وتستطيبه .
قال الأعشى : كَأَنَّ الْقَرَنْفُلَ وَالزَّنْجَبِيل
بَاتَا بِفِيهَا وَأَرْياً مَشُورَا
وقال المسيب بن علس . وَكَأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبِيلِ بِه
إذْ ذُقْتُهُ وَسُلاَفَةَ الْخَمْرِ
و ) سَلْسَبِيلاً ( لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها ، يعني : أنها في طعم
الزنجبيل وليس فيها لذعه ، ولكن نقيض اللذع وهو السلاسة . يقال : شراب سلسل وسلسال
وسلسبيل ، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية . ودلت على غاية
السلاسة . قال الزجاج : السلسبيل في اللغة : صفة لماكان في غاية السلاسة . وقرىء (
سلسبيل ) على منع الصرف ، لاجتماع العلمية والتأنيث : وقد عزوا إلى علي بن أبي
طالب رضي الله عنه أن معناه سل سبيلا إليها ، وهذا غير مستقيم على ظاهره . إلا أن
" صفحة رقم 673 "
يراد أن جملة قول القائل : سل سبيلاً ، جعلت علما للعين ، كما قيل : تأبط شراً ؛
وذرّى حباً ؛ وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح
، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع ؛ وعزوُه إلى مثل علي رضي الله عنه
أبدع وفي شعر بعض المحدثين : سَلْ سَبِيلاً فِيهَا إلَى رَاحَةِ النَّفْ
سِ بِرَاحٍ كَأَنَّهَا سَلْسَبِيلُ
و ) عَيْناً ( بدل من ) زَنجَبِيلاً ( وقيل : تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه . أو
يخلق الله طعمه فيها . و ) عَيْناً ( على هذا القول : مبدلة من ) كَأْساً ( كأنه
قيل : ويسقون فيها كأساً كأس عين . أو منصوبة على الاختصاص . شبهوا في حسنهم وصفاء
ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم باللؤلؤ المنثور وعن المأمون : أنه ليلة
زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج من ذهب وقد نثرت عليه نساء
دار الخلافة اللؤلؤ . فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط ، فاستحسن المنظر وقال :
لله درّ أبي نواس ، وكأنه أبصر هذا حيث يقول : كَأَنَّ صُغْرَى وَكُبْرَى مِنْ
فَوَاقِعِهَا
حَصْبَاءُ دُرٍّ عَلَى أَرْضٍ مِنَ الذَّهَبِ
وقيل : شهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه ، لأنه أحسن وأكثر ماء ) رَأَيْتَ (
ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع ويعم ، كأنه قيل : وإذا أوجدت الرؤية ، ثم
ومعناه : أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير و )
ثَمَّ ( في موضع النصب على الظرف ، يعني في الجنة ومن قال : معناه : ( ما ثم ) فقد
أخطأ ، لأن ( ثم ) صلة لما ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة ) كَبِيراً (
واسعاً وهنيئاً . يروي : أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ،
يرى أقصاه كما يرى أدناه . وقيل لا زوال له . وقيل : إذا أرادوا شيأ كان . وقيل :
يسلم عليهم الملائكة ويستأذنون عليهم قرىء ( عاليهم ) بالسكون ، على أنه مبتدأ
خبره ) ثِيَابُ سُندُسٍ ( أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس . وعاليهم بالنصب ،
على أنه حال من الضمير في ) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ( أو
" صفحة رقم 674 "
في ) حَسِبْتَهُمْ ( أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب . أو حسبتهم
لؤلؤاً عالياً لهم ثياب . ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب .
وعاليتهم : بالرفع والنصب على ذلك . وعليهم . وخضر وإستبرق : بالرفع ، حملا على
الثياب بالجر على السندس . وقرىء ( وإستبرق ) نصباً في موضع الجر على منع الصرف
لأنه أعجمي ، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ؛ تقول : الإستبرق ، إلا أن
يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب . وقرىء ( واستبرق ) ،
بوصل الهمزة والفتح : على أنه مسمى باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضاً : لأنه
معرب مشهور تعريبه ، وأنّ أصله : استبره ) وَحُلُّواْ ( عطف على ) وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ ( ( الإنسان : 15 ) . فإن قلت : ذكر ههنا أنّ أساورهم من فضة ، وفي
موضع آخر أنها من ذهب . قلت : هب أنه قيل وحلوا أساور من ذهب ومن فضة ، وهذا صحيح
لا إشكال فيه ، على أنهم يسورون بالجنسين : إما على المعاقبة ، وإما على الجمع ،
كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلى وتجمع بينها ، وما أحسن بالمعصم أن يكون
فيه سواران : سوار من ذهب ، وسوار من فضة ) شَرَاباً طَهُوراً ( ليس برجس كخمر
الدنيا ؛ لأنّ كونها رجساً بالشرع لا بالعقل ، وليست الدار دار تكليف . أو لأنه لم
يعصر فتمسه الأيدي الوضرة ، وتدوسه الأقدام الدنسة ، ولم يجعل في الدنان والأباريق
التي لم يعن بتنظيفها . أو لأنه لا يئول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم
له ريح كريح المسك . أي : يقال لأهل الجنة ) إِنَّ هَاذَا ( وهذا إشارة إلى ما
تقدّم من عطاء الله لهم : ما جوزيتم به على أعمالكم وشكر به سعيكم ، والشكر مجاز .
) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً فَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً
(
الإنسان : ( 23 ) إنا نحن نزلنا . . . . .
تكرير الضمير بعد إيقاعه إسماً لانّ : تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل
، ليتقرّر في نفس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه إذا كان هو المنزل لم يكن
تنزيله على أي وجه نزل إلا حكمة وصواباً ، كأنه قيل : ما نزّل عليك القرآن تنزيلاً
مفرقاً منجماً إلا أنا لا غيري ، وقد عرفتني حكيماً فاعلاً لكل ما أفعله بدواعي
الحكمة ؛ ولقد دعتني حكمة بالغة إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافة والمصابرة ،
وسأنزل عليك الأمر بالقتال والانتقام بعد حين ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ (
الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح ، وتأخيره نصرتك
" صفحة رقم 675 "
على أعدائك من أهل مكة ؛ ولا تطع منهم أحداً قلة صبر منك على أذاهم وضجراً من تأخر
الظفر ، وكانوا مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه يدعونه إلى أن يرجع عن
أمره ويبذلون له أموالهم وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم . فإن قلت : كانوا كلهم
كفرة ، فما معنى القسمة في قوله ) أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ ( ؟ قلت : معناه ولا
تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً لك إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه ؛
لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كفر ،
فنهى أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث . وقيل : الآثم عتبة ؛ والكفور : الوليد ؛
لأنّ عتبة كان ركاباً للمآثم ، متعاطياً لأنهواع الفسوق ؛ وكان الوليد غالباً في
الكفر شديد الشكيمة في العتوّ . فإن قلت : معنى أو : ولا تطع أحدهما ، فهلا جيء
بالواو ليكون نهياً عن طاعتهما جميعاً ؟ قلت : لو قيل : ولا تطعهما ، جاز أن يطيع
أحدهما ؛ وإذا قيل : لا تطع أحدهما ، علم أنَّ الناهي عن طاعة أحدهما : عن طاعتهما
جميعاً أنهى . كما إذا نهى أن يقولا لأبويه : أف ، علم أنه منهى عن ضربهما على
طريق الأولى ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ( ودم على صلاة الفجر
والعصر ) وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ ( وبعض الليل فصل له . أو يعني صلاة
المغرب والعشاء ، وأدخل ( من ) على الظرف للتبعيض ، كما دخل على المفعول في قوله :
) يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( ( نوح : 4 ) ، ) وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً
( وتهجد له هزيعاً طويلا من الليل : ثلثيه ، أو نصفه ، أو ثلثه .
) إِنَّ هَاؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً
ثَقِيلاً نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا
بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (
الإنسان : ( 27 - 28 ) إن هؤلاء يحبون . . . . .
) إِنَّ هَاؤُلاَءِ ( الكفرة ) يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( يؤثرونها على الآخرة ،
كقوله : ) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ( ( الأعلى : 16 ) ، )
وَرَآءَهُمْ ( قدّامهم أو خلف ظهورهم لا يعبأون به ) يَوْماً ثَقِيلاً ( استعير
الثقيل لشدّته وهواله ، من الشيء الثقيل الباهظ لحامله . ونحوه : ) ثَقُلَتْ فِى
السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ( الأعراف : 187 ) ، الأسر : الربط والتوثيق . ومنه :
أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ وهو الإسار . وفرس مأسور الخلق . وترس مأسور بالعقب . والمعنى
: شددنا توصيل عظامهم بعضها ببعض ، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب . ومثله
" صفحة رقم 676 "
قولهم : جارية معصوبة الخلق ومجدولته ) وَإِذَا شِئْنَا ( أهلكناهم و ) بَدَّلْنَا
أَمْثَالَهُمْ ( في شدّة الأسر ، يعتى : النشأة الأخرى . وقيل : معناه : بدلنا
غيرهم ممن يطيع . وحقه أن يجيء بإن ، لا بإذا ، كقوله : ) وَإِن تَتَوَلَّوْاْ
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ( ( محمد : 38 ) ، ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ( (
النساء : 133 ) .
) إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا
تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً
أَلِيماً (
الإنسان : ( 29 - 31 ) إن هذه تذكرة . . . . .
) هَاذِهِ ( إشارة إلى السورة أو إلى الآيات القريبة ) فَمَن شَآءَ ( فمن اختار
الخير لنفسه وحسن العاقبة واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل
بالطاعة ) وَمَا ( الطاعة ) تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( بقسرهم عليها )
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً ( بأحوالهم وما يكون منهم ) حَكِيماً ( حيث خلقهم مع
علمه بهم . وقرىء ( تشاؤن ) بالتاء . فإن قلت : ما محل ( أن يشاء الله ) ؟ قلت
النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة الله ، وكذلك قراءة ابن مسعود : إلا ما
يشاء الله ؛ لأنَّ ( ما ) مع الفعل كأن معه ) يُدْخِلُ مَن يَشَاء ( هم المؤمنون
ونصب ) وَالظَّالِمِينَ ( بفعل يفسره . أعدّ لهم ، نحو : أو عد وكافأ ، وما أشبه
ذلك قرأ ابن مسعود : وللظالمين ، على : وأعدّ للظالمين وقرأ ابن الزبير :
والظالمون على الابتداء ، وغيرها أولى لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة والمعطوف
عليها فيها ، مع مخالفتها للمصحف .
" صفحة رقم 677 "
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1259 ) ( من قرأ سورة همل أتي كان جزاؤه على الله جنة وحريراً ) .
" صفحة رقم 678 "
( سورة المرسلات )
مكية ، ( إلا آية 48 فمدنية ) وآياتها 50 ( نزلت بعد الهمزة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والنَّاشِرَاتِ نَشْراً
فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً (
المرسلات : ( 1 ) والمرسلات عرفا
أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة ، أرسلهنّ بأوامره فعصفن في مضيهن كما تعصف الرياح
، تخففاً في امتثال أمره ، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي
. أو نشرن الشرائع في الأرض . أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين ،
ففرّقن بين الحق والباطل ، فألقين ذكراً إلى الأنبياء ) عُذْراً ( للمحقين ) أَوْ
نُذْراً ( للمبطلين . أو أقسم برياح عذاب أرسلهن . فعصفن ، وبرياح رحمة نشرن
السحاب في الجوّ ففرّقن بينه ، كقوله : ) وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً ( ( الروم : 48 ) ،
أو بسحائب نشرن الموات ، ففرّقن بين من يشكر لله تعالى وبين من يكفر ، كقوله : )
لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَداً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ( ( الجن : 16 ) فألقين ذكراً إمّا
عذراً للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث
ويشكرونها ، وإما إنذاراً للذين يغفلون الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء ، وجعلن
ملقيات للذكر لكونهن سبباً في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت . فإن قلت : ما
معنى عرفاً ؟ قلت : متتابعة كشَعَر العرف يقال : جاؤا عرفاً واحداً ؛ وهم عليه
كعرف الضبع : إذا تألبوا عليه ، ويكون بمعنى العرف الذي هو نقيض النكر ؛ وانتصابه
على أنه مفعول له ، أي : أرسلن للإحسان والمعروف ؛ والأول على الحال . وقرىء (
عرفا ) على التثقيل ، نحو نكر في نكر . فإن قلت : قد فسرت المرسلات بملائكة العذاب
، فكيف يكون إرسالهم معروفاً ؟ قلت : إن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروف
للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله لهم منهم . فإن قلت : ما العذر والنذر ، وبما
انتصبا ؟ قلت : هما مصدران من أعذر إذا محا الإساءة ، ومن أنذر إذا
" صفحة رقم 679 "
خوّف على فعل ، كالكفر والشكر ، ويجوز أن يكون جمع عذير ، بمعنى المعذرة ؛ وجمع
نذير بمعنى الإنذار . أو بمعنى العاذر والمنذر . وأما انتصابهما فعلى البدل من
ذكراً على الوجهين الأوّلين أو على المفعول له . وأما على الوجه الثالث فعلى الحال
بمعنى عاذرين أو منذرين . وقرئا : مخففين ومثقلين .
) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَآءُ
فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لأَيِّ يَوْمٍ
أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (
المرسلات : ( 7 ) إنما توعدون لواقع
إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة لكائن نازل لا ريب فيه ، وهو جواب القسم ،
وعن بعضهم : أن المعنى : ورب المرسلات ) طُمِسَتْ ( محيت ومحقت . وقيل : ذهب
بنورها ومحق ذواتها ، موافق لقوله ( انتثرت ) و ( انكدرت ) ويجوز أن يمحق نورها ثم
تنتثر ممحوقة النور ) فُرِجَتْ ( فتحت فكانت أبواباً . قال الفارجي : باب الأمير
إليهم ) نُسِفَتْ ( كالحب إذا نسف بالمنسف . نحوه ) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (
( الواقعة : 5 ) ، ) وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً ( ( المزمل : 14 ) ،
وقيل : أخذت بسرعة من أماكنها ، من انتسفت الشيء إذا اختطفته وقرئت ( طمست ) وفرجت
ونسفت مشدّدة . قرىء ( أقتت ) ووقتت ، بالتشديد والتخفيف فيهما . والأصل : الواو
ومعنى توقيت الرسل : تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم . والتأجيل :
من الأجل ، كالتوقيت : من الوقت ) لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ ( تعظيم لليوم ، وتعجيب من
قوله ) لِيَوْمِ الْفَصْلِ ( بيان ليوم التأجيل ، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين
الخلائق . والوجه أن يكون معنى وقتت : بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره : وهو يوم القيامة
. وأجلت : أخرت . فإن قلت : كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله : ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لّلْمُكَذّبِينَ ( ؟ قلت : هو في أصله مصدر منصوب سادّ مسدّ فعله ، ولكنه عدل به
إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه . ونحوه ) سَلَامٌ
عَلَيْكُمُ ( ( الأنعام : 54 ) ، ويجوز : ويلا ، بالنصب ؛ ولكنه لم يقرأ به . يقال
: ويلا له ويلا كيلا .
) أَلَمْ نُهْلِكِ الاٌّ وَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاٌّ خِرِينَ كَذَلِكَ
نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (
المرسلات : ( 16 ) ألم نهلك الأولين
قرأ قتادة ( نهلك ) ، بفتح النون ، من هلكه بمعنى أهلكه ، قال الحجاج :
" صفحة رقم 680 "
وَمَهْمَهٍ هَالِكِ مَنْ تَعَرَّجَا ;
) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ( بالرفع على الاستئناف ، وهو وعيد لأهل مكة يريد : ثم نفعل
بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين ، ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل
تكذيبهم ، ويقويها قراءة ابن مسعود ( ثم سنتبعهم ) وقرىء بالجزم للعطف على نهلك .
ومعناه : أنه أهلك الأولين من قوم نوح وعاد وثمود ، ثم أتبعهم الآخرين من قوم شعيب
ولوط وموسى ) كَذَلِكَ ( مثل ذلك الفعل الشنيع ) نَفْعَلُ ( بكل من أجرم إنذاراً
وتحذيراً من عاقبة الجرم وسوء أثره .
) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ
إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِّلْمُكَذِّبِينَ (
المرسلات : ( 20 ) ألم نخلقكم من . . . . .
) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( إلى مقدار من الوقت معلوم قد علمه الله وحكم به : وهو
تسعة الأشهر ، أو ما دونها ، أو ما فوقها ) فَقَدَرْنَا ( فقدّرنا ذلك تقديراً )
فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ( فنعم المقدّرون له نحن . أو فقدرنا على ذلك فنعم القدرون
عليه نحن ؛ والأوّل أولى لقراءة من قرأ ( فقدّرنا بالتشديد ) ولقوله ) مِن
نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ( ( عبس : 19 ) .
) أَلَمْ نَجْعَلِ الاٌّ رْضَ كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا
رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
(
المرسلات : ( 25 ) ألم نجعل الأرض . . . . .
الكفات : من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه : وهو اسم ما يكفت ، كقولهم : الضمام والجماع
لما يضم ويجمع ، يقال : هذا الباب جماع الأبواب ، وبه انتصب ) أَحْيَاء
وَأَمْواتاً ( كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتاً . أو بفعل مضمر يدل عليه وهو تكفت
. والمعنى : تكفت أحياء على ظهرها ، وأمواتاً في بطنها . وقد استدل بعض أصحاب
الشافعي رحمه الله على قطع النباش بأنّ الله تعالى جعل الأرض كفاتاً للأموات ،
فكان بطنها حرزاً لهم ؛ فالنباش سارق من الحرز . فإن قلت : لم قيل أحياء وأمواتاً
على التنكير ، وهي كفات الأحياء والأموات جميعاً ؟ قلت : هو من تنكير التفخيم ،
كأنه قيل : تكفت أحياء لا يعدون وأمواتاً لا يحصرون ، على أنّ أحياء الإنس
وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات . ويجوز أن
" صفحة رقم 681 "
يكون المعنى : تكفتكم أحياء وأمواتاً ، فينتصبا على الحال من الضمير ؛ لأنه قد علم
أنها كفات الإنس . فإن قلت : فالتنكير في ) رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ ( و ) مَّاء
فُرَاتاً ( ؟ قلت : يحتمل إفادة التبعيض ؛ لأنّ في السماء جبالا قال الله تعالى :
) وَنُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ( ( النور : 43 ) ،
وفيها ماء فرات أيضاً ، بل هي معدنه ومصبه ، وأن يكون للتفخيم .
) انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِى
ثَلَاثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِى
بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِّلْمُكَذِّبِينَ هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (
المرسلات : ( 29 ) انطلقوا إلى ما . . . . .
أي يقال لهم : انطلقوا إلى ما كذبتم به من العذاب ، وانطلقوا الثاني تكرير . وقرىء
: ( انطلقوا ) على لفظ الماضي إخباراً بعد الأمر عن عملهم بموجبه ، لأنهم مضطرون
إليه لا يستطيعون امتناعاً منه ) إِلَى ظِلٍّ ( يعني دخان جهنم ، كقوله : وظل من
يحموم ) ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ ( بتشعب لعظمه ثلاث شعب ، وهكذا الدخان العظيم تراه
يتفرق ذوائب . وقيل : يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ، ويتشعب من
دخانها ثلاث شعب ، فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم ؛ والمؤمنون في ظل العرش ) لاَّ
ظَلِيلٍ ( تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين ) وَلاَ يُغْنِى ( في محل
الجر ، أي : وغير مغن عنهم من حرّ اللهب شيئاً ) بِشَرَرٍ ( وقرىء : ( بشرار ) )
كَالْقَصْرِ ( أي كل شررة كالقصر من القصور في عظمها . وقيل : هو الغليظ من الشجر
، الواحدة قصرة ، نحو : جمرة وجمر . وقرىء ( كالقصر ) بفتحتين : وهي أعناق الإبل ،
أو أعناق النخل ، نحو شجرة وشجر . وقرأ ابن مسعود : كالقصر بمعنى القصور ، كرهن
ورهن . وقرأ سعيد ابن جبير ( كالقصر ) في جمع قصرة ، كحاجة وحوج ) جِمَالَةٌ ( جمع
جمال . أو جمالة جمع جمل ؛ شبهت بالقصور ، ثم بالجمال لبيان التشبيه . ألا تراهم
يشبهون الإبلف بالأفدان والمجادل . وقرىء : ( جمالات ) بالضم : وهي قلوس الجسور .
وقيل : قلوس سفن البحر ، الواحدة جمالة وقرىء ( جمالة ) بالكسر ، بمعنى : جمال
وجمالة بالضم : وهي القلس . وقيل ) صُفْرٌ ( لإرادة الجنس . وقيل ) صُفْرٌ ( سود
تضرب إلى الصفرة . وفي شعر عمران بن حطان الخارجي : دَعَتْهُمْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا
وَرَمَتْهُم
بِمِثْلِ الْجِمَالِ الصُّفْرِ نَزْاعَةُ الشِّوَى
" صفحة رقم 682 "
وقال أبو العلاء : حَمْرَاءُ سَاطِعَةُ الذَّوَائِبِ في الدُّجَى
تَرْمِى بِكلِّ شَرَارَةٍ كَطِرَافِ
فشبهها بالطراف وهو بيت الأدم في العظم والحمرة ، وكأنه قصد بخبثه : أن يزيد على
تشبيه القرآن ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله ( حمراء
) توطئة لها ومناداة عليها ، وتنبيها للسامعين على مكانها ، ولقد عمي : جمع الله
له عمى الدارين عن قوله عز وعلا ، كأنه جمالات صفر ؛ فإنه بمنزلة قوله : كبيت أحمر
؛ وعلى أن التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيها من جهتين : من جهة العظم ، ومن جهة
الطول في الهواء ، وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس : تشبيه من ثلاث جهات : من
جهة العظم والطول والصفرة ، فأبعد الله إغرابه في طرافه وما نفخ شدقيه من استطرافه
.
قرىء بنصب ( اليوم ) ونصبه الأعمش ، أي : هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ ، ويوم
القيامة طويل ذو مواطن ومواقيت : ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت ؛ ولذلك ورد
الأمران في القرآن . أو جعل نطقهم كلا نطق ؛ لأنه لا ينفع ولا يسمع )
فَيَعْتَذِرُونَ ( عطف على ) يُؤْذَنُ ( منخرط في سلك النفي . والمعنى : ولا يكون
لهم إذن واعتذار متعقب له ، من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن ولو نصب لكان
مسبباً عنه لا محالة .
) هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالاٌّ وَّلِينَ فَإِن كَانَ لَكمُ
كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى
ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئاً
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (
المرسلات : ( 38 - 45 ) هذا يوم الفصل . . . . .
) جَمَعْنَاكُمْ وَالاْوَّلِينَ ( كلام موضح لقوله : ) هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ (
لأنه إذا كان يوم الفصل بين السعداء والأشقياء وبين الأنبياء وأممهم . فلا بدّ من
جمع الأولين والآخرين ، حتى يقع ذلك الفصل بينهم ) فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ
فَكِيدُونِ ( تقريع لهم على كيدهم لدين الله وذويه ، وتسجيل عيهم بالعجز
والاستكانة ) كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( في موضع الحال من ضمير المتقين ، في الظرف
الذي هو في ظلال ، أي : هم مستقرّون في ظلال ، مقولا لهم ذلك .
) كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( 7 )
المرسلات : ( 46 ) كلوا وتمتعوا قليلا . . . . .
" صفحة رقم 683 "
كلوا وتمتعوا فإن قلت : كيف يصح أن يقال لهم ذلك في الآخرة ؟ قلت : يقال لهم ذلك
في الآخرة إيذاناً بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم ، وكانوا من أهله
تذكيراً بحالهم السمجة وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم
والملك الخالد . وفي طريقته قوله : إخْوَتِي لاَ تبْعَدُوا أَبَدا
وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعِدُوا
يريد : كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بذلك ، وعلل ذلك بكونهم مجرمين دلالة
على أن كل مجرم ماله إلا الأكل والتمتع أياماً قلائل ، ثم البقاء في الهلاك أبداً
. ويجوز أن يكون ) كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ ( ( المرسلات : 46 ) ، كلاماً مستأنفاً
خطاباً للمكذبين في الدنيا ) ارْكَعُواْ ( اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه
واتباع دينه . واطرحوا هذا الاستكبار والنخوة ، لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ، ويصرون
على استكبارهم . وقيل : ما كان على العرب أشدّ من الركوع والسجود : وقيل :
( 1260 ) نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالصلاة ،
فقالوا : لا نجبى فإنها مسبة علينا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لا
خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود ) بَعْدَهُ ( بعد القرآن ، يعني أنّ القرآن من
بين الكتب المنزلة آية مبصرة ومعجزة باهرة ، فحين لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده )
يُؤْمِنُونَ ( وقرىء ( تؤمنون ) بالتاء .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1261 ) ( من قرأ سورة والمرسلات كتب له أنه ليس من المشركين )
" صفحة رقم 684 "
( سورة عمَّ يتساءلون )
مكية ، وتسمى سورة النبإ ، وهي أربعون ، أو إحدى وأربعون آية
( نزلت بعد المعارج )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِى هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ (
النبأ : ( 1 ) عم يتساءلون
) عَمَّ ( أصله عما ، على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية وهو في قراءة عكرمة
وعيسى بن عمر . قال حسان رضي الله عنه : عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِى لَئِيم
كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
والاستعمال الكثير على الحذف ، والأصل : قليل ومعنى هذا الاستفهام : تفخيم الشأن ،
كأنه قال عن أي شأن يتساءلون ونحوه ما في قولك : زيد ما زيد ؟ جعلته لانقطاع قرينه
وعدم نظيره كأنه شيء خفي عليك جنسه فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن جوهره ، كما تقول :
ما الغول وما العنقاء ؟ تريد : أي شيء هو من الأشياء هذا أصله ؛ ثم جرد العبارة عن
التفخيم ، حتى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية ) يَتَسَآءَلُونَ ( يسأل بعضهم
بعضاً . أو يتساءلون غيرهم من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين نحو :
يتداعونهم ويتراءونهم . والضمير لأهل مكة : كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث ،
ويتساءلون غيرهم عنه على طريق الاستهزاء ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( بيان للشأن
المفخم . وعن ابن كثير قرأ ( عمه ) بهاء السكت ، ولا يخلو : إما أن يجري الوصل
مجرى
" صفحة رقم 685 "
الوقف وإما أن يقف ويبتدىء ) يتساءلون ( على أن يضمر ) يتساولون ( لأنّ ما بعده
يفسره ، كشيء يبهم ثم يفسر . فإن قلت : قد زعمت أنّ الضمير في يتساءلون للكفار .
فما تضنع بقوله ) الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ( ؟ قلت : كان فيهم من يقطع
القوم بإنكار البعث ، ومنهم من يشك . وقيل : الضمير للمسلمين والكافرين جميعاً ،
وكانوا جميعاً يسألون عنه . أما المسلم فليزداد خشية واستعداداً وأما الكافر
فليزداد استهزاء . وقيل : المتساءل عنه القرآن . وقيل : نبوّة محمد ( صلى الله
عليه وسلم ) . وقرىء ( يساءلون ) بالإدغام ، وستعلمون بالتاء .
) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (
النبأ : ( 4 - 5 ) كلا سيعلمون
) كلا ( ردع للمتسائلين هزؤا . و ) سَيَعْلَمُونَ ( وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون أنّ
ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق ، لأنه واقع لا ريب فيه . وتكرير الردع مع الوعيد
تشديد في ذلك ومعنى ) ثُمَّ ( الإشعار بأنّ الوعيد الثاني أبلغ من الأوّل وأشد .
) أَلَمْ نَجْعَلِ الاٌّ رْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ
أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً
لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (
النبأ : ( 6 ) ألم نجعل الأرض . . . . .
فإن قلت : كيف اتصل به قوله : ) أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً ( قلت : لما
أنكروا البعث قيل لهم : ألم يخلق من يضاف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة الدالة
على كمال القدرة ، فما وجه إنكار قدرته على البعث ، وما هو إلا اختراع كهذه
الاختراعات أو قيل لهم : أم يفعل هذه الأفعال المتكاثرة . والحكيم لا يفعل فعلا
عبثاً ، وما تنكرونه من البعث والجزاء مؤدّ إلى أنه عابث في كل ما فعل ) مِهَاداً
( فراشاً . وقرىء ( مهداً ) ومعناه : أنها لهم كالمهد للصبي : وهو ما يمهد له
فينوّم عليه ، تسمية للممهود بالمصدر ، كضرب الأمير . أو وصفت بالمصدر . أو بمعنى
: ذات مهد ، أي أرسيناها بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد ) سُبَاتاً ( موتاً .
والمسبوت . الميت ، من السبت وهو القطع ؛ لأنه مقطوع عن الحركة . والنوم : أحد
التوفيين ، وهو على بناء الأدواء . ولما جعل النوم
" صفحة رقم 686 "
موتاً ، جعل اليقظة معاشاً ، أي : حياة في قوله : ) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ
مَعَاشاً ( ( النبأ : 11 ) ، أي : وقت معاش تستيقظون فيه وتتقلبون في حوائجكم
ومكاسبكم . وقيل : السبات الراحة ) لِبَاساً ( يستركم عن العيون إذا أردتم هرباً
من عدوّ ، أو بياتاً له . أو إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه من كثير من الأمور .
وَكَمْ لِظَلاَمِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَد
تُخَبِّرُ أَنَّ المَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ
) سَبْعاً ( سبع سموات ) شِدَاداً ( جمع شديدة ، يعني : محكمة قوية الخلق لا يؤثر
فيها مرور الأزمان ) وَهَّاجاً ( متلألئا وقادراً ، يعني : الشمس : وتوهجت النار :
إذا تلمظت فتوهجت بضوئها وحرها . المعصرات : السحائب إذا أعصرت ، أي : شارفت أن
تعصرها الرياح فتمطر ، كقولك : أجز الزرع ، إذا حان له أن يجز . ومنه : أعصرت
الجارية إذا دنت أن تحيض . وقرأ عكرمة : ( بالمعصرات ) ، وفيه وجهان : أن تراد
الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب ، وأن تراد السحائب ؛ لأنه إذا كان الإنزال
منها فهو بها ، كما تقول : أعطى من يده درهما ، وأعطى بيده ، وعن مجاهد : المعصرات
الرياح ذوات الأعاصير . وعن الحسن وقتادة : هي السموات . وتأويله : أن الماء ينزل
من السماء إلى السحاب ، فكأنّ السموات يعصرن ، أي : يحملن على العصر ويمكنّ منه .
فإن قلت : فما وجه من قرأ . ) مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ( وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير
، والمطر لا ينزل من الرياح ؟ قلت : الرياح هي التي تنشىء السحاب وتدرّ أخلاقه
فصحّ أن تجعل مبدأ للإنزال ؛ وقد جاء أنّ الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من
السماء إلى السحاب ، فإن صحّ ذلك فالإنزال منها ظاهر ، فإن قلت : ذكر ابن كيسان
أنه جعل المعصرات بمعنى المغيثات ، والعاصر هو المغيث لا المعصر . يقال : عصره
فاعتصر . قلت : وجهه أن يريد اللاتي أعصرن ، أي حان أن تعصر ، أي : تغيث )
ثَجَّاجاً ( منصباً بكثرة يقال : ثجه وثج نفسه وفي الحديث : ( أفضل الحج : العجّ
والثجّ ) أي رفع الصوت بالتلبية ، وصب دماء الهدى . وكان ابن عباس مثجاً يسبل
غرباً ، يعني يثج الكلام ثجا في خطبته . وقرأ الأعرج : ( ثجاجاً ) ومثاجج الماء :
مصابه ، والماء ينثجج في الوادي ) حَبّاً وَنَبَاتاً ( يريد ما
" صفحة رقم 687 "
يتقوّت من الحنطة والشعير وما يعلف من التبن والحشيش ، كما قال : ) كُلُواْ
وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ( ( طه : 54 ) ، و ) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ
وَالرَّيْحَانُ ( ( الرحمن : 12 ) . ) أَلْفَافاً ( ملتفة ولا واحد له ، كالأوزاع
والأخياف . وقيل : الواحد لف . وقال صاحب الإقليد : أنشدني الحسن بن علي الطوسي :
جَنَّةٌ لِفٌّ وَعَيْشٌ مُغْدِق
ونَدَامَى كُلُّهُمْ بِيضٌ زُهُرْ
وزعم ابن قتيبة أنه لفاء ولف ، ثم ألفاف : وما أظنه واجداً له نظيراً من نحو خضر
وأخضار وحمر وأحمار ، ولو قيل : هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد ، لكان قولاً
وجيها .
) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ
فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً وَسُيِّرَتِ
الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (
النبأ : ( 17 - 20 ) إن يوم الفصل . . . . .
) كَانَ مِيقَاتاً ( كان في تقدير الله وحكمه حدّا توقت به الدنيا وتنتهي عنده ؛
أو حدا للخلائق ينتهون إليه ) يَوْمَ يُنفَخُ ( بدل من يوم الفصل ، أو عطف بيان )
فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً ( من القبور إلى الموقف أمماً كل أمة مع إمامهم . وقيل :
جماعات مختلفة . وعن معاذ رضي الله عنه أنه سأل عنه رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) فقال :
( 1262 ) يا معاذ ، سألت عن أمر عظيم من الأمور ، ثم أرسل عينيه وقال : تحشر عشرة
أصناف من أمّتي : بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة
" صفحة رقم 688 "
الخنازير ، وبعضهم منكسون : أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمياً ،
وبعضهم صماً بكماً ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم : يسيل القيح من
أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على
جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتناً من الجيف ، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران
لازقة بجلودهم ؛ فأما الذين على صورة القردة فالتقات من الناس . وأما الذين على
صورة الخنازير : فأهل السحت . وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا ، وأما العمى
فالذين يجورون في الحكم ، وأما الصمّ البكم فالمعجبون بأعمالهم ، وأما الذين
يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم ، وأما الذين قطعت
أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران ، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة
بالناس إلى السلطان ، وأما الذين هم أشدّ نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات
واللذات ومنعوا حق الله في أموالهم ، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر
والخيلاء ) وقرىء ( وفتحت ) بالتشديد والتخفيف . والمعنى : كثرة أبوابها المفتحة
لنزول الملائكة ، كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة ، كقوله : ) وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ
عُيُوناً ( ( القمرن 12 ) ، كأن كلها عيون تتفجر . وقيل : الأبواب الطرق والمسالك
، أي : تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً يسدّها شيء ) فَكَانَتْ سَرَاباً ( ، كقوله
: ) فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً ( ( الواقعة : 6 ) . يعني أنها تصير شيئاً كلا
شيء ، لتفرّق أجزائها وانبثاث جواهرها .
) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَأاباً لَّابِثِينَ فِيهَآ
أَحْقَاباً لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً
وَغَسَّاقاً جَزَآءً وِفَاقاً إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً
وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا كِذَّاباً وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً (
النبأ : ( 21 ) إن جهنم كانت . . . . .
المرصاد : الحدّ الذي يكون فيه الرصد . والمعنى : أن جهنم هي حدّ الطاغين الذي
يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم . أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين
يستقبلونهم عندها ، لأن مجازهم عليها ، وهي مآب للطاغين . وعن الحسن وقتادة نحوه ،
قالا : طريقاً وممرّاً لأهل الجنة . وقرأ ابن يعمر ( أنّ جهنم ) بفتح الهمزة على
تعليل قيام الساعة بأنّ جهنم كانت مرصاداً للطاغين ، كأنه قيل : كان ذلك لإقامة
الجزاء . قرىء ( لابثين ) ( ولبثين ) واللبث أقوى ، لأنّ اللابث من وجد منه اللبث
، ولا يقال ( لبث ) إلا لمن شأنه اللبث ، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفك منه )
أَحْقَاباً ( حقباً بعد حقب ، كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يكاد
يستعمل الحقب والحقبة إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها ، والاشتقاق يشهد لذلك
. ألا ترى إلى حقيبة الراكب ، والحقب الذي وراء التصدير وقيل : الحقب ثمانون سنة ،
ويجوز أن يراد : لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً
وغساقاً ، ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم
" صفحة رقم 689 "
والغساق من جنس آخر من العذاب . وفيه وجه آخر : وهو أن يكون من ( حقب عامنا ) إذا
قل مطره وخيره ، وحقب فلان : إذا أخطأه الرزق ، فهو حقب ، وجمعه أحقاب ، فينتصب
حالا عنهم ، يعني لابثين فيها حقيبين جحدين . وقوله : ) لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا
بَرْداً وَلاَ شَرَاباً ( تفسير له والاستثناء منقطع ، يعني : لا يذوقون فيها
برداً وروحاً ينفس عنهم حرّ النار ، ولا شراباً يسكن من عطشهم ، ولكن يذوقون فيها
حميماً وغساقاً وقيل ( البرد ) النوم ، وأنشد : فَلَوْ شِئْتُ حَرَّمْتُ
النِّسَاءَ سِوَاكُم
وَإنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ تَقَاخاً وَلاَ بَرْدَا
وعن بعض العرب : منع البرد البرد . وقرىء ( غساقاً ) بالتخفيف والتشديد : وهو ما
يغسق ، أي : يسيل من صديدهم ) وِفَاقاً ( وصف بالمصدر . أو ذا وفاق . وقرأ أبو
حيوة : ( وفاقاً ) فعال من وفقه كذا ( كذاباً ) تكذيباً ؛ وفعال في باب فعل كله
فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره ؛ وسمعنى بعضهم أفسر آية فقال لقد
فسرتها فساراً ما سمع بمثله . وقرىء بالتخفيف ، وهو مصدر كذب ، بدليل قوله :
فَصَدَقْتُهَا وَكَذَبْتُهَا
وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُهْ
وهو مثل قوله : ) أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( ( نوح : 17 ) يعني :
وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً . أو تنصبه بكذبوا ، لأنه يتضمن معنى كذبوا ، لأنّ
كل مكذب بالحق كاذب ، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه : وكذبوا بآياتنا ، فكاذبوا
مكاذبة . أو كذبوا بها مكاذبين ، لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان
المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب
فعل من يغالب في أمر ، فيبلغ فيه أقصى جهده . وقرىء ( كذاباً ) وهو جمع كاذب ، أي
: كذبوا بآياتنا كاذبين ؛ وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، يقال :
رجل كذاب ، كقولك : حسان ، وبخال ؛ فيجعل صفة لمصدر كذبوا ، أي : تكذيباً كذاباً
مفرطاً كذبه ، وقرأ أبو السمال : وكل شيء أحصيناه ، بالرفع على الابتداء )
كِتَاباً ( مصدر في موضع إحصاء وأحصينا في معنى كتبنا ، لالتقاء الإحصاء ، والكتية
في معنى الضبط والتحصيل . أو يكون حالا في معنى : مكتوباً في
" صفحة رقم 690 "
اللوح وفي صحف الحفظة . والمعنى : إحصاء معاصيهم ، كقوله : ) أَحْصَاهُ اللَّهُ
وَنَسُوهُ ( ( المجادلة : 6 ) وهو اعتراض . وقوله : ) فَذُوقُواْ ( مسبب عن كفرهم
بالحساب وتكذيبهم بالآيات ، وهي آية في غاية الشدّة ، وناهيك بلن نزيدكم ،
وبدلالته على أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة . وبمجيئها على طريقة
الالتفات شاهداً على أنّ الغضب قد تبالغ ، وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1263 ) ( هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار ) .
) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً
وَكَأْساً دِهَاقاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَاباً جَزَآءً مِّن
رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً (
النبأ : ( 31 ) إن للمتقين مفازا
) مَفَازاً ( فوزاً وظفراً بالبغية . أو موضع فوز . وقيل : نجاة مما فيه أولئك .
أو موضع نجاة . وفسر المفاز بما بعده . والحدائق : البساتين فيها أنواع الشجر
المثمر . والأعناب : الكروم . والكواعب : اللاتي فلكت ثديهن ، وهن النواهد .
والأتراب . اللدات : والدهاق : المترعة . وأدهق الحوض : ملأه حتى قال قطنى . وقرىء
( ولا كذاباً ) بالتشديد والتخفيف ، أي : لا يكذب بعضه بعضاً ولا يكذبه . أو لا
يكاذبه . وعن علي رضي الله عنه أنه قرأ بتخفيف الاثنين ) جَزَآءً ( مصدر مؤكد
منصوب بمعنى قوله : ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ( كأنه قال : جازى المتقين
بمفاز . و ) عَطَاء ( نصب بحزاء نصب المفعول به . أي : جزاهم عطاء . و ) حِسَاباً
( صفة بمعنى : كافياً . من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي . وقيل : على حسب
أعمالهم . وقرأ ابن قطيب ( حساباً ) بالتشديد ، على أنّ الحساب بمعنى المحسب ،
كالدرّاك بمعنى المدرك .
) رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَانِ لاَ
يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً
لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَاباً
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَأاباً (
النبأ : ( 37 - 39 ) رب السماوات والأرض . . . . .
قرىء ( رب السموات ) ( والرحمان ) بالرفع ، على : هو رب السموات الرحمن . أو
" صفحة رقم 691 "
رب السموات مبتدأ ، والرحمان صفة ، ولا يملكون : خبر أو هما خبران وبالجر على
البدل من ربك ، بجر الأوّل ورفع الثاني على أنه مبتدأ خبره ) لاَّ يَمْلِكُونَ (
أو هو الرحمن لا يملكون والضمير في ) لاَّ يَمْلِكُونَ ( لأهل السموات والأرض ، أي
: ليس في أيديهم مما يخاطب به الله ويأمر به في أمر الثواب والعقاب خطاب واحد
يتصرفون فيه تصرف الملاك ، فيزيدون فيه أو ينقصون منه . أو لا يمكلون أن يخاطبوه
بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب ، إلا أن يهب لهم ذلك ويأذن لهم فيه . و )
يَوْمَ يَقُومُ ( متعلق بلا يملكون ، أو بلا يتكلمون . والمعنى : إنّ الذين هم
أفضل الخلائق وأشرفهم وأكثرهم طاعة وأقربهم منه وهم الروح والملائكة لا يملكون التكلم
بين يديه ، فما ظنك بمن عداهم من أهل السموات والأرض ؟ والروح : أعظم خلقاً من
الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين . وقيل : هو ملك عظيم ما خلق الله بعد
العرش خلقاً أعظم منه . وقيل : ليسوا بالملائكة ، وهم يأكلون . وقيل : جبريل . هما
شريطتان : أن يكون المتكلم مأذوناً له في الكلام . وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع
لغير مرتضى ، لقوله تعالى : ) وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( (
الأنبياء : 28 ) .
) إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا
قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُرَاباً (
النبأ : ( 40 ) إنا أنذرناكم عذابا . . . . .
) الْمَرْءُ ( هو الكافر لقوله تعالى : ) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً
( والكافر : ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم ، ويعني ) مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ (
من الشر ، كقوله : ) وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ ( ( الأنفال : 50 51 ) ، ) وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ
الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( ( الحج : 9 10 ) ، ) بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ( ( البقرة : 95 ) ، و ( ما ) يجوز
أن تكون استفهامية منصوبة بقدّمت ، أي ينظر أي شيء قدّمت يداه ، وموصلة منصوبة
بينظر ، يقال : نظرته بمعنى نظرت إليه ، والراجع من الصلة محذوف ، وقيل : المرء
عام ، وخصص منه الكافر . وعن قتادة : هو المؤمن ) الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ
تُراباً ( في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف . أو ليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم
أبعث .
" صفحة رقم 692 "
وقيل يحشر الله الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ، ثم يردّه تراباً
، فيودّ الكافر حاله وقيل : الكافر إبليس ، يرى آدم وولده وثوابهم ، فيتمنى أن
يكون الشيء الذي احتقره حين قال ) خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
( ( الأعراف : 12 ) .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1264 ) ( من قرأ سورة عم يتساءلون سقاه الله برد الشراب يوم القيامة ) .
" صفحة رقم 693 "
( سورة النازعات )
مكية ، وهي خمس أو ست وأربعون آية ( نزلت بعد النبأ )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ
يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً
نَّخِرَةً قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ
وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (
النازعات : ( 1 ) والنازعات غرقا
أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي
تنشطها أي تخريجها . من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في
مضيها ، أي : تسرع فتسبق إلى ما أمروا به ، فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم
في دينهم أو دنياهم كما رسم لهم ) غَرْقاً ( إغراقاً في النزع ، أي : تنزعها من
أقاصى الأجساد من أناملها وأظفارها أو أقسم بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها تغرق
فيه الأعنة لطول أعناقها ؛ لأنها عراب . والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب
من قولك : ( ثور ناشط ) إذا خرج من بلد إلى بلد ، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى
الغاية فتدبر الغلبة والظفر ، وإسناد التدبير إليها ، لأنها من أسبابه . أو أقسم
بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب . وإغراقها في النزع : أن تقطع القلك كله
حتى تنحط في أقصى الغرب ، والتي تخرج من برج إلى برج ، والتي تسبح في الفلك من
السيارة فتسبق فتدبر أمراً من علم الحساب . وقيل النازعات أيدي الغزاة ، أو أنفسهم
تنزع القسيّ بإغراق السهام ، والتي تنشط الأوهاق والمقسم عليه محذوف ، وهو (
لتبعثن ) لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة . و ) يَوْمَ تَرْجُفُ ( منصوب بها
المضمر . و ) الرَّاجِفَةُ ( الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال ، وهي النفخة
الأولى : وصفت بما يحدث بحدوثها ) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ( أي الواقعة التي
تردف الأولى ، وهي النفخة الثانية . ويجوز أن تكون الرادفة من قوله تعالى : ) قُلْ
عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ ( ( النمل : 72 )
، أي
" صفحة رقم 694 "
القيامة التي يستعجلها الكفرة استبعاداً لها ، وهي رادفة لهم لاقترابها . وقيل (
الراجفة ) الأرض والجبال ، من قوله : ) يَوْمَ تَرْجُفُ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ ( (
المزمل : 14 ) والرادفة : السماء والكواكب ؛ لأنها تنشق وتنتثر كواكبها على أثر
ذلك . فإن قلت : ما محل تتبعها ؟ قلت : الحال ، أي : ترجف تابعتها الرادفة . فإن
قلت : كيف جعلت ) يَوْمَ تَرْجُفُ ( ظرفاً للمضمر الذي هو لتبعثن ، ولا يبعثون عند
النفخة الأولى ؟ قلت : المعنى لتبعثنّ في الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان ،
وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع ، وهو وقت النفخة الأخرى . ودلّ على ذلك أنّ
قوله : ) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ( جعل حالاً عن الراجفة . ويجوز أن ينتصب )
يَوْمَ تَرْجُفُ ( بما دلّ عليه ) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ( أي يوم ترجف
وجفت القلوب ) وَاجِفَةٌ ( شديدة الاضطراب ، والوجيب والوجيف : أخوان ) خَاشِعَةٌ
( ذليلة . فإن قلت : كيف جاز الابتدء بالنكرة ؟ قلت : ) قُلُوبٍ ( مرفوعة
بالابتداء و ) وَاجِفَةٌ ( صفتها ، و ) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ( خبرها فهو كقوله
: ) وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ ( ( البقرة : 221 ) ، فإن قلت :
كيف صح إضافة الأبصار إلى القلوب ؟ قلت : معناه أبصار أصحابها بدليل قوله : )
يَقُولُونَ ( ) فِى الْحَافِرَةِ ( في الحالة الأولى ، يعنون : الحياة بعد الموت .
فإن قلت : ما حقيقة هذه الكلمة ؟ قلت : يقال : رجع فلان في حافرته ، أي : في طريقه
التي جاء فيها فحفرها ، أي : أثر فيها بمشيه فيها : جعل أثر قدميه حفراً ، كما قيل
: حفرت أسنانه حفراً : إذا أثر الآكال في أسناخها . والخط المحفور في الصخر . وقيل
: حافرة ، كما قيل : عيشة راضية ، أي : منسوبة إلى الحفر والرضا ، أو كقولهم :
نهارك صائم ، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه : رجع إلى حافرته ، أي
طريقته وحالته الأولى . قال : أَحَافِرَةٌ عَلَى صلَعٍ وَشَيْب
مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وَعَارٍ
يريد : أرجوعاً إلى حافرة . وقيل : النقد عند الحافرة ، يريدون عند الحالة الأولى
: وهي الصفقة وقرأ أبو حيوة ( في الحفرة ) والحفرة بمعنى : المحفورة . يقال : حفرت
أسنانه فحفرت حفراً ، وهي حفرة ؛ وهذه القراءة دليل على أن الحافرة في أصل الكلمة
بمعنى المحفورة . يقال : ( نخر ) العظم فهو نخر وناخر ، كقولك طمع فهو طمع وطامع ؛
وفعل
" صفحة رقم 695 "
أبلغ من فاعل ؛ وقد قرىء بهما : وهو البالي الأجوف الذي تمر فيه الريح فيسمع له
نخير . و ) إِذاً ( منصوب بمحذوف ، تقديره : أئذاكنا عظاماً نرد ونبعث ) كَرَّةٌ
خَاسِرَةٌ ( منسوبة إلى الخسران ، أو خاسر أصحابها . والمعنى : أنها إن صحت فنحن
إداً خاسرون لتكذيبنا بها ، وهذا استهزاء منهم فإن قلت بم تعلق قوله ) فَإِنَّمَا
هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ( قلت : بمحذوف ، معناه : لا تستصعبوها ، فإنما هي زجرة
واحدة ؛ يعني : لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله عز وجل ، فإنها سهلة هينة في
قدرته ، ما هي إلا صيحة واحدة ، يريد النفخة الثانية ) فَإِذَا هُم ( أحياء على
وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتاً في جوفها ، من قولهم : زجر البعير ، إذا صاح عليه
. والساهرة : الأرض البيضاء المستوية ، سميت بذلك لأنّ السراب يجري فيها ، من
قولهم : عين ساهرة جارية الماء ، وفي ضدها : نائمة . قال الأشعث بن قيس :
وَسَاهِرَةٍ يُضْحِى السَّرابُ مُجَلَّلا
لأَقْطَارِهَا قَدْ جُبْتُهَا مُتَلَثِّمَا
أو لأنّ سالكها لا ينام خوف الهلكة . وعن قتادة : فإذا هم في جهنم .
) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى
وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الاٌّ يَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ
وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاٌّ
عْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاٌّ خِرَةِ وَالاٍّ وْلَى إِنَّ فِى ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى (
النازعات : ( 15 ) هل أتاك حديث . . . . .
) اذْهَبْ ( على إرادة القول . وفي قراءة عبد الله ( أن اذهب ) لأنّ في النداء
معنى القول . هل لك في كذا ، وهل لك إلى كذا ؛ كما تقول : هل ترغب فيه ، وهل ترغب
إليه ) إِلَى أَن تَزَكَّى ( إلى أن تتطهر من الشرك ، وقرأ أهل المدينة ( تزكى )
بالإدغام ) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ ( وأرشدك إلى معرفة الله أنبهك عليه فتعرفه
) فَتَخْشَى ( لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة . قال الله تعالى : ) إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( ( فاطر : 28 ) أي العلماء به ؛ وذكر
الخشية لأنها ملاك الأمر ، من خشى الله : أتى منه كل خير . ومن أمن : اجترأ على كل
شرّ . ومنه قوله عليه السلام :
" صفحة رقم 696 "
( 1265 ) ( من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ) بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي
معناه العرض ، كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا ، وأردفه الكلام الرقيق
ليستدعيه بالتلطف في القول ، ويستنزله بالمداراة من عتوه ، كما أمر بذلك في قوله :
) فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً ( ( طه : 44 ) ، ) الاْيَةَ الْكُبْرَى ( قلب
العصا حية لأنها كانت المقدمة والأصل ، والأخرى كالتبع لها ؛ لأنه كان يتقيها بيده
، فقيل له : أدخل يدك في جيبك ، أو أرادهما جميعاً ، إلا أنه جعلهما واحدة ؛ لأن
الثانية كأنها من جملة الأولى لكونها تابعة لها ) فَكَذَّبَ ( بموسى والآية الكبرى
، وسماهما ساحراً وسحراً ) وَعَصَى ( الله تعالى بعد ما علم صحة الأمر ، وأنّ
الطاعة قد وجبت عليه ) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ( أي لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً
، يسعى : يسرع في مشيته . قال الحسن كان رجلاً طياشاً خفيفاً . أو تولى عن موسى
يسعى ويجتهد في مكايدته ، وأريد : ثم أقبل يسعى ، كما تقول : أقبل فلان يفعل كذا ،
بمعنى : أنشأ يفعل ، فوضع ) أَدْبَرَ ( موضع : أقبل ؛ لئلا يوصف بالإقبال )
فَحَشَرَ ( فجمع السحرة ، كقوله : ) فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَائِنِ
حَاشِرِينَ ( ( الشعراء : 53 ) . ) فَنَادَى ( في المقام الذي اجتمعوا فيه معه .
أو أمر منادياً في الناس بذلك . وقيل قام فيهم خطيباً فقال تلك العظيمة . وعن ابن
عباس : كلمته الأولى : ) مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى ( ( القصص : 38
) والآخرة : ) أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( ( النازعات : 34 ) . ) نَكَالَ ( هو مصدر
مؤكد ، كوعد الله ، وصبغة الله ؛ كأنه قيل : نكل الله به نكال الآخرة والأولى
والنكال بمعنى التنكيل ، كالسلام بمعنى التسليم . يعني الإغراق في الدنيا والإحراق
في الآخرة . وعن ابن عباس : نكال كلمتيه الآخرة ، وهي قوله : ) أَنَاْ رَبُّكُمُ
الاْعْلَى ( والأولى
" صفحة رقم 697 "
وهي قوله : ) مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى ( ( القصص : 28 ) ، وقيل :
كان بين الكلمتين أربعون سنة . وقيل عشرون .
) أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا
فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالاٌّ رْضَ بَعْدَ ذَلِكَ
دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا
مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَامِكُمْ (
النازعات : ( 27 ) أأنتم أشد خلقا . . . . .
الخطاب لمنكرى ا لبعث ، يعني ) أَءَنتُمْ ( أصعب ) خَلْقاً ( وإنشاء ) أَمِ
السَّمَآءُ ( ثم بين كيف خلقها فقال ) بَنَاهَا ( ثم بين البناء فقال ) رَفَعَ
سَمْكَهَا ( أي جعل مقدار ذهابها في سمت العلو مديداً رفيعاً مسيرة خمسمائة عام )
فَسَوَّاهَا ( فعدلها مستوية ملساء ، ليس فيها تفاوت ولا فطور . أو فتممها بما علم
أنها تتم به وأصلحها ، من قولك : سوى فلان أمر فلان . غطش الليل وأغطشه الله ،
كقولك : ظلم وأظلمه . ويقال أيضاً : أغطش الليل ، كما يقال أظلم ) وَأَخْرَجَ
ضُحَاهَا ( وأبرز ضوء شمسها ، يدل عليه قوله تعالى : ) وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( (
الشمس : 1 ) ، يريد وضوئها . وقولهم : وقت الضحى ، للوقت الذي تشرق فيه الشمس
ويقوم سلطانها ؛ وأضيف الليل والشمس إلى السماء ، لأن الليل ظلها والشمس هي السراج
المثقب في جوها ) مَاءهَا ( عيونها المتفجرة بالماء ) وَمَرْعَاهَا ( ورعيها ، وهو
في الأصل موضع الرعى . ونصب الأرض والجبال بإضمار ( دحا ) و ( أرسى ) وهو الإضمار
على شريطة التفسير . وقرأهما الحسن مرفوعين على الابتداء . فإن قلت : هلا أدخل حرف
العطف على أخرج ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون معنى ) دَحَاهَا ( بسطها
ومهدها للسكنى ، ثم فسر التمهيد بما لا بدّ منه في تأتي سكناها ، من تسوية أمر
المأكل والمشرب ؛ وإمكان القرار عليها ، والسكون بإخراج الماء والمرعى ، وإرساء
الجبال وإثباتها أوتادا لها حتى تستقر ويستقر عليها . والثاني : أن يكون )
أَخْرَجَ ( حالاً بإضمار ( قد ) كقوله : ) أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ (
( النساء : 90 ) وأراد بمرعاها : ما يأكل الناس والأنعام . واستعير الرعي للإنسان
كما استعير الرتع في قوله : ) نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ( ( يوسف : 12 ) وقرىء : ( نرتع
) من الرعى ؛ ولهذا قيل : دلّ اللَّه سبحانه بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق
به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح ،
" صفحة رقم 698 "
لأنه من الماء ) مَتَاعاً لَّكُمْ ( فعل ذلك تمتيعاً لكم ) وَلاِنْعَامِكُمْ ( لأن
منفعة ذلك التمهيد واصلة إليهم وإلى أنعامهم .
) فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا
سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (
النازعات : ( 34 ) فإذا جاءت الطامة . . . . .
) الطَّآمَّةُ ( الداهية التي تطم على الدواهي ، أي : تعلو وتغلب . وفي أمثالهم :
جرى الوادي فطمَّ على القرى ، وهي القيامة لطمومها على كل هائلة . وقيل : هي
النفخة الثانية . وقيل : الساعة التي تساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار
إلى النار ) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ( بدل من إذا جاءت ، يعني : إذا رأى أعماله مدونة
في كتابه تذكرها وكان قد نسيها ، كقوله : ) أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ( (
المجادلة : 6 ) ، و ) مَا ( في ) مَا سَعَى ( موصولة ، أو مصدرية ) وَبُرّزَتِ (
أظهرت وقرأ أبو نهيك ( وبرزت ) ) لِمَن يَرَى ( للرائين جميعاً ، أي : لكل أحد ،
يعني : أنها تظهر إظهاراً بينا مكشوفاً ، يراها أهل الساهرة كلهم ، كقوله : قد بين
الصبح لذي عينين ، يريد : لكل من له بصر ؛ وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى
على أحد وقرأ ابن مسعود ( لمن رأى ) وقرأ عكرمة ( لمن ترى ) والضمير للجحيم ،
كقوله : ) إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ( ( الفرقان : 12 ) وقيل : لمن
ترى يا محمد .
) فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ
الْمَأْوَى (
النازعات : ( 37 ) فأما من طغى
) فَأَمَّا ( جواب ) فَإِذَا ( أي : فإذا جاءت الطاقة فإنّ الأمر كذلك والمعنى :
فإنّ الجحيم مأواه ، كما تقول للرجل : غض الطرف ، تريد : طرفك ، وليس الألف واللام
بدلاً من الإضافة ، ولكن لما علم أنّ الطاغى هو صاحب المأوى ، وأنه لا يغض الرجل
طرف غيره : تركت الإضافة ؛ ودخول حرف التعريف في المأوى والطرف للتعريف ، لأنهما
معروفان ، و ) هِىَ ( فصل أو مبتدأ .
) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى (
النازعات : ( 40 - 41 ) وأما من خاف . . . . .
) وَنَهَى النَّفْسَ ( الأمارة بالسوء ) عَنِ الْهَوَى ( المردي وهو اتباع الشهوات
وزجرها عنه وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير . وقيل : الآيتان نزلتا في أبي
عزيز بن عمير ومصعب بن عمير ، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزير يوم أحد ، ووقى رسول
اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) بنفسه
" صفحة رقم 699 "
حتى نفذت المشاقص في جوفه .
) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا
إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (
النازعات : ( 42 - 46 ) يسألونك عن الساعة . . . . .
) أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( متى إرساؤها ، أي إقامتها ، أرادوا : متى يقيمها الله
ويثبتها ويكونها ؟ وقيل أيان منتهاها ومستقرّها ، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها ،
حيث تنتهي إليه ) فِيمَ أَنتَ ( في أي شيء أنت من أن تذكر وقنها لهم وتعلمهم به ،
يعني : ما أنت من ذكرها لهم وتبيين وقتها في شيء . وعن عائشة رضي الله عنها :
( 1266 ) لم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يذكر الساعة يسأل عنها حتى نزلت
، فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها ، كأنه قيل : في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها
والسؤال عنها . والمعنى : أنهم يسألونك عنها ، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها
وتسأل عنها ، ثم قال ) إِلَى رَبّكَ مُنتَهَاهَا ( أي منتهى علمها لم يؤت علمها
أحداً من خلقه . وقيل : ) فِيمَ ( إنكار لسؤالهم ، أي فيم هذا السؤال ، ثم قيل :
أنت من ذكراها ، أي
" صفحة رقم 700 "
: إرسالك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل المبعوث في نسم الساعة ذكر من ذكرها
وعلامة من علاماتها ، فكفاهم بذلك دليلا على دنوّها ومشارقها ووجوب الاستعداد لها
، ولا معنى لسؤالهم عنها ) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( أي : لم تبعث
لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه ، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من
يكون من إنذارك لطفاله في الخشية منها . وقرىء ( منذر ) بالتنوين ، وهو الأصل ؛
والإضافة تخفيف ، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال ؛ فإذا أريد الماضي فليس إلا
الإضافة ؛ كقولك : هو منذر زيد أمس ، أي : كأنهم لم يلبثوا في الدنيا ، وقيل : في
القبور ) إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ( فإن قلت : كيف صحت إضافة الضحى إلى
العشية ؟ قلت : لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما في نهار واحد . فإن قلت : فهلا
قيل : إلا عشية أو ضحى وما فائدة الإضافة ؟ قلت : الدلالة على أن مدّة لبثهم كأنها
لم تبلغ يوماً كاملاً ، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه ؛ فلما ترك اليوم أضافه إلى
عشيته ، فهو كقوله : ) لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ ( ( الأحقاف
: 35 ) .
عن رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1267 ) ( من قرأ سورة والنازعات كان ممن حبسه الله في القبر والقيامة حتى يدخل
الجنة قدر صلاة المكتوبة ) .
" صفحة رقم 701 "
( سورة عبس )
مكية ، وآياتها 42 وقيل 41 ( نزلت بعد النجم )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَآءَهُ الاٌّ عْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ
تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى وَهُوَ
يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (
عبس : ( 1 ) عبس وتولى
( 2268 ) أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ابن أمّ مكتوم وأمّ مكتوم أمّ أبيه
، واسمه عبد الله بن شريح ابن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي وعنده
صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام . والعباس بن عبد المطلب
، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم
غيرهم . فقال : يا رسول اللَّه ، أقرئني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا
يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قطعه لكلامه ، وعبس
وأعرض عنه ، فنزلت فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يكرمه ويقول إذا رآه :
مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ، ويقول له : هل لك من حاجة ؟ واستخلفه على المدينة
مرتين ؛ وقال أنس : رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية
" صفحة رقم 702 "
سوداء . وقرىء ( عبس ) بالتشديد للمبالغة ؛ ونحوه : كلح في كلح ) أَن جَآءَهُ (
منصوب بتولى ، أو بعبس ، على اختلاف المذهبين . ومعناه : عبس ، لأن جاءه الأعمى .
أو أعرض لذلك . وقرىء ( أن جاءه ) بهمزتين وبألف بينهما ، ووقف على ) عَبَسَ
وَتَوَلَّى ( ثم ابتديء ، على معنى : ألأن جاءه الأعمى فعل ذلك إنكاراً عليه .
وروى أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط ، ولا تصدى لغني . وفي الإخبار عما فرط منه
، ثم الإقبال عليه بالخطاب : دليل على زيادة الإنكار ، كمن يشكو إلى الناس جانباً
جنى عليه ، تم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجهاً له بالتوبيخ وإلزام
الحجة . وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك ، كأنه يقول : قد استحق عنده العبوس والإعراض
لأنه أعمى ، وكان يجب أن يزيده لعماه تعطفا وترؤفاً وتقريباً وترحيباً ، ولقد
تأدّب الناس بأدب الله في هذا تأدباً حسناً ؛ فقد روي عن سفيان الثوري رحمه الله
أنّ الفقراء كانوا في مجلسه أمراء ) وَمَا يُدْرِيكَ ( وأي شيء يجعلك دارياً بحال
هذا الأعمى ؟ ) لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ( أي يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار
الإثم ( ) أَوْ يَذَّكَّرُ ( أو يتعظ ) فَتَنفَعَهُ ( ذكراك ، أي : موعظتك ؛ وتكون
له لطفاً في بعض الطاعات . والمعنى : أنك لا تدري ما هو مترقب منه ، من تزكّ أو
تذكر ، ولو دريت لما فرط ذلك منك . وقيل : الضمير في ) لَعَلَّهُ ( للكافر . يعني
أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام ، أو يتذكر فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحق ؛ وما
يدريك أن ما طمعت فيه كائن . وقرىء ( فتنفعه ) ، بالرفع عطفاً على يذكر . وبالنصب
جواباً للعلّ ، كقوله : ) فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى ( ( غافر : 37 ) ، )
تَصَدَّى ( تتعرض بالإقبال عليه ، والمصاداة ، المعارضة ؛ وقرىء ( تصدى ) بالتشديد
، بإدغام التاء في الصاد . وقرأ أبو جعفر : ( تصدى ) ، بضم التاء ، أي : تعرّض .
ومعناه : يدعوك داع إلى التصدي له : من الحرص والتهالك على إسلامه ، وليس عليك بأس
في أن لا يتزكى بالإسلام ) إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( ( الشورى : 48 ) ، )
يَسْعَى ( يسرع في طلب الخير ) وَهُوَ يَخْشَى ( الله أو يخشى الكفار ، وأذاهم في
إتيانك . وقيل : جاء وليس معه قائد ، فهو يخشى الكبوة ) تَلَهَّى ( تتشاغل ، من
لهى عنه . والتهى . وتلهى . وقرأ طلحة بن مصرف : ( تتلهى ) ، وقرأ أبو جعفر ( تلهى
) أي : يلهيك شأن الصناديد ، فإن قلت : قوله : ) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ( ، ( فأنت
عنه تلهى ) كأن فيه اختصاصاً قلت : نعم ، ومعناه : إنكار التصدي والتلهي عليه ، أي
: مثلك خصوصاً لا ينبغي له أن يتصدى للغنيّ ويتلهى عن الفقير .
" صفحة رقم 703 "
) كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ
مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ (
عبس : ( 11 ) كلا إنها تذكرة
) كَلاَّ ( ردع عن المعاتب عليه ، وعن معاودة مثله ) إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ( أي
موعظة يجب الاتعاظ والعمل بموجبها ) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( أي كان حافظاً له غير
ناس ، وذكر الضمير لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ ) فَى صُحُفٍ ( صفة لتذكرة ،
يعني : أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح ) مُّكَرَّمَةٍ ( عند الله )
مَّرْفُوعَةٍ ( في السماء . أو مرفوعة المقدار ) مُّطَهَّرَةٍ ( منزهة عن أيدي
الشياطين ، لا يمسها إلا أيدي ملائكة مطهرين ) سَفَرَةٍ ( كتبة ينتسخون الكتب من
اللوح ) بَرَرَةٍ ( أتقياء . وقيل : هي صحف الأنبياء كقوله : ) إِنَّ هَاذَا لَفِى
الصُّحُفِ الاْولَى ( ( الأعلى : 18 ) وقيل السفرة : القرّاء وقيل : أصحاب رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
) قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ
خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ
ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ (
عبس : ( 17 - 23 ) قتل الإنسان ما . . . . .
) قُتِلَ الإِنسَانُ ( دعاء عليه ، وهي من أشنع دعواتهم لأنّ القتل قصارى شدائد
الدنيا وفظائعها . و ) مَا أَكْفَرَهُ ( تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله ، ولا
ترى أسلوباً أغلظ منه ، ولا أخشن مساً ، ولا أدل على سخط ، ولا أبعد شوطاً في
المذمة ، مع تقارب طرفيه ، ولا أجمع للأئمة على قصر متنه ثم أخذ في وصف حاله من
ابتداء حدوثه ، إلى أن انتهى وما هو مغمور فيه من أصول النعم وفروعها . وما هو
غارز فيه رأسه من الكفران والغمط وقلة الالتفات إلى ما يتقلب فيه وإلى ما يجب عليه
من القيام بالشكر ) مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ ( من أي شيء حقير مهين خلقه ، ثم بين
ذلك الشيء بقوله : ) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ( فهيأه لما يصلح له
ويختص به . ونحو ) وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( ( الفرقان : 2 )
، نصب السبيل بإضمار ( يسر ) وفسره بيسر والمعنى : ثم سهل سبيله
" صفحة رقم 704 "
وهو مخرجه من بطن أمّه . أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقي الخير والشر بإقداره
وتمكينه ، كقوله : ) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ( ( الإنسان : 3 ) وعن ابن
عباس رضي اللَّه عنهما : بين له سبيل الخير والشر ) فَأَقْبَرَهُ ( فجعله ذا قبر
يوارى فيه تكرمة له ، ولم يجعله مطروحاً على وجه الأرض جزراً للسباع والطير كسائر
الحيوان . يقال : قبر الميت إذا دفنه . وأقبره الميت . إذا أمره أن يقبره ومكنه
منه . ومنه قول من قال للحجاج : أقبرنا صالحاً ) أَنشَرَهُ ( أنشأه النشأة الأخرى
. وقرىء ( نشره ) ) كَلاَّ ( ردع للإنسان عما هو عليه ) لَمَّا يَقْضِ ( لم يقض
بعد ، مع تطاول الزمان وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية ) مَآ أَمَرَهُ ( الله
حتى يخرج عن جميع أوامره ، يعني : أنّ إنساناً لم يخل من تقصير قط .
) فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ط ) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً
ثُمَّ شَقَقْنَا الاٌّ رْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً
وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً
لَّكُمْ وَلاًّنْعَامِكُمْ (
عبس : ( 24 ) فلينظر الإنسان إلى . . . . .
ولما عدد النعم في نفسه : أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه ، فقال : ) فَلْيَنظُرِ
الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ( إلى مطعمه الذي يعيش به كيف دبرناً أمره ( أنا صببنا
الماء ) يعني الغيث . قرىء بالكسر على الاستئناف ، وبالفتح على البدل من الطعام ،
وقرأ الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما ( أنى صببنا ) بالإمالة على معنى : فلينظر
الإنسان كيف صببنا الماء . وشققنا : من شق الأرض بالنبات ويجوز أن يكون من شقها
بالكراب على البقر ؛ وأسند الشك إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب . والحب : كل ما
حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما . والقضب : الرطبة والمقضاب : أرضه ، سمي بمصدر
قضبه إذا قطعه ؛ لأنه يقضب مرَّة بعد مرّة ) وَحَدَائِقَ غُلْباً ( يحتمل أن يجعل
كل حديقة غلباء ، فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها ، كما تقول : حديقة ضخمة ،
وأن يجعل شجرها غلباً ، أي : عظاماً غلاظاً . والأصل في الوصف بالغلب : الرقاب ؛
فاستعير . قال عمرو بن معد يكرب :
" صفحة رقم 705 "
يَمْشي بِهَا غُلْبُ الرِّقَابِ كَأَنَّهُم
بُزْلٌ كُسِينَ مِنَ الْكُحَيْلِ جِلاَلاً
والأب : المرعى ، لأنه يؤبّ أي يؤم وينتجع . والأبّ والأمّ أخوان قال : جِذْمُنَا
قَيْسٌ وَنَجْدٌ دَارُنَا
وَلَنَا الأبُّ بِهِ وَالْمَكَرَعُ
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأبّ فقال : أيّ سماه تظلني ، وأيّ
أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به . وعن عمر رضي الله عنه : أنه قرأ
هذه الآية فقال : كل هذا قد عرفنا ، فما الأب ؟ ثم رفض عصاً كانت بيده وقال : هذا
لعمر الله التكلف ، وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأب ، ثم قال : اتبعوا
ما تبين لكم من هذا الكتاب ، وما لا فدعوه فإن قلت : فهذا يشبه النهي عن تتبع معاني
القرآن والبحث عن مشكلاته . قلت : لم يذهب إلى ذلك ، ولكن القوم كانت أكبر همتهم
عاكفة على العمل ، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفاً عندهم ؛ فأراد
أنّ الآية مسوقة في الامتنان علي الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره ، وقد علم من فحوى
الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعاً له أو لإنعامه ؛ فعليك بما هو
أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك ولم يشكل مما عدّد من نعمه ، ولا تتشاغل
عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له ، واكتف بالمعرفة الجميلة
إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما
أشبه ذلك من مشكلات القرآن .
) فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ط ) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً
ثُمَّ شَقَقْنَا الاٌّ رْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً
وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً
مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَامِكُمْ (
ولما عدد النعم في نفسه : أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه ، فقال : ) فَلْيَنظُرِ
الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ( إلى مطعمه الذي يعيش به كيف دبرناً أمره ( أنا صببنا
الماء ) يعني الغيث . قرىء بالكسر على الاستئناف ، وبالفتح على البدل من الطعام ،
وقرأ الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما ( أنى صببنا ) بالإمالة على معنى : فلينظر
الإنسان كيف صببنا الماء . وشققنا : من شق الأرض بالنبات ويجوز أن يكون من شقها
بالكراب على البقر ؛ وأسند الشك إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب . والحب : كل ما
حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما . والقضب : الرطبة والمقضاب : أرضه ، سمي بمصدر
قضبه إذا قطعه ؛ لأنه يقضب مرَّة بعد مرّة ) وَحَدَائِقَ غُلْباً ( يحتمل أن يجعل
كل حديقة غلباء ، فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها ، كما تقول : حديقة ضخمة ،
وأن يجعل شجرها غلباً ، أي : عظاماً غلاظاً . والأصل في الوصف بالغلب : الرقاب ؛
فاستعير . قال عمرو بن معد يكرب : يَمْشي بِهَا غُلْبُ الرِّقَابِ كَأَنَّهُم
بُزْلٌ كُسِينَ مِنَ الْكُحَيْلِ جِلاَلاً
والأب : المرعى ، لأنه يؤبّ أي يؤم وينتجع . والأبّ والأمّ أخوان قال : جِذْمُنَا
قَيْسٌ وَنَجْدٌ دَارُنَا
وَلَنَا الأبُّ بِهِ وَالْمَكَرَعُ
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأبّ فقال : أيّ سماه تظلني ، وأيّ
أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به . وعن عمر رضي الله عنه : أنه قرأ
هذه الآية فقال : كل هذا قد عرفنا ، فما الأب ؟ ثم رفض عصاً كانت بيده وقال : هذا
لعمر الله التكلف ، وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأب ، ثم قال : اتبعوا
ما تبين لكم من هذا الكتاب ، وما لا فدعوه فإن قلت : فهذا يشبه النهي عن تتبع
معاني القرآن والبحث عن مشكلاته . قلت : لم يذهب إلى ذلك ، ولكن القوم كانت أكبر
همتهم عاكفة على العمل ، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفاً عندهم ؛
فأراد أنّ الآية مسوقة في الامتنان علي الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره ، وقد علم من
فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعاً له أو لإنعامه ؛ فعليك بما
هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك ولم يشكل مما عدّد من نعمه ، ولا
تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له ، واكتف بالمعرفة
الجميلة إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن
فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن .
) فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ
وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ
يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هم الكفرة الفجرة ( 7
عبس : ( 33 ) فإذا جاءت الصاخة
" صفحة رقم 706 "
(
يقال : صخّ لحديثه ، مثل : أصاخ له ، فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً ؛ لأن الناس
يصخون لها ) جَآءَتِ ( منهم لاشتغاله بما هو مدفوع إليه ، ولعلمه أنهم لا يغنون
عنه شيئاً ؛ وبدأ بالأخ ، ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ، ثم بالصاحبة والبنين
لأنهم أقرب وأحب ؛ كأنه قال : يفرّ من أخيه ، بل من أبويه ، بل من صاحبته وبنيه .
وقيل : يفرّ منهم حذراً من مطالبتهم بالتبعات . يقول الأخ : لم تواسني بمالك .
والأبوان : قصرت في برنا . والصاحبة : أطمعتني الحرام وفعلت وصنعت . والبنون : لم
تعلمنا ولم ترشدنا ، وقيل : أوّل من يفرّ من أخيه : هابيل ؛ ومن أبويه : إبراهيم
ومن صاحبته : نوح ولوط ؛ ومن ابنه نوح ) يُغْنِيهِ ( يكفيه في الاهتمام به . وقرىء
( يعنيه ) أي يهمه ) مِّنْهُمْ ( مضيئة متهللة ، من أسفر الصبح : إذا أضاء وعن ابن
عباس رضي اللَّه عنهما : من قيام الليل ؛ لما روي في الحديث :
( 1269 ) ( من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ) وعن الضحاك : من آثار الوضوء
. وقيل : من طول ما اغبرت في سبيل الله ) وَوُجُوهٌ ( غبار يعلوها ) يَوْمَئِذٍ (
سواد كالدخان ؛ ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه ، كما ترى من وجوه
الزنوج إذا اغبرت ؛ وكأن الله عز وجل يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة ، كما جمعوا
الفجور إلى الكفر .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1270 ) ( من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر ) .
" صفحة رقم 707 "
( سورة التكوير )
مكية ، وآياتها 29 ( نزلت بعد المسد )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ
سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا
الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ
سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَآءُ
كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ
نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ (
التكوير : ( 1 ) إذا الشمس كورت
في التكوير وجهان : أن يكون من كوّرت العمامة إذا لفقتها ، أي : يلف ضوءها لفاً
فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق ، وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها ؛ لأنها ما
دامت باقية كان ضياؤها منبسطاً غير ملفوف . أو يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها ؛
لأنّ الثواب إذا أريد رفعه لف وطوى ؛ ونحوه قوله : ) يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء ( (
الأنبياء : 104 ) وأن يكون من طعنه فجوّره وكوّره : إذا ألقاه ، أي : تلقى وتطرح
عن فلكها ، كما وصفت النجوم بالانكدار ، فإن قلت : ارتفاع الشمس على الابتداء أو
الفاعلية ؟ قلت : بل على الفاعلية رافعها فعل مضمر يفسره كوّرت ؛ لأنّ ( إذا )
يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط ) انكَدَرَتْ ( انقضت قال :
أَبْصَرَ حِرْبَانٌ فَضَاءَ فَانْكَدَرْ
ويروى في الشمس والنجوم : أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها كما قال : )
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( ( الأنبياء :
98 ) ، ) سُيّرَتْ ( أي على وجه الأرض وأبعدت . أو سيرت في الجوّ تسيير السحاب
كقوله ) وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ( ( النمل : 88 ) والعشار في جمع عشراء ،
كالنفاس في جمع نفساء : وهي التي أتى على
" صفحة رقم 708 "
حملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة ، وهي أنفس ما تكون عند
أهلها وأعزها ) عُطّلَتْ ( تركت مسيبة مهملة . وقيل : عطلها أهلها عن الحلب والصر
، لاشتغالهم بأنفسهم وقرىء ( عطلت ) بالتخفيف ) حُشِرَتْ ( جمعت من كل ناحية . قال
قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص . وقيل : إذا قضى بينها ردّت تراباً فلا
يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته . كالطاووس ونحوه . وعن ابن
عباس رضي الله عنهما : حشرها موتها . يقال : إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم
حشرتهم السنة . وقرىء ( حشرت ) بالتشديد ) ) سُجّرَتْ ( قرىء بالتخفيف والتشديد ،
من سجر التنور : إذا ملأه بالحطب ، أي : ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى تعود بحراً
واحداً . وقيل : ملئت نيراناً تضطرم لتعذيب أهل النار . وعن الحسن : يذهب ماؤها
فلا تبقى فيها قطرة ) زُوّجَتْ ( قرنت كل نفس بشكلها وقيل : قرنت الأرواح بالأجساد
. وقيل بكتبها وأعمالها . وعن الحسن هو كقوله : ) وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً
( ( الواقعة : 7 ) وقيل : نفوس المؤمنين بالحور ، ونفوس الكافرين بالشياطين وأد
يئد مقلوب من آد يؤد : إذا أثقل . قال الله تعالى : ) وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا
( ( البقرة : 255 ) ، لأنه إثقال بالتراب : كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن
يستحييها : ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية ؛ وإن أراد
قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها : طيبيها وزينيها ، حتى أذهب بها إلى
أحمائها ، وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها ،
ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليهاالتراب ، حتى تستوي البئر بالأرض . وقيل : كانت
الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة ؛ فإذا ولدت بنتاً رمت بها في
الحفرة ، وإن ولدت ابناً حبسته فإن قلت : ما حملهم على وأد البنات ؟ قلت : الخوف
من لحوق العار بهم من أجلهنّ . أو الخوف من الإملاق ، كما قال الله تعالى : )
وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ( ( الإسراء : 31 ) ، وكانوا
يقولون : إن الملائكة بنات الله ، فألحقوا البنات به ، فهو أحق بهنّ . وصعصعة بن
ناجية ممن منع الوأد ؛ فيه افتخر الفرزدق في قوله : وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ
الْوَائِدَات
فَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ تُوأَدِ
فإن قلت : فما معنى سؤال المؤودة عن ذنبها الذي قتلت به ؛ وهلا سئل الوائد عن موجب
قتله لها ؟ قلت : سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها نحو التبكيت في قوله تعالى
" صفحة رقم 709 "
لعيسى : ) قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى ( إلى قوله : ) سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ
لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ ( ( المائدة : 116 ) ، وقرىء ( سألت ) ، أي
: خاصمت عن نفسها ، وسألت الله أوقاتلها ؛ وإنما قيل ) قُتِلَتْ ( بناء على أن
الكلام إخبار عنها ؛ ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت . فقيل : قتلت أو كلاهما حين
سئلت لقيل : قتلت . وقرأ ابن عباس رضي عنهما : قتلت ، على الحكاية وقرىء ( قتلت )
، بالتشديد ، وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون ، وعلى أن التعذيب لا
يستحق إلا بالذنب ، وإذا بكت الله الكافر ببراءة الموؤدة من الذنب : فما أقبح به ،
وهو الذي لا يظلم مثقال ذرّة أن يكرّ عليها بعد هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى
عنده فعل المبكت من العذاب الشديد السرمد ، وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه سئل
عن ذلك ، فاحتجّ بهذه الآية ( نشرت ) قرىء بالتخفيف والتشديد ، يريد : صحف الأعمال
تطوى صحيفة الإنسان عند موته ، ثم تنتشر إذا حوسب . عن قتادة : صحيفتك يا ابن آدم
تطوى على عملك ، ثم تنشر يوم القيامة ، فلينظر رجل ما يملي في صحيفته وعن عمر رضي
الله عنه أنه كان إذا قرأها قال : إليك يساق الأمر يا ابن آدم . وعن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) أنه قال :
( 2271 ) ( يحشر الناس عراة حفاة ) فقالت أمّ سلمة : كيف بالنساء ؟ فقال : شغل
الناس يا أمّ سلمة قالت : وما شغلهم ؟ قال : نشر الصحف فيها مثاقيل الذرّ ومثاقيل
الخردل ) ويجوز أن يراد : نشرت بين أصحابها ، أي فرقت بينهم . وعن مرثد بن وداعة :
إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش ، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة
عالية ، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك ، وهي صحف غير
صحف الأعمال ) كُشِطَتْ ( كشفت وأزيلت ، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة ، والغطاء عن
الشيء وقرأ ابن مسعود ( قشطت ) واعتقاب الكاف والقاف كثير . يقال : لبكت الثريد
ولبقته ، والكافور والقافور ) سُعّرَتْ ( أوقدت إيقاداً شديداً وقرىء ( سعرت )
بالشديد للمبالغة . قيل : سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم ) أُزْلِفَتْ (
أدنيت من المتقين ، كقوله تعالى : ) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
غَيْرَ بَعِيدٍ ( ( ق : 31 ) ، قيل :
" صفحة رقم 710 "
هذه اثنتا عشرة خصلة . ست منها في الدنيا ، وست في الآخرة . ) وعملت ( هو عامل
النصب في ) الْفَجَرَةُ إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ ( وفيما عطف عليه . فإن قلت : كل
نفس تعلم ما أحضرت ، كقوله : ) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ
خَيْرٍ مُّحْضَرًا ( ( آل عمران : 30 ) لا نفس واحدة فما معنى قوله : ) عَلِمَتْ
نَفْسٌ ( ؟ قلت : هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه . ومنه
قوله عز وجل : ) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ
( ( الحجر : 2 ) ومعناه : معنى كم وأبلغ منه . وقول القائل :
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرَّا أَنَامِلُهُ
وتقول لبعض قوّاد العساكر : كم عندك من الفرسان ؟ فيقول : رب فارس عندي . أو لا
تعدم عندي فارساً ، وعنده المقانب : وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه . ولكنه
أراد إظهار براءته من التزيد ، وأنه ممن يقلل كثير ما عنده ، فضلا أن يتزيد ، فجاء
بلفظ التقليل ، ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين وعن ابن مسعود رضي الله
عنه أنّ قارئاً قرأها عنده ، فلما بلغ ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ( قال :
وانقطاع ظهرياه .
) فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (
التكوير : ( 15 ) فلا أقسم بالخنس
) الخنس ( الرواجع ، بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوله و )
الْجَوَارِ ( السيارة . و ) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ( الغيب من كنس الوحشى : إذا
دخل كناسه . قيل : هي
" صفحة رقم 711 "
الدراري الخمسة : بهرام وزحل ، وعطارد ، والزهرة ، والمشتري ، تجري مع الشمس
والقمر ، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس : فخنوسها رجوعها : وكنوسها : اختفاؤها تحت
ضوء الشمس . وقيل : هي جميع الكواكب ، تخنس بالنهار فتغيب عن العيون ، وتكنس
بالليل : أي تطلع في أماكنها ، كالوحش في كنسها ، عسعس الليل وسعسع : إذا أدبر .
قال العجاج : حَتّى إذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا
وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا
وقيل عسعس : إذا أقبل ظلامه . فإن قلت : ما معنى تنفس الصبح ؟ قلت : إذا أقبل
الصبح : أقبل بإقباله روح ونسيم ، فجعل ذلك نفساً له على المجاز وقيل : تنفس الصبح
.
) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ
مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (
التكوير : ( 19 ) إنه لقول رسول . . . . .
) إِنَّهُ ( الضمير للقرآن ) لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( هو جبريل صلوات الله عليه
) ذِى
" صفحة رقم 712 "
قُوَّةٍ ( كقوله تعالى : ) شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ ( ( النجم : 5 6 ) لما
كانت حال المكانة على حسب حال الممكن ، قال : ) عِندَ ذِى الْعَرْشِ ( ليدل على
عظم منزلته ومكانته ) ثَمَّ (
" صفحة رقم 713 "
إشارة إلى الظرف المذكور ، أعني : عند ذي العرش ، على أنه عند الله مطاع في
ملائكته المقرَّبين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه . وقرىء ( ثم ) تعظيماً
للأمانة . وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة .
) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (
التكوير : ( 22 ) وما صاحبكم بمجنون
) وَمَا صَاحِبُكُمْ ( يعني : محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) بِمَجْنُونٍ ( كما
تبهته الكفرة ، وناهيك بهذا دليًلا على جلالة مكان جبريل عليه السلام وفضله على
الملائكة ، ومباينة منزلته أفضل الإنس محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : إذا وازنت
بين الذكرين حين قرن بينهما ، وقايست بين قوله : ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( وبين قوله : )
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ( .
) وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالاٍّ فُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (
التكوير : ( 23 ) ولقد رآه بالأفق . . . . .
) وَلَقَدْ رَءَاهُ ( ولقد رأى رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) جبريل )
بِالاْفُقِ الْمُبِينِ ( بمطلع الشمس الأعلى ) وَمَا هُوَ ( وما محمد على ما يخبر
به من الغيب من رؤية جبريل والوحي إليه وغير ذلك ) بِضَنِينٍ ( بمتهم من الظنة وهي
التهمة وقرىء ( بضنين ) من الضنّ وهو البخل أي : لا يبخل بالوحي فيزوى بعضه غير
مبلغه ؛ أو يسأل تعليمه فلا يعلمه ؛ وهو في مصحف عبد الله بالظاء ، وفي مصحف أبيّ
بالضاد ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ بهما . وإتقان الفصل بين
الضاد والظاء : واجب . ومعرفة مخرجيهما مما لا بد منه للقارىء ، فإنّ أكثر العجم
لا يفرّقون بين الحرفين وإن فرقوا ففرقا غير صواب ، وبينهما بون بعيد ؛ فإن مخرج
الضاد من أصل حافة اللسان ، وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره ، وكان
عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أضبط يعمل بكلتا يديه ، وكان يخرج الضاد من جانبي
لسانه ، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين ، وأما الظاء فمخرجها من طرف
اللسان وأصول الثنايا العليا ، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء . ولو
استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان واختلاف بين جبلين من جبال
العلم والقراءة ، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب فإن قلت : فإن وضع المصلى
أحد الحرفين مكان صاحبه . قلت : هو كواضع الذال مكان الجيم ، والثاء مكان الشين ،
لأن التفاوت بني الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما ) وَمَا هُوَ ( وما القرآن )
بِقَوْلِ شَيْطَانٍ
" صفحة رقم 714 "
رَّجِيمٍ ( أي بقول بعض المسترقة للسمع وبوحيهم إلى أوليائهم من الكينة .
) فَأيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَآءَ
مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ (
التكوير : ( 26 ) فأين تذهبون
) فَأيْنَ تَذْهَبُونَ ( استضلال لهم كما يقال لتارك الجادّة اعتسافاً أو ذهاباً
في بنيات الطريق : أين تذهب ؛ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى
الباطل ) لِمَن شَاء مِنكُمْ ( بدل من العالمين وإنما أبدلوا منهم لأنّ الذين شاؤا
الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن
كانوا موعظين جميعاً ) وَمَا ( الاستقامة يامن يشاؤها إلا بتوفيق الله ولطفه . أو
: وما تشاؤنها أنتم يامن لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1272 ) ( من قرأ سورة إذا الشمس كورت أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته ) .
" صفحة رقم 715 "
( سورة الانفطار )
مكية ، وآياتها 19 ( نزلت بعد النازعات
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا
الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا
قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (
الإنفطار : ( 1 - 5 ) إذا السماء انفطرت
) انفَطَرَتْ ( انشقت ) الْبِحَارُ فُجّرَتْ ( فتح بعضها إلى بعض ، فاختلط العذب
بالمالح ، وزال البرزخ الذي بينهما ، وصارت البحار بحراً واحداً وروي أنّ الأرض
تنشق الماء بعد امتلاء البحار ، فتصير مستوية ، وهو معنى التسجير عند الحسن ،
وقرىء ( فجرت ) بالتخفيف . وقرأ مجاهد : فجرت على النباء للفاعل والتخفيف . بمعنى
: بغت لزوال البرزخ نظراً إلى قوله تعالى : ) لاَّ يَبْغِيَانِ ( ( الرحمن : 20 )
لأنّ البغي والفجور أخوان . بعثر وبحثر بمعنى ، وهما مركبان من البعث والبحث مع
راء مضمومة إليهما . والمعنى : يحثت وأخرج موتاها . وقيل : لبراءة المبعثرة لأنها
بعثرت أسرار المنافقين .
) ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ
فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ (
الإنفطار : ( 6 ) يا أيها الإنسان . . . . .
فإن قلت : ما معنى قوله : ) مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( وكيف طابق الوصف
بالكرم إنكار الاغترار به ، وإنما يغتر بالكريم ، كما يروى عن علي رضي اللَّه عنه
أنه صاح بغلام له كرّات فلم يلبه ، فنظر فإذا هو بالباب ، فقال له : ما لك لم
تجبني ؟ قال : لثقتي بحلمك وأمني من عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه ، وقالوا : من
كرم الرجل سوء
" صفحة رقم 716 "
أدب غلمانه . قلت معناه أنّ حق الإنسان أن لا يغتر بتكرم الله عليه ، حيث خلقه
حياً لينفعه ، وبتفضله عليه بذلك حتى يطمع بعدما مكنه وكلفه فعصى وكفر النعمة
المتفضل بها أن يتفضل عليه بالثواب وطرح العقاب ، اغتراراً بالتفضل الأوّل ، فإنه
منكر خارج من حد الحكمة ، ولهذا :
( 1272 ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما تلاها . ( غرّه جهله ) وقال
عمر رضي الله عنه : غرّه حمقه وجهله . وقال الحسن : غره والله شيطانه الخبيث ، أي
: زين له المعاصي وقال له : أفعل ما شئت ، فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به
أوّلا وهو متفضل عليك آخراً ، حتى ورطه وقيل للفضيل ابن عياض : إن أقامك الله يوم
القيامة وقال لك : ) مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( ماذا تقول ؟ قال أقول :
غرتني ستورك المرخاة . وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر ، وليس
باعتذار كما يظنه الطماع ، ويطن به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم : إنما قال )
بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( دون سائر صفاته ، ليلقن عبده الجواب حتى يقول : غرّني كرم
الكريم . وقرأ سعيد بن جبير : ( ما أغرّك ) إما على التعجب ، وإما على الاستفهام ؛
من قولك : غرّ الرجل فهو غارّ : إذا غفل ، من قولك : بيتهم العدوّ وهم غارّون .
وأغرّه غيره : جعله غاراً ) فَسَوَّاكَ ( فجعلك سويا سالم الأعضاء ) فَعَدَلَكَ (
فصيرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت فيه ، فلم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا
إحدى العينين أوسع ، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود ، ولا بعض الشعر فاحماً
وبعضه أشقر . أو جعلك معتدل الخلق تمشي قائماً لا كالبهائم . وقرىء ( فعدلك )
بالتخفيف وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون بمعنى المشدّد ، أي : عدل بعض أعضائك ببعض
حتى اعتدلت والثاني ) فَعَدَلَكَ ( فصرفك . يقال : عدله عن الطريق يعني : فعدلك عن
خلقة غيرك وخلقك خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق . أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيآت
. ) مَّا ( في ) مَّا شَآءَ ( مزيدة ، أي : ركبك في أيّ صورة اقتضتها مشيئته
وحكمته من الصور المختلقة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة ،
والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه فإن قلت : هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها
؟ قلت : لأنها بيان لعدلك . فإن قلت : بم يتعلق الجار ؟ قلت : يجوز أن يتعلق بركبك
. على معنى : وضعك في بعض الصور ومكنك فيه ، وبمحذوف أي ركبك
" صفحة رقم 717 "
حاصلاً في بعض الصور ؛ ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف ويجوز أن يتعلق بعدلك
، ويكون في ( أي ) معنى التعجب ، أي فعدلك في صورة عجيبة ، ثم قال : ما شاء ركبك .
أي ركبك ما شاء من التراكيب ، يعني تركيباً حسناً .
) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً
كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (
الإنفطار : ( 9 ) كلا بل تكذبون . . . . .
) كَلاَّ ( ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله والتسلق به . وهو موجب الشكر والطاعة ،
إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية . ثم قال : ) بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ (
أصلا وهو الجزاء . أو دين الإسلام . فلا تصدّقون ثواباً ولا عقاباً وهو شر من
الطمع المنكر ) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ( تحقيق لما يكذبون به من الجزاء
، يعني أنكم تكذبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها . وفي
تعظيم الكتبة بالثناء عليهم : تعظيم لأمر الجزاء ، وأنه عند الله من جلائل الأمور
؛ ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه ، ويجازي به الملائكة الكرام الحفظة
الكتبة . وفيه إنذار وتهويل وتشوير للعصاة ولطف للمؤمنين وعن الفضيل أنه كان إذا
قرأها قال : ما أشدّها من أية على الغافلين .
) إِنَّ الاٌّ بْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ (
الإنفطار : ( 13 ) إن الأبرار لفي . . . . .
) وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( كقوله : ) وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا (
( المائدة : 37 ) ، ويجوز أن يراد : يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل
ذلك ، يعني : في قبورهم ، وقيل : أخبر الله في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات
: حال الحياة التي يحفظ فيها عمله ، وحال الآخرة التي يجازي فيها ، وحال البرزخ
وهو قوله : ) وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( .
) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ
يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالاٌّ مْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (
الإنفطار : ( 17 ) وما أدراك ما . . . . .
يعني أن أمر يوم الدين بحيث لا تدرك دراية دار كنهه في الهول والشدّة وكيفما
تصورته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه ، والتكرير لزيادة التهويل ، ثم أجمل القوم في
وصفه فقال ) يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ( أي لا تستطيع دفعاً
عنها ولا نفعاً لها بوجه ولا أمر إلا لله وحده . من رفع فغلى البدل من يوم الدين ،
أو على : هو يوم لا تملك . ومن نصب فبإضمار يدانون ؛ لأنّ الدين يدل عليه . أو
بإضمار أذكر . ويجوز أن يفتح
" صفحة رقم 718 "
لإضافته إلى غير متمكن وهو في محل الرفع .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1274 ) ( من قرأ إذا السماء انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة
وبعدد كل قبر حسنة ) .
" صفحة رقم 719 "
( سورة المطففين )
مكية ، وآياتها 36 ( نزلت بعد العنكبوت ، وهي آخر سورة نزلت بمكة
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ
يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ
أُوْلَائِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (
المطففين : ( 1 ) ويل للمطففين
التطفيف : البخس في الكيل والوزن : لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير . وروى :
( 1275 ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس
كيلا ، فنزلت فأحسنوا الكيل وقيل : قدمها وبها رجل يعرف بأبي جهينة ومعه صاعان :
بكيل بأحدهما ويكتال بالآخر . وقيل :
( 1276 ) كان أهل المدينة تجاراً يطففون ، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة
والمخاطرة ، فنزلت فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقرأها عليهم . وقال : (
خمس بخمس ) قيل : يا رسول الله ، وما خمس بخمس ؟ قال : ( ما نقض قوم العهد إلا سلط
الله عليهم عدوّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت
فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم
" صفحة رقم 720 "
الموت ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا
حبس عنهم القطر ) وعن علي رضي الله عنه : أنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال
له : أقم الوزن بالقسط ، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت . كأنه أمره بالتسوية أولا
ليعتادها ويفصل الواجب من النفل . وعن ابن عباس : إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين :
بهما هلك من كان قبلكم : المكيال والميزان ؛ وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل
والوزن جميعاً وكانا مفرّقين في الحرمين : كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون
، وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول له : اتق الله وأوف الكيل ، فإنّ
المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم . وعن عكرمة :
أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار . فقيل له : إنّ ابنك كيال أو وزان ؛ فقال : أشهد
أنه في النار . وعن أبيّ رضي الله عنه : لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس
المكاييل وألسن الموازين لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه
عليهم : أبدل ( على ) مكان ( من ) للدلالة على ذلك . ويجوز أن يتعلق ( على )
بيستوفون ، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية ، أي : يستوفون على الناس
خاصة ؛ فأما أنفسهم فيستوفون لها ؛ وقال الفراء ( من ) و ( على ) يعتقبان في هذا
الموضع ، لأنه حق عليه ؛ فإذا قال اكتلت عليك ، فكأنه قال : أخذت ما عليك ؛ وإذا
قال : اكتلت منك ، فكقوله : استوفيت منك . والضمير في ) كَالُوهُمْ أَوْ
وَّزَنُوهُمْ ( ضمير منصور راجع إلى الناس . وفيه وجهان : أن يراد كالوا لهم أو
وزنوا لهم ؛ فحذف الجار وأوصل الفعل ، كما قال : وَلَقَدْ جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً
وَعَسَاقِلا
وَلَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ نَبَاتِ الأوْبَرِ
والحريص يصيدك لا الجواد ، بمعنى : جنيت لك ، ويصيد لك ، وأن يكون على حذف المضاف
وإقامة المضاف إليه مقامه ، والمضاف هو المكيل أو الموزون ، ولا يصح أن يكون
ضميراً مرفوعاً للمطففين ، لأنّ الكلام يخرج به إلى نظم فاسد ؛ وذلك أنّ
" صفحة رقم 721 "
المعنى : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا أعطوهم أخسروا ؛ وإن جعلت الضمير
للمطففين انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا تولوا الكيل أو
الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر لأنّ الحديث واقع في الفعل لا في
المباشر ، والتعلق في إيطاله بخط المصحف ، وأنّ الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير
ثابتة فيه : ركيك ؛ لأنّ خط المصحف لم يراع في كثير منه حدّ المصطلح عليه في علم
الخط ، على أني رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة
لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعاً ؛ لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع ،
وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك : هم لم يدعوا ، وهو
يدعو ؛ فمن لم يثبتها قال : المعنى كاف في التفرقة بينهما . وعن عيسى بن عمر وحمزة
: أنهما كانا يرتكبان ذلك ، أي يجعلان الضميرين للمطففين ، ويقفان عند الواوين
وقيفة يبينان بها ما أرادا فإن قلت : هلا قيل : أو اتزنوا ، كما قيل ) أَوْ
وَّزَنُوهُمْ ( ؟ قلت : كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل
دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة ، لأنهم يدعدعون ويحتالون في
الملء ، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً )
يُخْسِرُونَ ( ينقصون يقال : خسر الميزان وأخسره ) أَلا يَظُنُّ ( إنكار وتعجيب
عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف ، كأنهم لا يحظرون ببالهم ولا يخمنون
تخميناً ) أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ ( ومحاسبون على مقدار الذرّة والخردلة . وعن
قتادة : أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك ، وأعدل كما تحب أن يعدل لك . وعن
الفضيل : بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة . وعن عبد الملك بن مروان : أن أعرابياً
قال له : قد سمعت ما قال الله في المطففين : أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه
الوعيد العظيم الذي سمعت به ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا
وزن وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن ، ووصف اليوم بالعظم ، وقيام الناس فيه
لله خاضعين ، ووصفه ذاته برب العالمين : بيان بليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في
التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط ، والعمل على السوية
والعدل في كل أخذ وإعطاء ، بل في كل قول وعمل ، وقيل : الظنّ بمعنى اليقين ،
والوجه ما ذكر ؛ ونصب ) يَوْمَ يَقُومُ ( بمبعوثون . وقرىء بالجر بدلاً من ( يوم
عظيم ) وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله : ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ
لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده .
" صفحة رقم 722 "
) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ
كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (
المطففين : ( 7 ) كلا إن كتاب . . . . .
) كَلاَّ ( ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر البعث والحساب ،
ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه ، ثم أتبعه وعيد الفجار على العموم
. وكتاب الفجار : ما يكتب من أعمالهم . فإن قلت : قد أخبر الله عن كتاب الفجار
بأنه في سجين ، وفسر سجيناً بكتاب مرقوم ؛ فكأنه قيل : إن كتابهم في كتاب مرقوم .
فما معناه : قلت ) سِجِّينٍ ( كتاب جامع هو ديوان الشر : دوّن الله فيه أعمال
الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس ، وهو كتاب مرقوم مسطور بين
الكتابة . أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار
مثبت في ذلك الديوان ، وسمى سجيناً : فعيلاً من السجن ، وهو الحبس والتضييق . لأنه
سبب الحبس والتضييق في جهنم ، أو لأنه مطروح كما روي تحت الأرض السابعة في مكان وحش
مظلم ، وهو مسكن إبليس وذرّيته استهانة به وإذالة ، وليشهده الشياطين المدحورون ،
كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون . فإن قلت : فما سجين ، أصفة هو أم اسم ؟
قلت : بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم . وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد
وهو التعريف .
) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ
مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَاذَا
الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (
المطففين : ( 10 ) ويل يومئذ للمكذبين
) الَّذِينَ يُكَذّبُونَ ( مما وصف به للذم لا للبيان ، كقولك فعل ذلك فلان الفاسق
الخبيث ) كَلاَّ ( ردع للمعتدي الأثيم عن قوله : ) رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ (
ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها : وهو أن يصر على الكبائر ويسوّف التوبة حتى يطبع
على قلبه ، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه . وعن الحسن : الذنب بعد الذنب حتى يسودّ
القلب . يقال : ران عليه الذنب وغان عليه ، رينا وغينا ، والغين : الغيم ، ويقال :
ران فيه النوم رسخ فيه ، ورانت به الخمر : ذهبت به . وقرىء بإدغام اللام في الراء
وبالإظهار ، والإدغام أجود . وأميلت الألف وفخمت ) كَلاَّ ( ردع عن الكسب الرائن
على قلوبهم . وكونهم محجوبين عنه :
" صفحة رقم 723 "
تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم ، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين
لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم . قال : إذَا اعْتَرَوْا بَابَ
ذِي عُبْيَةٍ رُجِبُوا
وَالنَّاسُ مِنْ بَيْنِ مَرْجُوبٍ وَمَحْجُوبٍ
عن ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة : محجوبين عن رحمته . وعن ابن كيسان : عن
كرامته .
) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاٌّ بْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا
عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (
المطففين : ( 18 ) كلا إن كتاب . . . . .
) كَلاَّ ( ردع عن التكذيب . وكتاب الأبرار : ما كتب من أعمالهم . وعليون : علم
لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين ، منقول من جمع (
عليّ ) فعيل من العلو كسجين من السجن ، سمى بذلك إمّا لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي
الدرجات في الجنة ، وإمّا لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون ،
تكريماً له وتعظيماً . روى
( 1277 ) ( إن الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلونه ، فإذا انتهوا به إلى ما شاء
الله من سلطانة أوحى إليهم إنكم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه ،
وأنه أخلص عمله فاجعلوه في عليين ، فقد غفرت له ؛ وإنها لتصعد بعمل العبد فيزكونه
، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحي إليهم : أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب
على ما في قلبه ، وإنه لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين .
) إِنَّ الاٌّ بْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الاٌّ رَآئِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى
وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ
مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ
" صفحة رقم 724 "
(
المطففين : ( 22 ) إن الأبرار لفي . . . . .
) الاْرَائِكِ ( الأسرة في الحجال ) يُنظَرُونَ ( إلى ما شاؤا مدّ أعينهم إليه من
مناظر الجنة ، وإلى ما أولاهم الله من النعمة والكرامة ، وإلى أعدائهم يعذبون في
النار ، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك ) نَضْرَةَ النَّعِيمِ ( بهجة التنعم
وماءه ورونقه ، كما ترى في وجوه الأغنياء وأهل الترفه ، وقرىء ( تعرف ) على البناء
للمفعول ونضرة النعيم بالرفع . الرحيق الشراب الخالص الذي لا غش فيه ) مَّخْتُومٍ
( تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة . وقيل ) خِتَامُهُ مِسْكٌ (
مقطعه رائحة مسك إذا شرب . وقيل : يمزج بالكافور ، ويختم مزاجه بالمسك . وقرىء (
خاتمه ) ، بفتح التاء وكسرها ، أي : ما يختم به ويقطع ) فَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ ( فليرتغب المرتغبون ) تَسْنِيمٍ ( علم لعين بعينها : سميت
بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه : إمّا لأنها أرفع شراب في الجنة وإمّا لأنها
تأتيهم من فوق ، على ما روى أنها تجري في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم . و )
عَيْناً ( نصب على المدح . وقال الزجاج : نصب على الحال . وقيل : هي للمقربين ،
يشربونها صرفاً ، وتمزج لسائر أهل الجنة .
) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ
وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ
انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ
وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (
المطففين : ( 29 ) إن الذين أجرموا . . . . .
هم مشركو مكة : أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم : كانوا
يضحكون من عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين ويستهزؤن بهم . وقيل :
جاء علي ابن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا
وتغامزوا ، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه ، فنزلت
قبل أن يصل عليّ إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يَتَغَامَزُونَ ( يغمز
بعضهم بعضاً ، ويشيرون بأعينهم ) فَكِهِينَ ( ملتذين بذكرهم والسخرية منهم ، أي :
ينسبون المسلمين إلى الضلال ) وَمَا أُرْسِلُواْ ( على المسلمين ) حَافِظِينَ (
موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ، ويهيمنون على أعمالهم ، ويشهدون برشدهم وضلالهم
؛ وهذاتهكم بهم . أو هو من جملة قول الكفار ، وإنهم إذا رأوا المسلين قالوا : إنّ
هؤلاء لضالون ؛ وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين إنكاراً لصدّهم إياهم عن الشرك ،
ودعائهم إلى الإسلام وجدّهم في ذلك .
" صفحة رقم 725 "
) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الاٌّ
رَآئِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (
المطففين : ( 34 - 36 ) فاليوم الذين آمنوا . . . . .
) عَلَى الاْرَائِكِ يَنظُرُونَ ( حال من ) يَضْحَكُونَ ( أي : يضحكون منهم ناظرين
إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر ومن ألوان العذاب بعد
النعيم والترفه : وهم على الأرائك آمنون . وقيل : يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال
لهم : اخرجوا إليها ؛ فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم ، يفعل ذلك بهم مراراً ، فيضحك
المؤمنون منهم ( ثوبه ) وأثابه : بمعنى ، إذا جازاه قال أوس : سَأَجزِيِك أَوْ
يَجْزِيِك عَنِّى مُثَوِّب
وَحَسْبُكِ أَنْ يُثْنَى عَلَيْكِ وَتُحْمَدِى
وقرىء بإدغام اللام في الثاء .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1278 ) ( من قرأ سورة المطففين سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة ) .
" صفحة رقم 726 "
( سورة الانشقاق )
مكية ، وآياتها 25 ( نزلت بعد الانفطار )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الاٌّ رْضُ
مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (
الإنشقاق : ( 1 ) إذا السماء انشقت
حذف جواب إذا ليذهب المقدر كل مذهب أو اكتفاء بماعلم في مثلها من سورتي التكوير
والانفطار . وقيل : جوابها ما دلّ عليه ( فملاقيه ) أي إذا السماء انشقت لاقى
الإنسان كدحه . ومعناه : إذا انشقت بالغمام ، كقوله تعالى : ) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّمَاء بِالْغَمَامِ ( ( الفرقان : 25 ) ، وعن علي رضي الله عنه : تنشق من
المجرّة أذن له : استمع له . ومنه قوله عليه السلام :
( 1279 ) ( ما أذن الله لشيء كأذنه لشيء يتغنى بالقرآن وقول حجاف بن حكيم :
أَذِنْتُ لَكُمْ لَمَّا سَمِعْتُ هَرِيرَكُمْ ;
والمعنى : أنها فعلت في انقيادها لله حين أراد انشقاقها فعل المطواع الذي إذا ورد
عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع ، كقوله : ) أَتَيْنَا
طَائِعِينَ ( ( فصلت : 11 ) ، ) وَحُقَّتْ ( من قولك هو محقوق بكذا وحقيق به ،
يعني : وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع . ومعناه الإيذان بأنّ القادر الذات يجب أن
يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك ) مُدَّتْ ( من مدّ الشيء فامتدّ : وهو أن تزال جبالها
وآكلمها وكل أمت فيها ،
" صفحة رقم 727 "
حتى تمتدّ وتنبسط ويستوي ظهرها ، كما قال تعالى : ) قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى
فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ( ( طه : 106 107 ) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما :
مدّت مدّ الأديم العكاظي ؛ لأن الأديم إذا مدّ زال انثناء فيه وأمت واستوى أو من
مدّه بمعنى أمدّه ، أي : زيدت سعة وبسطة ) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا ( ورمت بما في
جوفها مما دفن فيها من الموتى والكنوز ) وَتَخَلَّتْ ( وخلت غاية الخلو حتى لم يبق
شيء في باطنها ، كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو ، كما يقال : تكرم الكريم ،
وترحم الرحيم : إذا بلغا جهدهما في الكرم والرحمة ، وتكلفا فوق ما في طبعهما )
وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا ( في إلقاء ما في بطنها وتخليها .
) ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ
فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً
يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ
وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِى
أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ
بِهِ بَصِيراً (
الإنشقاق : ( 6 ) يا أيها الإنسان . . . . .
الكدح : جهد النفس في العمل والكدّ فيه حتى يؤثر فيها ، من كدح جلده : إذا خدشه
ومعنى ) كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ ( جاهد إلى لقاء ربك ، وهو الموت وما بعده من الحال
الممثلة باللقاء ) فَمُلَاقِيهِ ( فملاق له لا محالة لا مفرّ لك منه ، وقيل :
الضمير في ملاقيه للكدح ) يَسِيراً ( سهلاً هينا لا يناقش فيه ولا يعترض بما يسوءه
ويشق عليه ، كما يناقش أصحاب الشمال . وعن عائشة رضي الله عنها : هو أن يعرّف
ذنوبه ، ثم يتجاوز عنه . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال :
( 1280 ) ( من يحاسب يعذب فقيل يا رسول الله : فسوف يحاسب حساباً يسيراً . قال
ذلكم العرض ، من نوقش في الحساب عذب ) ) إِلَى أَهْلِهِ ( إلى عشيرته إن كانوا
مؤمنين . أو إلى فريق المؤمنين . أو إلى أهله في الجنة من الحور العين ) وَرَاء
ظَهْرِهِ ( قيل : تغل يمناه إلى عنقه ، وتجعل شماله وراء ظهره ، فيؤتى كتابه
بشماله من روءا ظهره . وقيل تخلع يده اليسرى من وراء ظهره ، ) يَدْعُو ثُبُوراً (
يقول : يا ثبوراه . والثبور : الهلاك . وقرىء ( ويصلى سعيراً ) كقوله : )
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ( ( الواقعة : 94 ) ، ويصلى : بضم الياء والتخفيف ، كقوله :
) وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ( ( النساء : 115 ) ، ) فِى أَهْلِهِ ( فيما بين ظهرانيهم
: أو معهم ، على أنهم كانوا جميعاً مسرورين ، يعني أنه كان في الدنيا مترفا بطرا
" صفحة رقم 728 "
مستبشراً كعادة الفجار الذين لا يهمهم أمر الآخرة ولا يفكرون في العواقب . ولم يكن
كئيباً حزيناً متفكراً كعادة الصلحاء والمتقين وحكاية الله عنهم ) إِنَّا كُنَّا
قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ( ( الطور : 26 ) ) ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ( لن
يرجع إلى الله تعالى تكذيباً بالمعاد . يقال : لا يحور ولا يحول ، أي : لا يرجع
ولا يتغير . قال لبيد : يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ ;
وعن ابن عباس : ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها : حورى
، أي : أرجعي ) بَلَى ( إيجاب لما بعد النفي في ) لَّن يَحُورَ ( أي : بلى ليحورنّ
) إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً ( وبأعماله لا ينساها ولا تخفى عليه ، فلا
بدّ أن يرجعه ويجازيه عليها . وقيل : نزلت الآيتان في أبي سلمة بن عبد الأشدّ
وأخيه الأسود بن عبد الأشد .
) فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ (
الإنشقاق : ( 16 ) فلا أقسم بالشفق
الشفق : الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط الشمس ، وبسقوطه يخرج وقت المغرب
ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء ، إلا ما يروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه في
إحدى الروايتين : أنه البياض . وروى أسد بن عمرو : أنه رجع عنه ، سمى لرقته . ومنه
الشفقة على الإنسان : رقة القلب عليه ) وَمَا وَسَقَ ( وما جمع وضم ، يقال : وسقه
فاتسق واستوسق . قال :
مُسْتَوْسِقَاتٌ لَوْ يَجِدْنَ سَائِقَا ;
ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين : اتسع واستوسع . ومعناه : وما جمعه وستره
وآوى إليه من الدواب وغيرها ) إِذَا اتَّسَقَ ( إذا اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة .
قرىء : ( لنركبن ) على خطاب الإنسان في ) الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ( ولنركبن
، بالضم على خطاب الجنس ، لأن النداء للنجنس ؛ ولتركبن بالكسر على خطاب النفس ،
وليركبن بالياء على : ليركبن الإنسان . والطبق : ما طابق غيره . يقال : ما هذا
بطبق لذا ، أي : لا يطابقه . ومنه قيل للغطاء الطبق . وإطباق الثرى : ما تطابق منه
، ثم قيل للحال المطابقة لغيرها : طبق .
" صفحة رقم 729 "
ومنه قوله عز وعلا ) طَبَقاً عَن طَبقٍ ( أي حالاً بعد حال : كل واحدة مطابقة لأختها
في الشدّة والهول : ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة ، من قولهم : هو على طبقات
. ومنه : طبق الظهر لفقاره الواحدة : طبقة ، على معنى : لتركبن أحوالا بعد أحوال
هي طبقات في الشدّة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة
وأهوالها . فإن قلت : ما محل عن طبق ؟ قلت : النصب على أنه صفة لطبقاً ، أي : طبقا
مجاوزاً لطبق . أو حال من الضمير في لتركبن ، أي : لتركبن طبقاً مجاوزين لطبق . أو
مجاوزاً أو مجاوزة ، على حسب القراءة : وعن مكحول : كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم
تكونوا عليه .
) فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لاَ
يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يُوعُونَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (
الإنشقاق : ( 20 ) فما لهم لا . . . . .
) لاَ يَسْجُدُونَ ( لا يستكينون ولا يخضعون . وقيل :
( 1281 ) قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم ) وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب (
فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر ، فنزلت وبه احتج أبو
حنيفة رضي الله عنه على وجوب السجدة ، وعن ابن عباس ليس في المفصل سجدة . وعن أبي
هريرة رضي الله عنه :
( 1282 ) أنه سجد فيها وقال : والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) يسجد فيها . وعن أنس : صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان فسجدوا وعن
الحسن : هي غير واجبة ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( إشارة إلى المذكورين ) بِمَا
يُوعُونَ ( بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والبغي والبغضاء . أو
بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب ) إِلاَّ
الَّذِينَ ءامَنُواْ ( استثناء منقطع .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1283 ) ( من قرأ سورة انشقت أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره ) .
" صفحة رقم 730 "
( سورة البروج )
مكية ، وآياتها 22 ( نزلت بعد الشمس )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
(
البروج : ( 1 ) والسماء ذات البروج
هي البروج الاثنا عشر ، وهي قصور السماء على التشبيه . وقيل : ) الْبُرُوجِ (
النجوم التي هي منازل القمر . وقيل : عظام الكواكب . سميت بروجاً لظهورها . وقيل :
أبواب السماء ) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ( يوم القيامة ) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (
يعني وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه والمراد بالشاهد : من يشهد فيه من الخلائق
كلهم ؛ وبالمشهود : ما في ذلك اليوم من عجائبه وطريق تنكيرهما : إما ما ذكرته في
قوله : ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ( ( التكوير : 14 ) كأنه قيل : وما
أفرطت كثرته من شاهد ومشهود . وإما الإبهام في الوصف ، كأنه قيل : وشاهد مشهود لا
يكتنه وصفهما . وقد اضطربت أقاويل المفسرين فيهما ؛ فقيل : الشاهد والمشهود : محمد
( صلى الله عليه وسلم ) ، ويوم القيامة . وقيل : عيسى وأمّته . لقوله : ) وَكُنتُ
عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ( ( المائدة : 117 ) ، وقيل : أمّة محمد
، وسائر الأمم : وقيل : يوم التروية ، ويوم عرفة ، وقيل : يوم عرفة ، ويوم الجمعة
. وقيل الحجر الأسود والحجيج وقيل الأيام والليالي وبنو آدم وعن الحسن ما من يوم
إلا وينادى : إني يوم جديد وإني على ما يعمل فيّ شهيد ؛ فاغتنمني ، فلو غابت شمس
لم تدركني إلى يوم القيامة ؛ وقيل : الحفظة وبنو آدم . وقيل : الأنبياء ومحمد عليه
السلام .
) قُتِلَ أَصْحَابُ الاٍّ خْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا
قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ
مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ (
البروج : ( 4 ) قتل أصحاب الأخدود
فإن قلت : أين جواب القسم ؟ قلت : محذوف يدل عليه قوله : ) قُتِلَ أَصْحَابُ
الاْخْدُودِ ( كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون ، يعني كفار قريش كما
لعن أصحاب الأخدود ؛ وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل
مكة ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدّمهم : من التعذيب على الإيمان . وإلحاق أنواع
الأذى ،
" صفحة رقم 731 "
وصبرهم وثباتهم ، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ، ويعلموا
أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار ، ملعونون أحقاء بأن
يقال فيهم : قتلت قريش ، كما قيل : قتل أصحاب الأخدود وقتل : دعاء عليهم ، كقوله :
) قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( ( عبس : 17 ) وقرىء ( قتل ) بالتشديد .
والأخدود : الخدّ في الأرض وهو الشق ، ونحوهما بناء ومعنى : الخق والأخقوق . ومنه
فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان . روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال :
( 1284 ) كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضمّ إليه غلاماً ليعلمه السحر ، وكان في
طريق الغلام راهب : فسمع منه ، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس . فأخذ
حجراً فقال : اللهم ءن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها ؛ فكان الغلام بعد
ذلك يبريء الأكمه والأبرص ، ويشفي من الأدواء ، وعمى جليس للملك فأبرأه فأبصره
الملك فسأله فقال : من ردّ عليك بصرك ؟ فقال : ربي ، فغضب فعذبه . فدل على الغلام فعذبه
، فدل على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه ، فقدّ بالمنشار وأبي الغلام فذهب به
إلى جبل ليطرح من ذروته ، فدعا فرجف بالقوم ، فطاحوا ونجا ، فذهب به إلى قرقور
فلججوا به ليغرقوه ، فدعا فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ونجا ، فقال للملك : لست
بقاتلي حتى تجعل الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول : بسم
الله رب الغلام ، ثم ترميني به ، فرماه فرقع في صدغه فوضع يده عليه ومات ؛ فقال
الناس : أمنا برب الغلام ؛ فقيل للملك . نزل بك ما كنت تحذر ؛ فأمر بأخاديد في
أفواه السكك وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها
صبي فتقاعست أن تقع فيها ، فقال الصبي : يا أماه ، أصبري فإنك على الحق ؛ فاقتحمت
. وقيل : قال لها قعى ولا تنافقي . وقيل : قال لها ما هي إلا غميضة فصبرت . وعن
علي رضي الله عنه :
" صفحة رقم 732 "
( 1285 ) أنهم حين اختفلوا في أحكام المجوس قال : هم أهل كتاب وكانوا متمسكين
بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم ، فتناولها بعض ملوكهم فسكر ، فوقع على أخته
فلما صحا ندم وطلب المخرج ، فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : يا أيها
الناس ، إنّ الله أحل نكاح الأخوات ، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول : إن الله حرّمه ؛
فخطب فلم يقبلوا منه فقالت له : ابسط فيهم السوط ؛ فلم يقبلوا ؛ فقالت له : ابسط
فيهم السيف ، فلم يقبلوا ؛ فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها ؛
فهم الذين أرادهم الله بقوله : ) قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ ( وقيل : وقع إلى نجران
رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام ، فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس
اليهودي بجنود من حمير ، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا ، فأحرق منهم اثني عشر
ألفاً في الأخاديد . وقيل : سبعين ألفاً ؛ وذكر أنّ طول الأخدود : أربعون ذراعاً
وعرضه اثنا عشر ذراعاً . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1289 ) أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوّذ من جهد البلاء ) النَّارِ ( بدل
اشتمال ممن الأخدود ) ذَاتِ الْوَقُودِ ( وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به
لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس ، وقرىء ( الوقود ) بالضم ) إِذْ ( ظرف لقتل ،
أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها . ومعنى ) عَلَيْهَا ( على ما يدنو منها
من حافات الأخدود ، كقوله :
وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلِّقُ
وكما تقول : مرت عليه ، تريد : مستعليا لمكان يدنو منه ، ومعنى شهادتهم على إحراق
المؤمنين : أنهم وكلوا بذلك وجعلوا شهوداً يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنّ أحداً
منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب . ويجوز أن يراد : أنهم شهود على
ما يفعلون بالمؤمنين ، يؤدّون شهادتهم يوم القيامة ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( (
النور : 24 ) ، ) وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ ( وما عابوا منهم وما أنكروا إلا
الإيمان كقوله :
" صفحة رقم 733 "
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنْ سُيُوفَهُمْ
قال ابن الرقيات :
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إلا أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إنْ غَضِبُوا
وقرأ أبو حيوة ( نقموا ) بالكسر ، والفصيح : هو الفتح . وذكر الأوصاف التي يستحق
بها أن يؤمن به ويعبد ، وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً يخشى عقابه حميداً منعماً .
يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه ) لَّهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( فكل
من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقديراً ، لأن ) مَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ ( هو
الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغيّ ، وإن الناقمين أهل لانتقام الله منهم
بعذاب لا يعدله عذاب ) وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ ( وعيد لهم ، يعني أنه علم
ما فعلوا ، وهو مجازيهم عليه .
) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ
الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا
الاٌّ نْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (
البروج : ( 10 ) إن الذين فتنوا . . . . .
ويجوز أن يريد بالذين فتنوا : أصحاب الأخدود خاصة ، وبالذين آمنوا : المطروحين في
الأخدود . ومعنى فتنوهم عذبوهم بالنار وأحرقوهم ) فَلَهُمْ ( في الآخرة ) عَذَابَ
جَهَنَّمَ ( بكفرهم ) وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ( وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما
يتسع الحريق بإحراقهم المؤمنين . أو لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق
في الدنيا ، لما روى أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم . ويجوز أن يريد : الذين
فتنوا المؤمنين ، أي : بلوهم بالأذى على العموم ؛ والمؤمنين : المفتونين ؛ وأن
للفاتنين عذابين في الآخرة : لكفرهم ، ولفتنتهم .
) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ
الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (
البروج : ( 12 ) إن بطش ربك . . . . .
البطش : الأخذ بالعنف ؛ فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم : وهو بطشه بالجبابرة
والظلمة ، وأخذهم بالعذاب والانتقام ) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ ( أي
يبدىء البطش ويعيده . يعني : يبطش بهم في الدنيا وفي الآخرة . أو دل باقتداره على
الابداء والاعادة على شدة بطشه وأوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم إذ
لم يشكروا
" صفحة رقم 734 "
نعمة الابداء وكذبوا بالاعادة وقرىء ( يبدأ ) ) الْوَدُودُ ( الفاعل بأهل طاعته ما
يفعله الودود : من إعطائهم ما أرادوا وقرىء ( ذي العرش ) صفة لربك وقرىء ( المجيد
) بالجر صفة للعرش . ومجد الله عظمته ومجد العرش : علوه وعظمته ) فَعَّالٌ ( خبر
مبتدأ محذوف . وإنما قيل : فعال ؛ لأنّ ما يريد ويفعل في غاية الكثرة .
) هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ
فِى تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ
فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (
البروج : ( 17 ) هل أتاك حديث . . . . .
) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ( بدل من الجنود وأراد بفرعون إياه وآله ، كما في قوله : )
مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ( ( يونس : 83 ) ، والمعنى : قد عرفت تكذيب تلك
الجنود الرسل وما نزل بهم لتكذيبهم ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( من قومك ) فِى
تَكْذِيبٍ ( أيّ : تكذيب واستيجاب للعذاب ، والله عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم
لا يعجزونه . والإحاطة بهم من ورائهم : مثل لأنهم لا يفوتونه ، كما لا يفوت فائت
الشيء المحيط به . ومعنى الإضراب : أن أمرهم أعجب من أمر أولئك ؛ لأنهم سمعوا
بقصصهم وبما جرى عليهم ، ورأوا آثار هلاكهم ولم يعتبروا ، وكذبوا أشد من تكذيبهم )
بَلْ هُوَ ( أي بل هذا الذي كذبوا به ) بَلْ هُوَ ( شريف عالي الطبقة في الكتب وفي
نظمه وإعجازه . وقرىء ( قرآن مجيد ) ، بالإضافة ، أي : قرآن رب مجيد . وقرأ يحيى
بن يعمر : ( في لوح ) واللوح : الهواء ، يعني : اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه
اللوح ) مَّحْفُوظٍ ( من وصول الشياطين إليه وقرىء ( محفوظ ) بالرفع صفة القرآن .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1287 ) ( من قرأ سورة البروج أعطاه الله بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في
الدنيا عشر حسنات ) .
" صفحة رقم 735 "
( سورة الطارق )
مكية ، وآياتها 17 ( نزلت بعد البلد )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ
(
الطارق : ( 1 - 3 ) والسماء والطارق
) النَّجْمُ الثَّاقِبُ ( المضيء ، كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه ، كما قيل :
درّيء ، لأنه يدرؤه ، أي : يدفعه . ووصف بالطارق ؛ لأنه يبدو بالليل ، كما يقال
للآتي ليلا : طارق : أو لأنه يطرق الجنى ، أي يصكه . والمراد : جنس النجوم ، أو
جنس الشهب التي يرجم بها . فإن قلت : ما يشبه قوله : ) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا
الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ( إلا ترجمة كلمة بأخرى ، فبين لي أي فائدة تحته
؟ قلت : أراد الله عز من قائل : أن يقسم بالنجم الثاقب تعظيماً له ، لما عرف فيه من
عجيب القدرة ولطيف الحكمة ، وأن ينبه على ذلك فجاء بما هو صفة مشتركة بينه وبين
غيره ، وهو الطارق ، ثم قال : ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ( ثم فسره بقوله :
) النَّجْمُ الثَّاقِبُ ( كل هذا إظهار لفخامة شأنه ، كما قال ) فَلاَ أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( ( الواقعة
: 75 76 ) روي :
( 1288 ) أنّ أبا طالب كان عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فانحط نجم ،
فامتلأ ما ثم نوراً فجزع أبو طالب وقال : أي شيء هذا ؟ فقال عليه السلام : ( هذا
نجم رمى به ، وهو آية من آيات الله ) فعجب أبو طالب ، فنزلت .
) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (
الطارق : ( 4 ) إن كل نفس . . . . .
فإن قلت : ما جواب القسم ؟ قلت ) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (
لأنّ ( إن ) لا تخلو فيمن قرأ لما مشددة ، بمعنى : إلا أن تكون نافية . وفيمن
قرأها مخففة على أن ( ما ) صلة تكون مخففة من الثقيلة ، وأيتهما كانت فهي مما
يتلقى به القسم ، حافظ مهيمن عليها رقيب ، وهو الله عز وجل ) وَكَانَ اللَّهُ
عَلَى كُلّ شَىْء رَّقِيباً ( ( الأحزاب : 52 ) ، ) وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ
شَىْء مُّقِيتاً ( ( النساء : 85 ) ، وقيل : ملك يحفظ عملها ويحصى عليها ما تكسب
" صفحة رقم 736 "
من خير وشر . وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1289 ) ( وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب
. ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ) .
) فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن
بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ (
الطارق : ( 5 ) فلينظر الإنسان مم . . . . .
فإن قلت : ما وجه اتصال قوله ) فَلْيَنظُرِ ( بما قبله ؟ قلت : وجه اتصاله به أنه
لما ذكر أن على كل نفس حافظاً ، أتبعه توصية الإنسان بالنظر في أوّل أمره ونشأته
الأولى ، حتى يعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فيعمل ليوم الإعادة
والجزاء ، ولا يملى على حافظه إلا ما يسره في عاقبته ؛ و ) مِمَّ خُلِقَ ( استفهام
جوابه ) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ( والدفق : صبّ فيه دفعٌ . ومعنى دافق : النسبة
إلى الدفق الذي هو مصدر دفق ، كاللابن والتامر . أو الإسناد المجازي . والدفق في
الحقيقة لصاحبه ، ولم يقل ماءين لامتزاجهما في الرحم ، واتحادهما حين ابتدىء في
خلقه ) مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ( من بين صلب الرجل وترائب المرأة :
وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة . وقرىء ( الصلب ) بفتحتين ، والصلب بضمتين .
وفيه أربع لغات : صلب ، وصلب ، وصلب وصالب قال العجاج : في صُلُبٍ مِثْلِ
الْعِنَانِ الْمُؤْدَمِ ;
وقيل : العظم والعصب من الرجل ، واللحم والدم من المرأة .
) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ فَمَا لَهُ مِن
قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ (
الطارق : ( 8 ) إنه على رجعه . . . . .
) إِنَّهُ ( الضمير للخالق ، لدلالة خلق عليه . ومعناه : إنّ ذلك الذي خلق الإنسان
ابتداء من نطفه ) عَلَى رَجْعِهِ ( على إعادته خصوصاً ) لَقَادِرٌ ( لبين القدرة
لا يلتاث عليه
" صفحة رقم 737 "
ولا يعجز عنه . كقوله : إنني لفقير ) يَوْمَ تُبْلَى ( منصوب برجعه ؛ ومن جعل
الضمير في ) رَجْعِهِ ( وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب أو الإحليل . أو
إلى الحالة الأولى نصب الظرف بمضمر ) تُبْلَى السَّرَائِرُ ( ما أسرّ في القلوب من
العقائد والنيات وغيرها ، وما أخفى من الأعمال وبلاؤها . تعرّفها وتصفحها ،
والتمييز بين ما طاب منها وما خبث وعن الحسن أنه سمع رجلاً ينشد : سَيَبْقَى لَهَا
في مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا
سَرِيرَةُ وُدٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
فقال : ما أغفله عما في ) وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ ( ) فَمَا لَهُ ( فما للإنسان
) مِن قُوَّةٍ ( من منعة في نفسه يمتنع بها ) وَلاَ نَاصِرٍ ( ولا مانع يمنعه .
) وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالاّرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ
فَصْلٌ وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ (
الطارق : ( 11 - 14 ) والسماء ذات الرجع
سمي المطر زجعاً ، كما سمي أوباً قال : رَبَّاءُ شَمَّاءُ لاَ يَأْوِي لِقُلتِهَا
إلاَّ السَّحَابُ وَإلاَّ الأوْبُ والسَّبلُ
تسمية بمصدرى : رجع ، وآب ؛ وذلك أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ السحاب يحمل الماء من
بحار الأرض ، ثم يرجعه إلى الأرض . أو أرادوا التفاؤل فسموه رجعاً . وأوبا ، ليرجع
ويؤب . وقيل : لأنّ الله يرجعه وقتاً فوقتاً . قالت الخنساء : كالرجع في المدجنة
السارية . والصدع : ما يتصدّع عنه الأرض من النبات ) إِنَّهُ ( الضمير للقرآن )
فَصْلٌ ( فاصل بين الحق والباطل ، كما قيل له فرقان ) وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ (
يعني أنه جدّ كله لا هوادة فيه . ومن حقه وقد وصفه الله بذلك أن يكون مهيباً في
الصدور ، معظماً في القلوب ، يترفع به قارئه وسامعه وأن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح ،
وأن يلقى ذهنه إلى أنّ جبار السموات يخاطبه فيأمره وينهاه ، ويعده وبوعده ، حتى إن
لم يستفزه الخوف ولم تتبالغ فيه الخشية ، فأدنى أمره أن يكون جادّا غير هازل ، فقد
نعى الله ذلك على المشركين
" صفحة رقم 738 "
في قوله : ) وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ( ( النجم : 60
61 ) ، ) وَالْغَوْاْ فِيهِ ( ( فصلت : 26 ) .
) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ
أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (
الطارق : ( 15 ) إنهم يكيدون كيدا
) إِنَّهُمْ ( يعني أهل مكة يعملون المكايد في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق ،
وأنا أقابلهم بكيدي : من استدراجي لهم وانتظاري بهم الميقات الذي وقته للانتصار
منهم ) فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ ( يعني لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به )
أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ( أي إمهالا يسيراً ؛ وكرّر وخالف بين اللفظين لزيادة
التسكين منه والتصبير .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1290 ) ( من قرأ سورة الطارق أعطاه الله بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات ) .
" صفحة رقم 739 "
( سورة الأعلى )
مكية ، وآياتها 19 ( نزلت بعد التكوير )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاّعْلَى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ
فَهَدَى وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى (
الأعلى : ( 1 ) سبح اسم ربك . . . . .
تسبيح اسمه عز وعلا : تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني التي هي إلحاد في أسمائه ،
كالجبر والتشبيه ونحو ذلك ، مثل أن يفسر الأعلى بمعنى العلو الذي هو القهر
والاقتدار ، لا بمعنى العلوّ في المكان والاستواء على العرش حقيقة ؛ وأن يصان عن
الابتذال والذكر ، لا على وجه الخشوع والتعظيم . ويجوز أن يكون ) الاّعْلَى ( صفة
للرب ، والاسم ؛ وقرأ علي رضي الله عنه : سبحان ربي الأعلى . وفي الحديث
( 1291 ) لما نزلت : فسبح باسم ربك العظيم ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
: ( اجعلوها في ركوعكم ) فلما نزل سبح اسم ربك الأعلى قال : ( اجعلوها في سجودكم )
وكانوا يقولون في الركوع : اللهم لك ركعت ، وفي السجود : اللهم لك سجدت ) خَلَقَ
فَسَوَّى ( أي خلق كل شيء فسوّى خلقه تسوية ، ولم يأت به متفاوتا غير ملتئم ، ولكن
على إحكام واتساق ، ودلالة على أنه صادر عن عالم ، وأنه صنعة حكيم ) قَدَّرَ
فَهَدَى ( قدّر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به يحكى أنّ
الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت ، وقد ألهمها الله أنّ مسح العين بورق
الرازيانج الغض يرد إليها بصرها ، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام
فتطوى تلك المسافة على طولها وعلى عماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة
الرازيانج لا تخطئها ، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن الله وهدايات الله
للإنسان إلى ما لا يحدّ من مصالحه وما لا يحصر من حوائجه في أغذيته وأدويته ، وفي
أبواب دنياه ودينه ، وإلهامات البهائم والطيور وهوام
" صفحة رقم 740 "
الأرض : باب واسع ، وشوط بطين ، لا يحيط به وصف واصف ؛ فسبحان ربي الأعلى . وقرىء
: ( قدر ) بالتخفيف ) أَحْوَى ( صفة لغثاء ، أي ) أَخْرَجَ الْمَرْعَى ( أنبته )
فَجَعَلَهُ ( بعد خضرته ورفيفه ) غُثَاء أَحْوَى ( دربنا أسود . ويجوز أن يكون )
أَحْوَى ( حالا من المرعى ، أي : أخرجه أحوى أسود من شدّة الخضرة والري ، فجعله
غثاء بعد حوّيه .
) سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ
وَمَا يَخْفَى (
الأعلى : ( 6 ) سنقرئك فلا تنسى
بشره الله بإعطاء آية بينة ، وهي : أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو
أمي لا يكتب ولا يقرأ ، فيحفظه ولا ينساه ) إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ( فذهب به عن
حفظه برفع حكمه وتلاوته ، كقوله : ) أَوْ نُنسِهَا ( ( البقرة : 106 ) وقيل : كان
يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل ، فقيل : لا تعجل ، فإنّ جبريل مأمور بأن يقرأه عليك
قراءة مكررة إلى أن تحفظه ؛ ثم لا تنساه إلا ما شاء الله ، ثم تذكره بعد النسيان .
أو قال : إلا ما شاء الله ، يعني : القلة والندرة ، كما روى
( 1292 ) أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة ، فحسب أبي أنها نسخت ، فسأله فقال :
نسيتها أو قال : إلا ما شاء الله الغرض نفى النسيان رأساً كما يقول الرجل لصاحبه
أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء الله ولا يقصد استثناء شيء وهو استعمال القلة في
معنى النفي . وقيل قوله : ) فَلاَ تَنسَى ( على النهي ، والألف مزيدة للفاصلة ،
كقوله : ) السَّبِيلاْ ( ( الأحزاب : 67 ) ، يعني : فلا تغفل قراءته وتكريره
فتنساه ، إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة ) إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ ( يعني أنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام مخافة التفلت ،
والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر ، فلا تفعل ، فأنا أكفيك ما
تخافه . أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم ، وما ظهر وبطن من
أحوالكم ، وما هو مصلحة لكم في دينكم ومفسدة فيه ،
" صفحة رقم 741 "
فينسى من الوحي ما يشاء ؛ ويترك محفوظاً ما يشاء .
) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن
يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الاٌّ شْقَى الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ
لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا (
الأعلى : ( 8 ) ونيسرك لليسرى
) وَنُيَسّرُكَ لِلْيُسْرَى ( معطوف على ) سَنُقْرِئُكَ ( وقوله : ) إِنَّهُ
يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ( اعتراض ومعناه : ونوفقك للطريقة التي هي أيسر
وأسهل ، يعني : حفظ الوحي . وقيل للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع وأسهلها
مأخذاً . وقيل : نوفقك لعمل الجنة . فإن قلت : كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
مأموراً بالذكرى نفعت أو لم تنفع ، فما معنى اشتراط النفع ؟ قلت : هو على وجهين ،
أحدهما : أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم ، وما
كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّاً وطغياناً ، وكان النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) يتلظى تحسرة وتلهفاً ويزداد جداً في تذكيرهم وحرصاً عليه ، فقيل له : )
وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (
( ق : 45 ) ، ) وَأَعْرِض عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ( ( الزخرف : 89 ) ، ) فَذَكّرْ
إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى ( وذلك بعد إلزام الجة بتكرير التذكير . والثاني : أن
يكون ظاهره شرطاً ، ومعناه ذمّا للمذكرين ، وإخباراً عن حالهم ، واستبعاداً لتأثير
الذكرى فيهم ، وتسجيلاً عليهم بالطبع على قلوبهم ، كما تقول للواعظ : عظ المكاسين
إن سمعوا منك . قاصداً بهذا الشرط استبعاد ذلك ، وأنه لن يكون ) سَيَذَّكَّرُ (
فيقبل التذكرة وينتفع بها ) مَن يَخْشَى ( الله وسوء العاقبة ، فينظر ويفكر حتى
يقوده النظر إلى اتباع الحق : فأمّا هؤلاء فغير خاشين ولا ناظرين ، فلا تأمل أن
يقبلوا منك ) وَيَتَجَنَّبُهَا ( ويتجنب الذكرى ويتحاماها ) الاٌّ شْقَى ( الكافر
؛ لأنه أشقى من الفاسق . أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) . وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة ) النَّارَ
الْكُبْرَى ( السفلى من أطباق النار وقيل ) الْكُبْرَى ( نار جهنم . والصغرى نار
الدنيا وقيل ) ثُمَّ ( لأنّ الترجح بين الحياة والموت أفظع من الصلى ، فهو متراخ
عنه في مراتب الشدّة والمعنى : لا يموت فيستريح ، ولا يحيى حياة تنفعه .
) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ
الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
" صفحة رقم 742 "
(
الأعلى : ( 14 ) قد أفلح من . . . . .
) تَزَكَّى ( تطهر من الشرك والمعاصي . أو تطهر للصلاة . أو تكثر من التقوى ، من
الزكاة وهو النماء . أو تفعل من الزكاة ، كتصدق من الصدقة ) فَصَلَّى ( أي الصلوات
الخمس ، نحو قوله : ) لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( ( البقرة : 177 ) ، وعن
ابن مسعود : رحم الله امرأة تصدق وصلى . وعن علي رضي الله عنه التصدق بصدقة الفطر
وقال : لا أبالي أن لا أجد في كتابي غيرها ، لقوله ( قد أفلح من تزكى ) أي أعطى
زكاة الفطر ، فتوجه إلى المصلى ، فصلى صلاة العيد ، وذكر اسم ربه فكبر تكبيرة
الإفتتاح وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنها ليست من الصلاة لأن
الصلاة معطوفة عليها ، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل . وعن ابن
عباس رضي الله عنه : ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له . وعن الضحاك : وذكر
اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد ) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواةَ
الدُّنْيَا ( فلا تفعلون ما تفلحون به . وقرىء : ( يؤثرون ) على الغيبة . ويعضد
الأولى قراءة ابن مسعود : بل أنتم تؤثرون ) خَيْرٌ وَأَبْقَى ( أفضل في نفسها
وأنعم وأدوم . وعن عمر رضي الله عنه : ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب .
) إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاٍّ ولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (
الأعلى : ( 18 - 19 ) إن هذا لفي . . . . .
) هَاذَا ( إشارة إلى قوله : ) قَدْ أَفْلَحَ ( إلى ) أَبْقَى ( يعني أنّ معنى هذا
الكلام وارد في تلك الصحف . وقيل : إلى ما في السورة كلها . وروي :
( 1293 ) عن أبي ذر رضي الله عنه ( أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : كم
أنزل الله من
" صفحة رقم 743 "
كتاب ؟ فقال : مائة وأربعة كتب ، منها على آدم : عشر صحف ، وعلى شيث : خمسون صحيفة
، وعلى أخنوخ وهو إدريس : ثلاثون صحيفة ، وعلى إبراهيم : عشر صحائف والتوراة ،
والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ) وقيل : إنّ في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون
حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
:
( 1294 ) ( من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله على
إبراهيم وموسى ومحمد ) .
( 1296 ) وكان إذا قرأها قال : سبحان ربي الأعلى وكان علي وابن عباس يقولان ذلك .
( 195 ) وكان يحبها
( 1297 ) وقال : أول من قال ( سبحان ربي الأعلى ) مكيائيل .
" صفحة رقم 744 "
( سورة الغاشية )
مكية ، وآياتها 26 ( نزلت بعد الذاريات )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (
الغاشية : ( 1 ) هل أتاك حديث . . . . .
) الْغَاشِيَةِ ( الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها . يعني
القيامة ، من قوله : ) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ ( ( العنكبوت : 55 ) ، وقيل
: النار ، من قوله : ) وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ( ( إبراهيم : 50 ) ، )
وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( ( الأعراف : 41 ) ، ) يَوْمَئِذٍ ( يوم إذ غشيت )
خَاشِعَةٌ ( ذليلة ) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ( تعمل في النار عملاً تتعب فيه ، وهو
جرها السلاسل والأغلال ، وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وارتقاؤها
دائبة في صعود من نار ، وهبوطها في حدور منها . وقيل : عملت في الدنيا أعمال السوء
والتذت بها وتنعمت ، فهي في نصب منها في الآخرة ، وقيل : عملت ونصبت في أعمال لا
تجدي عليها في الآخرة . من قوله ) وَقَدِمْنَا إِلاَّ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ (
( الفرقان : 23 ) . ) وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( ( الكهف
: 104 ) ، ) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ( ( آل عمران : 22 ) ،
وقيل : هم أصحاب الصوامع ، ومعناه : أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من
الصوم الدائب ، والتهجد الواصب وقرىء ( عاملة ناصبة ) على الشتم . قرىء ( تصلى )
بفتح التاء . وتصلى بضمها . وتصلى بالتشديد . وقيل : المصلى عند العرب : أن يحفروا
حفيراً فيجمعوا فيه جمراً كثيراً ، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه ، فأما ما يشوى
فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور ، فلا يسمى مصلياً ) ءانِيَةٍ ( متناهية في
الحرّ ، كقوله : ) وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ ( ( الرحمن : 44 ) الضريع يبيس
" صفحة رقم 745 "
الشبرق ، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً ، فإذا يبس تحامته الإبل وهو
سم قاتل قال أبو ذؤيب : رَعَى الشِّبْرِقَ الرَّيَّانَ حَتَّى إذَا ذَوَى
وَعَادَ ضَرِيعاً بَانَ عَنْهُ النَّحَائِصُ
وقال : وَحُبِسَ فِي هَزْمِ الضِّرِيعِ فَكُلْهَا
حَدْبَاءُ دَامِيَةُ الْيَدَيْنِ حَرُودُ
فإن قلت : كيف قيل ) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ( وفي الحاقة ) لا
طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ( ( الحاقة : 36 ) قلت : العذاب ألوان ، والمعذبون
طبقات ؛ فمنهم أكلة الزقوم ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع : ( لكل باب
منهم جزء مقسوم ) لاَّ يُسْمِنُ ( مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام . أو ضريع ،
يعني : أنّ طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس ، وإنما هو شوك والشوك مما ترعاه
الإبل وتتولع به . وهذا نوع منه تنضر عنه ولا تقربه . ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه
: وهما إماطة الجوع ، وإفادة القوّة والسمن في البدن . أو أريد : أن لا طعام لهم
أصلاً : لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس ؛ لأن الطعام ما أشبع أو
أسمن ، وهو منهما بمعزل كما تقول ليس لفلان ظل إلا الشمس ، تريد : نفي الظل على
التوكيد . وقيل : قالت كفار قريش : إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت ) لاَّ
يُسْمِنُ ( فلا يخلوا إما أن يتكذبوا ويتعنتوا بذلك وهو الظاهر ، فيردّ قولهم بنفي
السمن والشبع . وإما أن يصدقوا فيكون المعنى : أن طعامهم من ضريع ليس من جنس
ضريعكم ، إنما هو من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع .
) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لاَّ
يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا
رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ
جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ
مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ
الغاشية : ( 2 ) وجوه يومئذ خاشعة
" صفحة رقم 746 "
(
) نَّاعِمَةٌ ( ذات بهجة وحسن ، كقوله : ) تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ
النَّعِيمِ ( ( المطففين : 24 ) ، أو متنعمة ) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ( رضيت
بعملها لما رأيت ما أدّاهم إليه من الكرامة والثواب ) عَالِيَةٍ ( من علو المكان
أو المقدار ) لاَّ تَسْمَعُ ( يا مخاطب . أو الوجوه ) لَاغِيَةً ( أي لغوا ، أو
كلمة ذات لغو . أو نفساً تلغو ، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله على ما
رزقهم من النعيم الدائم . وقرىء : ( لا تسمع ) على البناء للمفعول بالتاء والياء )
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ( يريد عبوناً في غاية الكثرة ، كقوله : ) عَلِمَتْ
نَفْسٌ ( ( التكوير : 14 ) ، ) مَّرْفُوعَةٍ ( من رفعة المقدار أو السمك ، ليرى
المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله ربه من الملك والنعيم . وقيل : مخبوءة لهم ، من
رفع الشيء إذا خبأه ) مَّوْضُوعَةٌ ( كلما أرادوها وجدوها موضوعة بين أيديهم عتيدة
حاضرة ، لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها . أو موضوعة على حافات العيون معدّة للشرب .
ويجوز أن يراد : موضوعة عن حد الكبار ، أوساط بين الصغر والكبر ، كقوله : )
قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ( ( الإنسان : 16 ) ) مَصْفُوفَةٌ ( بعضها إلى جنب بعض .
مساند ومطارح ، أينما أراد أن يجلس على مسورة واستند إلى أخرى ) وَزَرَابِيُّ (
وبسط عراض فاخرة . وقيل : هي الطنافس التي لها خمل رقيق . جمع زربية ) مَبْثُوثَةٌ
( مبسوطة أو مفرقة في المجالس .
) أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ
رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الاٌّ رْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ
فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن
تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيْعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاٌّ كْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَآ
إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (
الغاشية : ( 17 - 26 ) أفلا ينظرون إلى . . . . .
) أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ ( نظر اعتبار ) كَيْفَ خُلِقَتْ ( خلقاً
عجيباً ، دالاً على تقدير مقدر ، شاهداً بتدبير مدبر ، حيث خلقها للنهوض بالأثقال
وجرها إلى البلاد الشاحطة فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ، ثم تنهض بما حملت ،
وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمّنها : لا تعاز ضعيفاً ولا تمانع صغيراً ،
وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار . وعن بعض الحكماء . أنه حدث عن البعير وبديع
خلقه ، وقد نشأ في بلاد لا إبل بها ، ففكر ثم قال : يوشك أن تكون طوال الأعناق ،
وحين أراد بها أن تكون سفائن البر صبرها على احتمال العطش ؛ حتى إن أظماءها لترتفع
إلى العشر فصاعداً ، وجعلها ترعى كل
" صفحة رقم 747 "
شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا يرعاه سائر البهائم . وعن سعيد بن جبير قال :
لقيت شريحاً القاضي فقلت : أين تريد ؟ قال : أريد الكناسة : قلت : وما تصنع بها ؟
قال : أنظر إلى الإبل كيف خلقت . فإن قلت : كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال
والأرض ولا مناسبة ؟ قلت : قد انتظم هذه الأشياء نظر العرب في أوديتهم وبواديهم ؛
فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم ، ولم يدع من زعم أن الإبل السحاب إلى
قوله : إلا طلب المناسبة ، ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ، كالغمام
والمزن والرباب والغيم والغين ، وغير ذلك ، وإنما رأى السحاب مشبها بالإبل كثيراً
في أشعارهم ، فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز ) كَيْفَ رُفِعَتْ
( رفعاً بعيد المدى بلا مساك وبغير عمد . ) كَيْفَ نُصِبَتْ ( نصبا ثابتاً ، فهي
راسخة لا تميل ولا تزول و ) كَيْفَ سُطِحَتْ ( سطحاً بتمهيد وتوطئة ، فهي مهاد
للمتقلب عليها . وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( خلقت ) ورفعت ؛ ونصبت ،
وسطحت : على البناء للفاعل وتاء الضمير ، والتقدير : فعلتها . فحذف المفعول . وعن
هرون الرشيد أنه قرأ : ( سطحّت ) بالتشديد والمعنى : أفلا ينظرون إلى هذه
المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق ، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا
إنذار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه . أي : لا ينظرون
، فذكرهم ولا تلح عليهم ، ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يذكرون ) إِنَّمَا أَنتَ
مُذَكّرٌ ( كقوله : ) إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( ( الشورى : 48 ) . )
لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ( بمتسلط ، كقوله : ) وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ
بِجَبَّارٍ ( ( ق : 45 ) ، وقيل : هو في لغة تميم مفتوح الطاء ؛ على أن ( سيطر )
معتد عندهم وقولهم : تسيطر ، يدل عليه ) إِلاَّ مَن تَوَلَّى ( استثناء منقطع ، أي
: لست بمستول عليهم ، ولكن من تولى ) وَكَفَرَ ( منهم ؛ فإن لله الولاية والقهر .
فهو يعذبه ) الْعَذَابَ الاْكْبَرَ ( الذي هو عذاب جهنم . وقيل : هو استثناء من
قوله : ) فَذَكّرْ ( أي : فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى ، فاستحق العذاب
الأكبر وما بينهما اعتراض . وقرىء ( إلا من تولى ) على التنبيه . وفي قراءة ابن
مسعود ( فإنه يعذبه ) وقرأ أبو جعفر المدني ( إيابهم ) بالتشديد . ووجهه أن يكون (
فيعالا ) مصدر ( أيب ) فيعل من الإياب . أو أن يكون أصله أوّاباً : فعالاً من أوّب
، ثم قيل : إيواباً كديوان في دوّان ، ثم فعل به ما فعل بأصل : سيد وميت . فإن قلت
: ما
" صفحة رقم 748 "
معنى تقديم الظرف ؟ قلت : معناه التشديد في الوعيد ، وأن إيابهم ليس إلا إلى
الجبار المقتدر على الانتقام ، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه ، وهو الذي يحاسب
على النقير والقطمير . ومعنى الوجوب : الوجوب في الحكمة ، عن رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) :
( 1298 ) ( من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله حساباً يسيراً ) .
" صفحة رقم 749 "
( سورة الفجر )
مكية ، وآياتها 30 وقيل 29 ( نزلت بعد الليل )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ
هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ (
الفجر : ( 1 ) والفجر
أقسم بالفجر كما أقسم بالصبح في قوله : ) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( ( المدثر :
34 ) ، ) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ( ( التكوير : 18 ) ، وقيل : بصلاة الفجر .
أراد بالليالي العشر : عشر ذي الحجة . فإن قلت : فما بالها منكرة من بين ما أقسم
به ؟ قلت : لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي : العشر بعض منها . أو مخصوصة
بفضيلة ليست لغيرها . فإن قلت : فهلا عرفت بلام العهد ، لأنها ليال معلومة معهودة
؟ قلت : لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير ؛ ولأن الأحسن أن تكون
اللامات متجانسة ، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية ، وبالشفع والوتر : إما
الأشياء كلها شفعها ووترها ، وإما شفع هذه الليالي ووترها . ويجوز أن يكون شفعها
يوم النحر ، ووترها يوم عرفة ، لأنه تاسع أيامها وذاك عاشرها ، وقد
( 1299 ) روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه فسرهما بذلك . وقد أكثروا في
الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه ، وذلك قليل الطائل ، جدير
بالتلهي عنه ، وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم ) إِذَا
يَسْرِ ( إذا يمضي ؛ كقوله : ) وَالَّيْلِ إِذَا أَدْبَرَ ( ( المدثر : 33 ) ، )
وَالَّيْلِ إِذْ عَسْعَسَ ( ( التكوير : 17 ) ، وقرىء
" صفحة رقم 750 "
( والوتر ) بفتح الواو ، وهما لغتان كالحبر والحبر في العدد ، وفي الترة : الكسر
وحده . وقرىء ( الوتر ) بفتح الواو وكسر التاء : رواها يونس عن أبي عمرو ، وقرىء (
والفجر ) والوتر ، ويسر : بالتنوين ، وهو التنوين الذي يقع بدلاً من حرف الإطلاق .
وعن ابن عباس : وليال عشر ، بالإضافة يريد : وليال أيام عشر . وياء ) يَسْرِ (
تحذف في الدرج ، اكتفاء عنها بالكسرة ، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة ، وقيل :
معنى ( يسرى ) يسرى فيه ) هَلْ فِى ذَلِكَ ( أي فيما أقسمت به من هذه الأشياء )
قَسَمٌ ( أي مقسم به ) لِّذِى حِجْرٍ ( يريد : هل يحق عنده أن تعظم بالإقسام بها .
أو : هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر ، أي : هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم
عليه . والحجر : العقل ؛ لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي ، كما سمى عقلا ونهية
؛ لأنه يعقل وينهى . وحصاة : من الإحصاء وهو الضبط وقال الفراء : يقال : إنه لذو
حجر ، إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها ؛ والمقسم عليه محذوف وهو ( ليعذبن ) يدل
عليه قوله : ) أَلَمْ تَرَ ( ( البقرة : 243 ) ، إلى قوله : ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ
رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( ( الفجر : 13 ) .
) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى
لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ
بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى الاٌّ وْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ
رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (
الفجر : ( 6 ) ألم تر كيف . . . . .
قيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عاد ، كما يقال لبني هاشم : هاشم . ثم
قيل للأوّلين منهم عاد الأولى وإرم ، تسمية لهم باسم جدّهم ، ولمن بعدهم : عاد
الأخيرة . قال ابن الرقيات : مَجْداً تَلِيداً بَنَاهُ أَوَّلُه
أَدْرَكَ عَاداً وَقَبْلَهَا إرَمَا
فإرم في قوله ) بعاد ( عطف بيان لعاد ، وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة . وقيل :
) إِرَمَ ( بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها ويدل عليه قراءة ابن الزبير ( بعاد إرم
) على الإضافة وتقديره : بعاد أهل إرم ، كقوله : ) وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ ( ( يوسف
: 82 ) ، ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث . وقرأ الحسن : ( بعاد
أرم ) ، مفتوحتين . وقرىء ( بعاد إرم ) بسكون الراء على التخفيف ، كما قرىء : (
بورقكم ) وقرىء ( بعاد إرم
" صفحة رقم 751 "
ذات العماد ) بإضافة إرم إلى ذات العماد . والإرم : العلم ، يعني : بعاد أهل أعلام
ذات العماد . و ) ذَاتِ الْعِمَادِ ( اسم المدينة وقرىء ( بعاد إرمّ ذات العماد )
أي جعل الله ذات العماد رميماً بدلاً من فعل ربك ؛ وذات العماد إذا كانت صفة
للقبيلة ، فالمعنى : أنهم كانوا بدويين أهل عمد ، أو طوال الأجسام على تشبيه
قدودهم بالأعمدة ومنه قولهم : رجل معمد وعمدان : إذا كان طويلاً . وقيل : ذات
البناء الرفيع ، وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى : أنها ذات أساطين . وروي أنه كان
لعاد ابنان : شداد وشديد ؛ فملكا وقهراً ، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد ، فملك الدنيا
ودانت له ملوكها ، فسمع بذكر الجنة فقال أبني مثلها ، فبني إرم في بعض صحاري عدن
في ثلثمائة سنة ، وكان عمره تسعمائة سنة : وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة
، وأساطينها من الزبرجد والياقوت . وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ؛ ولما
تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته ؛ فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله
عليهم صيحة من السماء فهلكوا . وعن عبد الله بن قلابة : أنه خرج في طلب إبل له ،
فوقع عليها ، فحمل ما قدر عليه مما ثم ، وبلغ خبره معاوية فاستحضره ، فقص عليه ،
فبعث إلى كعب فسأله فقال : هي إرم ذات العماد ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك
أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال ، يخرج في طلب إبل له ؛ ثم التفت
فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذلك الرجل ) لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا ( مثل عاد
) فِى الْبِلَادِ ( عظم أجرام وقوّة ، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع ، وكان
يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحي فيهلكهم ، أو لم يخلق مثل مدينة
شدّاد في جميع بلاد الدنيا . وقرأ ابن الزبير ( لم يخلق ملثها ) ، أي : لم يخلق
الله مثلها ) جَابُواْ الصَّخْرَ ( قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتاً ، كقوله
: ) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً ( ( الشعراء : 149 ) قيل : أول من نحت
الجبال والصخور والرخام : ثمود ، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة .
قيل له : ذو الأوتاد ، لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا ، أو
لتعذيبه بالأوتاد ، كما فعل بماشطة بنته وبآسية ) الَّذِينَ طَغَوْاْ ( أحسن
الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم . ويجوز أن يكون مرفوعاً على : هم الذين
طغوا أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون يقال : صب عليه السوط وغشاه
وقنعه ، وذكر السوط : إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب
" صفحة رقم 752 "
العظيم بالقياس إلى ما أعدّلهم في الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به .
وعن عمر بن عبيد : كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال : إن عند الله أسواطاً
كثيرة ، فأخذهم بسوط منها . المرصاد : المكان الذي يترتب فيه الرصد ( مفعال ) من
رصده . كالميقات من وقته . وهذامثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه . وعن
بعض العرب أنه قيل له : أين ربك ؟ فقال : بالمرصاد . وعن عمرو بن عبيد رحمه الله
أنه قرأ هذه السورة عند بعض الظلمة حتى بلغ هذه الآية فقال : إنّ ربك لبالمرصاد يا
فلان ، عرّض له في هذا النداء بأنه بعض من توعد بذلك من الجبابرة ، فالله درّه
أيُّ أسد فرّاس كان بين ثوبيه ، يدق الظلمة بإنكاره ، ويقصع أهل الأهواء والبدع
باحتجاجه .
) فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ
رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ (
الفجر : ( 15 ) فأما الإنسان إذا . . . . .
فإن قلت : بم اتصل قوله ) فَأَمَّا الإِنسَانُ ( ؟ قلت : بقوله : ) إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصَادِ ( كأنه قيل : إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي
للعاقبة ، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي ؛ فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا
العاجلة وما يلذه وينعمه فيها . فإن قلت : فكيف توازن قوله ، فأما الإنسان ، )
إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ( وقوله : ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ ( وحق التوازن
أن يتقابل الواقعان بعد أما وأما ، تقول : أما الإنسان فكفور ، وأما الملك فشكور .
أما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك ؛ وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك ؟ قلت :
هما متوازنان من حيث إنّ التقدير : وأما هو إذا ما ابتلاه ربه ؛ وذلك أن قوله )
فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ ( خبر المبتدأ الذي هو الإنسان ، ودخول الفاء لما في (
أما ) من معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير ، كأنه
قيل : فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء ، فوجب أن يكون ) فَيَقُولُ (
الثاني خبر لمبتدأ واجب تقديره . فإن قلت : كيف سمي كلا الأمرين من بسط الرزق
وتقديره ابتلاء ؟ قلت : لأنّ كل واحد منهما اختبار للعبد ، فإذا بسط له فقد اختبر
حاله أيشكر أو يكفر ؟ وإذا قدر
" صفحة رقم 753 "
عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع ؟ فالحكمة فيهما واحد . ونحوه قوله تعالى : )
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ( ( الأنبياء : 35 ) ، فإن قلت : هلا
قال : فأهانه وقدر عيه رزقه ، كما قال فأكرمه ونعمه ؟ قلت لأن البسط إكرام من الله
لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة ، وأما التقدير فليس بإهانة له ؛ لأنّ
الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ، ولكن تركا للكرامة ، وقد يكون المولى مكرماً
لعبده ومهيناً له ، وغير مكرم ولا مهين ؛ وإذا أهدى لك زيد هدية قلت : أكرمني
بالهدية ، ولا تقول : أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد لك . فإن قلت : فقد قال : )
فَأَكْرَمَهُ ( فصحح إكرامه وأثبته ، ثم أنكر قوله : ) رَبّى أَكْرَمَنِ ( وذمّه
عليه ، كما أنكر قوله : ) أَهَانَنِ ( وذمّه عليه . قلت : فيه جوابان ، أحدهما :
أنه إنما أنكر قوله ربي أكرمن وذمّه عليه ، لأنه قال على قصد خلاف ما صححه الله
عليه وأثبته ، وهو قصده إلى أنّ الله أعطاه ما أعطاه إكراماً له مستحقاً مستوجباً
على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم ، كقوله : ) إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى
عِلْمٍ عِندِى ( ( القصص : 78 ) ، وإنما أعطاه الله على وجه التفضل من غير استيجاب
منه له ولا سابقة ما لا يعتدّ الله إلا به ، وهو التقَّوى دون الأنساب والأحساب
التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها . والثاني : أن ينساق
الإنكار والذمّ إلى قوله : ) رَبّى أَهَانَنِ ( يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير
وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه ، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هواناً
وليس بهوان ، ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله : ) فَأَكْرَمَهُ ( وقرىء (
فقدر ) بالتخفيف والتشديد وأكرمن ، وأهانن : بسكون النون في الوقف ، فيمن ترك
الياء في الدرج مكتفياً منها بالكسرة .
) كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ
" صفحة رقم 754 "
التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (
الفجر : ( 17 ) كلا بل لا . . . . .
) كَلاَّ ( ردع للإنسان عن قوله : ثم قال : بل هناك شرّ من القول . وهو : أنّ الله
يكرمهم بكثرة المال ، فلا يؤدّون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالتفقد والمبرّة
، وحض أهله على طعام المسكين ويأكلونه أكل الأنعام ، ويحبونه فيشحون به وقرىء (
يكرمون ) وما بعده بالياء والتاء . وقرىء ( تحاضون ) أي : يحض بعضكم بعضاً : وفي
قراءة ابن مسعود : ( ولا تحاضون ) بضم التاء ، من المحاضة ) أَكْلاً لَّمّاً ( ذا
لمّ وهو الجمع بين الحلال والحرام . قال الحطيئة : إذَا كَانَ لَمَّا يَتْبَع
الذَّمُّ رَبَّه
فَلاَ قَدَّسَ الرَّحْمانُ تِلْكَ الطَّوَاحِنَا
يعني : أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم من الميراث ونصيب غيرهم . وقيل كانوا لا
يورّثون النساء ولا الصبيان ، ويأكلون تراثهم مع تراثهم . وقيل : يأكلون ما جمعه
الميت من الظلمة ، وهو عالم بذلك فيلم في الأكل بين حلاله وحرامه . ويجوز أن يذمّ
الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا ، من غير أن يعرق فيه جبينه ، فيسرف في إنفاقه ،
ويأكله أكلا واسعاً جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه ،
كما يفعل الورّاث البطالون ) حُبّاً جَمّاً ( كثيراً شديداً مع الحرص والشره ومنع
الحقوق .
) كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الاٌّ رْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ
صَفّاً صَفّاً وَجِىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ
وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى فَيَوْمَئِذٍ
لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (
الفجر : ( 21 ) كلا إذا دكت . . . . .
) كَلاَّ ( ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم . ثم أتي بالوعيد وذكر تحسرهم على ما
فرّطوا فيه حين لا تنفع الحسرة ؛ ويومئذ بدل من ) إِذَا دُكَّتِ الاْرْضُ ( وعامل
النصب فيهما ) يَتَذَكَّرُ ( ) دَكّاً دَكّاً ( دكا بعد دك . كقوله : حسبته بابا
بابا ، أي : كرّر عليها الدك حتى عادت هباء منبثا . فإن قلت : ما معنى إسناد
المجىء إلى الله ، والحركة والانتقال إنما يجوزان على من كان في جهة قلت : هو
تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره
" صفحة رقم 755 "
وسلطانه : مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة
والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم ) صَفّاً
صَفّاً ( ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس ) وَجِىء
يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ( كقوله : ) وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ ( ( النازعات : 36 )
وروي :
( 1300 ) أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعرف في وجهه
حتى اشتدّ على أصحابه ، فأخبروا علياً رضي الله عنه ، فجاء فاحتضنه ومن خلفه وقبله
بين عاتقيه ؛ ثم قال : يا نبيّ الله ، بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم ، ما الذي
غيَّرك ؟ فتلا عليه الآية . فقال علي : كيف يجاء بها ؟ قال : يجيء بها سبعون ألف
ملك يقودونها بسبعين ألف زمام ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع . أي : يتذكر
ما فرّط فيه ، أو يتعظ ) وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى ( ومن أين له منفعة الذكرى ، لا
بد من تقدير حذف المضاف ، وإلا فبين : يوم يتذكر ، وبين ) وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى
( تناف وتناقض ) قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى ( هذه ، وهي حياة الآخرة ، أو وقت حياتي في
الدنيا ، كقولك : جئته لعشر ليال خلون من رجب ؛ وهذا أبين دليل على أن الاختيار
كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم وإرادتهم ، وأنهم لم يكونوا محجوبين عن الطاعات
مجبرين على المعاصي ، كمذهب أهل الأهواء والبدع ، وإلا فما معنى التحسر ؟ قرىء : بالفتح
( يعذب ويوثق ) ، وهي قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن أبي عمرو أنه
رجع إليها في آخر عمره . والضمير للإنسان الموصوف . وقيل : هو أبيّ بن خلف أي : لا
يعذب أحد مثل عذابه ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه ؛ لتناهيه في كفره
وعناده ، أو لا يحمل عذاب الإنسان أحد ، كقوله : ) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى ( ( الإسراء : 15 ) وقرىء بالكسر ، والضمير لله تعالى ، أي : لا يتولى
عذاب الله أحد ؛ لأنّ الأمر لله وحده في ذلك اليوم . أو للإنسان ، أي : لا يعذب
أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه .
) ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى (
الفجر : ( 27 - 29 ) يا أيتها النفس . . . . .
) ياأَيَّتُهَا النَّفْسَ ( على إرادة القول ، أي : يقول الله للمؤمن : ) وَلاَ
تَقْتُلُواْ النَّفْسَ ( إمّا أن يكلمه إكراماً له كما كلم موسى صلوات الله عليه ،
أو على لسان ملك . و ) الْمُطْمَئِنَّةُ ( الآمنة التي لا يستفزّها خوف ولا حزن ،
وهي النفس المؤمنة أو المطمئنة إلى الحق التي
" صفحة رقم 756 "
سكنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك ، ويشهد للتفسير الأوّل ، قراءة أبيّ بن كعب : (
يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة ) فإن قلت : متى يقال لها ذلك ؟ قلت : إمّا عند
الموت . وإمّا عند البعث ، وإمّا عند دخول الجنة . على معنى : ارجعي إلى موعد ربك
) رَّاضِيَةٍ ( بما أوتيت ) مَّرْضِيَّةً ( عند الله ) فَادْخُلِى فِى عِبَادِى (
في جملة عبادي الصالحين ، وانتظمي في سلكهم ) وَادْخُلِى جَنَّتِى ( معهم ، وقيل :
النفس الروح . ومعناه : فادخلي في أجساد عبادي . وقرأ ابن عباس : ( فادخلي في عبدي
) ، وقرأ ابن مسعود : ( في جسد عبدي ) . وقرأ أبيّ : ( ائتي ربك راضية مرضية ،
ادخلي في عبدي ) وقيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب . وقيل : في خبيب بن عدي الذي
صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة ، فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحوّل
وجهي نحو قبلتك ، فحوّل الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوّله ، والظاهر العموم
.
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1301 ) ( من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها في سائر الأيام
كانت له نوراً يوم القيامة ) .
" صفحة رقم 757 "
( سورة البلد )
مكية ، وآياتها 20 ( نزلت بعد ق )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ
وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَن لَّن
يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً أَيَحْسَبُ أَن
لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (
البلد : ( 1 - 7 ) لا أقسم بهذا . . . . .
أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاق
والشدائد ؛ واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله : ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا
الْبَلَدِ ( يعني : ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام
كما يستحل الصيد في غير الحرم . عن شرحبيل : يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا
بها شجرة ، ويستحلون إخراجك وقتلك وفيه تثبيت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم في عداوته ، أو سلى
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالقسم ببلده ، على أنّ الإنسان لا يخلو
من مقاساة الشدائد ؛ واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه . فقال
: وأنت حلّ بهذا البلد ، يعني : وأنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من
القتل والأسر . وذلك أنّ الله فتح عليه مكة وأحلّها له ، وما فتحت على أحد قبله
ولا أحلّت له فأحلّ ما شاء وحرّم ما شاء . قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة .
ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وحرّم دار أبي سفيان ، ثم قال :
( 1302 ) ( إنّ الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة
، لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلاّ ساعة من نهار ، فلا يعضد
شجرها ، ولا يختلي خلاها ، ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلاّ لمنشد . فقال
العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا ؛ فقال ( صلى
الله عليه وسلم ) : ( إلاّ
" صفحة رقم 758 "
الإذخر ) . فإن قلت : أين نظير قوله : ) وَأَنتَ حِلٌّ ( في معنى الاستقبال ؟ قلت
: قوله عزّ وجل : ) إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ( ( الزمر : 30 ) ومثله
واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحباء : أنت مكرم محبو ، وهو في
كلام الله أوسع ؛ لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة . وكفاك دليلاً
قاطعاً على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال : أن السورة بالاتفاق مكية ،
وأين الهجرة عن وقت نزولها ، فما بال الفتح ؟ فإن قلت : ما المراد بوالد وما ولد ؟
قلت : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولده ، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه
وحرم أبيه إبراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل ، وبمن ولده وبه . فإن قلت : لم نكر ؟ قلت :
للإبهام المستقل بالمدح والتعجب . فإن قلت : هلا قيل ومن ولد ؟ قلت : فيه ما في
قوله : ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ( ( آل عمران : 36 ) أي : بأي شيء
وضعت ، يعني موضوعاً عجيب الشأن . وقيل : هما آدم وولده . وقيل : كل والد وولد .
والكبد : أصله من قولك : كبد الرجل كبداً ، فهو أكبد : إذا وجعت كبده وانتفخت ،
فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة . ومنه اشتقت المكابدة ، كما قيل : كبته
بمعى أهلكه . وأصله : كبده ، إذا أصاب كبده . قال لبيد : يَا عَيْنُ هَلاَّ بكيتِ
أَرْبَدَ إذ
قُمْنَا وَقَامَ الْخُصُومُ فِي كَبَدِ
أي : في شدة الأمر وصعوبة الخطب .
والضمير في ) أَيَحْسَبُ ( لبعض صناديد قريش الذي كان رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) يكابد منهم ما يكابد . والمعنى : أيظن هذا الصنديد القوي في قومه المتضعف
للمؤمنين : أن لن تقوم قيامة ، ولن يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو
عليه ، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم ، وأنه يقول : ) أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً
( يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ، ويدعونها معالي
ومفاخر ) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس
وافتخاراً بينهم ، يعني : أن الله كان يراه وكان عليه رقيباً . ويجوز أن يكون
الضمير للإنسان ، على أن يكون المعنى : أقسم بهذا البلد الشريف ، ومن شرفه أنك حلّ
به مما يقترفه أهله من المآثم متحرج برىء ، فهو حقيق بأن أعظمه بقسمي به ) لَقَدْ
خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ( أي : في مرض : وهو مرض القلب وفساد الباطن ،
يريد : الذين علم الله منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات . وقيل
: الذي يحسب أن لن
" صفحة رقم 759 "
يقدر عليه أحد : هو أبو الأشد ، وكان قوياً يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه
ويقول : من أزالني عنه فله كذا ، فلا ينزع إلاّ قطعاً ويبقى موضع قدميه . وقيل :
الوليد بن المغيرة ( لبدا ) قرىء بالضم والكسر : جمع لبدة ولبدة ، وهو ما تلبد
يريد الكثرة : وقرىء : ( لبداً ) بضمتين : جمع لبود . ولبدا : بالتشديد جمع لا بدّ
.
) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ
النَّجْدَينِ فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ
رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ
مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (
البلد : ( 8 ) ألم نجعل له . . . . .
) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( يبصر بهما المرئيات ) وَلِسَاناً ( يترجم به
عن ضمائره ) وَشَفَتَيْنِ ( يطبقهما على فيه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب
والنفخ وغير ذلك ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( أي : طريقي الخير والشر . وقيل :
الثديين ) فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( يعني : فلم يشكر تلك الأيادي والنعم
بالأعمال الصالحة : من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين ، ثم بالإيمان الذي هو
أصل كل طاعة ، وأساس كل خير ؛ بل غمط النعم وكفر بالمنعم . والمعنى : أن الإنفاق
على هذا الوجه هو الإنفاق المرضي النافع عند الله ، لا أن يهلك مالاً لبداً في
الرياء والفخار ، فيكون مثله ) كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ
قَوْمٍ ( ( آل عمران : 117 ) الآية . فإن قلت : قلما تقع ( إلا ) الداخلة على الماضي
إلاّ مكرره ، ونحو قوله : فَأَيُّ أَمْرٍ سَيِّىءٍ لاَ فَعَلَه ;
لا يكاد يقع ، فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح ؟ قلت : هي متكرّرة في المعنى ؛
لأن معنى ) فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( فلا فكّ رقبة ، ولا أطعم مسكيناً . ألا
ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك . وقال الزجاج قوله : ( ثم كان من الذين أمنوا )
يدل على معنى : ) فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( ، ولا آمن . والاقتحام : الدخول
والمجاوزة بشدّة ومشقة . والقحمة : الشدة ، وجعل الصالحة : عقبة ، وعملها :
اقتحاماً لها ، لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس . وعن الحسن : عقبة
والله شديدة . مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدّوه الشيطان . وفكّ الرقبة : تخليصها
من رق أو غيره . وفي الحديث :
( 1303 ) أن رجلاً قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : دلني على عمل يدخلني
الجنة . فقال :
" صفحة رقم 760 "
تعتق النسمة وتفك الرقبة . قال : أو ليسا سواء ؟ قال : لا ، إعتاقها أن تنفرد
بعتقها . وفكها : أن تعين في تخليصها من قود أو غرم . والعتق والصدقة : من أفاضل
الأعمال . وعن أبي حنيفة رضي الله عنه : أن العتق أفضل من الصدقة . وعن الشعبي في
رجل عنده فضل نفقة : أيضعه في ذي قرابة ، أو يعتق رقبة ؟ قال : الرقبة أفضل ، لأن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال :
( 1304 ) ( من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضواً منه من النار ) . قرىء : ( فك
رقبة ) أو إطعام ) على : هي فك رقبة ، أو إطعام . وقرىء : ( فك رقبة ) أو أطعم ،
على الإبدال من اقتحم العقبة . وقوله : ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (
اعتراض ، ومعناه : أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله .
والمسغبة ، والمقربة ، والمتربة : مفعلات من سغب : إذا جاع . وقرب في النسب ، يقال
: فلان ذو قرابتي . وذو مقربتي . وترب : إذا افتقر ، ومعناه . التصق بالتراب .
وأما أترب فاستغنى ، أي : صار ذا مال كالتراب في الكثرة ، كما قيل : أثري .
( 1305 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : ) ذَا مَتْرَبَةٍ ( الذي
مأواه المزابل ، ووصف اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويون في قولهم : هم ناصب :
ذو نصب . وقرأ الحسن : ( ذا مسغبة ) نصبه بإطعام . ومعناه : أو إطعام في يوم من
الأيام ذا مسغبة .
) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ
بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ
بِأايَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ (
البلد : ( 17 - 20 ) ثم كان من . . . . .
) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في
الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة ، لا في الوقت ؛ لأن الإيمان هو السابق المقدّم
على غيره ، ولا يثبت عمل صالح إلاّ به . والمرحمة : الرحمة ، أي : أوصى بعضهم
بعضاً بالصبر على الإيمان
" صفحة رقم 761 "
والثبات عليه . أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن ،
وبأن يكونوا متراحمين متعاطفين . أو بما يؤدي إلى رحمة الله . الميمنة والمشأمة :
اليمين والشمال . أو اليمن والشؤم ، أي : الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهنّ .
قرىء : ( موصدة ) بالواو والهمزة ، ومن وصدت الباب وآصدته : إذا أطبقته وأغلقته .
وعن أبي بكر بن عياش : لنا إمام يهمز مؤصدة ؛ فأشتهي أن أسدّ إذني إذا سمعته .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1306 ) ( من قرأ لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة ) .
" صفحة رقم 762 "
( سورة الشمس )
مكية ، وآياتها 15 ( نزلت بعد القدر )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا
وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا وَالاٌّ رْضِ وَمَا
طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ
أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (
الشمس : ( 1 ) والشمس وضحاها
ضحاها : ضؤوها إذا أشرقت وقام سلطانها ؛ ولذلك قيل : وقت الضحى ، كأن وجهه شمس
الضحى . وقيل : الضحوة ارتفاع النهار . والضحى فوق ذلك . والضحاء بالفتح والمد :
إذا امتد النهار وقرب أن ينتصف ) إِذَا تَلاهَا ( طالعاً عند غروبها آخذاً من
نورها ؛ وذلك في النصف الأوّل من الشهر . وقيل : إذا استدار فتلاها في الضياء
والنور ) إِذَا جَلَّاهَا ( عند انتفاخ النهار وانبساطه ، لأن الشمس تنجلي في ذلك
الوقت تمام الانجلاء . وقيل : الضمير للظلمة ، أو للدنيا ، أو للأرض ، وإن لم يجر
لها ذكر ، كقولهم : أصبحت باردة : يريدون الغداة ، وأرسلت : يريدون السماء إذا
يغشاها ، فتغيب وتظلم الآفاق ، فإن قلت : الأمر في نصب ( إذا ) معضل : لأنك لا
تخلو إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها وتجر ، فتقع في العطف على عاملين في نحو
قولك : مررت أمس بزيد ، واليوم عمرو . وإما أن تجعلهن للقسم ، فتقع فيما اتفق الخليل
وسيبويه على استكراهه . قلت : الجواب فيه أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل
إطراحاً كلياً ، فكان لها شأن خلاف شأن الباء ، حيث أبرز معها الفعل وأضمر ، فكانت
الواو قائمة مقام الفعل والباء سادّة مسدهما معاً ، والواوات العواطف نوائب عن هذه
الواو ، فحققن أن يكن عوامل على الفعل والجار جميعاً ، كما تقول : ضرب زيد عمراً ،
وبكر خالداً ؛ فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما . جعلت ( ما )
مصدرية في قوله : ) وَمَا بَنَاهَا ( ) وَمَا طَحَاهَا ( ) وَمَا سَوَّاهَا ( وليس
بالوجه لقوله : ) فَأَلْهَمَهَا ( وما يؤدي إليه من فساد النظم ، والوجه أن تكون
موصولة ، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية ،
" صفحة رقم 763 "
كأنه قيل : والسماء ، والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس ، والحكيم الباهر الحكمة
الذي سواها ، وفي كلامهم : سبحان ما سخركن لنا . فإن قلت : لم نكرت النفس ؟ قلت :
فيه وجهان ، أحدهما : أن يريد نفساً خاصة من بين النفوس وهي نفس آدم ، كأنه قال :
وواحدة من النفوس . والثاني : أن يريد كل نفس وينكر للتكثير على الطريقة المذكورة
في قوله : ) عَلِمَتْ نَفْسٌ ( ( التكوير : 14 ) . ومعنى إلهام الفجور والتقوى :
إفهامهما وإعقالهما ، وأنّ أحدهما حسن والآخر قبيح ، وتمكينه من اختيار ما شاء
منهما بدليل قوله : ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (
فجعله فاعل التزكية ، والتدسية ومتوليهما والتزكية : الإنمار والإعلاء بالتقوى .
والتدسية : النقص والإخفاء بالفجوز .
" صفحة رقم 764 "
وأصل دسى : دسس ، كما قيل في تقضض : تقضى . وسئل ابن عباس عنه فقال : أتقرأ : )
قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( ، ( الأعلى : 14 ) ) وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ
ظُلْماً ( ( طه : 111 ) . وأما قول من زعم أنّ الضمير في زكّى ودسى لله تعالى ، وأنّ
تأنيث الراجع إلى من ؛ لأنه في معنى النفس : فمن تعكيس القدرية الذين يورّكون على
الله قدراً هو بريء منه ومتعال عنه ، ويحيون لياليهم في تمحل فاحشة ينسبونها إليه
، فإن قلت : فأين جواب القسم ؟ قلت : هو محذوف تقديره : ليد مد منّ الله عليهم ،
أي : على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، كما دمدم على ثمود
لأنهم كذبوا صالحاً . وأما ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( فكلام تابع لقوله : )
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم
في شيء .
) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا
فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا
(
الشمس : ( 11 ) كذبت ثمود بطغواها
الباء في ) بِطَغْوَاهَا ( مثلها في : كتبت بالقلم . والطغوى من الطغيان : فصلوا
بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء ، بأن قلبوا الياء واواً في الاسم ،
وتركوا القلب في الصفة ، فقالوا : أمرأة خزيى وصديى ، يعني : فعلت التكذيب
بطغيانها ، كما تقول : ظلمني بجرءته على الله . وقيل : كذبت بما أوعدت به من
عذابها ذي الطغوى كقوله : ) فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ ( ( الحاقة : 5 ) ، وقرأ
الحسن : ( بطغواها ) بضم الطاء كالحسنى والرجعى في المصادر ) إِذِ انبَعَثَ (
مصنوب بكذبت . أو بالطغوى . و ) أَشْقَاهَا ( قدار بن سالف . ويجوز أن يكونوا
جماعة ، والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر
والمؤنث ، وكان يجوز أن يقال : أشقوها ، كما تقول : أفاضلهم . والضمير في ) ( يجوز
أن يكون للأشقين والتفضيل في الشقاوة ، لأنّ من تولى الفقر وباشره كانت شقاوته
أظهر وأبلغ . و ) نَاقَةُ اللَّهِ ( نصب على التحذير ، كقولك الأسد الأسد ، والصبي
الصبي ، بإضمار : ذروا أو أحذروا عقرها ) وَسُقْيَاهَا ( فلا تزووها عنها ، ولا
تستأثروا بها عليها ) فَكَذَّبُوهُ ( فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا )
فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ ( فأطلق عليهم العذاب ، وهو من تكرير قولهم : ناقة مدمومة :
إذا ألبسها الشجم ) بِذَنبِهِمْ ( بسبب ذنبهم . وفيه إنذار عظيم بعاقبه الذنب ،
فعل كل مذنب أن يعتبر ويحذر ) فَسَوَّاهَا ( الضمير للدمدمة ، أي : فسوّاها بينهم
لم يفلت منها صغيرهم ولا
" صفحة رقم 765 "
كبيرهم ) وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ( أي : عاقبتها وتبعتها ؛ كما يخاف كل معاقب من
الملوك فيبقى بعض الإبقاء . ويجوز أن يكون الضمير لثمود على معنى : فسواها بالأرض
. أو في الهلاك ، ولا يخاف عقبى هلاكها . وفي مصاحف أهل المدينة والشأم : فلا يخاف
. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ولم يخف .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1307 ) ( من قرأ سورة الشمس ، فكأنما تصدّق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر ) .
" صفحة رقم 766 "
( سورة الليل )
مكية ، وآياتها 21 ( نزلت بعد الأعلى )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ
وَالاٍّ نثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (
الليل : ( 1 ) والليل إذا يغشى
المغشي : إما الشمس من قوله : ) وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ( ( الشمس : 4 ) وإما
النهار من قوله : ) يَغْشَى وَسَخَّر لَكُمُ ( ( الرعد : 3 ) وإما كلّ شيء يواريه
بظلامه من قوله : ) إِذَا وَقَبَ ( ( الفلق : 3 ) . ) تَجَلَّى ( ظهر بزوال ظلمة
الليل . أو تبين وتكشف بطلوع الشمس ) وَمَا خَلَقَ ( والقادر العظيم القدرة الذي
قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد ، وقيل : هما آدم عليه السلام وحواء . وفي
قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( والذكر والأنثى ) . وقرأ ابن مسعود : (
والذي خلق الذكر والأنثى ) . وعن الكسائي : ( وما خلق الذكر والأنثى بالجرّ على
أنه بدل من محل ) مَا خَلَقَ ( البقرة : 288 ) بمعنى : وما خلقه الله ، أي :
ومخلوق الله الذكر والأنثى . وجاز إضمار اسم الله لأنه معلوم لانفراده بالخلق . إذ
لا خالق سواه . وقيل : إنّ الله لم يخلق خلقاً من ذوي الأرواح ليس بذكر ولا أنثى .
والخنثى ، وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله غير مشكل ، معلوم بالذكورة أو الأنوثة
؛ فلو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكراً ولا أنثى ، ولقد لقى خنثى مشكلاً : كان
حانثاً ؛ لأنه في الحقيقة إمّا ذكراً أو أنثى ، وإن كان مشكلاً عندنا ) شَتَّى (
جمع شتيت ، أي : إنّ مساعيكم أشتات مختلفة ، وبيان اختلافهما فيما فصل على أثره .
) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى (
الليل : ( 5 ) فأما من أعطى . . . . .
) أَعْطَى ( يعني حقوق ماله ) وَاتَّقَى ( الله فلم يعصه ) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
( بالخصلة الحسنى : وهي الإيمان . أو بالملة الحسنى : وهي ملة الإسلام ، أو
بالمثوبة الحسنى : وهي الجنة ) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى ( فسنهيؤه لها من يسر
الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها . ومنه قوله عليه السلام :
" صفحة رقم 767 "
( 1308 ) ( كل ميسر لما خلق له والمعنى فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة أيسر
الأمور عليه وأهونها ، من قوله : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) .
) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (
الليل : ( 8 - 11 ) وأما من بخل . . . . .
) وَاسْتَغْنَى ( وزهد فيما عند الله كأنه مستغن عنه فلم يتقه . أو استغنى بشهوات
الدنيا عن نعيم الجنة ، لأنه في مقابلة ) وَاتَّقَى ( . ) فَسَنُيَسّرُهُ
لِلْعُسْرَى ( فسنخذله ونمنعه الألطاف ، حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشدّه ،
من قوله : ) يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى
السَّمَاء ( ( الأنعام : 125 ) أو سمى طريقة الخير باليسرى ، لأنّ عاقبتها اليسر ؛
وطريقة الشرّ العسرى ، لأن عاقبتها العسر . أو أراد بهما طريقي الجنة والنار ، أي
: فسنهديهما في الآخرة للطريقين . وقيل : نزلتا في أبي بكر رضي الله عنه ، وفي أبي
سفيان بن حرب ) وَمَا يُغْنِى عَنْهُ ( استفهام في معنى الإنكار . أو نفي )
تَرَدَّى ( تفعل من الردى وهو الهلاك ، يريد : الموت . أو تردّى في الحفرة إذا قبر
، أو تردّى في قعر جهنم .
) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلاٌّ خِرَةَ وَالاٍّ ولَى (
الليل : ( 12 ) إن علينا للهدى
) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ( إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل وبيان
الشرائع ) وَإِنَّ لَنَا لَلاٌّ خِرَةَ وَالاٍّ ولَى ( أي : ثواب الدّارين للمهتدي
، كقوله : ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ( ( العنكبوت : 27 ) .
) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لاَ يَصْلَاهَآ إِلاَّ الاٌّ شْقَى الَّذِى
كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الاٌّ تْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ
يَتَزَكَّى وَمَا لاًّحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَآءَ
وَجْهِ رَبِّهِ الاٌّ عْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( 7 )
الليل : ( 14 ) فأنذرتكم نارا تلظى
" صفحة رقم 768 "
وقرأ أبو الزبير : ( تتلظى ) فإن قلت : كيف قال : ) لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ
الاْشْقَى ( . . . . . . ) وَسَيُجَنَّبُهَا الاٌّ تْقَى ( وقد علم أنّ كل شقيّ
يصلاها ، وكل تقي يجنبها ، لا يختص بالصلي أشقى الأشقياء ، ولا بالنجاة أتقى
الأتقياء ، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد ناراً بعينها مخصوصة بالأشقى ، فما تصنع
بقوله : ) وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى ( فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار
المخصوصة ، لا الأتقى منهم خاصة ؟ قلت : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم
من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل :
الأشقى ، وجعل مختصاً بالصلي ، كأن النار لم تخلق إلاّ له . وقيل : الأتقى ، وجعل
مختصاً بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلاّ له . وقيل : هما أبو جهل أو أمية بن خلف
، وأبو بكر رضي الله عنه ) يَتَزَكَّى ( من الزكاء . أي : يطلب أن يكون عند الله
زاكياً ، لا يريد به رياء ولا سمعة . أو يتفعل من الزكاة . فإن قلت : ما محل يتزكى
؟
" صفحة رقم 769 "
قلت : هو على وجهين : إن جعلته بدلاً من ) يُؤْتِى ( فلا محل له ؛ لأنه داخل في
حكم الصلة ، والصلات لا محل لها وإن جعلته حالاً في الضمير في ) يُؤْتِى ( فمحله
النصب ) ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ ( مستثنى من غير جنسه وهو النعمة أي : ما لأحد
عنده نعمة إلاّ ابتغاء وجه ربه ، كقولك : ما في الدار أحد إلاّ حماراً . وقرأ يحيى
بن وثاب : ( إلا ابتغاء وجه ربه ) بالرفع : على لغة من يقول : ما في الدار أحد ألا
حمار وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي حازم : أَضْحَتْ خَلاً فِقَاراً لاَ أَنِيسَ
بِهَا
إلاّ الْجَآذِرُ وَالظّلْمَانُ تَخْتَلِفُ
وقول القائل : وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيس
إلاَّ الْيَعَافِيرُ وَإلاَّ الْعَيسُ
ويجوز أن يكون ) ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ ( مفعولاً له على المعنى ، لأنّ معنى
الكلام : لا يؤتى ماله إلاّ ابتغاء وجه ربه ، لا لمكافأة نعمة ) وَلَسَوْفَ
يَرْضَى ( موعد بالثواب الذي يرضيه ويقرّ عينه .
وعن رسول ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1309 ) ( من قرأ سورة والليل ، أعطاه الله حتى يرضى ، وعافاه من العسر ويسر له
اليسر ) .
" صفحة رقم 770 "
( سورة الضحى )
مكية وآياتها 11
( نزلت بعد الفجر )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (
الضحى : ( 1 ) والضحى
المراد بالضحى : وقت الضحى ، وهو صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقي شعاعها . وقيل
: إنما خصّ وقت الضحى بالقسم ، لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه السلام ،
وألقى فيها السحرة سجداً ، لقوله : ) وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ( ( طه : 59 )
وقيل : أريد بالضحى : النهار ، بيانه قوله : ) أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى (
( الأعراف : 98 ) في مقابلة ( بياتاً ) . ) سَجَى ( سكون وركد ظلامه . وقيل : ليلة
ساجية ساكنة الريح . وقيل معناه : سكون الناس والأصوات فيه . وسجا البحر : سكنت
أمواجه . وطرف ساج : ساكن فاتر ( ما ودعك ) جواب القسم . ومعناه : ما قطعك قطع
المودع . وقرىء بالتخفيف ، يعني : ما تركك . قال : وَثَمَّ وَدَعْنَا آلَ عَمْرٍ و
وَعَامِر
فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ
والتوديع : مبالغة في الودع ؛ لأنّ من ودّعك مفارقاً فقد بالغ في تركك . روى :
( 1310 ) أنّ الوحي قد تأخر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أياماً ، فقال
المشركون : إنّ محمداً ودعه ربه وقلاه . وقيل :
" صفحة رقم 771 "
( 1311 ) إنّ أم جميل امرأة أبي لهب قالت له : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلاّ قد
تركك ، فنزلت . حذف الضمير من قلى ( كحذفه من ( الذاكرات ) في قوله : ) ( كحذفه من
( الذاكرات ) في قوله : ) وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِراتِ ( يريد :
والذاكرات ونحوه : ( فآوى . . . فهدى . . . فأغنى ) وهو اختصار لفظي لظهور المحذوف
.
) وَلَلاٌّ خِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاٍّ ولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ
فَتَرْضَى (
الضحى : ( 4 ) وللآخرة خير لك . . . . .
فإن قلت : كيف اتصل قوله : ) وَلَلاٌّ خِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاٍّ ولَى ( بما
قبله ؟ قلت : لما كان في ضمن نفي التوديع والقلي : أنّ الله مواصلك بالوحي إليك ،
وأنك حبيب الله ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ولا نعمة أجل منه : أخبره أن حاله في
الآخرة أعظم من ذلك وأجل ، وهو السبق والتقدّم على جميع أنبياء الله ورسله ،
وشهادة أمته على سائر الأمم ، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته ، وغير
ذلك من الكرامات السنية ) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( موعد شامل لما
أعطاه في الدنيا من الفلج والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ، ودخول الناس في
الدين أفواجاً ، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم ، وبثّ عساكره وسراياه في
بلاد العرب ، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن وهدم بأيديهم
من ممالك الجبابرة وأنهبهم من كنوز الأكاسرة ، وما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب
من الرعب وتهيب الإسلام ، وفشوّ الدعوة واستيلاء المسلمين ، ولما ادّخر له من
الثواب الذي لا يعلم كنهه إلاّ الله . قال ابن عباس رضي لله عنهما : له في الجنة
ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك . فإن قلت : ما هذه اللام الداخلة على سوف ؟ قلت
: هي لام
" صفحة رقم 772 "
الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف . تقديره : ولأنت سوف يعطيك ،
كما ذكرنا في : لا أقسم ، أن المعنى : لأنا أقسم ؛ وذلك أنها لا تخلو من أن تكون
لام قسم أو ابتداء فلام القسم لا تدخل على المضارع إلاّ مع نون التأكيد ، فبقي أن
تكون لام ابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل إلاّ على الجملة من المبتدأ والخبر ، فلا
بد من تقدير مبتدإ وخبر ، وأن يكون أصله : ولأنت سوف يعطيك . فإن قلت : ما معنى
الجمع بين حرفي التوكيد والتأخير ؟ قلت : معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخّر
، لما في التأخير من المصلحة .
) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ
عَآئِلاً فَأَغْنَى (
الضحى : ( 6 ) ألم يجدك يتيما . . . . .
عدّد عليه نعمه وأياديه ، وأنه لم يخله منها من أوّل تربيه وابتداء نشئه ، ترشيحاً
لما أراد به ؛ ليقيس المترقب من فضل الله على ما سلف منه ، لئلا يتوقع إلاّ الحسنى
وزيادة الخير والكرامة : ولا يضيق صدره ولا يقل صبره . و ) أَلَمْ يَجِدْكَ ( من
الوجود الذي بمعنى العلم : والمنصوبان مفعولاً وجد . والمعنى : ألم تكن يتيماً ، وذلك
أنّ أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر وماتت أمّه ، وهو ابن ثمان سنين ،
فكفله عمه أبو طالب ، وعطفه الله عليه فأحسن تربيته . ومن بدع التفاسير : أنه من
قولهم : ( درّة يتيمة ) وأن المعنى : ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فآواك .
وقرىء : ( فآوى ) عو على معنيين : إما من أواه بمعنى آواه . سمع بعض الرعاة يقول :
أين آوي هذه الموقسة وإما من أوي له : إذا رحمه ) ضَالاًّ ( معناه الضلال عن علم
الشرائع وما طريقة السمع ، كقوله : ) مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ ( ( الشورى
: 52 ) . وقيل : ضل في صباه في بعض شعاب مكة ، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب .
وقيل : أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لتردّه على عبد المطلب . وقيل
: ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب ، فهداك : فعرفك القرآن والشرائع . أو
فأزال ضلالك عن جدك زعمك . ومن قال : كان على أمر قومه أربعين سنة ، فإن أراد أنه
كان على خلوهم عن العلوم السمعية ، فنعم ؛ وإن أراد أنه كان على دينهم وكفرهم ،
فمعاذ الله ؛ والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوة وبعدها من الكبائر
والصغائر الشائنة ، فما بال الكفر والجهل بالصانع ) مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ
بِاللَّهِ مِن شَىْء ( ( يوسف : 38 ) وكفى بالنبي نقيصه عند الكفار أن يسبق له كفر
) عَائِلاً ( فقيراً . وقرىء : ( عيلاً ) كما قرىء : سيحات . وعديماً ) فَأَغْنَى
( فأغناك
" صفحة رقم 773 "
بمال خديجة . أو بما أفاء عليك من الغنائم . قال عليه السلام :
( 1312 ) ( جعل رزقي تحت ظلّ رمحي ) وقيل : قتعك وأغنى قلبك ) .
) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (
الضحى : ( 9 ) فأما اليتيم فلا . . . . .
) فَلاَ تَقْهَرْ ( فلا تغلبه على ماله وحقه لضعفه . وفي قراءة ابن مسعود : ( فلا
تكهر ) وهو أن يعبس في وجهه . وفلان ذو كهرورة : عابس الوجه . ومنه الحديث :
( 1313 ) فبأبي وأمي هو ، ما كهرني . النهر ، والنهم : الزجر . عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) :
( 1314 ) ( إذا رردت السائل ثلاثاً فلم يرجع ، فلا عليك أن تزبره ) وقيل : أما إنه
ليس بالسائل المستجدي ، ولكن طالب العلم : إذا جاء فلا تنهره . التحديث بنعمة الله
: شكرها وإشاعتها ، يريد : ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك
. عن مجاهد : بالقرآن ، فحدث : أقرئه ، وبلغ ما أرسلت به . وعن عبد الله بن غالب أنه
كان إذا أصبح يقول : رزقني الله البارحة خيراً : قرأت كذا وصليت كذا ، فإذا قيل له
: يا أبا فراس مثلك يقول مثل هذا ؟ قال : يقول الله تعالى : ) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبّكَ فَحَدّثْ ( ( الضحى : 11 ) وأنتم تقولون :
" صفحة رقم 774 "
لا تحدث بنعمة الله . وإنما يجوز مثل هذا إذا قصد به اللطف ، وأن يقتدي به غيره ،
وأمن على نفسه الفتنة . والستر أفضل . ولو لم يكن فيه إلاّ التشبه بأهل الرياء
والسمعة : لكفي به . وفي قراءة علي رضي الله عنه : ( فخبر ) والمعنى : أنك كنت
يتيماً ، وضالاً وعائلاً ، فآواك الله ، وهداك : وأغناك ؛ فمهما يكن من شيء وعلى
ما خيلت فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث . واقتد بالله ، فتعطف على اليتيم
وآواه ، فقد ذقت اليتم وهوانه ، ورأيت كيف فعل الله بك ؛ وترحم على السائل وتفقده
بمعروفك ولا تزجره عن بابك ، كما رحمك ربك فأغناك بعد الفقر ؛ وحدّث بنعمة الله
كلها ، ويدخل تحته هدايته الضلال ، وتعليمه الشرائع والقرآن ، مقتدياً بالله في أن
هداه من الضلال .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1315 ) ( من قرإ سورة الضحى جعله الله فيمن يرضى لمحمد أن يشفع له وعشر حسنات
يكتبها الله له بعدد كل يتيم وسائل ) .
" صفحة رقم 775 "
( سورة الشرح )
مكية ، وآياتها 8 ( نزلت بعد الضحى )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِى أَنقَضَ
ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (
الشرح : ( 1 ) ألم نشرح لك . . . . .
استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار ، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه ، فكأنه قيل
: شرحنا لك صدرك ؛ ولذلك عطف عليه : وضعنا : اعتباراً للمعنى . ومعنى : شرحنا صدرك
: فسحناه حتى وسع عموم النبوّة ودعوة الثقلين جميعاً . أو حتى احتمل المكاره التي
يتعرض لك بها كفار قومك وغيرهم : أو فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم ، وأزلنا
عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل . وعن الحسن : ملىء حكمة وعلماً . وعن
أبي جعفر المنصور أنه قرأ : ( ألم نشرح لك ) بفتح الحاء . وقالوا : لعله بين الحاء
وأشبعها في مخرجها ، فظنّ السامع أنه فتحها ، والوزر الذي أنقض ظهره أي : حمله على
النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله مثل لما كان يثقل على رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ويغمّه من فرطاته قبل النبوّة . أو من جهله بالأحكام والشرائع .
أو من تهالكه على إسلام أولى العناد من قومه وتلهفه . ووضعه عنه : أن غفر له ، أو
علم الشرائع ، أو مهد عذره بعد ما بلغ وبلغ . وقرأ أنس : ( وحللنا ) حططنا . وقرأ
ابن مسعود : ( وحللنا عنك وقرك ) . ورفع ذكره : أن قرن بذكر الله في كلمة الشهادة
والأذان والإقامة والتشهد والخطب ، وفي غير موضع من القرآن ) وَاللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ( ( التوبة : 62 ) ، ) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ ( ( النساء : 13 ) ، ) وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ
( ( المائدة : 92 ) وفي تسميته رسول الله ونبيّ الله ؛ ومنه ذكره في كتب الأولين ،
والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به ، فإن قلت : أي فائدة في زيادة لك ،
والمعنى مستقل بدونه ؟ قلت : في زيادة
" صفحة رقم 776 "
لك ما في طريقة الإبهام والإيضاح ، كأنه قيل : ألم نشرح لك ، ففهم أن ثم مشروحاً ،
ثم قيل : صدرك ، فأوضح ما علم مبهما ، وكذلك ) لَكَ ذِكْرَكَ ( و ) عَنكَ وِزْرَكَ
( .
) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (
الشرح : ( 5 ) فإن مع العسر . . . . .
فإن قلت : كيف تعلق قوله : ) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ( بما قبله ؟ قلت :
كان المشركون يعيرون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين بالفقر والضيقة ،
حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم ، فذكره ما أنعم
به عليه من جلائل النعم ثم قال : ) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ( كأنه قال :
خوّلناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله ، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا . فإن
قلت : ) إِنَّ مَعَ ( للصحبة ، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر ؟ قلت : أراد أن الله
يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب ، فقرّب اليسر المترقب حتى جعله
كالمقارن للعسر ، زيادة في التسلية وتقوية القلوب . فإن قلت : ما معنى قول ابن
عباس وابن مسعود رضي الله عنهما : لن يغلب عسر يسرين وقد روي مرفوعاً :
( 1316 ) أنه خرج ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم وهو يضحك ويقول : ( لن يغلب عسر
يسرين ) قلت : هذا عمل على الظاهر ، وبناء على قوّه الرجال ، وأن موعد الله لا
يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ وأبلغه ، والقول في أنه يحتمل الجملة الثانية
تكريراً للأولى كما كرر قوله : ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ( ( الطور :
11 ) لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب ، وكما يكرر المفرد في قولك :
جاءني زيد زيد ، وأن تكون الأولى عدّة بأنّ العسر مردوف بيسر لا محالة ، والثانية
عدة مستأنفة بأنّ العسر متبوع بيسر ، فهما يسران على تقدير الاستئناف ، وإنما كان
العسر واحداً لأنه لا يخلو ، إما أن يكون تعريفه للعهد ، وهو العسر الذي كانوا فيه
، فهو هو ؛ لأنّ حكمه حكم زيد في قولك : إن مع زيد مالاً ، إن مع زيد مالاً . وإما
أن يكون للجنس الذي بعلمه كل أحد فهو هو أيضاً . وأما اليسر فمنكر متناول لبعض
الجنس ، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً غير مكرر فقد تناول بعضاً غير البعض
الأوّل بغير إشكال . فإن قلت : فما المراد باليسرين ؟ قلت :
" صفحة رقم 777 "
يجوز أن يراد بهما ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) وما تيسر لهم في أيام الخلفاء ، وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة ، كقوله تعالى
: ) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ( ( التوبة : 52 )
وهما حسنى الظفر وحسنى الثواب . فإن قلت : فما معنى هذا التنكير ؟ قلت : التفخيم ،
كأنه قيل : إن مع العسر يسراً عظيماً وأيّ يسر ، وهو في مصحف ابن مسعود مرة واحدة
. فإن قلت : فإذا ثبت في قراءته غير مكرر ، فلم قال : والذي نفسي بيده ، لو كان
العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، إنه لن يغلب عسر يسرين ؟ قلت : كأنه قصد
باليسرين : ما في قوله : ) يُسْراً ( من معنى التفخيم ، فتأوله بيسر الدارين ،
وذلك يسران في الحقيقة .
) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (
الشرح : ( 7 ) فإذا فرغت فانصب
فإن قلت : فكيف تعلق قوله : ) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ( بما قبله ؟ قلت : لما
عدد عليه نعمه السالفة ووعده الآنفة ، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب
فيها ، وأن يواصل بين بعضها وبعض ، ويتابع ويحرس على أن لا يخلى وقتاً من أوقاته
منها ، فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى . وعن ابن عباس : فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد
في الدعاء . وعن الحسن : فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة . وعن مجاهد : فإذا
فرغت من دنياك فانصب في صلاتك . وعن الشعبي : أنه رأى رجلاً يشيل حجراً فقال : ليس
بهذا أمر الفارغ ، وقعود الرجل فارغاً من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعينه في دينه
أو دنياه : من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة ، ولقد قال عمر رضي الله
عنه : إني لأكره أن أرى أحدكم فارغاً سبهللاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة .
وقرأ أبو السمال : فرغت بكسر الراء وليست بفصيحة . ومن البدع : ما روى عن بعض
الرافضة أنه قرأ : ( فانصب ) بكسر الصاد ، أي : فانصب علياً للإمامة ؛ ولو صحّ هذا
للرافضي لصحّ للناصبي أن يقرأ هكذا ، ويجعله أمراً بالنصب الذي هو بغض عليّ
وعداوته ) وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ ( واجعل رغبتك إليه خصوصاً ، ولا تسأل إلا
فضله متوكلاً عليه . وقرىء : ( فرغب ) أي : رغب الناس إلى طلب ما عنده .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1317 ) ( من قرأ ألم نشرح ، فكأنما جاءني وأنا مغتمّ ففرج عني ) .
" صفحة رقم 778 "
( سورة التين )
مكية ، آياتها 8 ( نزلت بعد البروج )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَاذَا الْبَلَدِ الاٌّ مِينِ
لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ
سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ
أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (
التين : ( 1 ) والتين والزيتون
أقسم بهما لأنهما عجيبان من بين أصناف الأشجار المثمرة ، وروي :
( 1318 ) أنه أهدي لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طبق من تين فأكل منه وقال
لأصحابه : ( كلوا ، فلو قلت إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه ، لأنّ فاكهة الجنة
بلا عجم ، فكلوها . فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس ) . ومرّ معاذ بن جبل
بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيباً واستاك به وقال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) يقول :
( 1319 ) ( نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة ) .
وسمعته ييقول : ( هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي ) وعن ابن عباس رضي الله عنه : هو
نبيكم هذا وزيتونكم . وقيل : جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانيّة :
طورتينا وطورزيتا ، لأنهما منبتا التين والزيتون . وقيل : ( التين ) جبال ما بين
حلوان وهمدان . و ( الزيتون ) جبال الشام ، لأنها منابتهما ، كأنه قيل : ومنابت
التين والزيتون . وأضيف الطور : وهو الجبل ، إلى سينين : وهي البقعة . ونحو سينون
: يبرون ، في جواز الإعراب بالواو والياء ، والإقرار على الياء ، وتحريك النون
بحركات الإعراب . وللبلد : مكة حماها الله .
" صفحة رقم 779 "
والأمين : من أمن الرجل أمانة فهو أمين . وقيل : أمان ، كما قيل : كرام في كريم .
وأمانته : أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه . ويجوز أن يكون فعيلاً
بمعنى مفعول ، من أمنه لأنه مأمون الغوائل ، كما وصف بالأمن في قوله تعالى : )
حَرَّمَ مِنَ ( ( القصص : 57 ) بمعنى ذي أمن : ومعنى القسم بهذه الأشياء : الإبانة
عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين .
فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشؤه ، والطور : المكان الذي
نودي منه موسى . ومكة : مكان البيت الذي هو هدى للعالمين ، ومولد رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ومبعثه ) فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( في أحسن تعديل لشكله وصورته
وتسوية لأعضائه . ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة
السوية : أن رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً ، يعني : أقبح من قبح صورة وأشوهه
خلقة ، وهم أصحاب النار أو أسفل من سفل من أهل الدركات . أو ثم رددناه بعد ذلك
التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل : حيث نكسناه في خلقه ، فقوّس
ظهره بعد اعتداله ، وابيض شعره بعد سواده ، وتشنن جلده وكان بضاً وكلَّ سمعه وبصره
وكانا حديدين ، وتغير كل شيء منه : فمشيه دليف ، وصوته خفات ، وقوته ضعف ، وشهامته
خرف وقرأ عبد الله : ( أسفل السافلين ) . فإن قلت : فكيف الاستثناء على المذهبين ؟
قلت : هو على الأول متصل ظاهر الاتصال ، وعلى الثاني : منقطع . يعني : ولكن الذين
كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء
الله بالشيخوخة والهرم ، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم .
فإن قلت : ) فَمَا يُكَذّبُكَ ( من المخاطب به ؟ قلت : هو خطاب للإنسان على طريقة
الالتفات ، أي : فما يجعلك كاذباً بسبب الدين وإنكاره بعد هذا الدليل ، يعني أنك
تكذب إذا كذبت بالجزاء ، لأنّ كل مكذب بالحق فهو كاذب ، فأيّ شيء يضطرك إلى أن
تكون كاذباً بسبب تكذيب الجزاء . والباء مثلها في قوله تعالى : ) الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِمُ مُّشْرِكُونَ ( ( النحل : 100 ) والمعنى :
أنّ خلق الإنسان من نطفة ، وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن
يكمل ويستوي ، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر : لا ترى دليلاً أوضح منه على
" صفحة رقم 780 "
قدرة الحالق ، وأن من قدر من الإنسان على هذا كله : لم يعجز عن إعادته ، فما سبب
تكذيبك أيها الإنسان بالجزاء بعد هذا الدليل القاطع . وقيل : الخطاب لرسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( وعيد للكفار
، وأنه يحكم عليهم بما هم أهله . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1320 ) أنه كان إذا قرأها قال : ( بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ) .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1321 ) ( من قرأ سورة التين أعطاه الله خصلتين : العافية واليقين ما دام في دار
الدنيا ، وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة ) .
" صفحة رقم 781 "
( سورة العلق )
مكية ، وآياتها 19 ( وهي أول ما نزل من القرآن )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الاٌّ كْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ
يَعْلَمْ (
العلق : ( 1 ) اقرأ باسم ربك . . . . .
عن ابن عباس ومجاهد : هي أول سورة نزلت ( وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما
نزل ثم سورة القلم . محل ) بِاسْمِ رَبّكَ ( النصب على الحال ، أي : اقرأ مفتتحاً
باسم ربك ، قل : بسم الله ، ثم اقرأ . فإن قلت : كيف قال : ) خُلِقَ ( فلم يذكر له
مفعولاً ، ثم قال : ) خَلَقَ الإِنسَانَ ( ؟ قلت : هو على وجهين : إما أن لا يقدر
له مفعول وأن يراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه . وإما أن يقدر
ويراد خلق كل شيء ، فيتناول كل مخلوق ، لأنه مطلق ، فليس بعض المخلوقات أولى
بتقديره من بعض . وقوله : ) خَلَقَ الإِنسَانَ ( تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما
يتناوله الخلق ؛ لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض . ويجوز أن يراد : الذي
خلق الإنسان ، كما قال : ) الرَّحْمَانُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ (
( الرحمن : 1 2 3 ) فقيل : ) الَّذِى خَلَقَ ( مبهماً ، ثم فسره بقوله : ) خَلَقَ
الإِنسَانَ ( تفخيماً لخلق الإنسان . ودلالة على عجيب فطرته . فإن قلت : لم قال )
مِنْ عَلَقٍ ( على الجمع ، وإنما خلق من علقة ، كقوله : ) مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ
مِنْ عَلَقَةٍ ( ؟ ( غافر : 67 ) قلت : لأن الإنسان في معنى الجمع ، كقوله : )
إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( ( العصر : 2 ) . ) الاْكْرَمُ ( الذي له الكمال في
زيادة كرمه على كل كرم ، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى ، ويحلم عنهم فلا
يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي وإطراحهم الأوامر ،
ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم ، فما لكرمه غاية ولا أمد ، وكأنه
ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم ، حيث قال : الأكرم ) الَّذِى
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ( فدلّ على كمال كرمه
بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل
" صفحة رقم 782 "
علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلاّ هو ، وما دونت
العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ، ولا كتب الله المنزلة
إلاّ بالكتابة ؛ ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ؛ ولو لم يكن على دقيق
حكمة الله ولطيف تدبيره ودليل إلاّ أمر القلم والخط ، لكفى به . ولبعضهم في صفة
القلم : وَرَوَاقِمُ رُقْشٍ كَمِثْلِ أَرَاقِم
قُطْفِ الْخُطَا نَيَّالَةٍ أَقْصَى المُدَى
سُودِ الْقَوَائِمِ مَا يَجِدُّ مِسِيرُهَا
إلاَّ إذَا لَعِبَتْ بِهَا بِيضُ المُدَى
وقرأ ابن الزبير : ( علم الخط بالقلم ) .
) كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ
الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَرَءَيْتَ إِن كَانَ
عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى
" صفحة رقم 783 "
أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً
بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب (
العلق : ( 6 ) كلا إن الإنسان . . . . .
) كَلاَّ ( ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه ، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه
) أَن رَّءاهُ ( أن رأى نفسه . يقال : في أفعال القلوب : رأيتني وعلمتني ، وذلك
بعض خصائصها . ومعنى الرؤية : العلم ، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها
الجمع بين الضميرين . و ) اسْتَغْنَى ( هو المعفول الثاني ) إِنَّ إِلَى رَبّكَ
الرُّجْعَى ( واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان ، تهديداً له وتحذيراً من عاقبة
الطغيان . والرجعى : مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع . وقيل : نزلت في أبي جهل . وكذلك
) أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى ( وروي :
( 1322 ) أنه قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أتزعم أن من استغنى طغى ،
فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهباً ، لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك ،
فنزل جبريل فقال : إن شئت فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب
المائدة ، فكف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الدعاء إبقاء عليهم . وروي عنه
لعنه الله أنه قال :
( 1323 ) هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا : نعم . قال : فوالذي يحلف به ،
لئن رأيته توطأت عنقه ، فجاءه ثم نكص على عقبيه ، فقالوا له : مالك يا أبا الحكم ،
فقال : إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة ) أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى
( ومعناه : أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة
سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله . أو كان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به
من عبادة الأوثان كما يعتقد ، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين
الصحيح ، كما نقول نحن ) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ويطلع على أحواله
من هداه وضلالة فيجازيه على حسب ذلك . وهذا وعيد . فإن قلت : ما متعلق أرأيت ؟ قلت
: الذي ينهى مع الجملة الشرطية ، وهما في موضع المفعولين . فإن قلت : فأين جواب
الشرط ؟ قلت : هو محذوف ، تقديره : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ، ألم يعلم
بأن الله يرى . وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني . فإن قلت : فكيف صحّ
أن يكون ) أَلَمْ يَعْلَم ( جواباً للشرط ؟ قلت : كما صحّ في قولك : إن أكرمتك
أتكرمني ؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه ؟ فإن قلت : فما أرأيت الثانية وتوسطها
بين مفعول أرأيت ؟ قلت : هي
" صفحة رقم 784 "
زائدة مكرّرة للتوكيد . وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة )
كَلاَّ ( ردع لأبي جهل وخسوء له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات ،
ثم قال ) لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ( عما هو فيه ) لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (
لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار . والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدّة .
قال عمرو بن معديكرب : قَوْمٌ إذَا يَقَعُ الصَّرِيخُ رَأَيْتَهُم
مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ
وقرىء : ( لنسفعن ) بالنون المشدّدة . وقرأ ابن مسعود : لأسفعا . وكتبتها في
المصحف بالألف على حكم الوقف ، ولما علم أنها ناصية المذكور : اكتفى بلام العهد عن
الإضافة ) نَاصِيَةٍ ( بدل من الناصية ؛ جاز بدلها عن المعرفة ، وهي نكرة ؛ لأنها
وصفت فاستقلت بفائدة . وقرىء : ( ناصية ) على : هي ناصية ، وناصية بالنصب .
وكلاهما على الشتم . ووصفها بالكذب والخطأ على الإسناد المجازي . وهما في الحقيقة
لصاحبها . وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك : ناصية كاذب خاطىء . والنادي :
المجلس الذي ينتدى فيه القوم . أي : يجتمعون . والمراد : أهل النادي . كما قال
جرير : لَهُمْ مَجْلِسٌ صُهْبُ السِّهَالِ أَذِلَّة ;
وقال زهير :
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ ;
والمقامة : المجلس . روى :
( 1324 ) أن أبا جهل مرّ برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يصلي فقال : ألم
أنهك ؟ فأغلظ له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فقال : أتهدّدني وأنا أكثر
أهل الوادي نادياً ، فنزلت . وقرأ ابن أبي عبلة : ( سيدعى الزبانية ) على البقاء
للمفعول ، والزبانية في كلام العرب : الشرط ، الواحد ، زبينة ، كعفرية ، من الزبن
: وهو الدفع . وقيل : زبني ، وكأنه نسب إلى الزبن ، ثم غير
" صفحة رقم 785 "
للنسب ، كقولهم أمسى ؛ وأصله : زباني ، فقيل : زبانية على التعويض ؛ والمراد :
ملائكة العذاب . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1325 ) ( لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عياناً ) ) كَلاَّ ( ردع لأبي جهل ) لاَ
تُطِعْهُ ( أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه ، كقوله : ) فَلاَ تُطِعِ
الْمُكَذّبِينَ ( ( القلم : 8 ) . ) وَاسْجُدْ ( ودم على سجودك ، يريد : الصلاة )
وَاقْتَرِب ( وتقرّب إلى ربك . وفي الحديث :
( 1326 ) ( أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد ) .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1327 ) ( من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله ) .
" صفحة رقم 786 "
( سورة القدر )
مكية وقيل مدنية
( وآياتها 5 نزلت بعد عبس )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ
الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ
هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (
القدر : ( 1 ) إنا أنزلناه في . . . . .
عظم القرآن من ثلاثة أوجه : أحدها : أن أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره
؛ والثاني : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن
التنبيه عليه ؛ والثالث : الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه . روى أنه أنزل جملة
واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا . وأملاه جبريل على
السفرة ، ثم كان ينزله على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نجوماً في ثلاث
وعشرين سنة . وعن الشعبي : المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر واختلفوا في
وقتها فأكثرهم على أنها في شهر رمضان في العشر الأواخر في أوتارها . وأكثر القول
أنها السابعة منها ؛ ولعل الداعي إلى إخفائها أن يحيي من يريدها الليالي الكثيرة :
طلباً لموافقتها ، فتكثر عبادته ويتضاعف ثوابه ، وأن لا يتكل الناس عند إظهارها
على إصابة الفضل فيها فيفرطوا في غيرها . ومعنى ليلة القدر : ليلة تقدير الأمور وقضائها
، ومن قوله تعالى : ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( ( الدخان : 4 ) وقيل
: سميت بذلك لخطرها وشرفها على سائر الليالي ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ
الْقَدْرِ ( يعني : ولم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علوّ قدرها ، ثم بين ذلك
بأنها خير من ألف شهر ، وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح
الدينية التي ذكرها : من تنزل الملائكة والروح ، وفصل كل أمر حكيم ، وذكر في تخصيص
هذه المدّة :
( 1328 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس
السلاح في سبيل الله
" صفحة رقم 787 "
ألف شهر ، فعجب المؤمنون من ذلك ، وتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأعطوا ليلة هي خير من
مدّة ذلك الغازي . وقيل : إنّ الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله
ألف شهر ، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحقّ بأن يسموا عابدين من أولئك العباد )
تُنَزَّلَ ( إلى السماء الدنيا ، وقيل : إلى الأرض ) وَالرُّوحُ ( جبريل . وقيل :
خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلاّ تلك الليلة ) مّن كُلّ أَمْرٍ ( أي :
تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل . وقرىء : ( من كل امرىء ) أي
: من أجل كل إنسان . وقيل : لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلاّ سلموا عليه في تلك
الليلة ) سَلَامٌ هِىَ ( ما هي إلاّ سلامة ، أي : لا يقدر الله فيها إلاّ السلامة
والخير ، ويقضى في غيرها بلاء وسلامة . أو : ما هي ألاّ سلام لكثرة ما يسلمون على
المؤمنين . وقرىء : ( مطلع ) بفتح اللام وكسرها .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1329 ) ( من قرأ سورة القدر أعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر ) .
" صفحة رقم 788 "
( سورة البيّنة )
مكية ، وقيل : مدنية ، وآياتها 8 ( نزلت بعد الطلاق )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو
صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ
الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَآ أُمِرُواْ
إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ
الصَّلَواةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَواةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَائِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ
ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ
جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاٌّ
نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ
ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ (
البينة : ( 1 ) لم يكن الذين . . . . .
كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأصنام يقولون قبل مبعث النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) : لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي
الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل ، وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ،
فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال : ) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ
الْكِتَابَ ( يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق : إذا جاءهم
الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرّهم على الكفر إلاّ مجيء الرسول ( صلى الله
عليه وسلم ) ؛ ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه : لست بمنفك مما
أنا فيه حتى يرزقني الله الغنى ، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقاً ، فيقول واعظه :
لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر ، وما غمست رأسك في الفسق إلاّ بعد اليسار :
يذكره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً . وانفكاك الشيء من الشيء . أن يزايله بعد
التحامه به ، كالعظم إذا انفك من مفصله ؛ والمعنى : أنهم متشبثون بدينهم ولا
يتركونه إلاّ عند مجيء البينة . و ) الْبَيّنَةُ ( الحجة الواضحة . و ) رَّسُولٍ (
بدل من البينة . وفي قراءة عبد الله : ( رسولا ) حالاً من البينة ) صُحُفاً (
قراطيس ) مُّطَهَّرَةٍ ( من الباطل ) فِيهَا كُتُبٌ ( مكتوبات ) قَيّمَةٌ (
مستقيمة ناطقة بالحق والعدل ؛ والمراد بتفرقهم : تفرقهم عن الحق وانقشاعهم عنه .
أو تفرقهم فرقاً ؛ فمنهم من آمن ، ومنهم من أنكر ، وقال : ليس به ؛ ومنهم من عرف
وعاند . فإن قلت : لم
" صفحة رقم 789 "
جمع بين أهل الكتاب والمشركين أوّلاً ثم أفرد أهل الكتاب في قوله : ) وَمَا
تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( ؟ قلت : لأنهم كانوا على علم به لوجوده
في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف ) وَمَا
أُمِرُواْ ( يعني في التوراة والإنجيل إلاّ بالدين الحنيفي ، ولكنهم حرفوا وبدلوا
) وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ ( أي : دين الملة القيمة . وقرىء ؛ ( وذلك الدين
القيمة ) على تأويل الدين بالملة . فإن قلت : ما وجه قوله : ) وَمَا أُمِرُواْ
إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ ( ؟ قلت : معناه : وما أمروا بما في الكتابين إلاّ
لأجل أن يعبدوا الله على هذه الصفة . وقرأ ابن مسعود : ( إلا أن يعبدوا ) ، بمعنى
: بأن يعبدوا . قرأ نافع : ( البريئة ) بالهمز ؛ والقرّاء على التخفيف . والنبيّ ،
والبرية : مما استمر الاستعمال على تخفيفه ورفض الأصل وقرىء : ( خيار البرية ) جمع
خير ، كجياد وطياب : في جمع جيد وطيب .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1330 ) ( من قرأ لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقبلاً ) .
" صفحة رقم 790 "
( سورة الزلزلة )
مدنية وقيل : مكية ، وآياتها 8 ( نزلت بعد النساء )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِذَا زُلْزِلَتِ الاٌّ رْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا
وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (
الزلزلة : ( 1 ) إذا زلزلت الأرض . . . . .
(زلزالها ) قرىء : بكسر الزاي وفتحها ؛ فالمكسور : مصدر ، والمفتوح : اسم ؛ وليس
في الأبنية فعلال بالفتح إلاّ في المضاعف . فإن قلت : ما معنى زلزالها بالإضافة ؟
قلت : معناه زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة ومشيئة الله ، وهو الزلزال الشديد
الذي ليس بعده . ونحوه قولك : أكرم التقيّ إكرامه ، وأهن الفاسق إهانته ، تريد :
ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة أو زلزالها كله وجميع ما هو ممكن منه . الأثقال
: جمع ثقل . وهو متاع البيت ، وتحمل أثقالكم جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً
لها ) وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا ( زلزلت هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في
بطنها ؛ وذلك عند النفخة الثانية حين تزلزل وتلفظ أمواتها أحياء ، فيقولون ذلك لما
يبهرهم من الأمر الفظيع ، كما يقولون : ( من بعثنا من مرقدنا ) . وقيل : هذا قول
الكافر ؛ لأنه كان لا يؤمن بالبعث ؛ فأما المؤمن فيقول : هذا ما وعد الرحمن وصدق
المرسلون . فإن قلت : ما معنى تحديث الأرض والإيحاء لها ؟ قلت : هو مجاز عن إحداث
الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان ، حتى ينظر من يقول ما
لها إلى تلك الأحوال ، فيعلم لم زلزلت ولم لفظت الأموات ؟ وأنّ هذا ما كانت
الأنبياء ينذرونه ويحذرون منه . وقيل : ينطقها الله على الحقيقة . وتخبر بما عمل
عليها من خير وشرّ . وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1331 ) ( تشهد على كل أحد بما عمل على ظهرها ) . فإن قلت : ( إذ ، ويومئذ ) :
" صفحة رقم 791 "
ما ناصبهما ؟ قلت : ) يَوْمَئِذٍ ( بدل من ( إذا ) ، وناصبهما ) تُحَدِّثُ ( .
ويجوز أن ينتصب ( إذا ) بمضمر ، و ) يَوْمَئِذٍ ( بتحدّث . فإن قلت : أين مفعولاً
( تحدث ) ؟ قلت : قد حذف أوّلهما ، والثاني : أخبارها ، وأصله تحدث الخلق أخبارها
؛ إلاّ أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيماً لليوم . فإن قلت : بم
تعلقت الباء في قوله : ) بِأَنَّ رَبَّكَ ( ؟ قلت : بتحدّث ، معناه : تحدّث
أخبارها بسبب إيحاء ربك لها ، وأمره إياها بالتحديث . ويجوز أن يكون المعنى :
يومئذ تحدث بتحديث أنّ ربك أوحى لها أخبارها ، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها :
تحديث بأخبارها ، كما تقول : نصحتني كل نصيحة ، بأن نصحتني في الدين . ويجوز أن
يكون ) بِأَنَّ رَبَّكَ ( بدلاً من ) أَخْبَارَهَا ( كأنه قيل : يومئذ تحدث
بأخبارها بأن ربك أوحى لها ؛ لأنك تقول : حدثته كذا وحدثته بكذا ، و ) أَوْحَى
لَهَا ( بمعنى أوحى إليها ، وهو مجاز كقوله : ) أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (
قال : أَوْحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتْ
وقرأ ابن مسعود : ( تنبىء أخبارها ) . وسعيد بن جبير : تنبىء ، بالتخفيف . يصدرون
عن مخارجهم من القبور إلى الموقف ) أَشْتَاتاً ( بيض الوجوه آمنين ؛ وسود الوجوه
فزعين . أو يصدرون عن الموقف أشتاتاً يتفرق بهم طريقا الجنة والنار ، ليروا جزاء
أعمالهم . وفي قراءة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ليروا ) بالفتح . وقرأ ابن
عباس وزيد بن علي : ( يره ) بالضم . ويحكى أنّ أعرابياً أخر ) خَيْراً يَرَهُ (
فقيل له : قدّمت وأخّرت ؛ فقال :
خُذَا بَطْنَ هَرْشَى أَوْ قَفَاهَا فَإن كِلاَ جَانِبَيْ هَرْشَى لَهُنَّ طَرِيقُ
والذرّة : النملة الصغيرة ، وقيل : ( الذرّ ) ما يرى في شعاع الشمس من الهباء .
فإن قلت : حسنات الكافر محبطة بالكفر ، وسيئات المؤمن معفوّة باجتناب الكبائر ،
فما
" صفحة رقم 792 "
معنى الجزاء بمثاقيل الذرّ من الخير والشرّ ؟ قلت : المعنى فمن يعمل مثقال ذرّة
خيراً : من فريق السعداء . ومن يعمل مثقال ذرّة شراً : من فريق الأشقياء ؛ لأنه
جاء بعد قوله : ) يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً ( .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1332 ) ( من قرأ سورة إذا زلزلت أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله ) .
" صفحة رقم 793 "
( سورة العاديات )
مكية ، وقيل : مدنية ، وآياتها 11 ( نزلت بعد العصر )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ
لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ
لَشَدِيدٌ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِى
الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (
العاديات : ( 1 ) والعاديات ضبحا
أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح . والضبح : صوت أنفاسها إذا عدون . وعن ابن عباس أنه
حكاه فقال : أح أح . قال عنترة : وَالْخَيْلُ تَكْدَحُ حِينَ تَضْ
بَحُ فِي حِيَاضِ الْمَوْتِ ضَبْحَا
وانتصاب ضبحا على : يضبحن ضبحا ، أو بالعاديات ، كأنه قيل : والضابحات ؛ لأن الضبح
يكون مع العدو . أو على الحال ، أي : ضابحات ) فَالمُورِيَاتِ ( توري نار الحباحب
وهي ما يتقدح من حوافرها ) قَدْحاً ( قادحات صاكات بحوافرها الحجارة . والقدح :
الصك . والإيراء : إخراج النار . تقول : قدح فأورى ، وقدح فأصلد ، وانتصب
" صفحة رقم 794 "
قدحاً بما انتصب به ضبحا ) فَالْمُغِيراتِ ( تغير على العدوّ ) صُبْحاً ( في وقت
الصبح ) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ( فهيجن بذلك الوقت غباراً ) فَوَسَطْنَ بِهِ (
بذلك الوقت ، أو بالنقع ، أي : وسطن النقع الجمع . أو فوسطن ملتبسات به ) جَمْعاً
( من جموع الأعداء . ووسطه بمعنى توسطه . وقيل : الضمير لمكان الغارة . وقيل :
للعدوّ الذي دلّ عليه ) وَالْعَادِيَاتِ ( ويجوز أن يراد بالنقع : الصياح ، من
قوله عليه السلام :
( 1333 ) ( ما لم يكن نقع ولا لقلقة ) وقول لبيد : فَمَتَى يَنْقَعْ صُراخٌ صَادِق
;
أي : فهيجن في المغاز عليهم صياحاً وجلبة . وقرأ أبو حيوة : ( فأثرن ) بالتشديد ،
بمعنى : فأظهرن به غباراً ؛ لأنّ التأثير فيه معنى الإظهار . أو قلب ثورن إلى وثرن
، وقلب الواو همزة ، وقرىء : ( فوسطن ) بالتشديد للتعدية . والباء مزيدة للتوكيد ،
كقوله : ) وَأُتُواْ بِهِ ( ( البقرة : 25 ) وهي مبالغة في وسطن . وعن ابن عباس :
( 1334 ) كنت جالساً في الحجر فجاء رجل فسألني عن ) وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً (
ففسرتها بالخيل ، فذهب إلى عليّ وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت : فقال :
ادعه لي ، فلما وقفت على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك به ، والله إن كانت
لأوّل غزوة في الإسلام بدر ، وما كان معنا إلاّ فرسان : فرس الزبير وفرس للمقداد )
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً ( الإبل من عرفة إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى منى ؛
فإن صحّت الرواية فقد استعير الضبح للإبل ، كما استعير المشافر والحافر للإنسان ،
والشفتان للمهر ،
" صفحة رقم 795 "
والثغر للثورة وما أشبه ذلك . وقيل : الضبح لا يكون إلاّ للفرس والكلب والثعلب .
وقيل : الضبح بمعنى الضبع ، يقال : ضبحت الإبل وضبعت : إذا مدّت أضباعها في السير
، وليس بثبت . وجمع : هو المزدلفة . فإن قلت : علام عطف ( فأثرن ) ؟ قلت : على
الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه ؛ لأنّ المعنى : واللاتي عدون فأورين ، فأغرن
فأثرن . الكنود : الكفور . وكند النعمة كنوداً . ومنه سمي : كندة ، لأنه كند أباه
ففارقه . وعن الكلبي : الكنود بلسان كندة : العاصي ، وبلسان بني مالك : البخيل ،
وبلسان مضر وربيعة : الكفور ، يعني : أنه لنعمة ربه خصوصاً لشديد الكفران ؛ لأن
تفريطه في شكر نعمة غير الله تفريط قريب لمقاربة النعمة ، لأن أجلّ ما أنعم به على
الإنسان ) عَلَى ذالِكَ ( على كنوده ) لَشَهِيدٌ ( يشهد على نفسه ولا يقدر أن
يجحده لظهور أمره . وقيل : وإنّ الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد ) الْخَيْرُ
( المال من قوله تعالى : ) إِن تَرَكَ خَيْرًا ( ( البقرة : 180 ) والشديد :
البخيل الممسك . يقال : فلان شديد ومتشدّد . قال طرفة : أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ
الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي
عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ المْمُتَشَدِّدِ
يعني : وإنه لأجل حب المال وأن إنفاقه يثقل عليه : لبخيل ممسك . أو أراد بالشديد :
القوي ، وأنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق ، وهو لحب عبادة الله وشكر
نعمته ضعيف متقاعس . تقول : هو تشديد لهذا الأمر ، وقويٌّ له : إذا كان مطيقاً له
ضابطاً . أو أراد : أنه لحب الخيرات غير هش منبسط ، ولكنه منقبض ) بُعْثِرَ ( بعث
. وقرىء : ( بحثر ) وبحث ، وبحثر . وحصل : على بنائهما للفاعل . وحصل : بالتخفيف .
ومعنى ( حصل ) جمع في الصحف ، أي : أظهر محصلاً مجموعاً . وقيل : ميز بين خيره
وشره . ومنه قيل للمنخل : المحصل . ومعنى علمه بهم يوم القيامة : مجازاته لهم على
مقادير أعمالهم ؛ لأنّ ذلك أثر خبره بهم . وقرأ أبو السمال : ( إن ربهم بهم يومئذ
خبير ) .
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( 1335 ) ( من قرأ سورة والعاديات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة
وشهد جمعاً ) .
" صفحة رقم 796 "
( سورة القارعة )
مكية ، وآياتها 11 ( نزلت بعد قريش )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ
النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ
فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ
خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ
حَامِيَةٌ (
القارعة : ( 1 ) القارعة
الظرف نصب بمضمر دلّت عليه القارعة ، أي : تقرع ) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ
كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ( شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة ،
والتطاير إلى الداعي من كل جانب ، كما يتطاير الفراش إلى النار . قال جرير : إنَّ
الْفَرَذْدَقَ مَا عَلِمْتُ وَقَوْمَه
مِثْلُ الْفَرَاشِ غَشِينَ نَارَ الْمُصْطَلِي
وفي أمثالهم : أضعف من فراشة وأذل وأجهل . وسمى فراشا : لتفرّشه وانتشاره . وشبه
الجبال بالعهن وهو الصوف المصبغ ألواناً ؛ لأنها ألوان ، وبالمنفوش منه ؛ لتفرّق
أجزائها . وقرأ ابن مسعود : ( كالصوف ) . الموازين : جمع موزون وهو العمل الذي له
وزن وخطر عند الله . أو جمع ميزان . وثقلها : رجحانها . ومنه حديث أبي بكر لعمر
رضي الله عنهما في وصيته له : ( وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة
باتباعهم الحق وثقلها في الدنيا ، وحق لميزان لا توضع فيه إلاّ الحسنات أن يثقل ،
وإنما خفت موازين من خفت موازينه لاتباعهم الباطل وخفتها في الدنيا ، وحق لميزان
لا توضع فيه السيئات أن يخف ) ) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( من قولهم إذا دعوا على
الرجل بالهلكة : هوت أمّه ؛ لأنه إذا هوى أي : سقط وهلك ، فقد هوت أمّه ثكلاً
وحزناً قال :
" صفحة رقم 797 "
هَوَتْ أُمُّهُ مَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ غَادِيا
وَمَاذَا يَرُدُّ اللَّيْلُ حِينَ يَثُوبُ
فكأنه قيل : وأما من خفت موازينه فقد هلك . وقيل : ) هَاوِيَةٌ ( من أسماء النار ،
وكأنها النار العميقة لهوى أهل النار فيها مهوى بعيداً ، كما روي :
( 1336 ) ( يهوي فيها سبعين خريفاً ) أي : فمأواه النار . وقيل : للمأوى : أمّ ،
على التشبيه ؛ لأنّ الأمّ مأوى الولد ومفزعه . وعن قتادة : فأمّه هاوية ، أي :
فأمّ رأسه هاوية في قعر جهنم ، لأنه يطرح فيها منكوساً ( هيه ) ضمير الداهية التي
دلّ عليها قوله : ) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( في التفسير الأوّل . أو ضمير هاوية
والهاء للسكت ، وإذا وصل القارىء حذفها . وقيل : حقه أن لا يدرج لئلا يسقطها
الإدراج ، لأنّها ثابتة في المصحف . وقد اجيز إثباتها مع الوصل .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1337 ) ( من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة ) .
( سورة التكاثر )
مكية ، وآياتها 8 ( نزلت بعد الكوثر )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ
تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ
الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ
" صفحة رقم 798 "
ثُمَّ لَتُسْألُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (
التكاثر : ( 1 ) ألهاكم التكاثر
ألهاه عن كذا وأقهاه : إذا شغله . و ) التَّكَّاثُرُ ( التباري في الكثرة والتباهي
بها ، وأن يقول هؤلاء : نحن أكثر ، وهؤلاء : نحن أكثر . روى أن بني عبد مناف وبني
سهم تفاخروا أيهم أكثر عدداً ، فكثرهم بنو عبد مناف فقالت بنو سهم : إن البغي
أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات ، فكثرتهم بنو سهم . والمعنى :
أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى إذا استوعبتم عددهم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات
: عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكماً بهم . وقيل : كانوا يزورون
المقابر فيقولون : هذا قبر فلان وهذا قبر فلان عند تفاخرهم . والمعنى : ألهاكم ذلك
وهو مما لا يعينكم ولا يجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم عما يعينكم من أمر الدين الذي
هو أهم وأعني من كل مهم . أو أراد ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم
وقبرتم . منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاستباق إليها والتهالك عليها ، إلى أن
أتاكم الموت لا همّ لكم غيرها ، عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم والعمل لآخرتكم
. وزيارة القبور : عبارة عن الموت . قال : لَنْ يُخْلِصَ الْعَامَ خَلِيلٌ عِشْرا
ذَاقَ الضِّمَادَ أَوْ يَزُورَ الْقَبْرا
وقال : زَارَ الْقُبُورَ أَبُو مَالِك
فَأَصْبَحَ أَلأمَّ زُوَّارِهَا
وقرأ ابن عباس : ( أألهاكم ) ؟ على الاستفهام الذي معناه التقرير ) كَلاَّ ( ردع
وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بدينه )
سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( إنذار ليخافوا فيتنبهوا من غفلتهم . والتكرير : تأكيد للردع
والأنذار عليهم . و ( ثم ) دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل وأشد ، كما
تقول للمنصوح : أقول لك ثم أقول لك : لا تفعل ، والمعنى : سوف تعلمون الخطأ فيما
أنتم عليه إذا عاينتم ما قدّامكم من هول لقاء الله ، وإنّ هذا التنبيه نصيحة لكم
ورحمة عليكم . ثم كرّر التنبيه أيضاً وقال :
" صفحة رقم 799 "
) لَّوْ تَعْلَمُونَ ( محذوف الجواب ، يعني : لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر
اليقين ، أي : كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور التي وكلتم بعملها هممكم : لفعلتم ما
لا يوصف ولا يكتنه ؛ ولكنكم ضلال جهلة ؛ ثم قال : ) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ( فبين
لهم ما أنذرهم منه وأوعدهم به ؛ وقد مرّ ما في إيضاح الشيء بعد إبهامه من تفخيمه
وتعظيمه ، وهو جواب قسم محذوف ، والقسم لتوكيد الوعيد ، وأن ما أوعدوا به ما لا
مدخل فيه للريب ؛ وكرره معطوفاً بثم تغليظاً في التهديد وزيادة في التهويل . وقرىء
: ( لترؤن ) بالهمز وهي مستكرهة . فإن قلت : لم استكرهت والواو المضمومة قبلها
همزة قياس مطرد ؟ قلت : ذاك في الواو التي ضمتها لازمة ، وهذه عارضة لالتقاء
الساكنين . وقرىء : ( لترون ) ولترونها : على البناء للمفعول ) عَيْنَ الْيَقِينِ
( أي : الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصته . ويجوز أن يراد بالرؤية : العلم
والإبصار ) عَنِ النَّعِيمِ ( عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين
وتكاليفه . فإن قلت : ما النعيم الذي يسئل عنه الإنسان ويعاتب عليه ؟ فما من أحد
إلاّ وله نعيم ؟ قلت : هو نعيم من عكف همته على استيفاء اللذات ، ولم يعش إلاّ
ليأكل الطيب ويلبس اللين ، ويقطع أوقاته باللهو والطرب ، لا يعبأ بالعلم والعمل ،
ولا يحمل نفسه مشاقهما ؛ فأما من تمتع بنعمة الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلاّ
لعباده ، وتقوّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل ، وكان ناهضاً بالشكر : فهو
من ذاك بمعزل ؛ وإليه أشار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يروي :
( 1338 ) أنه أكل هو وأصحابه تمر وشربوا عليه ماء فقال : ( الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا
وجعلنا مسلمين ) .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 800 "
:
( 1339 ) ( من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في
دار الدنيا ، وأعطى من الأجر كأنما قرأ ألف آية ) .
( سورة العصر )
مكية ، وآياتها 3 ( نزلت بعد الشرح )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ (
العصر : ( 1 ) والعصر
أقسم بصلاة العصر لفضلها ، بدليل قوله تعالى : ( والصلاة الوسطى ) صلاة العصر ، في
مصحف حفصة . وقوله عليه الصلاة والسلام :
( 1340 ) ( من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله ) ولأنّ التكليف في أدائها أشقّ
لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار ، واشتغالهم بمعايشهم . أو أقسم
بالعشي كما أقسم بالضحى لما فيهما جميعاً من دلائل القدرة . أو أقسم بالزمان لما
في مروره من أصناف العجائب . والإنسان : للجنس . والخسر : الخسران ، كما قيل :
الكفر في الكفران . والمعنى : أن الناس في خسران من تجارتهم إلاّ الصالحين وحدهم ،
لأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا ، فربحوا وسعدوا ، ومن عداهم تجروا خلاف تجارتهم ،
فوقعوا في الخسارة والشقاوة ) وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ ( بالأمر الثابت الذي لا
يسوغ إنكاره ، وهو الخير كله : من توحيد الله وطاعته ، واتباع كتبه ورسله ، والزهد
في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ) وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ ( عن المعاصي وعلى الطاعات
، على ما يبلو الله به عباده .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 801 "
: ( من قرأ سورة والعصر غفر الله له وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر ) .
( سورة الهمزة )
مكية ، وآياتها 9 ( نزلت بعد القيامة
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ
أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ وَمَآ أَدْرَاكَ
مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاٌّ
فْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ (
الهمزة : ( 1 - 9 ) ويل لكل همزة . . . . .
الهمز : الكسر ، كالهزم . واللمز : الطعن . يقال : لمزه ولهزه طعنه ، والمراد :
الكسر من أعراض الناس والغض منهم ، واغتيابهم ؛ والطعن فيهم وبناء ( فعلة ) يدلّ
على أنّ ذلك عادة منه قد ضرى بها . ونحوهما : اللعنة والضحكة . قال : وَإنِ
أُغَيَّبْ فَأَنْتَ الْهَامِزُ اللُّمَزَهْ
وقرىء : ويل للهمزة اللمزة ) وقرىء : ( ويل لكل همزة لمزة ) بسكون الميم : وهو
" صفحة رقم 802 "
المسخرة الذي يأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه ، ويشتم . وقيل : نزلت في الأخنس
بن شريق وكانت عادته الغيبة والوقيعة . وقيل : في أمية بن خلف . وقيل : في الوليد
بن المغيرة واغتيابه لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وغضه منه . ويجوز أن يكون
السبب خاصاً والوعيد عاماً ، ليتناول كل من باشر ذلك القبيح ، وليكون جارياً مجرى
التعريض بالوارد فيه ، فإنّ ذلك أزجر له وأنكى فيه ) - - ه 4 س 104 ش 2 ن 1 / ن 1
- - الَّذِى ( بدل من كل . أو نصب على الذم . وقرىء : ( جمع ) بالتشديد ، وهو
مطابق لعدده . وقيل : ) عدده ( جعله عدة لحوادث الدهر . وقرىء : ( وعدده ) أي :
جمع المال وضبط عدده وأحصاه . أو جمع ماله وقومه الذين ينصرونه ، من قولك : فلان
ذو عدد وعدد : إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم . وقيل : ) مَالاً
وَعَدَّدَهُ ( معناه : وعدّه على فك الإدغام ، نحو : ضننوا ) أَخْلَدَهُ ( وخلده
بمعنى أي : طوّل المال أمله ، ومناه الأماني البعيدة ، حتى أصبح لفرط غفلته وطول
أمله يحسب أنّ المال تركه خالداً في الدنيا لا يموت . أو يعمل من تشييد البنيان
الموثق بالصخر والآجر وغرس الأشجار وعمارة الأرض : عمل من يظن أن ماله أبقاه حياً
. أو هو تعريض بالعمل الصالح . وأنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم ؛ فأما المال
فما أخلد أحداً فيه . وروي أنه كان للأخنس أربعة آلاف دينار . وقيل : عشرة آلاف .
وعن الحسن : أنه عاد موسراً فقال : ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت
على كريم ؟ قال : ولكن لماذا ؟ قال : لنبوة الزمان ، وجفوة السلطان ، ونوائب الدهر
. ومخافة الفقر . قال : إذن تدعه لمن لا يحمدك ، وترد على من لا يعذرك ) - - ه 4 س
104 ش 4 ن 1 / ن 1 - - كَلاَّ ( ردع له عن حسبانه . وقرىء : ( لينبذان ) أي : هو
وماله . ولينبذن ، بضم الذال ، أي : هو وأنصاره . ولينبذنه ) فِى الْحُطَمَةِ ( في
النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها . ويقال للرجل الأكول : إنه لحطمة .
وقرىء : ( الحاطمة ) يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على
أفئدتهم ، وهي أوساط القلوب ، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ، ولا أشدّ
تألماً منه بأدنى أذى يمسه ، فكيف إذا أطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه . ويجوز أن
يخصّ الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة . ومعنى اطلاع
النار عليها : أنها تعلوها وتغلبها وتشتمل عليها . أو تطالع على سبيل المجاز معادن
موجبها ) مُّؤْصَدَةُ ( مطبقاً . قال :
" صفحة رقم 803 "
تَحِنُّ إلَى أَجْبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِي
وَمِنْ دُونِهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُوصَدَهْ
وقرىء : ( في عمد ) بضمتين . وعمد ، بسكون الميم . وعمد بفتحتين . والمعنى : أنه
يؤكد يأسهم من الخروج وتيقنهم يحبس الأبد ، فتؤصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب
العمد ، استيثاقاً في استيثاق . ويجوز أن يكون المعنى : أنها عليهم مؤصدة ، موثقين
في عمد ممدّدة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص . اللهم أجرنا من النار يا خير
مستجار .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1342 ) ( من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد وأصحابه
) .
( سورة الفيل )
مكية ، آياتها 5 ( نزلت بعد الكافرون )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم
بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ (
الفيل : ( 1 ) ألم تر كيف . . . . .
روي أنّ أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء
وسماها القليس ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً ،
فأغضبه ذلك . وقيل : أججت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها ، فحلف
ليهدمنّ الكعبة فخرج بالحبشة ومعه فيل له اسمه محمود ، وكان قوياً عظيماً ، واثنا
" صفحة رقم 804 "
عشر فيلاً غيره . وقيل : ثمانية وقيل : كان معه ألف فيل ، وكان وحده ؛ فلما بلغ
المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع ، فأبى وعبأ جيشه
وقدّم الفيل ، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى اليمن
أو إلى غيرها من الجهات هرول ؛ فأرسل الله طيراً سوداً . وقيل : خضراً وقيل :
بيضاً ، مع كل طائر حجر في منقاره ، وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من
الحمصة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى منها عند أم هانيء قفيز مخططة بحمرة
كالجزع الظفارى ، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كل حجر اسم
من يقع عليه ، ففروا فهلكوا في كل طريق ومنهل ؛ ودوى أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه
، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه . وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائره يحلق فوقه ،
حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة ، فلما اتمّها وقع عليه الحجر فخرّ ميتاً بين يديه
. وقيل : كان أبرهة جدّ النجاشي الذي كان في زمن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
بأربعين سنة ، وقيل : بثلاث وعشرين سنة . وعن عائشة رضي الله عنها : رأيت قائد
الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان . وفيه أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير
، فخرج إليه فيها ، فجهره وكان رجلاً جسيماً وسيماً . وقيل : هذا سيد قريش وصاحب
عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، فلما ذكر حاجته قال :
سقطت من عيني ، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وعصمتكم وشرفكم في قديم
الدهر ، فألهاك عنه ذود أخذ لك ؛ فقال أنا رب الإبل ، وللبيت رب سيمنعه ، ثم رجع
وأتى باب البيت فأخذ بحلقته وهو يقول : لاَهُمَّ إنَّ المَرْءَ يَمْ
نَعُ فَامُنَعْ حَلاَلَكْ
لاَ يٍ غْلِبَنَّ صَلُيبُهُم
وَمُحَالُهُمْ عَدْواً مْحَالَك
إنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَكَع
بَتَنَا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَك
يَا رَبِّ لاَ أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا
يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا
" صفحة رقم 805 "
فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال : والله إنها لطير غريبة ما هي
ببحرية ولا تهامية . وفيه : أنّ أهل مكة قد احتووا على أموالهم ، وجمع عبد المطلب
من جواهرهم وذهبهم الجور ، وكان سبب يساره . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه
سئل عن الطير فقال : حمام مكة منها . وقيل : جاءت عشية ثم صبحتهم . وعن عكرمة : من
أصابته جدّرته وهو أوّل جدرى ظهر . وقرىء : ( ألم تر ) بسكون الراء للجد في إظهار
أثر الجازم : والمعنى : أنك رأيت أثار فعل الله بالحبشة ، وسمعت الأخبار به
متواترة ، فقامت لك مقام المشاهدة . و ) كَيْفَ ( في موضع نصب بفعل ربك ، لا بألم
تر ؛ لما في ) كَيْفَ ( من معنى الاستفهام ) فِى تَضْلِيلٍ ( في تضييع وإبطال .
يقال : ضلل كيده ، إذا جعله ضالاً ضائعاً . ومنه قوله تعالى : ) وَمَا كَيْدُ
الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ ( ( غافر : 25 ) وقيل : لامريء القيس : الملك
الضليل ؛ لأنه ضلل ملك أبيه ، أي : ضيعه ، يعني : أنهم كادوا البيت أوّلاً ببناء
القليس ، وأرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه ، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق
فيه ؛ وكادوه ثانياً بإرادة هدمه ، فضلل بإرسال الطير عليهم ) أَبَابِيلَ ( حزائق
، الواحدة : إبالة . وفي أمثالهم : ضغث على إبالة ، وهي : الحزمة الكبيرة ، شبهت
الحزقة من الطير في تضامّها بالإبالة . وقيل : أبابيل مثل عباديد ، وشماطيط لا
واحد لها ، وقرأ أبو حنيفة رحمه الله : ( يرميهم ) أي : الله تعالى أو الطير ،
لأنه اسم جمع مذكر ؛ وإنما يؤنث على المعنى . وسجيل : كأنه علم لديوان الذي كتب فيه
عذاب الكفار ، كما أن سجيناً علم الديوان أعمالهم ، كأنه قيل : بحجارة من جملة
العذاب المكتوب المدوّن ، واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال ؛ لأنّ العذاب موصوف
بذلك ، وأرسل عليهم طيراً ، فأرسلنا عليهم الطوفان . وعن ابن عباس رضي الله عنهما
: من طين مطبوخ كما يطبخ الآجر . وقيل : هو معرب من سنككل . وقيل : من شديد عذابه
؛ ورووا بيت ابن معقل :
ضَرْباً تَوَاصَتْ بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّيلاَ
" صفحة رقم 806 "
وإنما هو سجينا ، والقصيدة نونية مشهورة في ديوانه ؛ وشبهوا بورق الزرع إذا أكل ،
أي : وقع فيه الأكال : وهو أن يأكله الدود . أو بتبن أكلته الدواب وراثته ، ولكنه
جاء على ما عليه آداب القرآن ، كقوله : ) كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ( (
المائدة : 75 ) أو أريد : أكل حبه فبقي صفراً منه .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1343 ) ( من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ ) .
( سورة قريش )
مكية ، وآياتها 4 ( نزلت بعد التين )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) لإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ
فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ
وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ (
قريش : ( 1 - 4 ) لإيلاف قريش
) لإِيلَافِ قُرَيْشٍ ( متعلق بقوله : ) فَلْيَعْبُدُواْ ( أمرهم أن يعبدوه لأجل
إيلافهم الرحلتين فإن قلت : فلم دخلت الفاء ؟ قلت : لما في الكلام من معنى الشرط
لأن المعنى : إما لا فليعبدوه لإيلافهم ، على معنى : أنّ نعم الله عليهم لا تحصى ،
فإن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة . وقيل :
المعنى : عجبوا لإيلاف قريش . وقيل : هو متعلق بما قبله ، أي : فجعلهم كعصف مأكول
لإيلاف قريش ، وهذا بمنزلة التضمين في الشعر : وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله
تعلقاً لا يصحّ إلاّ به ، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة ، بلا فصل . وعن عمر : أنه
قرأهما في الثانية من صلاة المغرب . وقرأ في الأولى : ( والتين ) . والمعنى أنه
أهلك الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك ، فيتهيبوهم زيادة تهيب ، ويحترموهم
فضل احترام ، حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتهم ، فلا يجترىء أحد عليهم ، وكانت لقريش
رحلتان ؛ يرحلون في
" صفحة رقم 807 "
الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام ، فيمتارون ويتجرون ، وكانوا في رحلتيهم
آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته ، فلا يتعرّض لهم ، والناس غيرهم يتخطفون
ويغار عليهم ، والإيلاف من قولك : آلفت المكان أولفه إيلافاً : إذا ألفته ، فأنا
مألف . قال : مِنَ الْمُؤَلِفَاتِ الرَّهْوِ غَيْرِ الأوَالِكِ
وقرىء : ( لئلاف قريش ) أي : لمؤالفة قريش . وقيل : يقال : ألفته إلفاً وإلافاً .
وقرأ أبو جعفر : ( لإلف قريش ) ، وقد جمعهما من قال :
زَعَمْتُمْ أَنْ إخْوَتَكُمْ قُرَيْش لَهُمْ إلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إلاَفُ
وقرأ عكرمة : ( ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء والصيف ) . وقريش : ولد النضر بن
كنانة سموا بتصغير القرش : وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ، ولا تطاق إلاّ
بالنار . وعن معاوية أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما : بم سميت قريش ؟ قال :
بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعالى . وأنشد :
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُن الْبَحْرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشاً
والتصغير للتعظيم . وقيل : من القرش وهو الكسب : لأنهم كانوا كسابين بتجاراتهم وضربهم
في البلاد . أطلق الإيلاف ثم أبدل عنه المقيد بالرحلتين ، تفخيماً لأمر الإيلاف ،
وتذكيراً بعظم النعمة فيه ؛ ونصب الرحلة بإيلافهم مفعولاً به ، كما نصب ( يتيماً )
بإطعام ، وأراد رحلتي الشتاء والصيف ، فأفرد لأمن الإلباس ، كقوله :
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ . . . . . . ;
وقرىء : ( رحلة ) بالضم : وهي الجهة التي يرحل إليها : والتنكير في ) جُوعٍ ( و )
خوْفٍ ( لشدتهما ، يعني : أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما ، وآمنهم
من خوف عظيم وهو خوف أصحاب الفيل ، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم .
" صفحة رقم 808 "
وقيل : كانوا قد أصابتهم شدّة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة ، وآمنهم من خوف
الجذام فلا يصيبهم ببلدهم . وقيل : ذلك كله بدعاء إبراهيم صلوات الله عليه . ومن
بدع التفاسير : وآمنهم من خوف ، من أن تكون الخلافة في غيرهم . وقرىء : ( من خوف )
بإخفاء النون .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1344 ) ( من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة
واعتكف بها ) .
( سورة الماعون )
مكية ، ثلاث آيات الأول ، مدنية البقية ؛ وآياتها 7 ( نزلت بعد التكاثر )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ
وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ
هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ وَيَمْنَعُونَ
الْمَاعُونَ (
الماعون : ( 1 - 7 ) أرأيت الذي يكذب . . . . .
قرىء : ( رأيت ) ، بحذف الهمزة ، وليس بالاختيار ؛ لأنّ حذفها مختص بالمضارع ، ولم
يصحّ عن العرب : ريت ، ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أوّل الكلام
. ونحوه : صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاع
رَدَّ فِي الضَّرْعِ مَا قَرَى فِي الْحِلاَب
وقرأ ابن مسعود : ( أرأيتك ) بزيادة حرف الخطاب ، كقوله : ( أرأيتك هذا الذي
" صفحة رقم 809 "
كرّمت عليّ ) والمعنى : هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو ؟ إن لم تعرفه ) فَذَلِكَ
الَّذِى ( يكذب بالجزاء ، هو الذي ) يَدُعُّ الْيَتِيمَ ( أي : يدفعه دفعاً عنيفاً
بجفوة وأذى ، وبردّه ردّاً قبيحاً بزجر وخشونة . وقرىء : ( يدع ) أي : يترك ويجفو
) وَلاَ يَحُضُّ ( ولا يبعث أهله على بذل طعام المسكين ، جعل علم التكذيب بالجزاء
منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف ، يعني : أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد
، لخشى الله تعالى وعقابه ولم يقدم على ذلك ، فحين أقدم عليه : على أنه مكذب ، فما
أشدّه من كلام ، وأما أخوفه من مقام . وما أبلغه في التحذير من المعصية وأنها
جديرة بأن يستدلّ بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين ، ثم وصل به قوله )
فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ( كأنه قال : فإذا كان الأمر كذلك ، فويل للمصلين الذين
يسهون عن الصلاة قلة مبالاة بها ، حتى تفوتهم أو يخرج وقتها ، أو لا يصلونها كما
صلاها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والسلف ولكن ينقرونها نقراً من غير خشوع
وإخبات ولا اجتناب لما يكره فيها : من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب
والالتفات ، لا يدري الواحد منهم عن كم انصرف ، ولا ما قرأ من السور ، كما ترى
صلاة أكثر من ترى الذين عادتهم الرياء بأعمالهم ومنع حقوق أموالهم . والمعنى : أن
هؤلاء أحق بأن يكون سهوهم عن الصلاة التي هي عماد الدين ، والفارق بين الإيمان
والكفر والرياء الذي هو شعبه من الشرك ، ومنع الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة
الإسلام علماً على أنهم مكذبون بالدين . وكم ترى من المتسمين بالإسلام ، بل من
العلماء منهم من هو على هذه الصفة ، فيا مصيبتاه . وطريقة أخرى : أن يكون )
فَذَلِكَ ( عطفاً على ) الَّذِى يُكَذّبُ ( إمّا عطف ذات على ذات ، وصفة على صفة ،
ويكون جواب ) أَرَأَيْتَ ( محذوفاً لدلالة ما بعده عليه ، كأنه قيل : أخبرني ، وما
تقول فيمن يكذب بالجزاء ؟ وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين ؟ أنِعم ما يصنع ؟
ثم قال : ) فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ( أي : إذا علم أنه مسىء ، فويل للمصلين ، على
معنى : فويل لهم ، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم ؛ لأنهم مع التكذيب وما أضيف
إليهم ساهين عن الصلاة مرائين ، غير مزكين أموالهم . فإن قلت : كيف جعلت المصلين
قائماً مقام ضمير الذي يكذب ، وهو واحد ؟ قلت : معناه الجمع ، لأنّ المراد به
الجنس . فإن قلت : أيّ فرق بين قوله : ) عَن صَلَاتِهِمْ ( وبين قولك : ( في
صلاتهم ) ؟ قلت : معنى : ( عن ) : أنهم ساهون عنها سهو ترك لها وقلة التفات إليها
؛ وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشطار من المسلمين . ومعنى ( في ) : أنّ السهو
يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس ، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم .
" صفحة رقم 810 "
( 1345 ) وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقع له السهو في صلاته فضلاً عن
غيره ؛ ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم . وعن أنس رضي الله عنه :
الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم . وقرأ ابن مسعود : ( لاهون ) فإن قلت : ما
معنى المراآة قلت : هي مفاعلة من الإراءة ، لأنّ المرائي يرى الناس عمله ، وهم
يرونه الثناء عليه والإعجاب به ، ولا يكون الرجل مرائياً بإظهار العمل الصالح إن
كان فريضة ، فمن حقّ الفرائض الإعلان بها وتشهيرها ، لقوله عليه الصلاة السلام :
( 1346 ) ( ولا غمة في فرائض الله ) لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين ؛ ولأن
تاركها يستحق الذمّ والمقت ، فوجب إماطة التهمة بالإظهار ؛ وإن كان تطوعاً ، فحقه
أن يخفي ، لأنه مما لا يلام برتكه ولا تهمة فيه ؛ فإن أظهره قاصداً للاقتداء به
كان جميلاً ، وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين ، فيثني عليه بالصلاح
. وعن بعضهم : أنه رأى رجلاً في المسجد قد سجد سجدة الشكر وأطالها ، فقال : ما
أحسن هذا لو كان في بيتك ؛ وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة ؛ على أن
اجتناب الرياء صعب إلاّ على المرتاضين بالإخلاص . ومن ثم قال رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) :
( 1347 ) ( الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح
الأسود ) ) الْمَاعُونَ ( الزكاة ، قال الراعي : قِوْمٌ عَلَى الإسْلاَمِ لما
يَمْنَعُوا
مَاعُونَهُمْ وِيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلاَ
" صفحة رقم 811 "
وعن ابن مسعود : ما يتعاور في العادة من الفأس والقدر والدلو والمقدحة ونحوها .
وعن عائشة الماء والنار والملح ؛ وقد يكون منع هذه الأشياء محظوراً في الشريعة إذا
استعيرت عن اضطرار ، وقبيحاً في المروءة في غير حال الضرورة .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1348 ) ( من قرأ سورة أرأيت غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا ) .
( سورة الكوثر )
مكية ، وآياتها ثلاث ( نزلت بعد العاديات )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ
هُوَ الاٌّ بْتَرُ (
الكوثر : ( 1 ) إنا أعطيناك الكوثر
( 1349 )في قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنا أنظيناك ) بالنون .
وفي حديثه ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1350 ) ( وانطوا الثبجة ) والكوثر فوعل من الكثرة وهو المفرط الكثرة . وقيل
لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ؟ قالت : آب بكوثر . وقال :
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا ابْنَ مَرْوَانَ طَيِّب
وَكَانَ أَبُوكَ ابْنَ الْعَقَاثِلِ كَوْثَرَا
وقيل : ( الكوثر ) نهر في الجنة . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
" صفحة رقم 812 "
:
( 1351 ) أنه قرأها حين أنزلت عليه فقال : ( أتدرون ما الكوثر ؟ إنه نهر في الجنة
وعدنيه ربي ، فيه خير كثير ) وروي في صفته :
( 1352 ) أحلى من العسل ، وأشدّ بياضاً من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من
الزبد ؛ حافتاه الزبرجد ، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء . وروى :
( 1353 ) لا يظمأ من شرب منه أبداً : أول وارديه : فقراء المهاجرين : الدنسو
الثياب ، الشعث الرؤوس ، الذين لا يزوجون المنعمات ، ولا تفتح لهم أبواب السدد ،
يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره ، لو أقسم على الله لأبرّه ) . وعن ابن عباس أنه
فسر الكوثر بالخير الكثير ، فقال له سعيد بن جبير : إن ناساً يقولون : هو نهر في
الجنة ا فقال : هو من الخير الكثير . والنحر : نحر البدن ؛ وعن عطية : هي صلاة
الفجر بجمع ، والنحر بمنى . وقيل : صلاة العيد والتضحية . وقيل : هي جنس الصلاة .
والنحر : وضع اليمين على الشمال ، والمعنى : أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير
الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك ، ومعطى ذلك كله أنا إلاه العالمين ، فاجتمعت لك
الغبطتان السنيتان : إصابة أشرف عطاء ، وأوفره ، من أكرم معط وأعظم منعم ؛ فاعبد
ربك الذي أعزّك بإعطائه ،
" صفحة رقم 813 "
وشرفك وصانك من منن الخلق ، مراغماً لقومك الذين يعبدون غير الله ، وانحر لوجهه
وباسمه إذا نحرت ، مخالفاً لهم في النحر للأوثان ( إن ) من أبغضك من قومك لمخالفتك
لهم ) هُوَ الاْبْتَرُ ( لا أنت ؛ لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين
فهم أولادك وأعقابك ، وذكرك موفوع على المنابر والمنار ، وعلى لسان كل عالم وذاكر
إلى آخر الدهر ، يبدأ بذكر الله ويثني بذكرك ، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف
، فمثلك لا يقال له أبتر : وإنما الأبتر هو شانئك المنسي في الدنيا والآخرة ، وإن
ذكر ذكر باللعن . وكانوا يقولون : إنّ محمداً صنبور : إذا مات مات ذكره . وقيل :
نزلت في العاص بن وائل ، وقد سماه الأبتر ، والأبتر : الذي لا عقب له . ومنه
الحمار الأبتر الذي لا ذنب له .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1354 ) ( من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر في الجنة ويكتب له عشر حسنات
بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر أو يقربونه ) .
( سورة الكافرون )
مكية ، وهي ست آيات ( نزلت بعد الماعون ) ويقال لها ولسورة الإخلاص : المقشفشتان ،
أي : المبرئتان من النفاق
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ (
الكافرون : ( 1 ) قل يا أيها . . . . .
المخاطبون كفرة مخصوصون قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون . روى أنّ رهطاً من قريش
قالوا : يا محمد ، هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلاهك سنة
، فقال : ( معاذ الله أن أشرك بالله غيره ) فقالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدقك
ونعبد إلاهك ، فنزلت ؛ فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم
فقرآها عليهم .
" صفحة رقم 814 "
فأيسوا . ) لاَ أَعْبُدُ ( أريدت به العبادة فيما يستقبل ، لأنّ ( لا ) لا تدخل
إلاّ على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن ( ما ) لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى
الحال ، ألا ترى أن ( لن ) تأكيد فيما تنفيه ( لا ) . وقال الخليل في ( لن ) : أنّ
أصله ( لا أن ) والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ،
ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلاهي ) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا
عَبَدتُّمْ ( أي : وما كنت قطّ عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه يعني : لم تعهد مني
عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام ) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ ( أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته . فإن قلت : فهلا قيل : ما
عبدت ، كما قيل : ما عبدتم ؟ قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث ، وهو
لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت . فإن قلت : فلم جاء على ( ما ) دون ( من ) ؟
قلت : لأن المراد الصفة ، كأنه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق . وقيل :
إن ( ما ) مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي ) لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِىَ دِينِ ( لكم شرككم ، ولي توحيدي . والمعنى : أني نبيّ مبعوث إليكم لأدعوكم
إلى الحق والنجاة ، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني ، فدعونى كفافاً ولا تدعوني
إلى الشرك .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1355 ) ( من قرأ سورة الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت منه مردة
" صفحة رقم 815 "
الشياطين ، وبرىء من الشرك ويعافي من الفزع الأكبر ) .
( سورة النصر )
نزلت بمنى في حجة الوداع ، فتعد مدنية ، وهي آخر من نزل من السور
وآياتها 3 ( نزلت بعد التوبة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى
دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ
كَانَ تَوابَا (
النصر : ( 1 ) إذا جاء نصر . . . . .
) إِذَا جَاء ( منصوب بسبح ، وهو لما يستقبل . والاعلام بذلك قبل كونه من أعلام
النبوّة . روى أنها نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع . فإن قلت : ما الفرق
بين النصر والفتح حتى عطف عليه ؟ قلت : النصر الإغاثة والإظهار على العدوّ . ومنه
: نصر الله الأرض غاثها . والفتح : فتح البلاد والمعنى نصر رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) على العرب أو على قريش وفتح مكة وقيل : جنس نصر الله للمؤمنين وفتح
بلاد الشرك عليهم . وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ، ومع رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب ، وأقام بها
خمس عشرة ليلة ، ثم خرج إلى هوازن ، وحين دخلها
( 1356 ) وقف على باب الكعبة ، ثم قال : ( لا إلاه إلاّ الله وحده لا شريك له صدق
وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ) ، ثم قال : ( يا أهل مكة ، ما ترون أني فاعل
بكم ؟ ) قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم ) . قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ،
فأعتقهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم
عنوة ، وكانوا له فيئاً ، فلذلك سمى
" صفحة رقم 816 "
أهل مكة الطلقاء ، ثم بايعوه على الإسلام ) فِى دِينِ اللَّهِ ( في ملة الإسلام
التي لا دين له يضاف إليه غيرها ) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن
يُقْبَلَ مِنْهُ ( ( آل عمران : 85 ) . ) أَفْوَاجاً ( جماعات كثيفة كانت تدخل فيه
القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً واثنين اثنين . وعن جابر بن
عبد الله رضي الله عنه :
( 1357 ) أنه بكى ذات يوم ، فقيل له . فقال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
يقول : ( دخل الناس في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا ) وقيل : أراد بالناس
أهل اليمن . وقال أبو هريرة :
( 1358 ) لما نزلت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الله أكبر جاء نصر
الله والفتح ، وجاء أهل اليمن : قوم رقيقة قلوبهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ،
والحكمة يمانية ) وقال :
( 1359 ) أجد نفير ربكم من قبل اليمن ) . وعن الحسن : لما فتح رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) مكة أقبلت العرب بعضها على بعض ، فقالوا : أما إذ ظفر بأهل الحرم
فليس به يدان ، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وعن كل من أرادهم ، فكانوا
يدخلون في الإسلام
" صفحة رقم 817 "
أفواجاً من غير قتال . وقرأ ابن عباس : فتح الله والنصر . وقرىء : ( يدخلون ) على
البناء للمفعول . فإن قلت : ما محل يدخلون ؟ قلت : النصب إما على الحال ، على أن
رأيت بمعنى أبصرت أو عرفت . أو هو مفعول ثانٍ على أنه بمعنى علمت ) فَسَبّحْ
بِحَمْدِ رَبّكَ ( فقل سبحان الله : حامداً له ، أي : فتعجب لتيسير الله ما لم
يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد من أهل الحرم ، واحمده على صنعه . أو : فاذكره
مسبحاً حامداً ، زيادة في عبادته والثناء عليه ، لزيادة إنعامه عليك . أو فصل له .
روت أمّ هانيء :
( 1360 ) أنه لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثماني ركعات ، وعن عائشة :
( 1361 ) كان عليه الصلاة والسلام يكثر قبل موته أن يقول : ( سبحانك اللهم وبحمدك
، أستغفرك وأتوب إليك ، والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر
الدين : من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية ، ليكون أمره بذلك مع عصمته
لطفاً لأمته ، ولأنّ الاستغفار من التواضع لله وهضم النفس ، فهو عبادة في نفسه .
وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1362 ) ( إني لأستغفر في اليوم والليلة مائة مرة ) وروي :
" صفحة رقم 818 "
( 1363 ) أنه لما قرآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه استبشروا
وبكى العباس ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما يبكيك يا عم ) ؟ قال
: نعيت إليك نفسك . قال : ( إنها لكما تقول ) فعاش بعدها سنتين لم ير فيهما ضاحكاً
مستبشراً ، وقيل :
( 1364 ) إن ابن عباس هو الذي قال ذلك ؛ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( لقد أوتي هذا الغلام علماً كثيراً ) وروي :
( 1365 ) أنها لما نزلت خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( إن عبداً
خيره الله بين الدنيا وبين لقائه ، فاختار لقاء الله ، فعلم أبو بكر رضي الله عنه
، فقال : فديناك بأنفسما وأموالنا وآبائنا وأولادنا .
( 1366 ) وعن ابن عباس أن عمر رضي الله عنهما كان يدينه ويأذن له مع أهل بدر ،
فقال عبد الرحمن : أتأذن لهذا الفتى معنا وفي آبائنا من هو مثله ؟ فقال إنه ممن قد
علمتم . قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم ، وأذن لي معهم ، فسألهم عن قول الله
تعالى : ) إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ ( ولا أراه سألهم إلاّ من أجلي ؛ فقال بعضهم
: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه ؛ فقلت : ليس كذلك ، ولكن
نعيت إليه نفسه ؛ فقال عمر : ما أعلم منها إلاّ مثل ما تعلم ، ثم قال : كيف
تلومونني عليه بعدما ترون ؟ وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1367 ) أنه دعا فاطمة رضي الله عنها فقال : ( يا بنتاه إنه نعيت إليّ نفسي ) ،
فبكت ، فقال : ( لا تبكي ، فإنك أوّل أهلي لحوقاً بي ) . وعن ابن مسعود أنّ هذه
السورة
" صفحة رقم 819 "
تسمى سورة التوديع ) كَانَ تَوبَا ( أي : كان في الأزمنة الماضية منذ خلق المكلفين
تواباً عليهم إذا استغفروا ، فعلى كل مستغفر أن يتوقع مثل ذلك .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1368 ) ( من قرأ سورة إذا جاء نصر الله أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح
مكة ) .
( سورة المسد )
مكية ، وآياتها 5 ( نزلت بعد الفاتحة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِى جِيدِهَا
حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (
المسد : ( 1 ) تبت يدا أبي . . . . .
التباب : الهلاك . ومنه قولهم : أشابة أم تابة ، أي : هالكة من الهرم والتعجيز .
والمعنى : هلكت يداه ، لأنه فيما يروى : أخذ حجراً ليرمي به رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) وَتَبَّ ( وهلك كله . أو جعلت يداه هالكتين . والمراد : هلاك جملته
، كقوله تعالى : ) بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( ( الحج : 10 ) ومعنى : ) وَتَبَّ ( :
وكان ذلك وحصل ، كقوله : جَزَانِي جَزَاهُ اللَّهُ شَرَّ جَزَائِه
جَزَاءَ الْكلاَبِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ
ويدلّ عليه قراءة ابن مسعود : ( وقد تب ) وروي :
( 1369 ) أنه لما نزل ) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( ( الشعراء : 214 )
رقى الصفا
" صفحة رقم 820 "
وقال : يا صباحاه ، فاستجمع إليه الناس من كل أوب . فقال : يا بني عبد المطلب ، با
بني فهر ، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقيَّ ؟ قالوا : نعم ؛ قال
: فإني نذير لكم بين يدي الساعة ؛ فقال أبو لهب : تباً لك ، ألهذا دعوتنا ؟ فنزلت
. فإن قلت : لم كناه ، والتكنية تكرمة ؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون
مشتهراً بالكنية دون الاسم ، فقد يكون الرجل معروفاً بأحدهما ، ولذلك تجري الكنية
على الاسم ، أو الاسم على الكنية عطف بيان ، فما أريد تشهيره بدعوة السوء ، وأن
تبقى سمة له ، ذكر الأشهر من علميه ويؤيد ذلك قراءة : من قرأ يدا أبو لهب ) ، كما
قيل : علي بن أبو طالب . ومعاوية بن أبو سفيان ؛ لئلا يغير منه شيء فيشكل على
السامع ، ولفليتة بن قاسم أمير مكة ابنان ، أحدهما : عبد الله بالجرّ ، والآخر عبد
الله بالنصب . كان بمكة رجل يقال له : عبد الله بجرّة الدال ، لا يعرف إلاّ هكذا .
والثاني : أنه كان اسمه عبد العزّى ، فعدّل عنه إلى كنيته . والثالث : أنه لما كان
من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب ، وافقت حاله كنيته ؛ فكان جديراً بأن يذكر
بها . ويقال : أبو لهب ، كما يقال : أبو الشر للشرير . وأبو الخير للخير ، وكما
كنى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبا المهلب : أبا صفرة ، بصفرة في وجهه .
وقيل : كنى بذلك لتهلب وجنتيه وإشراقهما ، فيجوز أن يذكر بذلك تهكماً به ،
وبافتخاره بذلك . وقرىء : ( أبي لهب ) بالسكون . وهو من تغيير الأعلام ، كقولهم :
شمس بن مالك بالضم ) مَا أَغْنَى ( استفهام في معنى الإنكار ، ومحله النصب أو نفي
) وَمَا كَسَبَ ( مرفوع . وما موصولة أو مصدرية بمعنى : ومكسوبه . أو : وكسبه .
والمعنى : لم ينفعه ماله وما كسب بماله ، يعني : رأس المال والأرباح . أو ماشيته
وما كسب من نسلها ومنافعها ، وكان ذا سابياء . أو ماله الذي ورثه من أبيه والذي
كسبه بنفسه . أو ماله التالد والطارف . وعن ابن عباس : ما كسب ولده . وحكى أن بني
أبي لهب احتكموا إليه ، فاقتتلوا ، فقام يحجز بينهم ، فدفعه بعضهم فوقع فغضب ،
فقال : أخرجوا عني الكسب الخبيث ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن أطيب ما
يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ) وعن الضحاك : ما ينفعه ماله وعمله الخبيث ،
يعني كيده في عداوة رسول
" صفحة رقم 821 "
الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن قتادة : عمله الذي ظنّ أنه منه على شيء ، كقوله
: ) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ ( ( الفرقان : 23 ) وروي أنه كان
يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي ( سيصلى )
قرىء : بفتح الياء وبضمها مخففاً ومشدداً ، والسين للوعيد ، أي : هو كائن لا محالة
وإن تراخى وقته ) وَامْرَأَتُهُ ( هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان ، وكانت تحمل
حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنثرها بالليل في طريق رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) . وقيل : كانت تمشى بالنميمة ويقال : للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس :
يحمل الحطب بينهم ، أي : يوقد بينهم النائرة ويورث الشرّ . قال : مِنَ الْبِيضِ
لَمْ تَصْطَدْ عَلَى ظَهْرِ لَأْمَة
وَلَمْ تَمْشِ بَيْنَ الْحَيِّ بالْحَطَبِ الرَّطْبِ
جعله رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ ، ورفعت عطفاً على الضمير في
) سَيَصْلَى ( أي : سيصلى هو وامرأته . و ) فِى جِيدِهَا ( في موضع الحال ، أو على
الابتداء ، وفي جيدها : الخبر . وقرىء : ( حمالة الحطب ) بالنصب على الشتم ؛ وأنا
أستحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بجميل : من أحب
شتم أم جميل . وقرىء : ( حمالة الحطب ) وحمالة للحطب : بالتنوين ، والرفع والنصب .
وقرىء : ( ومريته ) بالتصغير . المسد : الذي فتل من الحبال فتلاً شديداً ، من ليف
كان أو جلد ، أو غيرهما . قال : وَمَعَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيَانِقِ
ورجل ممسود الخلق مجدوله . والمعنى : في جيدها حبل مما مسد من الحبال ، وأنها تحمل
تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون : تخسيساً لحالها ،
وتحقيراً لها ، وتصويراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن ، لتمتعض من ذلك
ويمتعض بعلها ؛ وهما في بيت العزّ والشرف . وفي منصب الثروة والجدة . ولقد غير بعض
الناس الفضل بن العباس ابن عتبة ابن أبي لهب بحمالة الحطب ، فقال :
مَاذَا أَرَدْتَ إلَى شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي أَمْ مَا تَعَيَّرُ مِنْ حَمَّالَةِ
الْحَطَب
" صفحة رقم 822 "
غَرَّاءَ شَادِخَةٍ فِي الْمَجْدِ غُرَّتُهَا
كَانَتْ سَلِيلَةَ شَيْخٍ نَاقِبِ الحَسَبِ
ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ حالها تكون من نار جهنم على الصورة التي كانت عليها
حين كانت تحمل حزمة الشوك ؛ فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم
أو من الضريع وفي جيدها حبل من ما مسد من سلاسل النار ؛ كما يعذب كل مجرم بما
يجانس حاله في جرمه .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1370 ) ( من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة
) .
( سورة الإخلاص )
مكية ، وقيل : مدنية ، وآياتها 4 ( نزلت بعد الناس
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ
يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (
الإخلاص : ( 1 - 4 ) قل هو الله . . . . .
) هُوَ ( ضمير الشأن ، و ) اللَّهُ أَحَدٌ ( هو الشأن ، كقولك : هو زيد منطلق ،
كأنه قيل : الشأن هذا ، وهو أن الله واحد لا ثاني له . فإن قلت : ما محل هو ؟ قلت
: الرفع على الابتداء والخبر الجملة . فإن قلت : فالجملة الواقعة خبراً لا بد فيها
من راجع إلى المبتدإ ، فأين الراجع ؟ قلت : حكم هذه الجملة حكم المفرد في قولك : (
زيد غلامك ) في أنه هو المبتدأ في المعنى ، وذلك أن قوله : ) اللَّهُ أَحَدٌ ( هو
الشأن الذي هو عبارة عنه ، وليس كذلك ( زيد أبوه منطلق ) فإن زيداً والجملة يدلان
على معنيين مختلفين ، فلا بد مما يصل بينهما . وعن ابن عباس : قالت قريش : يا محمد
، صف لنا ربك الذي تدعونا إليه ، فنزلت : يعني : الذي سألتموني صفه هو الله ، أحد
: بدل من قوله ، الله .
" صفحة رقم 823 "
أو على : هو أحد ، وهو بمعنى واحد ، وأصله وحد . وقرأ عبد الله وأبيّ : ( هو الله
أحد ) بغير ) قُلْ ( وفي قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الله أحد ) بغير
) قُلْ هُوَ ( وقال من قرأ : الله أحد ، كان بعدل القرآن . وقرأ الأعمش : ( قل هو
الله الواحد ) . وقرىء : ( أحد الله ) بغير تنوين : أسقط لملاقاته لام التعريف .
ونحوه : وَلاَ ذَاكِراً اللَّهِ إلاّ قَلِيلاً ;
والجيد هو التنوين ، وكسره لالتقاء الساكنين . و ) الصَّمَدُ ( فعل بمعنى مفعول ،
من صمد إليه إذا قصده ، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج . والمعنى : هو الله
الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السماوات والأرض وخالقكم ، وهو واحد متوحد
بالإلاهية لا يشارك فيها ، وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق ولا يستغنون عنه ، وهو
الغني عنهم ) لَمْ يَلِدْ ( لأنه لا يجانس ، حتى يكون له من جنسه صاحبه فيتوالدا .
وقد دلّ على هذا المعنى بقوله : ) أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ
صَاحِبَةٌ ( ( الأنعام : 101 ) . ) وَلَمْ يُولَدْ ( لأنّ كل مولود محدث وجسم ،
وهو قديم لا أوّل لوجوده وليس بجسم ولم يكافئه أحد ، أي : لم يماثله ولم يشاكله .
ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح ، نفياً للصاحبة : سألوه أن يصفه لهم ، فأوحى
إليه ما يحتوى على صفاته ، فقوله : ) هُوَ اللَّهُ ( إشارة لهم إلى من هو خالق
الأشياء وفاطرها ، وفي طيّ ذلك وصفه بأنه قادر عالم ؛ لأنّ الخلق يستدعي القدرة
والعلم ، لكونه واقعاً على غاية إحكام واتساق وانتظام . وفي ذلك وصفه بأنه حي سميع
بصير . وقوله : ) أَحَدٌ ( وصف بالوحدانية ونفي الشركاء . وقوله : ) الصَّمَدُ ( وصف
بأنه ليس إلاّ محتاجاً إليه ، وإذا لم يكن إلاّ محتاجاً إليه : فهو غني . وفي كونه
غنياً مع كونه عالماً : أنه عدل غير فاعل للقبائح ، لعلمه بقبح القبيح وعلمه بغناه
عنه . وقوله : ) لَمْ يُولَدْ ( وصف بالقدم والأوّلية . وقوله : ) لَمْ يَلِدْ (
نفي للشبه والمجانسة . وقوله : ) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( تقرير لذلك
وبت للحكم به ، فإن قلت : الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير
مستقر ولا يقدم ،
" صفحة رقم 824 "
وقد نصّ سيبويه على ذلك في كتابه ، فما باله مقدّماً في أفصح كلام وأعربه ؟ قلت : هذا
الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه ؛ وهذا المعنى مصبه ومركزه هو
هذا الظرف ، فكان لذلك أهم شيء وأعناه ، وأحقه بالتقدم وأجراه . وقرىء : ( كفؤاً )
بضم الكاف والفاء . وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء : فإن قلت : لم كانت هذه
السورة وعدل القرآن كله على قصر منها وتقارب طرفيها ؟ قلت : لأمر ما يسود من يسود
، وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده ، وكفى دليلاً من
اعتراف بفضلها وصدق بقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيها : إنّ علم التوحيد
من الله تعالى بمكان ، وكيف لا يكون كذلك والعلم تابع للمعلوم : يشرف بشرفه ،
ويتضع بضعه ؛ ومعلوم هذا العلم هو الله تعالى وصفاته ، وما يجوز عليه وما لا يجوز
، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله ، وإنافته على كل علم ، واستيلائه على قصب
السبق دونه ؛ ومن ازدراه فلضعف علمه بمعلومه ، وقلة تعظيمه له ، وخلوه من خشيته ،
وبعده من النظر لعاقبته . اللهم احشرنا في زمرة العالمين بك العاملين لك ،
القائلين بعدلك وتوحيدك ، الخائفين من وعيدك . وتسمى سورة الأساس لاشتمالها على
أصول الدين ، وروى : أبيّ وأنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1371 ) ( أسست السماوات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد ) يعني ما خلقت
إلاّ لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته التي نطقت بها هذه السورة . عن رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1372 ) أنه سمع رجلاً يقرأ : قل هو الله أحد فقال : ( وجبت ) . قيل : يا رسول
الله وما وجبت ؟ قال : ( وجبت له الجنة ) .
" صفحة رقم 825 "
( سورة الفلق )
مكية ، وقيل : مدنية وآياتها 5 ( نزلت بعد الفيل )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا
وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا
حَسَدَ (
الفلق : ( 1 ) قل أعوذ برب . . . . .
الفلق والفرق : الصبح ، لأنّ الليل يفلق عنه ويفرق : فعل بمعنى مفعول . يقال في
المثل : هو أبين من فلق الصبح ، ومن فرق الصبح . ومنه قولهم : سطع الفرقان ، إذا
طلع الفجر . وقيل : هو كل ما يفلقه الله ، كالأرض عن النبات ، والجبال عن العيون ،
والسحاب عن المطر ، والأرحام عن الأولاد ، والحب والنوى وغير ذلك . وقيل : هو واد
في جهنم أواجب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض ، الفلق ، والجمع : فلقان . وعن
بعض الصحابة أنه قدم الشأم فرأى دور أهل الذمّة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع
عليهم من دنياهم ، فقال : لا أبالى ، أليس من ورائهم الفلق ؟ فقيل : وما الفلق ؟
قال : بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه ) مِن شَرّ مَا خَلَقَ
( من شر خلقه . وشرّهم : ما يفعله المكلفون من الحيوان من المعاصي والمآثم ،
ومضارة بعضهم بعضاً من ظلم وبغي وقتل وضرب وشتم وغير ذلك ، وما يفعله غير المكلفين
منه من الأكل والنهس واللذع والعضّ كالسباع والحشرات ، وما وضعه الله في الموات من
أنواع الضرر كالإحراق في النار والقتل في السم . والغاسق : الليل إذا اعتكر ظلامه
من قوله تعالى : ) أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ ( ( الإسراء : 78 ) ومنه : غسقت
العين امتلأت دمعاً ، وغسقت الجراحة : امتلأت دماً . ووقوبه : دخول ظلامه في كل
شيء ، ويقال :
" صفحة رقم 826 "
وقبت الشمس إذا غابت . وفي الحديث :
( 1373 ) لما رأى الشمس قد وقبت قال : هذا حين حلها ، يعني صلاة المغرب . وقيل :
هو القمر إذا امتلأ ، وعن عائشة رضي الله عنها :
( 1374 ) أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيدي فأشار إلى القمر فقال :
تعوّذي من شرّ هذا ، فإنه الغاسق إذا وقب . ووقوبه : دخوله في الكسوف واسوداده .
ويجوز أن يراد بالغاسق : الأسود من الحيات : ووقبه : ضربه ونقبه . والوقب : النقب
. ومنه : وقبة الثريد ؛ والتعوّذ من شرّ الليل ؛ لأن انبثاثه فيه أكثر ، والتحرّز
منه أصعب . ومنه قولهم : الليل أخفى للويل . وقولهم : أغدر الليل ؛ لأنه إذا أظلم
كثر في الغدر وأسند الشرّ إليه لملابسته له من حدوثه فيه ) النَّفَّاثَاتِ (
النساء ، أو النفوس ، أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن
عليها ويرقين : والنفث النفخ من ريق ، ولا تأثير لذلك ، اللهم إلاّ إذا كان ثم
إطعام شيء ضار ، أو سقيه ، أو إشمامه . أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه ؛
ولكن الله عزّ وجلّ قد يفعل عند ذلك فعلاً على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت
على الحقّ من الحشوية والجهلة من العوام ، فينسبه الحشوية والرعاع إليهنّ وإلى
نفثهن ، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبئون به ، فإن قلت :
فما معنى الاستعاذة من شرّهن ؟ قلت : فيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يستعاذ من
عملهن الذي هو صنعة السحر ومن إثمهنّ في ذلك . والثاني : أن يستعاذ من فتنتهنّ
الناس
" صفحة رقم 827 "
بسحرهنّ وما يخدعنهم به من باطلهن . والثالث : أن يستعاذ مما يصيب الله به من
الشرّ عند نفثهن ، ويجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات ، من قوله : ) ءانٍ
كَيْدَهُنَّ عظِيمٌ ( ( يوسف : 28 ) تشبيهاً لكيدهن بالسحر والنفث في العقد . أو
اللاتي يفتن الرجال بتعرضهنّ لهم ومحاسنهنّ ، كأنهنّ يسحرنهم بذلك ) إِذَا حَسَدَ
( إذا ظهر حسده ، وعمل بمقتضاه : من بغي الغوائل للمحسود ، لأنه إذا لم يظهر أثر
ما أضمره فلا ضرر يعود منه على من حسده ، بل هو الضارّ لنفسه لاغتمامه بسرور غيره
. وعن عمر بن عبد العزيز : لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد . ويجوز أن يراد
بشرّ الحاسد : إثمه وسماجة حاله في وقت حسده ، وإظهاره أثره . فإن قلت : قوله : )
مِن شَرّ مَا خَلَقَ ( تعميم في كل ما يستعاذ منه ، فما معنى الاستعاذة بعده من
الغاسق والنفاثات والحاسد ؟ قلت : قد خص شرّ هؤلاء من كلّ شر لخفاء أمره ، وأنه
يلحق الإنسان من حيث لا يعلم ، كأنما يغتال به . وقالوا : المداجي الذي يكيدك من
حيث لا تشعر . فإن قلت : فلم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه ؟ قلت : عرفت
النفاثات ، لأن كل نفاثة شريرة ، ونكر غاسق ، لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر ،
إنما يكون في بعض دون بعض ، وكذلك كل حاسد لا يضرّ . ورب حسد محمود ، وهو الحسد في
الخيرات . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1375 ) ( لا حسد إلاّ في اثنتين ) وقال أبو تمام : وَمَا حَاسِدٌ فِي
المَكْرُمَاتِ بِحَاسِدِ ;
وقال :
إنَّ الْعُلاَ حَسَنٌ فِي مِثْلِهَا الْحَسَدُ ;
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
" صفحة رقم 828 "
( 1376 ) ( من قرأ المعوّذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلها ) .
( سورة الناس )
مكية ، وقيل : مدنية ، وآياتها 6 ( نزلت بعد الفلق )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ مِن شَرِّ
الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ (
الناس : ( 1 ) قل أعوذ برب . . . . .
قرىء : ( قل أعوذ ) بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام ، ونحوه . فخذ أربعة . فإن
قلت : لم قيل ) بِرَبّ النَّاسِ ( مضافاً إليهم خاصة ؟ قلت : لأنّ الاستعاذة وقعت
من شرّ الموسوس في صدور الناس ، فكأنه قيل : أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بربهم
الذي يملك عليهم أمورهم ، وهو إلاههم ومعبودهم ، كما يستغيث بعض الموالى إذا
اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم . فإن قلت : ) مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ
النَّاسِ ( ما هما من رب الناس ؟ قلت : هما عطف بيان ، كقولك : سيرة أبي حفص عمر
الفاروق . بين بملك الناس ، ثم زيد بياناً بإلاه الناس ، لأنه قد يقال لغيره : رب
الناس ، كقوله : ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن
دُونِ اللَّهِ ( ( التوبة : 31 ) وقد يقال : ملك الناس . وأمّا ) إِلَاهِ النَّاسِ
( فخاص لا شركة فيه ، فجعل غاية للبيان . فإن قلت : فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه
الذي هو الناس مرّة
" صفحة رقم 829 "
واحدة ؟ قلت : لأنّ عطف البيان للبيان ، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار )
الْوَسْوَاسِ ( اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة . وأمّا المصدر فوسواس
بالكسر كزلزال . المراد به الشيطان ، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه ، لأنها
صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه . أو أريد ذو الوسواس . والوسوسة : الصوت الخفي .
ومنه : وسواس الحلي . و ) الْخَنَّاسِ ( الذي عادته أن يخنس ، منسوب إلى الخنوس
وهو التأخر كالعواج والبتات ، لما روي عن سعيد بن جبير : إذا ذكر الإنسان ربه خنس
الشيطان وولى ، فإذا غفل وسوس إليه ) الَّذِى يُوَسْوِسُ ( يجوز في محله الحركات
الثلاث ، فالجر على الصفة ، والرفع والنصب على الشتم ، ويحسن أن يقف القارىء على )
الْخَنَّاسِ ( ويبتدىء ) الَّذِى يُوَسْوِسُ ( على أحد هذين الوجهين ) مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( بيان للذي يوسوس ، على أن الشيطان ضربان : جنى وإنسي ،
كما قال شياطين الإنس ؟ والجن وعن أبي ذر رضي الله عنه قال لرجل : هل تعوذت بالله
من شيطان الإنس ؟ ويجوز أن يكون ( من ) متعلقاً بيوسوس ، ومعناه : ابتداء الغاية ،
أي : يوسوس في صدروهم من جهة الجنّ ومن جهة الناس ، وقيل : من الجنّة والناس بيان
للناس ، وأن اسم الناس ينطلق على الجنة ، واستدلّوا ( بنفر ) و ( رجال ) في سورة
الجن . وما أحقه ؛ لأن الجن سموا ( جنا ) لاجنتنانهم ، والناس ( ناساً ) لظهورهم ،
من الإيناس وهو الإبصار ، كما سموا بشراً ؛ ولو كان يقع على الناس على القبيلين ،
وصحّ ذلك وثبت : لم يكن مناسباً لفصاحة القرآن وبعده من التصنع . وأجود منه أن
يراد بالناس : الناسي ، كقوله : ) يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ ( ( القمر : 6 ) كما
قرىء : ) مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ( ( البقرة : 199 ) ثم يبين بالجنة والناس
؛ لأنّ الثقلين هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله عزّ وجلّ .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1877 ) ( لقد أنزلت عليّ سورتان ما أنزل مثلهما ، وإنك لن تقرأ سورتين أحب
" صفحة رقم 830 "
ولا أرضى عند الله منهما ) يعني : المعوذتين . ويقال للمعوذتين : المقشقشتان .=
قلت المدون تم بحمد الله وفضله فاللهم تقبل واستجب يا رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق