دعائي الي ربي

قلت المدون تم بحمد الله وفضله ثم قلت: اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته} أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب.والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

الخميس، 25 أغسطس 2022

ج7.وج8.الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي

 ج7.وج8.الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي

 

 ج7.الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي

" صفحة رقم 405 "
) مَاء مَدْيَنَ ( ماءهم الذي يستقون منه ، وكان بئراً فيما روي . ووروده : مجيئه والوصول إليه ) وَجَدَ عَلَيْهِ ( وجد فوق شفيره ومستقاه ) أُمَّةٍ ( جماعة كثيفة العدد ) مِنَ النَّاسِ ( من أناس مختلفين ) مِن دُونِهِمُ ( في مكان أسفل من مكانهم . والذود : الطرد والدفع وإنما كانتا تذودان ؛ لأنّ على الماء من هو أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي . وقيل : كانتا تكرهان المزاحمة على الماء . وقيل : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ، وقيل : تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما ) مَا خَطْبُكُمَا ( ما شأنكما . وحقيقته : ما مخطوبكما ، أي : مطلوبكما من الزياد ، فسمى المخطوب خطباً ، كما سمى المشئون شأناً في قولك : ما شأنك ؟ يقال : شأنت شأنه ، أي : قصدت قصده . وقرىء ( لا نسقي ) و ( يصدر ) . و ( الرعاء ) بضم النون والياء والراء . والرعاء : اسم جمع كالرخال والثناء . وأما الرعاء بالكسر فقياس ، كصيام وقيام ) كَبِيرٌ ( كبير السن ) فَسَقَى لَهُمَا ( فسقى غنمهما لأجلهما . وروي أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجراً لا يقله إلا سبعة رجال . وقيل : عشرة . وقيل : أربعون . وقيل : مائة ، فأقله وحده . وروي أنه سألهم دلواً من ماء فأعطوه دلوهم وقالوا : استق بها ، وكانت لا ينزعها إلا أربعون ، فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة ، وروي أنه دفعهم عن الماء حتى سقى لهما . وقيل : كانت بئراً أخرى عليها الصخرة . وإنما فعل هذا رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف . والمعنى : أنه وصل إلى ذلك الماء وقد ازدحمت عليه أمّة من أناس مختلفة متكاثفة العدد ، ورأى الضعيفتين من ورائهم مع غنيمتها مترقبتين لفراغهم ، فما أخطأت همته في دين الله تلك الفرصة ، مع ما كان به من النصب وسقوط خف القدم والجوع ، ولكنه رحمهما فأغاثهما ، وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوّة قلبه وقوّة ساعده ، وما آتاه الله من الفضل في متانة الفطرة ورصانة الجبلة وفيه مع إرادة اقتصاص أمره وما أوتي من البطش والقوّة وما لم يغفل عنه ، على ما كان به من انتهاز فرصة الاحتساب ، ترغيب في الخير ، وانتهاز فرصه ، وبعث على الاقتداء في ذلك بالصالحين والأخذ بسيرهم ومذاهبهم . فإن قلت : لم ترك المفعول غير مذكور في قوله : ) يُسْقَوْنَ ( و ) تَذُودَانِ ( و ) نَسْقِى ( ؟ قلت : لأن الغرض هو الفعل لا المفعول . ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي . ولم يرحمها لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلاً ، وكذلك قولهما ) لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاء ( المقصود فيه السقي لا المسقي . فإن قلت : كيف طابق جوابهما سؤاله قلت : سألهما عن سبب الذود فقالتا : السبب في ذلك أنا

" صفحة رقم 406 "
امرأتاه ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم ، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا ، وما لنا رجل يقوم بذلك ، وأبونا شيخ قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به : أبلتا إليه عذرهما في توليهما السقي بأنفسهما . فإن قلت : كيف ساغ لنبيّ الله الذي هو شعيب عليه السلام أن يرضى لابنتيه بسقي الماشية ؟ قلت : الأمر في نفسه ليس بمحظور ، فالدين لا يأباه . وأما المروأة ، فالناس مختلفون في ذلك ، والعادات متباينة فيه ، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر ، خصوصاً إذاكانت الحالة حالة ضرورة ) إِنّى ( لأي شيء ) أَنزَلْتَ إِلَىَّ ( قليل أو كثير ، غث أو سمين ل ) فَقِيرٌ ( وإنما عُدي فقير باللام ؛ لأنه ضمن معنى سائل وطالب . قيل : ذكر ذلك وإن خضرة البقل يتراءى في بطنه من الهزال ، ما سأل الله إلا أكلة . ويحتمل أن يريد : إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين . لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة : قال ذلك رضا بالبدل السني ، وفرحا به ، وشكراً له ، وكان الظل ظل سمرة ) عَلَى اسْتِحْيَاء ( في موضع الحال ، أي : مستحيية متخفرة وقيل . قد استترت بكم درعها . روي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما : ما أعجلكما ؟ قالتا : وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي ، فتبعها موسى فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته ، فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فلما قص عليه قصته قال له . لا تخف فلا سلطان لفرعون بأرضنا . فإن قلت : كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة ، وأن يمشي معها وهي أجنبيه ؟ قلت : أما العمل بقول امرأة فكما يعمل بقول الواحد حرّاً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى في الأخبار ، وما كانت إلا مخبرة عن أبيها بأنه يدعوه ليجزيه . وأما مما شاته امرأة أجنبية فلا بأس بها في نظائر تلك الحال ، مع ذلك الاحتياط والتورّع . فإن قلت : كيف صح له أخذ الأجر على البرّ والمعروف ؟ قلت : يجوز أن يكون قد فعل ذلك لوجه الله وعلى سبيل البر والمعروف . وقيل إطعام شعيب وإحسانه لا على سبيل أخذ الأجر ، ولكن على سبيل التقبل لمعروف مبتدإ . كيف وقد قص عليه قصصه وعرفه أنه من بيت النبوّة من أولاد يعقوب ؟ ومثله حقيق بأن يضيَّف ويكرم

" صفحة رقم 407 "
خصوصاً في دار نبيّ من أنبياء الله ، وليس بمنكر أن يفعل ذلك لاضطرار الفقر والفاقة طلباً للأجر . وقد روي ما يعضد كلا القولين : روي أنها لما قالت : ليجزيك ، كره ذلك ، ولما قدّم إليه الطعام امتنع وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهباً ، ولا نأخذ على المعروف ثمناً ، حتى قال شعيب : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا . وعن عطاء ابن السائب : رفع صوته بدعائه ليسمعهما ، فلذلك قيل له : ليجزيك أجر ما سقيت ، أي ؛ جزاء سقيك . والقصص : مصدر كالعلل ، سمي به المقصوص . كبراهما : كانت تسمى صفراء ، والصغرى : صفيراء . وصفراء : هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره ، وهي التي تزوجها . وعن ابن عباس : أن شعيبا أحفظته الغيرة فقال : وما علمك بقوّته وأمانته ؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو ، وأنه صوّب رأسه حين بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه . وقولها : ) إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَجَرْتَ الْقَوِىُّ الامِينُ ( كلام حكيم جامع لا يزاد عليه ، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان ؛ أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك ؛ وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل ، والحكمة أن تقول استأجره لقوّته وأمانته . فإن قلت : كيف جعل خير من استأجرت اسماً لإنّ والقوي الأمين خبراً ؟ قلت : هو مثل قوله : أَلاَ إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ حَيًّا وَهَالِكَا
لسِيرُ ثَقِيفٍ عِنْدَهُمْ فِي السَّلاَسِلِ

" صفحة رقم 408 "
في أن العناية هي سبب التقديم ، وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق بأن يكون خبراً اسماً ، وورود الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف . ومنه قولهم : أهون ما أعملت لسان ممخ . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب ، وصاحب يوسف ، في قوله : ) عَسَى أَن يَنفَعَنَا ( ( يوسف : 21 ) وأبو بكر في عمر . روي أنه أنكحه صفراء . وقوله : ) هَاتَيْنِ ( فيه دليل على أنه كانت له غيرهما ) تَأْجُرَنِى ( من أجرته إذا كنت له أجيراً ، كقولك : أبوته إذا كنت له أبا ، و ) ثَمَانِىَ حِجَجٍ ( ظرفه . أو من أجرته كذا ، إذا أثبته إياه . ومنه : تعزية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 812 ) ( أجرَكم اللَّهُ ورحَمكم ) . وثماني حجج : مفعول به ، ومعناه : رعية ثماني حجج فإن قلت : كيف صح أن ينكحه إحدى ابنتيه من غير تمييز ؟ قلت : لم يكن ذلك عقداً للنكاح ، ولكن مواعدة ومواصفة أمر قد عزم عليه ، ولو كان عقداً لقال : قد أنكحتك ولم يقل : إني أريد أن أنكحك . فإن قلت : فكيف صح أن يمهرها إجارة نفسه في رعية الغنم ، ولا بد من تسليم ما هو مال ؟ ألا ترى إلى أبي حنيفة كيف منع أن يتزوج امرأة بأن يخدمها سنة وجوّز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة ، أو يسكنها داره سنة ، لأنه في الأول : مسلم نفسه وليس بمال ، وفي الثاني : هو مسلم مالاً وهو العبد أو الدار ، قلت : الأمر على مذهب أبي حنيفة على ما ذكرت . وأما الشافعي : فقد جوّز التزوّج على

" صفحة رقم 409 "
الإجارة لبعض الأعمال والخدمة ، إذا كان المستأجر له أو المخدوم فيه أمراً معلوماً ، ولعلّ ذلك كان جائزاً في تلك الشريعة . ويجوز أن يكون المهر شيئاً آخر ، وإنما أراد أن يكون راعي غنمه هذه المدّة ، وأراد أن ينكحه ابنته ، فذكر له المرادين ، وعلق الإنكاح بالرعية على معنى : إني أفعل هذا إذا فعلت ذاك على وجه المعاهدة لا على وجه المعاقدة . ويجوز أن يستأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ويوفيه إياه ، ثم ينكحه ابنته به ، ويجعل قوله : ) عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ ( عبارة عما جرى بينهما ) فَإِنْ أَتْمَمْتَ ( عمل عشر حجج ) فَمِنْ عِندِكَ ( فإتمامه من عندك . ومعناه : فهو من عندك لا من عندي ، يعني : لا ألزمكه ولا أحتمه عليك ، ولكنك إن فعلته فهو منك تفضل وتبرع ، وإلا فلا عليك ) وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ( بإلزام أتمّ الأجلين وإيجابه . فإن قلت : ما حقيقة قولهم : شققت عليه ، وشق عليه الأمر ؟ قلت : حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين ، تقول تارة : أطيقه ، وتارة : لا أطيقه . أو وعده المساهلة والمسامحة من نفسه ، وأنه لا يشق عليه فيما استأجره له من رعي غنمه ، ولا يفعل نحو ما يفعل المعاسرون من المسترعين ، من المناقشة في مراعاة الأوقات ، والمداقة في استيفاء الأعمال ، وتكليف الرعاة أشغالاً خارجة عن حدّ الشرط ، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس . ومنه الحديث :
( 813 ) ( كانَ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شريكي ، فكان خير شريك لا يداري ولا يشاري ولا يماري ) وقوله : ) سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( يدل على ذلك ، يريد بالصلاح : حسن المعاملة ووطأة الخلق ولين الجانب . ويجوز أن يريد الصلاح على العموم . ويدخل تحته حسن المعاملة ، والمراد باشتراط مشيئة الله بما وعد من الصلاح : الاتكال على توفيقه فيه ومعونته ، لا أنه يستعمل الصلاح إن شاء الله ، وإن شاء استعمل خلافه ) ذالِكَ ( مبتدأ ، و ) بَيْنِى وَبَيْنَكَ ( خبره ، وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب ، يريد . ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم بيننا جميعاً ، لا نخرج كلانا عنه ، لا أنا عما شرطت عليّ ولا أنت عما شرطت على نفسك . ثم قال : أي أجل من الأجلين قضيت : أطولهما الذي هو العشر ، أو أقصرهما الذي هو الثمان ) فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ ( أي لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة عليه . فإن قلت : تصوّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو الأقصر وهو المطالبة بتتمة العشر ، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعاً ؟ قلت :

" صفحة رقم 410 "
معناه كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدواناً لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان . أراد بذلك تقرير أمر الخيار ، وأنه ثابت مستقرّ ، وأن الأجلين على السواء : إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء وأما التتمة فموكولة إلى رأيي : إن شئت أتيت بها ، وإلا لم أجبر عليها . وقيل : معناه فلا أكون متعدّياً ، وهو في نفي العدوان عن نفسه ، كقولك : لا إثم عليّ ، ولا تبعة عليّ . وفي قراءة ابن مسعود : أي الأجلين ما قضيت . وقرىء : ( أيما ) بسكون الياء ، كقوله : تنَظَّرْتُ نَصْراً وَالسِّمَاكَيْنِ أَيْهُمَا
عَلَيَّ مِنَ الْغَيْثِ اسْتُهِلَّتْ مَوَاطِرُهْ
وعن ابن قطيب : عدوان ، بالكسر . فإن قلت : فإن قلت : ما الفرق بين موقعي ( ما ) المزيدة في القراءتين ؟ قلت : وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام ، أيّ : زائدة في شياعها : وفي الشاذة تأكيداً للقضاء ، كأنه قال : أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له . الوكيل : الذي وكل إليه الأمر ، ولما استعمل في موضع الشاهد والمهيمن والمقيت ، عدي بعلى لذلك . روي أنّ شعيباً كانت عنده عصى الأنبياء فقال لموسى بالليل : ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي . فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ، ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب ، فمسها وكان مكفوفاً ، فضنّ بها فقال : غيرها ، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات ، فعلم أنّ له شأناً . وقيل : أخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلاً . وقيل : أودعها شعيباً ملك في صورة رجل ، فأمر بنته أن تأتيه بعصا ، فأتته بها فردها سبع مرّات فلم يقع في يدها غيرها ، فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة ، فتبعه فاختصما فيها ، ورضيا أن يحكم بينهما أوّل طالع ، فأتاهما الملك فقال : ألقياها فمن رفعها فهي له ، فعالجها الشيخ فلم يطقها ؛ ورفعها موسى . وعن الحسن : ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضاً . وعن الكلبي : الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ، ومنها كانت عصاه . ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك ، فإنّ الكلأ وإن كان بها أكثر ، إلا أنّ فيها تنيناً أخشاه عليك وعلى الغنم ، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على عنها ، فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله ، فنام فإذا بالتنين قد أقبل ، فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية ، فلما أبصرها دامية والتنين مقتولاً أرتاح لذلك ،

" صفحة رقم 411 "
ولما رجع إلى شعيب مسّ الغنم ، فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن ، فأخبره موسى ففرح وعلم أنّ لموسى والعصا شأنا ، وقال له : إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع ودرعاء ، فأوحى إليه في المنام : أن أضرب بعصاك مستقي الغنم ، ففعل ؛ ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع ودرعاء ، فوفى له بشرطه .
) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاٌّ جَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لاًّهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّىءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّىءَاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِىَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِى الأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يامُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاٌّ مِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ (
( 814
القصص : ( 29 ) فلما قضى موسى . . . . .
سُئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أيُّ الأجلَينِ قضَى موسَى ؟ فقال : ( أبعدهما

" صفحة رقم 412 "
وأبطأهما ) وروي أنه قال :
( 815 ) ( قَضى أوفَاهُما ، وتزوّج صغرَاهُما ) وهذا خلاف الرواية التي سبقت . الجذوة باللغات الثلاث . وقرىء بهنّ جميعاً : العود الغليظ ، كانت في رأسه نار أو لم تكن ، قال كُثَيِّرُ : بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا
جَزْلَ الْجُذَى غَيْرَ خَوَّارٍ وَلاَ دَعِرِ
وقال : وَأَلْقَى عَلَى قَبْسِ مِنَ النَّارِ جَذْوَة
شَدِيداً عَلَيْهِ حَرُّهَا وَالْتِهَابُهَا
) مِن ( الأولى والثانية لابتداء الغاية ، أي : أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة . و ) مِنَ الشَّجَرَةِ ( بدل من قوله : من شاطىء الوادي ، بدل الاشتمال ؛ لأنّ الشجرة كانت نابتة على الشاطىء ، كقوله تعالى : ) لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ ( ( الزخرف : 33 ) وقرىء : ) الْبُقْعَةِ ( بالضم والفتح . و ) الرَّهْبِ ( بفتحتين ، وضمتين ، وفتح وسكون ، وضم وسكون : وهو الخوف . فإن قلت : ما معنى قوله : ) وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ( ؟ قلت : فيه معنيان ، أحدهما : أنّ موسى عليه السلام لما قلب الله العصا حية : فزع واضطرب ، فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : إنّ إتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء . فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية ، فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما هو غضاضة عليك ، وإظهار معجزة أخرى . والمراد بالجناح : اليد ؛ لأنّ يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر . وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى ، فقد ضمّ جناحه إليه . والثاني : أن يراد بضم جناحه إليه : تجلده وضبطه نفسه . وتشدّده عند انقلاب العصا حية

" صفحة رقم 413 "
حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر ؛ لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما . وإلا فجناحاه مضمومتان إليه مشمران . ومنه ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أنّ كاتباً له كان يكتب بين يديه ، فانفلتت منه فلتة ريح ، فخجل وانكسر ، فقام وضرب بقلمه الأرض ، فقال له عمر : خذ قلمك ، واضمم إليك جناحك ، وليفرخ روعك ، فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي . ومعنى قوله : ( من الرهب ) من أجل الرهب ، أي : إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك : جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه . ومعنى : ) وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ( ، وقوله : ) اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ ( على أحد التفسيرين : واحد . ولكن خولف بين العبارتين ، وإنما كرّر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين ، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني : إخفاء الرهب . فإن قلت قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموماً وفي الآخر مضموماً إليه ، وذلك قوله : ) وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ( وقوله : ) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ( ( طه : 22 ) فما التوفيق بينهما ؟ قلت : المراد بالجناح المضموم . هو اليد اليمنى ، وبالمضموم إليه : اليد اليسرى وكلّ واحدة من يمنى اليدين ويسراهما : جناح . ومن بدع التفاسير : أنّ الرهب : الكم ، بلغة حمير وأنهم يقولون : أعطني مما في رهبك ، وليت شعري كيف صحته في اللغة ؟ وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضي عربيتهم ؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية ؟ وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل ؟ على أن موسى عليه السلام ما كان علية ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمي لها ) فَذَانِكَ ( قرىء مخففاً ومشدّداً ، فالمخفف مثنى ذاك . والمشدّد مثنى ذلك ، ) بُرْهَانَ ( حجتان بينتان نيرتان . فإن قلت : لم سميت الحجة برهانا ؟ قلت : لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء . برهرهة ، بتكرير العين واللام معا . والدليل على زيادة النون قولهم : أبره الرجل ، إذا جاء بالبرهان . ونظيره تسميتهم إياها سلطان من السليط وهو الزيت ، لإنارتها .
) قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِى إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (
القصص : ( 33 ) قال رب إني . . . . .
يقال : ردأته : أعنته . والردء : اسم ما يعان به ، فعل بمعنى مفعول كما أن الدفء

" صفحة رقم 414 "
اسم لما يدفأ به . قال سلامة بن جندل : وَرِدْئي كُلُّ أبْيَضَ مَشْرَفِي
شَحِيذِ الْحَدِّ عَضْبٍ ذِي فُلُولِ
وقرىء : ( رداً ) على التخفيف ، كما قرىء ( الخب ) ) رِدْءاً يُصَدّقُنِى ( بالرفع والجزم صفة وجواب ، ونحو ) وَلِيّاً يَرِثُنِى ( سواء . فإن قلت : تصديق أخيه ما الفائدة فيه ؟ قلت : ليس الغرض بتصديقه أن يقول له : صدقت ، أو يقول للناس : صدق موسى ، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق ، ويبسط القول فيه ، ويجادل به الكفار ، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة ، فذلك جار مجرى التصديق المفيد ، كما يصدّق القول بالبرهان . ألا ترى إلى قوله : ) وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ ( ، وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك ، لا لقوله : صدقت ، فإنّ سحبان وباقلا يستويان فيه ، أو يصل جناح كلامه بالبيان ، حتى يصدّقه الذي يخاف تكذيبه ، فأسند التصديق إلى هرون ، لأنه السبب فيه إسناداً مجازياً . ومعنى الإسناد المجازي : أن التصديق حقيقة في المصدّق ، فإسناده إليه حقيقة وليس في السبب تصديق ، ولكن استعير له الإسناد لأنه لابس التصديق بالتسبب كما لابسه الفاعل بالمباشرة . والدليل على هذا الوجه قوله : ) إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ ( وقراءة من قرأ : ( ردءا يصدقوني ) . وفيها تقوية للقراءة بجزم يصدقني .
) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِأايَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (
القصص : ( 35 ) قال سنشد عضدك . . . . .
العضد : قوام اليد ، وبشدّتها تشتد . قال طرفة : أَبَنِي لُبَينَي لَسْتُمُو بِيَد
إِلاَّ يَداً لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ
ويقال في دعاء الخير : شدّ الله عضدك . وفي ضده ؛ فت الله في عضدك . ومعنى ) سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ( سنقويك به ونعينك ، فأمّا أن يكون ذلك لأن اليد تشتد بشدة العضد . والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور . وإمّا لأنّ الرجل شبة باليد في

" صفحة رقم 415 "
اشتدادها بالشتداد العضد ، فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة ) سُلْطَاناً ( غلبة وتسلطا . أو حجة واضحة ) بِأايَاتِنَآ ( متعلق بنحو ما تعلق به في تسع آيات ، أي اذهبا بآياتنا . أو بنجعل لكما سلطانا ، أي : نسلطكما بآياتنا . أو بلا يصلون ، أي : تمتنعون منهم بآياتنا . أو هو بيان للغالبون لا صلة ، لامتناع تقدم الصلة على الموصول . ولو تأخر : لم يكن إلا صله له . ويجوز أن يكون قسماً جوابه : لا يصلون ، مقدماً عليه . أو من لغو القسم .
) فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِأايَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِىءَابَآئِنَا الاٌّ وَّلِينَ (
القصص : ( 36 ) فلما جاءهم موسى . . . . .
) سِحْرٌ مُّفْتَرًى ( سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله . أو سحر ظاهر افتراؤه . أو موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله ) وَإِذَا رَأَيْتَ ( حال منصوبة عن هذا ، أي : كائناً في زمانهم وأيامهم ، يريد : ما حدثنا بكونه فيهم ، ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك ، وقد سمعوا وعلموا بنحوه . أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته . أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى ومجيئه بما جاء به . وهذا دليل على أنهم حجوا وبهتوا ، وما وجدوا ما يدفعون به ما جاءهم من الآيات إلا قولهم هذا سحر وبدعة لم يسمعوا بمثلها .
) وَقَالَ مُوسَى رَبِّى أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (
القصص : ( 37 ) وقال موسى ربي . . . . .
يقول : ) رَّبّى أَعْلَمُ ( منكم بحال من أهله الله للفلاح الأعظم ، حيث جعله نبياً وبعثه بالهدى ، ووعده حسن العقبى : يعني نفسه ، ولو كان كما تزعمون كاذباً ساحراً مفترياً لما أهله لذلك ، لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ، ولا ينبىء الساحرين ، ولا يفلح عنده الظالمون . و ) عَاقِبَةُ الدَّارِ ( هي العاقبة المحمودة . والدليل عليه قوله تعالى : ) أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتِ عَدْنٍ ( وقوله : ) وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ( ( الرعد : 42 ) والمراد بالدار : الدنيا ، وعاقبتها وعقباها : أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت . فإن قلت : العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار ؛ لأنّ الدنيا إمّا أن تكون خاتمتها بخير أو بشر ، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر ؟ قلت : قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ، وما خلقهم إلا لأجله ليتلقوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق ، ومن عمل فيها خلاف ما وضعها الله فقد حرف ؛ فإذاً عاقبتها الأصلية هي

" صفحة رقم 416 "
عاقبة الخير . وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها ؛ لأنها من نتائج تحريف الفجار . وقرأ ابن كثير : ( قال موسى ) بغير واو ، على ما في مصاحف أهل مكة ، وهي قراءة حسنة ؛ لأنّ الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عليه السلام عند تسميتهم مثل تلك الآيات الباهرة : سحراً امفترى . ووجه الأخرى : أنهم قالوا ذلك . وقال موسى عليه

" صفحة رقم 417 "
السلام هذا ، ليوازن الناظر بين القول والمقول ، ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر : وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأشْيَاءُ ;
وقرىء : ( تكون ) ، بالياء والتاء .
) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأَيُّهَا الْملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحاً لَّعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنِّى لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (
القصص : ( 38 ) وقال فرعون يا . . . . .
روى أنه لما أمر ببناء الصرح ، جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير ، فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق ، فكان الباني لا يقدر أن يقف على رأسه يبني ، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس ، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع : وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب ، ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك . ويروى في هذه القصة : أنّ فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء ، فأراد الله أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم ؛ فقال : قد قتلت إلاه موسى ، فعندها بعث الله جبريل عليه السلام لهدمه ، والله أعلم بصحته . قصد بنفي علمه بإله غيره : نفي وجوده ، معناه : ) مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى ( ( الأعراف : 59 ) كما قال الله تعالى : ) قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ ( ( يونس : 18 ) معناه بما ليس فيهن ، وذلك لأنّ العلم تابع للمعلوم لا يتعلق به إلا على ما هو عليه ، فإذا كان الشيء معدوماً لم يتعلق به موجود ، فمن ثمة كان انتفاء العلم بوجوده لا انتفاء وجوده . وعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم

" صفحة رقم 418 "
بوجوده . ويجوز أن يكون على ظاهره ، وأنّ إلاهاً غيره غير معلوم عنده ، ولكنه مظنون بدليل قوله : ) وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( ، وإذا ظنّ موسى عليه السلام كاذباً في إثباته إلهاً غيره ولم يعلمه كاذباً ، فقد ظنّ أن في الوجود إلهاً غيره ، ولو لم يكن المخذول ظاناً ظناً كاليقين ، بل عالماً بصحة قول موسى عليه السلام لقول موسى له : ) لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَصَائِرَ ( ( الإسراء : 102 ) لما تكلف ذلك البنيان العظيم ، ولما تعب في بنائه ما تعب ، لعله يطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام ، وإن كان جاهلاً مفرط الجهل به وبصفاته ، حيث حسب أنه في مكان كما كان هو في مكان ، وأنه يطلع إليه كما كان يطلع إليه إذا قعد في عليته ، وأنه ملك السماء كما أنه ملك الأرض . ولا ترى بينة أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته وجهل ملئه وغباوتهم : من أنهم راموا نيل أسباب السموات بصرح يبنونه ، وليت شعري ؛ أكان يلبس على أهل بلاده ويضحك من عقولهم ، حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن وأشبههم بالبهائم بذلك ؟ أم كان في نفسه بتلك الصفة ؟ وإن صحّ ما حكى من رجوع النشابة إليه ملطوخة بالدم ، فتهكم به بالفعل ، كما جاء التهكم بالقول في غير موضع من كتاب الله بنظرائه من الكفرة . ويجوز أن يفسر الظن على القول الأوّل باليقين ، كقوله : فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلفِيْ مُدَجَّجِ ;

" صفحة رقم 419 "
ويكون بناء الصرح مناقضة لما ادعاه من العلم واليقين ، وقد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم . أولم تخف عليهم ، ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه ، وسيفه ، وإنما قال : ) فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ ( ولم يقل : اطبخ لي الآجر واتخذه ، لأنه أوّل من عمل الآجر ، فهو يعلمه الصنعة ، ولأن هذه العبارة أحسن طابقاً لفصاحة القرآن وعلوّ طبقته وأشبه بكلام الجبابرة . وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين منادى باسمه بيا في وسط الكلام . دليل التعظيم والتجبر . وعن عمر رضي الله عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر فقال : ما علمت أن أحداً بنى بالآجر غير فرعون . والطلوع والإطلاع : الصعود . يقال : طلع الجبل وأطلع : بمعنى .
) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاٌّ رْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (
القصص : ( 39 ) واستكبر هو وجنوده . . . . .
الاستكبار بالحق : إنما هو لله تعالى ، وهو المتكبر على الحقيقة ، أي : المتبالغ في كبرياء الشأن . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما حكى عن ربه :
( 816 ) ( الكبرياء ردائي والعظمةُ إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما ألقيتُه في النار ) . وكلُ مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق ) يَرْجِعُونَ ( بالضم والفتح ) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ ( من الكلام الفخم الذي دل به على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه . شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم ، وإن كانوا الكثر الكثير والجم الغفير ، بحصيات أخذهنّ آخذ في كفه فطرحهنّ في البحر . ونحو ذلك قوله : ) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ ( ( المرسلات : 27 ) ، ) وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً

" صفحة رقم 420 "
واحِدَةً ( ( الحاقة : 14 ) ، ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( ( الزمر : 67 ) وما هي إلا تصويرات وتمثيلات لاقتداره ، وأن كل مقدور وإن عظم وجل ، فهو مستصغر إلى جنب قدرته .
) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُم فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (
القصص : ( 41 - 42 ) وجعلناهم أئمة يدعون . . . . .
فإن قلت : ما معنى قوله : ) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ( ؟ قلت : معناه : ودعوناهم أئمة عاة إلى النار ، وقلنا : إنهم أئمة دعاة إلى النار ، كما يدعي خلفاء الحق أئمة دعاة إلى الجنة . وهو من قولك : جعله بخيلاً وفاسقاً ، إذا دعاه وقال : إنه بخيل وفاسق . ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله : جعله بخيلاً وفاسقاً . ومنه قوله تعالى : ) وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثاً ( ( الزخرف : 19 ) ومعنى دعوتهم إلى النار : دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي ) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ ( كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة . ويجوز : خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر . ومعنى الخذلان : منع الألطاف ، وإنما يمنعها من علم أنها لا تنفع فيه ، وهو المصمم على الكفر الذي لا تغني عنه الآيات والنذر ، ومجراه مجرى الكناية ؛ لأنّ منع الألطاف يردف التصميم ، والغرض بذكره : التصميم نفسه ، فكأنه قيل : صمموا على الكفر حتى كانوا أئمة فيه دعاة إليه وإلى سوء عاقبته . فإن قلت : فأي فائدة في ترك المردوف إلى الرادفة ؟ قلت : ذكر الرادفة يدل على وجود المردوف فيعلم وجود المردوف مع الدليل الشاهد بوجوده ، فيكون أقوى لإثباته من ذكره . ألا نرى أنك تقول : لولا أنه مصمم على الكفر مقطوع أمره مثبوت حكمه لما منعت منه الألطاف ، فبذكر منع الألطاف يحصل العلم بوجود التصميم على الكفر وزيادة ، وهو قيام الحجة على وجوده . وينصر هذا الوجه قوله : ) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ ( كأنه قيل : وخذلناهم في الدنيا وهم يوم القيامة مخذولون ، كما قال : ) وَأَتْبَعْنَاهُم فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ( أي طرداً وإبعاداً عن الرحمة

" صفحة رقم 421 "
) وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ ( أي من المطرودين المبعدين .
) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاٍّ ولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (
القصص : ( 43 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
) بَصَائِرَ ( نصب على الحال . والبصيرة : نور القلب الذي يستبصر به ، كما أن البصر نور العين الذي تبصر به ، يريد : آتيناه التوراة أنواراً للقلوب ، لأنها كانت عمياء لا تستبصر ولا تعرف حقا من باطل . وإرشاداً ؛ لأنهم كانوا يخبطون في ضلال ) وَرَحْمَةً ( لأنهم لو عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة ) لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( إرادة أن يتذكروا ، شهبت الإرادة بالترجي فاستعير لها . ويجوز أن يراد به ترجي موسى عليه السلام لتذكرهم ، كقوله تعالى : ) لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ( ( طه : 44 ) .
) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الاٌّ مْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (
القصص : ( 44 ) وما كنت بجانب . . . . .
) الْغَرْبِىّ ( المكان الواقع في شق الغرب ، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور وكتب الله له في الألواح . والأمر المقضي إلى موسى عليه السلام : الوحي الذي أوحى إليه ؛ والخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام ، ولا كنت ) مِنَ ( جملة ) الشَّاهِدِينَ ( للوحي إليه ، أو على الوحي إليه ؛ وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات ، حتى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى عليه السلام في ميقاته . وكتبة التوراة له في الألواح ، وغير ذلك .
) وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (
القصص : ( 45 ) ولكنا أنشأنا قرونا . . . . .
فإن قلت : كيف يتصل قوله : ) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً ( بهذا الكلام ؟ ومن أي وجه يكون استدراكاً له ؟ قلت : اتصاله به وكونه استدراكاً له ، من حيث أن معناه : ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قرونا كثيرة ) فَتَطَاوَلَ ( على آخرهم : وهو القرن الذي أنت فيهم ) الْعُمُرُ ( أي أمد انقطاع الوحي واندرست العلوم ، فوجب إرسالك إليهم ، فأرسلناك وكسيناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى عليهم السلام ، كأنه قال : وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه ، ولكنا أوحينا إليك . فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ؛

" صفحة رقم 422 "
ودلّ به على المسبب على عادة الله عز وجل في اختصاراته ؛ فإذاً هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده ) وَمَا كُنتَ ثَاوِياً ( أي مقيماً ) فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ( وهم شعيب والمؤمنون به ) تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا ( تقرؤها عليهم تعلماً منهم ، يريد : الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه ، ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها .
) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَاكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (
القصص : ( 46 ) وما كنت بجانب . . . . .
) إِذْ نَادَيْنَا ( يريد مناداة موسى عليه السلام ليلة المناجاة وتكليمه ، و ) لَكِنِ ( علمناك ) رَحْمَةً ( وقرىء : ( رحمة ) ، بالرفع : أي هي رحمة ) مَا ءاتَاهُمُ ( من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهي خمسمائة وخمسون سنة ، ونحوه قوله : ) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ ( ( يس : 6 ) .
) وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (
القصص : ( 47 ) ولولا أن تصيبهم . . . . .
) لَوْلاَ ( الأولى امتناعية وجوابها محذوف ، والثاني تحضيضية ، وإحدى الفاءين للعطف ، والأخرى جواب لولا ، لكونها في حكم الأمر ، من قبل أن الأمر باعث على الفعل ، والباعث والمحضض من واد واحد . والمعنى : ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدّموا من الشرك والمعاصي : هلا أرسلت إلينا رسولاً ، محتجين علينا بذلك : لما أرسلنا إليهم ، يعني : أن إرسال الرسول إليها إنما هو ليلزموا الحجة ولا يلزموها ، كقوله : ) لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( ( النساء : 165 ) ، ) أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ( ( المائدة : 19 ) ، ) لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءايَاتِكَ ( . فإن قلت : كيف

" صفحة رقم 423 "
استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول ، لدخول حرف الامتناع عليها دونه ؟ قلت : القول هو المقصود بأن يكون سبباً لإرسال الرسل ، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها ، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول ، فأدخلت عليها لولا ، وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية ، ويؤول معناه إلى قولك : ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة : وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين : لم يقولوا : ) لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ( وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم . وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسخوه فيهم ما لا يخفى ، كقوله تعالى : ) وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( ( الأنعام : 28 ) . ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي : جعل كل عمل معبراً عنه باجتراح الأيدي وتقدم الأيدي وإن كان من أعمال القلوب ، وهذا من الاتساع في الكلام وتصيير الأقل تابعاً للأكثر وتغليب الأكثر على الأقل .
) فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلا أُوتِىَ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِىَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (
القصص : ( 48 ) فلما جاءهم الحق . . . . .
) فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ ( وهو الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات

" صفحة رقم 424 "
وقطعت معاذيرهم وسدّ طريق احتجاجهم ) قَالُواْ لَوْلا أُوتِىَ مِثْلَ مَا أُوتِىَ مُوسَى ( من الكتاب المنزل جملة واحدة ، ومن قلب العصا حية وفلق البحر وغيرهما من الآيات ؛ فجاءوا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد ، كما قالوا : لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ، وما أشبه ذلك ) أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ ( يعني أبناء جنسهم ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم ، وهم الكفرة في زمن موسى عليه السلام ) بِمَا أُوتِىَ مُوسَى ( وعن الحسن رحمه الله : قد كان العرب أصل في أيام موسى عليه السلام ، فمعناه على هذا : أو لم يكفر آباؤهم ) قَالُواْ ( في موسى وهرون ) سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ( أي تعاونا . وقرىء : ( إظهاراً ) على الإدغام . وسحران . بمعنى : ذوا سحر . أو جعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر . أو أرادوا نوعان من السحر ) بِكُلٍّ ( بكل واحد منهما . فإن قلت : بم علقت قوله من قبل في هذا التفسير ؟ قلت : بأو لم يكفروا ، ولي أن أعلقه بأوتي ، فينقلب المعنى إلى أن أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالقرآن فقد كفروا بموسى عليه السلام وبالتوراة ، وقالوا في موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام : ساحران تظاهرا . أو في الكتابين : سحران تظاهرا ؛ وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخبرهم أنه نعته وصفته ، وأنه في كتابهم ، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا عند ذلك : ساحران تظاهرا .
) قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (
القصص : ( 49 ) قل فأتوا بكتاب . . . . .
) هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا ( مما أنزل على موسى عليه السلام ومما أنزل عليّ . هذا الشرط من نحو ما ذكرت أنه شرط المدل بالأمر المتحقق لصحته ؛ لأنّ امتناع الإتيان بكتاب أهدى من الكتابين أمر معلوم متحقق لا مجال فيه للشكّ . ويجوز أن يقصد بحرف الشكّ : التهكم بهم .
) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (
القصص : ( 50 ) فإن لم يستجيبوا . . . . .
فإن قلت : ما الفرق بين فعل الاستجابة في الآية ، وبينه في قوله : فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ ;
حيث عدّى بغير اللام ؟ قلت : هذا الفعل يتعدّى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي

" صفحة رقم 425 "
باللام ، ويحذف الدعاء إذا عدّي إلى الداعي في الغالب ، فيقال ؛ استجاب الله دعاءه أو استجابة له ، ولا يكاد يقال : استجاب له دعاءه . وأما البيت فمعناه : فلم يستجب دعاءه ، على حذف المضاف . فإن قلت : فالاستجابة تقتضي دعاء ولا دعاء ههنا . قلت : قوله فأتوا بكتاب أمر بالإتيان والأمر بعث على الفعل ودعاء إليه ، فكأنه قال : فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب إلا هدى ، فاعلم أنهم قد ألزموا ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى ، ثم قال : ) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ( لا يتبع في دينه إلا ) هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ ( أي مطبوعاً على قلبه ممنوع الألطاف ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى ( أي لا يلطف بالقوم الثابتين على الظلم الذين اللاطف بهم عابث . وقوله بغير هدى في موضع الحال ، يعني مخذولاً مخلى بينه وبين هواه .
) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (
القصص : ( 51 ) ولقد وصلنا لهم . . . . .
قرىء : ) وَصَّلْنَا ( بالتشديد والتخفيف . والمعنى : أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً ، وعداً ووعيداً ، وقصصاً وعبراً ، ومواعظ ونصائح : إرادة أن يتذكروا فيفلحوا . أو نزل عليهم نزولاً متصلاً بعضه في أثر بعض . كقوله : ) وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ ( ( الشعراء : 5 )
) الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (
القصص : ( 52 ) الذين آتيناهم الكتاب . . . . .
نزلت في مؤمني أهل الكتاب وعن رفاعة بن قرظة : نزلت في عشرة أنا أحدهم . وقيل : في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل : اثنان وثلاثون جاؤوا مع جعفر من أرض الحبشة ، وثمانية من الشام ، والضمير في ) مِن قَبْلِهِ ( للقرآن .
) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (
القصص : ( 53 ) وإذا يتلى عليهم . . . . .
فإن قلت : أي فرق بين الاستئنافين إنه وإنا ؟ قلت : الأوّل تعليل للإيمان به ، لأن كونه حقاً من الله حقيق بأن يؤمن به . والثاني : بيان لقوله : ) بِهِ إِنَّهُ ( لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيده ، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم ؛ لأنّ آباءهم القدماء قرؤوا في الكتب الأول ذكره وأبناءهم من بعدهم ) مِن قَبْلِهِ ( من قبل وجوده ونزوله ) مُسْلِمِينَ ( كائنين على دين الإسلام ؛ لأن الإسلام صفة كل موحد مصدّق للوحي .
) أُوْلَائِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( 7 )
القصص : ( 54 ) أولئك يؤتون أجرهم . . . . .
) بِمَا صَبَرُواْ ( بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن . أو بصبرهم على

" صفحة رقم 426 "
الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله . أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب . ونحوه ) يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ( ( الحديد : 28 ) ، ) بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ ( بالطاعة المعصية المتقدمة . أو بالحلم الأذى .
) وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ (
القصص : ( 55 ) وإذا سمعوا اللغو . . . . .
) سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( توديع ومتاركة . وعن الحسن رضي الله عنه : كلمة حلم من المؤمنين ) لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( لا نريد مخالطتهم وصحبتهم فإن قلت : من خاطبوا بقولهم ) وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ( ؟ قلت : اللاغين الذين دل عليهم قوله : ) وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ ( .
) إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (
القصص : ( 56 ) إنك لا تهدي . . . . .
) لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ( لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم ، لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره ) وَلَاكِنَّ اللَّهَ ( يدخل في الإسلام ) مَن يَشَآء ( وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه ، وأن الألطاف تنفع فيه ، فيقرن به ألطافه حتى تدعوه إلى القبول ) وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( بالقابلين من الذين لا يقبلون . قال الزجاج : أجمع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب ، وذلك أن أبا طالب قال عند موته :
( 817 ) يا معشر بني هاشم ، أطيعوا محمداً وصدِّقوه تفلحوا وترشدوا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : يا عمر : تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك ؟ قال : فما تريد يا ابن أخي ؟ قال :

" صفحة رقم 427 "
أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا : أن تقول لا إله إلا الله ، أشهد لك بها عند الله . قال : يا ابن أخي ، قد علمت إنك لصادق ، ولكني أكره أن يقال : خرع عند الموت ، ولولا أن تكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي ، لقلتها ، ولأقررت بها عينك عند الفراق ، لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك ، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف .
) وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (
القصص : ( 57 ) وقالوا إن نتبع . . . . .
قالت قريش ، وقيل : إن القائل الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف : نحن نعلم أنك على الحق ، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك وإنما نحن أكلة رأس ، أي : قليلون أن يتخطفونا من أرضنا ، فألقمهم الله الحجر . بأنه مكن لهم في الحرم الذي آمنه بحرمة البيت وآمن قطانه بحرمته ، وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناحرون ، وهم آمنون في حرمهم لا يخافون ، وبحرمة البيت قارّون بواد غير ذي زرع ، والثمرات والأرزاق تجبى إليهم من كل أوب ، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرضهم للتخوّف والتخطف ، ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة ، وإلى الحرم مجاز ) يُجْبَى إِلَيْهِ ( تجلب وتجمع . قرىء : بالياء والتاء . وقرىء : ( تجني ) ، بالنون ، من الجني . وتعديته بإلى كقوله : يجني إليّ فيه ، ويجني إلى الخافة . وثمرات : بضمتين وبضمة وسكون . ومعنى الكلية : الكثرة كقوله : ) وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء ( ( النمل : 23 ) ) وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( متعلق بقوله ) مّن لَّدُنَّا ( أي قليل منهم يقرون بأنّ ذلك رزق من عند الله ، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولا يفطنون له ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده . ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به وخلعوا أنداده . فإن قلت : بم انتصب رزقاً ؟ قلت : إن جعلته مصدراً جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله ؛ لأنّ معنى ) يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء ( ويرزق ثمرات كل شيء : واحد ، وأن يكون مفعولاً له . وإن جعلته بمعنى : مرزوق ، كان حالاً من الثمرات

" صفحة رقم 428 "
لتخصصها بالإضافة ، كما تنتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة .
) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (
القصص : ( 58 ) وكم أهلكنا من . . . . .
هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش ، فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر ، فدمّرهم الله وخرّب ديارهم . وانتصبت ) مَعِيشَتَهَا ( إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل ، كقوله تعالى : واختار موسى قومه ( وإمّا على الظرف بنفسها ، كقولك : زيد ظني مقيم . أو بتقدير حذف الزمان المضاف ، أصله : بطرت أيام معيشتها ، كخفوق النجم ، ومقدم الحاج : وإمّا بتضمين ) ( وإمّا على الظرف بنفسها ، كقولك : زيد ظني مقيم . أو بتقدير حذف الزمان المضاف ، أصله : بطرت أيام معيشتها ، كخفوق النجم ، ومقدم الحاج : وإمّا بتضمين ) بَطِرَتْ ( معنى : كفرت وغمطت . وقيل : البطر سوء احتمال الغنى : وهو أن لا يحفظ حق الله فيه ) إِلاَّ قَلِيلاً ( من السكنى . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوماً أو ساعة ويحتمل أنّ شؤم معاصي المهلكين بقي أثره في ديارهم ، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً ) وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ( لتلك المساكن من ساكنيها ، أي : تركناها على حال لا يسكنها أحد ، أو خرّبناها وسوّيناها بالأرض . تَتَخَلَّفُ الآثَارُ عَنْ أَصْحَابِهَا
حِيناً وَيُدْرِكُهَا الْفَنَاءُ فَتَتْبَعُ
) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (
القصص : ( 59 ) وما كان ربك . . . . .
وما كانت عادة ربك أن يهلك القرى في كل وقت ) حَتَّى يَبْعَثَ فِى ( القرية التي هي أمّها ، أي : أصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها ) رَسُولاً ( لإلزام الحجة وقطع المعذرة ، مع علمه أنهم لا يؤمنون ؛ أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمر القرى يعني مكة رسولاً وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم الأنبياء . وقرىء : ( أمها ) بضم الهمزة وكسرها لا تباع الجرّ ، وهذا بيان لعدله وتقدسه

" صفحة رقم 429 "
عن الظلم ، حيث أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الهلاك بظلمهم ، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل ، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم ، ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين ، كما قال تعالى : ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ( ( هود : 117 ) فنصّ في قوله : ) بِظُلْمٍ ( أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلماً منه ، وأنّ حاله في غناه وحكمته منافية للظلم ، دلّ على ذلك بحرف النفي مع لامه ، كما قال الله تعالى : ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( ( البقرة : 143 ) .
) وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَىْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (
القصص : ( 60 ) وما أوتيتم من . . . . .
وأي شيء أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أياماً قلائل ، وهي مدة الحياة المتقضية ) وَمَا عِندَ اللَّهِ ( وهو ثوابه ) خَيْرٌ ( في نفسه من ذلك ) وَأَبْقَى ( لأنّ بقاءه دائم سرمد وقرىء : ( يعقلون ) بالياء ، وهو أبلغ في الموعظة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف : المؤمن ، والمنافق ، والكافر ؛ فالمؤمن يتزوّد ، والمنافق يتزين ، والكافر يتمتع .
) أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (
القصص : ( 61 ) أفمن وعدناه وعدا . . . . .
هذه الآية تقرير وإيضاح للتي قبلها . والوعد الحسن : الثواب ؛ لأنه منافع دائمة على وجه التعظيم والاستحقاق ، وأي شيء أحسن منها ، ولذلك سمى الله الجنة بالحسنى . و ) لاَقِيهِ ( كقوله تعالى : ) وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ( ، وعكسه ) فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ( ( مريم : 59 ) ) مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( من الذين أحضروا النار . ونحوه : ) لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( ( الصافات : 57 ) ، ) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( ( الصافات : 127 ) قيل : نزلت في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبي جهل . وقيل : في علي وحمزة وأبي جهل . وقيل : في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة . فإن قلت : فسر لي الفاءين وثم ، وأخبرني عن مواقعها . قلت : قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما ، ثم عقبه بقوله :

" صفحة رقم 430 "
) أَفَمَن وَعَدْنَاهُ ( على معنى : أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوّي بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا ، فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها . وأمّا الثانية فللتسبيب : لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخير . وأمّا ( ثم ) فلتراخي حال الإحضار عن حال التمتيع ، لا لتراخي وقته عن وقته . وقرىء : ( ثم هو ) بسكون الهاء ، كما قيل عضْد في عضُد . تشبيهاً للمنفصل بالمتصل ، وسكون الهاء في : فهو : وهو ، ولهو : أحسن ؛ لأنّ الحرف الواحد لا ينطق به وحده فهو كالمتصل .
) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( 7 )
القصص : ( 62 ) ويوم يناديهم فيقول . . . . .
) شُرَكَائِىَ ( مبني على زعمهم ، وفيه تهكم ، فإن قلت : زعم يطلب مفعولين ، كقوله : . . . . وَلَمْ أَزْعُمْكِ عَنْ ذَاكَ مَعْزِلاَ ;
فأين هما ؟ قلت : محذوفان ، تقديره : الذين كنتم تزعمونهم شركائي . ويجوز حذف المفعولين في باب ظننت ، ولا يصح الاقتصار على أحدهما .
) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَاؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (
القصص : ( 63 ) قال الذين حق . . . . .
) الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ( الشياطين أو أئمة الكفر ورؤوسه . ومعنى حق عليهم القول : وجب عليهم مقتضاه وثبت ، وهو قوله : ) لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( ( هود : 119 ) ، ( السجدة : 13 ) و ) هَؤُلاء ( مبتدأ ، و ) الَّذِينَ أَغْوَيْنَا ( صفته ، والراجع إلى الموصول محذوف ، و ) أَغْوَيْنَاهُمْ ( الخبر ، والكاف صفة مصدر محذوف ، تقديره : أغويناهم ، فغووا غيا مثل ما غوينا ، يعنون : أنا لم نغو إلا باختيارنا ، لا أن فوقنا مغوين أغرونا بقسر منهم وإلجاء . أو دعونا إلى الغيّ وسوّلوه لنا ، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم ؛ لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً لا قسراً وإلجاء ، فلا فرق إذاً بين غينا وغيهم . وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر ، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل ، وما بعث إليهم من الرسل وأنزل عليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر ، وناهيك بذلك صارفاً عن الكفر

" صفحة رقم 431 "
وداعياً إلى الإيمان ، وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان ) إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ ( ( إبراهيم : 22 ) والله تعالى قدّم هذا المعنى أوّل شيء ، حيث قال لإبليس ) إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ( ( الحجر : 42 ) . ) تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ( منهم وما اختاروه من الكفر بأنفسهم ، هوى منهم للباطل ومقتاً للحق ، لا بقوّة منا على استكراههم ولا سلطان ) مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ( إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم . وإخلاء الجملتين من العاطف ، لكونهما مقرّرتين لمعنى الجملة الأولى .
) وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاٌّ نبَآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ (
القصص : ( 64 ) وقيل ادعوا شركاءكم . . . . .
) لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ ( لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب . أو لو أنهم كانوا مهتدين مؤمنين ، لما رأوه . أو تمنوا لو كانوا مهتدين . أو تحيروا عند رؤيته وسدروا فلا يهتدون طريقا . حكى أوّلا ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء ، ثم ما يقوله الشياطين أو أئمتهم عند توبيخهم لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة ، اعتذروا بأن الشياطين هم الذي استغووهم وزينوا لهم عبادتها ، ثم ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم ، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل ) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاْنبَاء ( فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدي إليهم ) فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ ( لا يسأل بعضهم بعضاً كما يتساءل الناس في المشكلات ، لأنهم يتساوون جميعاً في عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجواب . وقرىء : ( فعميت ) ، والمراد بالنبأ : الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله ، وإذاكانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال ، ويفوّضون الأمر إلى علم الله ، وذلك قوله تعالى : ) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( ( المائدة : 109 ) فما ظنك بالضُّلال من أممهم .
) فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (
القصص : ( 67 ) فأما من تاب . . . . .
) فَأَمَّا مَن تَابَ ( من المشركين من الشرك ، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح

" صفحة رقم 432 "
) فَعَسَى أَن ( يفلح عند الله ، و ( عسى ) من الكرام تحقيق . ويجوز أن يراد : ترجي التائب وطعمه ، وكأنه قال : فليطمع أن يفلح .
) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (
القصص : ( 68 ) وربك يخلق ما . . . . .
الخيرة من التخير ، كالطيرة من التطير : تستعمل بمعنى المصدر هو التخير ، وبمعنى المتخير كقولهم : محمد خيرة الله من خلقه ) مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ( بيان لقوله : ) وَيَخْتَارُ ( لأنّ معناه : ويختار ما يشاء ، ولهذا لم يدخل العاطف . والمعنى : أنّ الخير لله تعالى في أفعاله ، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه . قيل : السبب فيه قول الوليد بن المغيرة : ) لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( ( الزخرف : 31 ) يعني : لا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم . وقيل : معناه ويختار الذي لهم فيه الخيرة ، أي : يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح ، وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم ، من قولهم في الأمرين : ليس فيهما خيرة لمختار . فإن قلت : فأين الراجع من الصلة إلى الموصول إذا جعلت ما موصولة ؟ قلت : أصل الكلام : ما كان لهم فيه الخيرة ، فحذف ( فيه ) كما حذف ، منه في قوله : ) إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ( ( الشورى : 43 ) لأنه مفهوم ) سُبْحَانَ اللَّهِ ( أي الله بريء من إشراكهم ومايحملهم عليه من الجراءة على الله واختيارهم عليه ما لا يختار .
) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاٍّ ولَى وَالاٌّ خِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (
القصص : ( 69 ) وربك يعلم ما . . . . .
) مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ( من عداوة رسول الله وحسده ) وَمَا يُعْلِنُونَ ( من مطاعنهم فيه . وقولهم : هلا اختير عليه غيره في النبوّة ) هُوَ اللَّهُ ( وهو المستأثر بالإلهية المختص بها ، و ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( تقرير لذلك ، كقولك : الكعبة القبلة ، لا قبلة إلا هي . فإن قلت : الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة ؟ قلت : هو قولهم : ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ( ( فاطر : 34 ) ، ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ ( ( الزمر : 74 ) ) وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( ( الزمر : 75 ) والتحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة . وفي الحديث :
( 818 ) ( يلهمونَ التسبيحَ والتقديسَ ) ) وَلَهُ الْحُكْمُ ( القضاء بين عباده .

" صفحة رقم 433 "
) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (
القصص : ( 71 ) قل أرأيتم إن . . . . .
) أَرَءيْتُمْ ( وقرىء : ( أريتم ) : بحذف الهمزة ، وليس بحذف قياسي . ومعناه : أخبروني من يقدر على هذا ؟ والسرمد : الدائم المتصل ، من السرد وهو المتابعة . ومنه قولهم في الأشهر الحرم : ثلاثة سردٍ ، وواحد فرد ، والميم مزيدة . ووزنه فعمل . ونظيره . دلامص ، من الدلاص . فإن قلت : هلا قيل : بنهار تتصرفون فيه ، كما قيل : ) بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ( ؟ قلت ذكر الضياء وهو ضوء الشمس : لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ، ليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ، ومن ثمة قرن بالضياء ) أَفَلاَ تَسْمَعُونَ ( لأنّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل ) أَفلاَ تُبْصِرُونَ ( لأنّ غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره . وأنت من السكون ونحوه ) وَمِن رَّحْمَتِهِ ( زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة : لتسكنوا في أحدهما وهو الليل ، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار ولإرادة شكركم .
) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (
القصص : ( 74 ) ويوم يناديهم فيقول . . . . .
وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء : إيذان بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به ، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده . اللهم فكما أدخلتنا في أهل توحيدك ، فأدخلنا في الناجين من وعيدك .
) وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (
القصص : ( 75 ) ونزعنا من كل . . . . .
) وَنَزَعْنَا ( وأخرجنا ) مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ( وهو نبيهم : لأن أنبياء الأمم شهداء عليهم ، يشهدون بما كانوا عليه ) فَقُلْنَا ( للأمة ) هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ( فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول ) فَعَلِمُواْ ( حينئذٍ ) أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ( ولرسوله ، لا لهم ولشياطينهم ) وَضَلّ

" صفحة رقم 434 "
َ عَنْهُم ( وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ) مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( من الكذب والباطل .
) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاٌّ خِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الاٌّ رْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (
القصص : ( 76 - 77 ) إن قارون كان . . . . .
) قَارُونُ ( اسم أعجمي مثل هرون ، ولم ينصرف للعجمة والتعريف ، ولو كان فاعولاً من قرن لانصرف . وقيل : معنى كونه من قومه أنه آمن به . وقيل : كان إسرائيلياً ابن عم موسى : هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب . وموسى بن عمران بن قاهث . وقيل : كان موسى ابن أخيه ، وكان يسمى المنور لحسن صورته ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ، ولكنه نافق كما نافق السامري وقال : إذا كانت النبوّة لموسى عليه السلام ، والمذبح والقربان إلى هرون فمالي ؟ وروي : أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة والحبورة لهرون يقرّب القربان ويكون رأساً فيهم وكان القربان إلى موسى فجعله موسى إلى أخيه وجد قارون في نفسه وحسدهما ، فقال لموسى : الأمر لكما ولست على شيء ، إلى متى أصبر ؟ قال موسى : هذا صنع الله قال : والله لا أصدق حتى تأتي بآية ، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه ، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها ، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل ، فأصبحوا وإذا بعصا هرون تهتز ولها ورق أخضر ، وكانت من شجر اللوز ، فقال قارون : ما هو بأعجب مما تصنع من السحر ) فَبَغَى عَلَيْهِمْ ( من البغي وهو الظلم . قيل : ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم . وقيل : من البغي وهو الكبر والبذخ : تبذخ عليهم بكثرة ماله وولده . وقيل : زاد عليهم في الثياب شبراً . المفاتح : جمع مفتح بالكسر : وهو ما يفتح به . وقيل هي الخزائن ، وقياس واحدها : مفتح بالفتح . ويقال : ناء به الحمل ، إذا أثقله حتى أماله . والعصبة : الجماعة الكثيرة والعصابة : مثلها . واعصو صبوا : اجتمعوا . وقيل : كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلاً ، لكل خزانة مفتاح ، ولا يزيد المفتاح على أصبع . وكانت من جلود . قال أبو رزين : يكفي الكوفة مفتاح ، وقد بولغ في ذكر ذلك بلفظ : الكنوز ، والمفاتح ، والنوء ، والعصبة ، وأولى القوة . وقرأ بدليل بن ميسرة : لينوء بالياء . ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ، ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال ، كقولك ذهبت أهل اليمامة . ومحل إذ منصوب بتنوء ) لاَ تَفْرَحْ ( كقوله : ) وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( ( الحديد : 23 ) وقول القائل :

" صفحة رقم 435 "
وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إذَا الدَّهْرُ سَرَّنِي
وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن . وأمّا من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب ، لم تحدّثه نفسه بالفرح . وما أحسن ما قال القائل :
أَشَدُّ الغمِّ عِنْدِي فِي سُرُور تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ
) وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ ( من الغنى والثروة ) الدَّارُ الاْخِرَةُ ( بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب إليه ، وتجعله زادك إلى الآخرة ) وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ ( وهو أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك ) وَأَحْسَنُ ( إلى عباد الله ) كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( أوأحسن بشكرك وطاعتك لله كما أحسن إليك . والفساد في الأرض : ما كان عليه من الظلم والبغي . وقيل إن القائل موسى عليه السلام . وقرىء : ( واتبع ) .
) قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (
القصص : ( 78 ) قال إنما أوتيته . . . . .
) عَلَى عِلْمٍ ( أي على استحقاق واستيجاب لما فيّ من العلم الذي فضلت به الناس ، وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة . وقيل : هو علم الكيمياء . عن سعيد بن المسيب : كان موسى عليه السلام يعلم علم الكيمياء ، فأفاد يوشع بن نون ثلثه ، وكالب بن يوفنا ثلثه ، وقارون ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا . وقيل : علم الله موسى علم الكيمياء ، فعلمه موسى أخته ، فعلمته أخته قارون . وقيل : هو بصره بأنواع التجارة والدهقنة وسائر المكاسب . وقيل : ) عِندِى ( معناه : في ظني ، كا تقول الأمر عندي كذا ، كأنه قال : إنما أوتيته على علم ، كقوله تعالى : ) ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ( ( الزمر : 49 ) ثم زاد ) عِندِى ( أي هو في ظني ورأيي هكذا . يجوز أن يكون إثباتاً لعلمه بأنّ الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى ، لأنه قد قرأه في التوراة ، وأخبر به موسى ، وسمعه من حفاظ التواريخ والأيام كأنه قيل : ) أَوَ لَمْ يَعْلَمْ ( في جملة ما عنده من العلم هذا ، حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوّته . ويجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك

" صفحة رقم 436 "
؛ لأنه لما قال : أوتيته على علم عندي ، فتنفج بالعلم وتعظم به . قيل : أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين ) وَأَكْثَرُ جَمْعاً ( للمال ، أو أكثر جماعة وعدداً . فإن قلت : ما وجه اتصال قوله : ) وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ( بما قبله ؟ قلت : لما ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الذي كانوا أقوى منه وأغنى ، قال على سبيل التهديد له : والله مطلع على ذنوب المجرمين ، لا يحتاج إلى سؤالهم عنها واستعلامهم . وهو قادر على أن يعاقبهم عليها ، كقوله تعالى : ) وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ( آل عمران : 153 ) وغيرها ، ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ( البقرة : 283 ) ، ( المؤمنون : 51 ) ، ( النور : 28 ) وما أشبه ذلك .
) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (
القصص : ( 79 ) فخرج على قومه . . . . .
) فِى زِينَتِهِ ( قال الحسن : في الحمرة والصفرة . وقيل : خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف على زيه . وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعن يمينه ثلثمائة غلام ، وعن يساره ثلثمائة جارية ، بيض عليهنّ الحلي والديباج . وقيل : في تسعين ألفاً عليهم المعصفرات ، وهو أوّل يوم رؤي فيه المعصفر : كان المتمنون قوماً مسلمين وإنما تمنوه على سبيل الرغبة في اليسار والاستغناء كما هو عادة البشر . وعن قتادة : تمنوه ليتقربوا به إلى الله وينفقوه في سبل الخير . وقيل : كانوا قوماً كفاراً . الغابط : هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه . والحاسد : هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه فمن الغبطة قوله تعالى : ) الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ ( ومن الحسد قوله : ) وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( ( النساء : 32 ) وقيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 819 ) هل يضر الغبط ؟ فقال : ( لا إلا كما يضر العضاه

" صفحة رقم 437 "
الخبط ) والحظ : الجدّ ، وهو البخت والدولة : وصفوه بأنه رجل مجدود مبخوت ، يقال : فلان ذو حظ ، وحظيظ ، ومحظوظ ، وما الدنيا إلا أحاظ وجدود .
) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاٌّ رْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (
القصص : ( 80 ) وقال الذين أوتوا . . . . .
ويلك : أصله الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى ، كما استعمل : لا أبا لك . وأصله الدعاء على الرجل بالأقراف في الحث على الفعل . والراجع في ) وَلاَ يُلَقَّاهَا ( للكلمة التي تكلم بها العلماء . أو للثواب ، لأنه في معنى المثوبة أو الجنة ، أو للسيرة والطريقة ، وهي الإيمان والعمل الصالح ) الصَّابِرُونَ ( على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير . كان قارون يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت ، وهو يداريه للقرابة التي بينهما ، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه ، فجمع بني إسرائيل وقال : إنّ موسى أرادكم على كل شيء ، وهو يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا وسيدنا ، فمر بما شئت ، قال : نبرطل فلانة البغيّ حتى ترميه بنفسها فيرفضه بنو إسرائيل ، فجعل لها ألف دينار . وقيل : طستا من ذهب . وقيل : طستاً من ذهب مملوءة ذهباً . وقيل : حكمها فلما كان يوم عيد قام موسى فقال : يا بني إسرائيل ، من سرق قطعناه ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه ، وإن أحصن رجمناه ، فقال قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإنّ بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة ، فأحضرت ، فناشدها موسى بالذي فلق البحر ، وأنزل التوراة أن تصدق ، فتداركها الله فقالت : كذبوا ، بل جعل لي قارون جعلاً

" صفحة رقم 438 "
على أن أقذفك لنفسي ، فخرّ موسى ساجداً يبكي وقال : يا رب ، إن كنت رسولك فاغضب لي . فأوحى إليه : أن مر الأرض بما شئت ، فإنها مطيعة لك . فقال : يا بني إسرائيل ، إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا جميعاً غير رجلين ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم ، وموسى لا يلتفت إليهم لشدّة غضبه ، ثم قال : خذيهم ، فانطبقت عليهم . وأوحى الله إلى موسى : ما أفظك : استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم ، أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً ، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم : إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله ) مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ( من المنتقمين من موسى عليه السلام ، أو من الممتنعين من عذاب الله . يقال : نصره من عدوه فانتصر ، أي : منعه منه فامتنع .
) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالاٌّ مْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (
القصص : ( 82 ) وأصبح الذين تمنوا . . . . .
قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك ، ولكن الوقت المستقرب على طرق الاستعارة ) مَكَانَهُ ( منزلته من الدنيا ) وي ( مفصولة عن كأن ، وهي كلمة تنبُّهٍ على الخطأ وتندُّم . ومعناه : أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وقولهم : ) الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ ( وتندموا ثم قالوا : ) كَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( أي : ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح ، وهو مذهب الخليل وسيبويه . قال : وَيْ كَأَنَّ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ
بب وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ
وحكى الفراء أنّ أعرابية قالت لزوجها : أين ابنك ؟ فقال : وي كأنه وراء البيت . وعند الكوفيين أنّ ( ويك ) بمعنى : ويلك ، وأنّ المعنى ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون . ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وي ، كقوله :

" صفحة رقم 439 "
. . . وَيْكَ عَنْتَرُ أَقْدِمِ ;
وأنه بمعنى لأنه ، واللام لبيان المقول لأجله هذا القول ، أو لأنه لا يفلح الكافرون كان ذلك ، وهو الخسف بقارون ، ومن الناس من يقف على ) وي ( ويبتدىء ) كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ ( ومنهم من يقف على ( ويك ) . وقرأ الأعمش ( لولا منّ الله علينا ) . وقرىء : ) لَخَسَفَ بِنَا ( وفيه ضمير الله . ولا نخسف بنا ، كقولك : انقطع به . ولتخسف بنا .
) تِلْكَ الدَّارُ الاٌّ خِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الاٌّ رْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (
القصص : ( 83 ) تلك الدار الآخرة . . . . .
) تِلْكَ ( تعظيم لها وتفخيم لشأنها ، يعني : تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها . لم يعلق الموعد بترك العلو والفساد ، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما ، كما قال : ) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( ( هود : 113 ) فعلق الوعيد بالركون . وعن علي رضي الله عنه : إنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل تحتها . وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني ههنا . وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يردّدها حتى قبض . ومن الطماع من يجعل العلوّ لفرعون ، والفساد لقارون ، متعلقاً بقوله : ) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ ( ، ) وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الاْرْضِ ( ويقول : من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ، ولا

" صفحة رقم 440 "
يتدبر قوله : ) وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( كما تدبره عليّ والفضيل وعمر .
) مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (
القصص : ( 84 ) من جاء بالحسنة . . . . .
معناه : فلا يجزون ، فوضع ) الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ ( موضع الضمير ؛ لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً . فضل تهجين لحالهم ، وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين ) إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( إلا مثل ما كانوا يعملون ، وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة ، وهو معنى قوله : ) فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا ( .
) إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّى أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ (
القصص : ( 85 ) إن الذي فرض . . . . .
) فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه ، يعني : أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثواباً لا يحيط به الوصف . و ) لَرَادُّكَ ( بعد الموت ) إِلَى مَعَادٍ ( أي معاد ليس لغيرك من البشر وتنكير المعاد لذلك : وقيل . المراد به مكة : ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح : ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شأن ، ومرجعاً له اعتداد ؛ لغلبة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليها ، وقهره لأهلها ، ولظهور عز الإسلام وأهله وذل الشرك وحزبه . والسورة مكية ، فكأن الله وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها : أنه يهاجر به منها ، ويعيده إليها ظاهراً ظافراً . وقيل : نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره . وقد اشتاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم ، فنزل جبريل فقال له : أتشتاق إلى مكة ؟ قال : نعم ، فأوحاها إليه . فإن قلت : كيف اتصل قوله تعالى : ) قُل رَّبّى أَعْلَمُ ( بما قبله ؟ قلت : لما وعد رسوله الردّ إلى معاد ، قال : قل للمشركين : ) رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى ( يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في معاده ) وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( يعنيهم وما يستحقونه من العقاب في معادهم .
) وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ (
القصص : ( 86 ) وما كنت ترجو . . . . .
فإن قلت : قوله : ) إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ ( ما وجه الاستثناء فيه ؟ قلت : هذا كلام

" صفحة رقم 441 "
محمول على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمه من ربك . ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن للاستدراك ، أي : ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك .
) وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (
القصص : ( 87 ) ولا يصدنك عن . . . . .
وقرىء : ( يصدنك ) ، من أصدّه بمعنى صدّه ، وهي في لغة كلب . وقال : أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُو
صُدُودَ السَّوَاقي عَنْ أُنُوفِ الْحَوَائِمِ
) بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ( بعد وقت إنزاله وإذا تضاف إليه أسماء الزمان ، كقولك : حينئذٍ وليلتئذٍ ويومئذٍ وما أشبه ذلك . والنهي عن مظاهرة الكافرين ونحو ذلك من باب التهييج الذي سيق ذكره .
) وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (
القصص : ( 88 ) ولا تدع مع . . . . .
) إِلاَّ وَجْهَهُ ( إلا إياه . والوجه يعبر به عن الذات .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 820 ) ( مَنْ قَرأَ طسم القصص كانَ لَهُ الأجرُ بعددِ مَنْ صدَّقَ موسى وكذَّبَ بهِ ، ولمْ يبقَ ملكٌ في السمواتِ والأرضِ إلاّ شهدَ لَهُ يومَ القيامةِ أنّه كانَ صادِقاً أنّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلاَّ وجهُه ، لهُ الحكمُ وإليه ترجعُونَ ) .

" صفحة رقم 442 "
( سورة العنكبوت )
مكية وآياتها تسع وستون آية
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (
العنكبوت : ( 1 ) الم
الحسبان لا يصح تعليقه بمعاني المفردات ، ولكن بمضامين الجمل . ألا ترى أنك لو قلت : حسبت زيداً وظننت الفرس : لم يكن شيئاً حتى تقول : حسبت زيداً عالماً ؛ وظننت الفرس جواداً ، لأنّ قولك : زيد عالم ، أو الفرس جواد : كلام دال على مضمون ، فأردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتاً عندك على وجه الظن لا اليقين ، فلم تجد بدّا في العبارة عن ثباته عندك على ذلك الوجه ، من ذكر شطري الجملة مدخلاً عليهما فعل الحسبان ، حتى يتم لك غرضك . فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان في الآية ؟ قلت : هو في قوله : ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ ( وذلك أن تقديره : أحسبوا تركهم غير مفتونين ، لقولهم : آمنا ، فالترك أول مفعولي حسب ؛ ولقولهم : آمنا ، هو الخبر . وأما ( غير مفتونين ) فتتمة الترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله : فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ ;
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان ، تقدر أن تقول : تركهم غير مفتونين ، لقولهم : آمنا ، على تقدير : حاصل ومستقر ، قبل اللام . فإن قلت : ) أَن يَقُولُواْ ( هو علة تركهم غير مفتونين ، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ ؟ قلت : كما تقول خروجه لمخافة الشر ، وضربه للتأديب ، وقد كان التأديب والمخافة في قولك : خرجت مخافة الشر ، وضربته تأديباً :

" صفحة رقم 443 "
تعليلين . وتقول أيضاً : حسبت خروجه لمخافة الشر ، وظننت ضربه للتأديب ، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً . والفتنة : الامتحان بشدائد التكليف : من مفارقة الأوطان ، ومجاهدة الأعداء ، وسائر الطاعات الشاقة ، وهجر الشهوات والملاذ ، وبالفقر ؛ والقحط ، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ، وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم . والمعنى : أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول بالإيمان : أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين ، بل يمحنهم الله بضروب المحن ، حتى يبلو صبرهم ، وثبات أقدامهم ، وصحة عقائدهم ، ونصوع نياتهم ، ليتميز المخلص من غير المخلص ، والراسخ في الدين من المضطرب ، والمتمكن من العابد على حرف ، كما قال : ) لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ ( ( آل عمران : 186 ) وروي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد جزعوا من أذى المشركين . وقيل في عمار بن ياسر : وكان يعذب في الله . وقيل : في ناس أسلموا بمكة ، فكتب إليهم المهاجرون : لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا ، فخرجوا فتبعهم المشركون فردّوهم ، فلما نزلت كتبوا بها إليهم ؛ فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا . وقيل : في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو أوّل قتيل من المسلمين يوم بدر ، رماه عامر بن الحضرمي فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 821 ) ( سيد الشهداء مهجع ، وهو أول من يدعي إلى باب الجنة من هذه الأمة ) فجزع عليه أبواه وامرأته ) وَلَقَدْ فَتَنَّا ( موصول بأحسب أو بلا يفتنون ، كقولك : ألا يمتحن فلان وقد امتحن من هو خير منه ، يعني : أن أتباع الأنبياء عليهم السلام قبلهم ، قد أصابهم من الفتن والمحن نحو ما أصابهم . أو ما هو أشدّ منه فصبروا ، كما قال : ) وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ ( الآية ( آل عمران : 146 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 822 ) ( قد كان مَن قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ، وما

" صفحة رقم 444 "
يصرفه ذلك عن دينه ؛ ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ) ) فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ ( بالامتحان ) الَّذِينَ صَدَقُوا ( في الإيمان ) وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( فيه . فإن قلت : كيف وهو عالم بذلك فيما لم يزل ؟ قلت : لم يزل يعلمه معدوماً ، ولا يعلمه موجوداً إلا إذا وجد ، والمعنى : وليتميزن الصادق منهم من الكاذب . ويجوز أن يكون وعداً ووعيداً ، كأنه قال : وليثيبن الذي صدقوا وليعاقبنّ الكاذبين . وقرأ علي رضي الله عنه والزهري : وليعلمنّ ، من الإعلام ، أي : وليعرفنهم الله الناس من هم . أو ليسمنهم بعلامة يعرفون بها من بياض الوجوه وسوادها ، وكحل العيون وزرقتها .
) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ (
العنكبوت : ( 4 ) أم حسب الذين . . . . .
) أَن يَسْبِقُونَا ( أي يفوتونا ، يعني أنّ الجزاء يلحقهم لا محالة ، وهم لم يطمعوا في الفوت ، ولم يحدّثوا به نفوسهم ، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وإصرارهم على المعاصي : في صورة من يقدر ذلك ويطمع فيه . ونظيره ) وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ ( ( الأنفال : 59 ) ، ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ( ( العنكبوت : 22 ) . فإن قلت : أين مفعولا ( حسب ) ؟ قلت : اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سدّ مسدّ المفعولين ؛ كقوله تعالى : ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ ( ( البقرة : ) ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر وأم منقطعة . ومعنى الإضراب فيها : أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأوّل ، لأن ذاك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا يجازي بمساويه ) سَاء مَا يَحْكُمُونَ ( بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا . أو بئس حكماً يحكمونه حكمهم هذا ، فحذف المخصوص بالذم .
) مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (
العنكبوت : ( 5 ) من كان يرجو . . . . .
لقاء الله : مثل للوصول إلى العاقبة ، من تلقي ملك الموت ، والبعث ، والحساب ، والجزاء : مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل ، وقد اطلع مولاه

" صفحة رقم 445 "
على ما كان يأتي ويذر ، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله ، أو بضد ذلك لما سخطه منها ، فمعنى قوله : ) مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ ( : من كان يأمل تلك الحال . وأن يلقى فيها الكرامة من الله والبشر ) فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ ( وهو الموت ) لآتٍ ( لا محالة ؛ فليبادر العمل الصالح الذي يصدق رجاءه ، ويحقق أمله ، ويكتسب به القربة عند الله والزلفى ) وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( الذي لا يخفى عليه شيء مما يقوله عباده ومما يفعلونه ، فهو حقيق بالتقوى والخشية . وقيل : ) يَرْجُو ( : يخاف من قول الهذلي في صفة عسّال : إِذَا لَسَعْتُه الدَّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ;
فإن قلت : فإن أجل الله لآت ، كيف وقع جواباً للشرط ؟ قلت : إذا علم أن لقاء الله عنيت به تلك الحال الممثلة والوقت الذي تقع فيه تلك الحال هو الأجل المضروب للموت : فكأنه قال : من كان يرجو لقاء الله فإن لقاء الله لآت ، لأن الأجل واقع فيه اللقاء ، كما تقول : من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب ، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة .
) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (
العنكبوت : ( 6 ) ومن جاهد فإنما . . . . .
) وَمَن جَاهَدَ ( نفسه في منعها ما تأمر به وحملها على ما تأباه ) فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ ( لها ، لأن منفعة ذلك راجعة إليها ، وإنما أمر الله عز وجل ونهى ، رحمة لعباده وهو الغني عنهم وعن طاعتهم .
) وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ (
العنكبوت : ( 7 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
إما أن يريد قوماً مسلمين صالحين قد أساءوا في بعض أعمالهم وسيئاتهم مغمورة بحسناتهم فهو يكفرها عنهم ، أي يسقط عقابها بثواب الحسنات ويجزيهم أحسن الذي كانوا يعملون ، أي : أحسن جزاء أعمالهم : وإما قوماً مشركين آمنوا وعملوا الصالحات ، فالله عز وجل يكفر سيئاتهم بأن يسقط عقاب ما تقدم لهم من الكفر والمعاصي ويجزيهم أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام .

" صفحة رقم 446 "
) وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (
العنكبوت : ( 8 ) ووصينا الإنسان بوالديه . . . . .
(وصى ) حكمه حكم ( أمر ) في معناه وتصرفه . يقال : وصيت زيداً بأن يفعل خيراً ، كما تقول : أمرته بأن يفعل . ومنه بيت الإصلاح : وَذُبُيَانِيَّةٍ وَصَّتْ بَنِيهَا
بِأَنْ كَذَبَ القَرَاطِفُ وَالْقُرُوفُ
كما لو قال : أمرتهم بأن ينتهبوها . ومنه قوله تعالى : ) وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ ( ( البقرة : 132 ) أي وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها ، وقولك : وصيت زيداً بعمرو ، معناه : وصيته بتعهد عمرو ومراعاته ونحو ذلك ، وكذلك معنى وقوله : ) وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ( : وصيناه بإيتاء والديه حسناً ، أو بإيلاء والديه حسناً ؛ أي : فعلا ذا حسن ، أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه ، كقوله تعالى : ) وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ( ( البقرة : 83 ) وقرىء : ( حسنا ) ، و ( إحسانا ) ويجوز أن تجعل ( حسنا ) من باب قولك : زيداً ، بإضمار ( أضرب ) إذا رأيته متهيئاً للضرب ، فتنصبه بإضمار أولهما . أو أفعل بهما ، لأن التوصية بهما دالة عليه ، وما بعده مطابق له ، كأنه قال : قلنا : أوْ لِهما معروفاً و ) لا تُطِعْهُمَا ( في الشرك إذا حملاك عليه . وعلى هذا التفسير إن وقف على ) بِوالِدَيْهِ ( وابتدأ ) حَسَنًا ( حسن الوقف ، وعلى التفسير الأول لا بد من إضمار القول ، معناه : وقلنا إن جاهداك أيها الإنسان ) مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( أي لا علم لك بإلهيته . والمراد بنفي العلم : نفي المعلوم ، كأنه قال : لتشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلاهاً ولا يستقيم : وصاه بوالديه وأمره بالإحسان إليهما ، ثم نبه بنهيه عن طاعتهما إذا أراداه على ما ذكره ، على أن كل حق وإن عظم ساقط إذاجاء حق الله ، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ثم قال : إليّ مرجع من آمن منكم ومن أشرك ، فأجازيكم حق جزائكم . وفيه شيئان ، أحدهما : أن الجزاء إليّ ، فلا تحدث نفسك بجفوة والديك وعقوقهما لشركهما ، ولا تحرمها برك

" صفحة رقم 447 "
ومعروفك في الدنيا ، كما أني لا أمنعهما رزقي . والثاني : التحذير من متابعتهما على الشرك ، والحث على الثبات والاستقامة في الدين بذكر المرجع والوعيد . روي :
( 823 ) أن سعد بن أبي وقاص الزهري رضي الله عنه حين أسلم قالت أمّه وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس يا سعد ، بلغني أنك قد صبأت ، فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ؛ وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد وكان أحبّ ولدها إليها فأبى سعد وبقيت ثلاث أيام كذلك ، فجاء سعد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وشكا إليه ، فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف ، فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يداريها ويترضاها بالإحسان . وروي أنهانزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، وذلك :
( 824 ) أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة ، فخرج أبو جهل بن هشام والحرث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة : أمرأة من بني تميم من بني حنظلة فنزلا بعياش وقالا له : إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين ، وقد تركت أمّك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتاً حتى تراك ، وهي أشدّ حباً لك منا فاخرج معنا ، وفتلا منه في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي الله عنه فقال : هما يخدعانك ، ولك عليّ أن أقسم مالي بيني وبينك ، فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر ، فقال له عمر : أما إذ عصيتني فخذ ناقتي ، فليس في الدنيا بعير يلحقها ، فإن رابك منهما ريب فارجع ، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي قد كلت فاحملني معك . قال : نعم ، فنزل ليوطىء لنفسه وله ، فأخذاه وشدّاه وثاقاً ، وجلده كل واحد منهما مائة جلدة ، وذهبا به إلى أمه فقالت : لا تزال في عذاب حتى ترجع عن

" صفحة رقم 448 "
دين محمد ، فنزلت .
) وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ (
العنكبوت : ( 9 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
) فِى الصَّالِحِينَ ( في جملتهم . والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين ، وهو متمني أنبياء الله . قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام ) وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( ( النمل : 19 ) وقال في إبراهيم عليه السلام : ) وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ( البقرة : 130 ) ، ( النحل : 122 ) ، ( العنكبوت : 27 ) أو في مدخل الصالحين وهي الجنة ، وهذا نحو قوله تعالى : ) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم ( الآية ( النساء : 69 ) .
) وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (
العنكبوت : ( 10 ) ومن الناس من . . . . .
هم ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فإذا مسهم أذى من الكفار وهو المراد بفتنة الناس ، كان ذلك صارفاً لهم عن الإيمان ، كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر . أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفاً ، وإذا نصر الله المؤمنين وغنمهم اعترضوهم وقالوا : ) إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ( أي مشايعين لكم في دينكم ، ثابتين عليه ثباتكم ، ما قدر أحد أن يفتننا ، فأعطونا نصيبنا من المغنم . ثم أخبر سبحانه أنه أعلم ) بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ ( من العالمين بما في صدورهم ، ومن ذلك ما تكن صدور هؤلاء من النفاق ، وهذا إطلاع منه للمؤمنين على ما أبطنوه ، ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين ، وقرىء : ( ليقولنّ ) بفتح اللام .
) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَىْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْألُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (
العنكبوت : ( 12 ) وقال الذين كفروا . . . . .
أمروهم باتباع سبيلهم وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم فعطف الأمر على الأمر ، وأرادوا : ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم . والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع ، وهذا قول صناديد قريش : كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن عسى كان ذلك فإنا

" صفحة رقم 449 "
نتحمل عنكم الإثم . ونرى في المتسمين بالإسلام من يستنّ بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم : افعل هذا وإثمه في عنقي . وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامّة وجهلتهم ومنه ما يحكى أنّ أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه ، فلما قضاها قال : يا أمير المؤمنين ، بقيت الحاجة العظمى . قال : وما هي ؟ قال شفاعتك يوم القيامة ، فقال له عمرو بن عبيد رحمه الله : إياك وهؤلاء ، فإنهم قطاع الطريق في المأمن . فإن قلت : كيف سماهم كاذبين ، وإنما ضمنوا شيئاً علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به ، وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به ، لا يسمى كاذباً لا حين ضمن ولا حين عجز ، لأنه في الحالين لا يدخل تحت حدّ الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه ؟ قلت : شبه الله حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به ، فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه لمخبر ، عنه . ويجوز أن يريد أنهم كاذبون ، لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه ، كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف ) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ ( أي أثقال أنفسهم ) أثقالا ( يعني أثّقالا أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها ، وهي أثقال الذين كانوا سبباً في ضلالهم ) أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ ( سؤال تقريع ) عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( أي يختلقون من الأكاذيب والأباطيل . وقرىء : ( من خطيآتهم ) .
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ ءَايَةً لِّلْعَالَمِينَ (
العنكبوت : ( 14 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . .
كان عمر نوح عليه السلام ألفاً وخمسين سنة ، بعث على رأس أربعين ، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين ، وعاش بعد الطوفان ستين . وعن وهب : أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة . فإن قلت : هلا قيل : تسعمائة وخمسين سنة ؟ قلت : ما أورده الله أحكم . لأنه لو

" صفحة رقم 450 "
قيل كما قلت ، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره ، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك ، وكأنه قيل : تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد ، إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة ، وفيه نكتة أخرى : وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمّته وما كابده من طول المصابرة ، تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتثبيتاً له ، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه ، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره . فإن قلت : فلم جاء المميز أوّلاً بالسنة وثانياً بالعام ؟ قلت : لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة ، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك . و ) الطُّوفَانَ ( ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة ، من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما . قال العجاج : وَغَمَّ طُوفَانُ الظَّلاَمِ الأَثْأَبَا ;
) أَصْحَابُ السَّفِينَةِ ( كانوا ثمانية وسبعين نفساً : نصفهم ذكور ، ونصفهم إناث ، منهم أولاد نوح عليه السلام : سام ، وحام ، ويافث ، ونساؤهم . وعن محمد بن إسحاق : كانوا عشرة . خمسة رجال وخمس نسوة . وقد روى عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 825 ) ( كانوا ثمانية : نوح وأهله وبنوه الثلاثة ) والضمير في ) وَجَعَلْنَاهَا ( للسفينة أو للحادثة والقصة .
) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

" صفحة رقم 451 "
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (
العنكبوت : ( 16 ) وإبراهيم إذ قال . . . . .
نصب ) إِبْرَاهِيمَ ( بإضمار اذكر ، وأبدل عنه ) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( بدل الاشتمال ؛ لأنّ الأحيان تشتمل على ما فيها . أو هو معطوف على ) نُوحاً ( وإذ ظرف لأرسلنا ، يعني : أرسلناه حين بلغ من السنّ والعلم مبلغاً صلح فيه لأن يعظ قومه وينصحهم ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى وقرأ إبراهيم النخعي وأبو حنيفة رحمهما الله . ( وإبراهيم ) ، بالرفع على معنى : ومن المرسلين إبراهيم ) إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( يعني : إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم . أو إن نظرتم بعين الدراية المبصرة دون عين الجهل العمياء : علمتم أنه خير لكم وقرىء : ( تخلقون من خلق ) بمعنى التكثير في خلق . وتخلقون ، من تخلق بمعنى تكذب وتخرص . وقرىء : ( إفكاً ) ، فيه وجهان : أن يكون مصدراً ، نحو : كذب ولعب . والإفك : مخفف منه ، كالكذب واللعب من أصلهما ، وأن يكون صفة على فعل ، أي خلقاً إفكا ، أي ذا إفك وباطل . واختلاقهم الإفك : تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء الله أو شفعاء إليه . أو سمي الأصنام : إفكا ، وعملهم لها ونحتهم : خلقاً للإفك . فإن قلت : لم نكر الرزق ثم عرفه ؟ قلت : لأنه أراد لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق ، فابتغوا عند الله الرزق كله . فإنه هو الرزاق وحده لا يرزق غيره ) إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( وقرىء : بفتح التاء ، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه ، وإن تكذبونني فلا تضرونني بتكذيبكم ، فإنّ الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم ، وما ضرّوهم وإنما ضروا أنفسهم ، حيث حلّ بهم ما حل بسبب تكذيب الرسل : وأما الرسول فقد تم أمره حين بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشكّ ، وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته . أو : وإن كنت مكذباً فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة وسلوة حيث كذبوا ، وعلى الرسول أن يبلغ وما عليه أن يصدق ولا يكذب ، وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله : ) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ( ( النمل : 56 ) محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم صلوات الله عليه لقومه ، وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وشأن قريش بين أوّل قصة إبراهيم وآخرها . فإن قلت : إذا كانت من قول إبراهيم فما المراد بالأمم قبله ؟ قلت : قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم ، وكفى بقوم نوح أمّة في معنى أمم جمة مكذبة ، ولقد عاش إدريس ونوح وغيرهم ، وكفى بقوم نوح أمّة في معنى أمم جمة مكذبة ، ولقد عاش إدريس ألف سنة في قومه إلى أن رفع إلى السماء . وآمن به ألف إنسان منهم على عدد

" صفحة رقم 452 "
سنيه ، وأعقابهم على التكذيب .
) أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىءُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الاٌّ خِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاٌّ رْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (
العنكبوت : ( 19 ) أو لم يروا . . . . .
فإن قلت : فما تصنع بقوله : ) قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ ( ؟ قلت : هي حكاية كلام حكاه إبراهيم عليه السلام لقومه ، كما يحكي رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) كلام الله على هذا المنهاج في أكثر القرآن فإن قلت : فإذا كانت خطاباً لقريش فما وجه توسطهما بين طرفي قصة إبراهيم والجملة ؟ أو الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه ؟ ألا تراك لا تقول : مكة وزيد أبوه قائم خير بلاد الله ؟ قلت : إيراد قصة إبراهيم ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأن تكون مسلاة له ومتفرجا بأنّ أباه إبراهيم خليل الله كان ممنوّا بنحو مامني به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان ، فاعترض بقوله : وإن تكذبوا ، على معنى إنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمداً فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها ؛ لأن قوله : ) فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ ( لا بد من تناوله لأمّه إبراهيم ، وهو كما ترى اعتراض واقع متصل ، ثم سائر الآيات الواطئة عقبها من أذيالها وتوابعها ، لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله ، وهدم الشرك وتوهين قواعده ، وصفة قدرة الله وسلطانه ، ووضوح حجته وبرهانه قرىء : ) يَرَوْاْ ( بالياء والتاء . ويبدىء ويبدأ . وقوله : ) ثُمَّ يُعِيدُهُ ( ليس بمعطوف على يبدىء ، وليست الرؤية واقعة عليه ، وإنما هو إخبار على حياله بالإعادة بعد الموت ، كما وقع النظر في قوله تعالى : ) فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىء النَّشْأَةَ الاْخِرَةَ ( على البدء دون الإنشاء ، ونحوه قولك : ما زلت أوثر فلاناً وأستخلفه على من أخلفه ، فإن قلت : هو معطوف

" صفحة رقم 453 "
بحرف العطف ، فلا بد له من معطوف عليه ، فما هو ؟ قلت : هو جملة قوله : ) أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ ( وكذلك : وأستخلفه ، معطوف على جملة قوله : ما زلت أوثر فلاناً ) ذالِكَ ( يرجع إلى ما يرجع إليه هو في قوله : ) وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( ( الروم : 27 ) من معنى يعيد . دل بقوله ) النَّشْأَةَ الاْخِرَةَ ( على أنهما نشأتان ، وأن كل واحدة منهما إنشاء ، أي : ابتداء واختراع ، وإخراج من العدم إلى الوجود ، لا تفاوت بينهما إلا أن الآخر إنشاء بعد إنشاء مثله ، والأولى ليست كذلك . وقرىء ( النشأة ) و ( النشاءة ) كالرأفة والرآفة ، فإن قلت : ما معنى الإفصاح باسمه مع إيقاعه مبتدأ في قوله : ) ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىء النَّشْأَةَ الاْخِرَةَ ( بعد إضماره في قوله : كيف بدأ الخلق ؟ وكان القياس أن يقال : كيف بدأ الله الخلق ثم ينشىء النشأة الآخرة ؟ قلت : الكلام معهم كان واقعاً في الإعادة ، وفيها كانت تصطك الركب ، فلما قرّرهم في الإبداء بأنه من الله ، احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء ، فإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء ، فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعاة ، فكأنه قال : ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشىء النشأة الآخرة ، فللدلالة والتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ ) يُعَذّبُ مَن يَشَاء ( تعذيبه ) وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء ( رحمته ، ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن وهو من يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا ، ومن المعصوم والتائب ) تُقْلَبُونَ ( تردون وترجعون ) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ( ربكم أي لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه ) فِى الاْرْضِ ( الفسيحة ) وَلاَ فِى السَّمَاء ( التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها ، كقوله تعالى : ) إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فَانفُذُواْ ( ( الرحمن : 33 ) ، وقيل : ولا من في السماء كما قال حسان رضي الله عنه : أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُم
وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
ويحتمل أن يراد : لا تعجزونه كيفما هبطتم في مهاوي الأرض وأعماقها ، أو علوتم في البروج والقلاع الذاهبة في السماء ، كقوله تعالى : ) وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ( ( النساء : 78 ) أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجري عليكم ،

" صفحة رقم 454 "
فيصيبكم ببلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء .
) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَائِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى وَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (
العنكبوت : ( 23 ) والذين كفروا بآيات . . . . .
) بِأايَاتِ اللَّهِ ( بدلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته ولقائه والبعث ) يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى ( وعيد ، أي ييأسون يوم القيامة ، كقوله : ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ( ( الروم : 12 ) . أو هو وصف لحالهم ؛ لأنّ المؤمن إنما يكون راجياً خاشياً ، فأما الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف . أو شبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من الرحمة : وعن قتادة رضي الله عنه . إن الله ذمّ قوماً هانوا عليه فقال : ) أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى ( وقال : ) يبَنِىَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن ( ( يوسف : 87 ) فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته ، وأن لا يأمن عذابه وعقابه صفة المؤمن أن يكون راجياً لله عز وجل خائفاً .
) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِى ذالِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (
العنكبوت : ( 24 ) فما كان جواب . . . . .
قرىء : ( جواب قدمه ) بالنصب والرفع ) قَالُواْ ( قال بعضهم لبعض . أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين ، فكانوا جميعاً في حكم القائلين . وروي أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار ، نعني : يوم ألقي إبراهيم في النار ، وذلك لذهاب حرّها .
) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ (
العنكبوت : ( 25 ) وقال إنما اتخذتم . . . . .
قرىء على النصب بغير إضافة وبإضافة ، وعلى الرفع كذلك ، فالنصب على وجهين : على التعليل ، أي لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا ، لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم ، كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم . وأن يكون مفعولاً ثانياً ، كقوله : ) اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( ( الفرقان : 43 ) ، ( الجاثية : 23 ) أي اتخذتم الأوثان سبب المودّة بينكم ، على تقدير حذف المضاف . أو اتخذتموها مودّة بينكم ، بمعنى مودودة بينكم ، كقوله تعالى : ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ ( ( البقرة : 165 ) وفي الرفع وجهان : أن يكون خبراً لأنّ على أن ما موصولة . وأن يكون خبر مبتدأ محذوف . والمعنى : أنّ الأوثان مودّة بينكم ، أي :

" صفحة رقم 455 "
مودودة ، أو سبب مودّة . وعن عاصم : مودّة بينكم : بفتح بينكم مع الإضافة ، كما قرىء : ) لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ( ( الأنعام : 94 ) ففتح وهو فاعل . وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه : أوثاناً إنما مودّة بينكم في الحياة الدنيا ، أي : إنما تتوادّون عليها ، أو تودّونها في الحياة الدنيا ) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( يقوم بينكم التلاعن والتباغض والتعادي : يتلاعن العبدة . ويتلاعن العبدة والأصنام ، كقوله تعالى : ) وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ( ( مريم : 82 ) .
) فَأامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (
العنكبوت : ( 26 ) فآمن له لوط . . . . .
كان لوط ابن أخت إبراهيم عليهما السلام ، وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه ) وَقَالَ ( يعني إبراهيم ) إِنّى مُهَاجِرٌ ( من ( كوثى ) وهي من سواد الكوفة إلى ( حرّان ) ثم منها إلى فلسطين ، ومن ثمة قالوا : لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان ، وكان معه في هجرته : لوط ، وامرأته سارة ، وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة ) إِلَى رَبّى ( إلى حيث أمرني بالهجرة إليه ) إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ ( الذي يمنعني من أعدائي ) الْحَكِيمُ ( الذي لا يأمرني إلا بما هو مصلحتي .
) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى لاٌّ خِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (
العنكبوت : ( 27 ) ووهبنا له إسحاق . . . . .
) أَجْرُهُ ( الثناء الحسن ، والصلاة عليه آخر الدهر والدرية الطيبة والنبوّة ، وأن أهل الملل كلهم يتولونه . فإن قلت : ما بال إسماعيل عليه السلام لم يذكر ، وذكر إسحق وعقبه ؟ قلت : قد دلّ عليه في قوله : ) وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ( وكفى الدليل لشهرة أمره وعلوِّ قدره . فإن قلت : ما المراد بالكتاب ؟ قلت : قصد به جنس الكتاب ، حتى دخل تحته ما نزل على ذريّته من الكتب الأربعة : التي هي التوراة والزبور والإنجيل والقرآن ؟
) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (
العنكبوت : ( 28 ) ولوطا إذ قال . . . . .
) وَلُوطاً ( معطوف على إبراهيم ، أو على ما عطف عليه . و ) الْفَاحِشَةُ ( الفعلة البالغة في القبح . و ) مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ ( جملة مستأنفة مقررة لفحاشة تلك الفعلة ، كأن قائلاً قال : لم كانت فاحشة ؟ فقيل له : لأن أحداً قبلهم لم يقدم

" صفحة رقم 456 "
عليها اشمئزازاً منها في طباعهم لإفراط قبحها ، حتى أقدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم وقذر طباعهم . قالوا لم ينزُ ذكر على ذكر قبل قوم لوط قط . وقريء : إنكم ، بغير استفهام في الأوّل دون الثاني : قال أبو عبيدة : وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء ، ورأيت الثاني بحرفين الياء والنون وقطع السبيل : عمل قطاع الطريق ، من قتل الأنفس وأخذ الأموال . وقيل : اعتراضهم السابلة بالفاحشة . وعن الحسن : قطع النسل بإتيان ما ليس بحرث . و ) الْمُنْكَرَ ( عن ابن عباس رضي الله عنهما هو الخذف بالحصى ، والرمي بالبنادق ، والفرقعة ، ومضغ العلك ، والسواك بين الناس ، وحل الأزرار ، والسباب ، والفحش في المزاح . وعن عائشة رضي الله عنها : كانوا يتحابقون وقيل السخرية بمن مرَّ بهم . وقيل : المجاهرة في ناديهم بذلك العمل ، وكل معصية فإظهارها أقبح من سترها ، ولذلك جاء : من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له . ولا يقال للمجلس : ناد ، إلا ما دام فيه أهله ، فإذا قاموا عنه لم يبق نادياً ) إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( فيما تعدناه من نزول العذاب . كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعاً وكرهاً ولأنهم ابتدعوا الفاحشة وسنوها فيمن بعدهم ، وقال الله تعالى : ) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ( ( النحل : 88 ) فأراد لوط عليه السلام أن يشتد غضب الله عليهم ، فذكر لذلك صفة المفسدين في دعائه .
) وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (
العنكبوت : ( 31 - 32 ) ولما جاءت رسلنا . . . . .
) بِالْبُشْرَى ( هي البشارة بالولد . والنافلة : وهما إسحق ويعقوب . وإضافة مهلكو إضافة تخفيف لا تعريف . والمعنى الاستقبال . والقرية : سدوم التي قيل فيها : أجور من قاضي سدوم ) كَانُواْ ظَالِمِينَ ( معناه أنّ الظلم قد استمر منهم إيجاده في الأيام السالفة ، وهم عليه مصرون ، وظلمهم : كفرهم وألوان معاصيهم ) إِنَّ فِيهَا لُوطاً ( ليس إخباراً لهم بكونه فيها ، وإنما هو جدال في شأنه : لأنهم لما عللوا إهلاك أهلها بظلمهم : اعترض عليهم بأن فيها من هو بريء من الظلم ، وأراد بالجدال : إظهار الشفقة عليهم ، وما يجب للمؤمن من التحزن لأخيه ، والتشمر في نصرته وحياطته ، والخوف من أن يمسه أذى أو يلحقه ضرر . قال قتادة : لا يرى المؤمن ألا يحوط المؤمن ، ألا ترى إلى جوابهم

" صفحة رقم 457 "
بأنهم أعلم منه ) بِمَن فِيهَا ( يعنون : نحن أعلم منك وأخبر بحال لوط وحال قومه ، وامتيازه منهم الامتياز البين ، وأنه لا يستأهل ما يستأهلون ، فخفض على نفسك وهوّن عليك الخطب . وقريء ) لَنُنَجّيَنَّهُ ( بالتشديد والتخفيف ، وكذلك منجوك .
) وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ (
العنكبوت : ( 33 ) ولما أن جاءت . . . . .
) أَن ( صلة أكدت وجود الفعلين مترتباً أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما ؛ كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان ، كأنه قيل : كما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث ، خيفة عليهم من قومه ) وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ( وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته ، وقد جعلت العرب ضيق الذراع والذرع : عبارة عن فقد الطاقة ، كما قالوا : رحب الذراع بكذا ، إذا كان مطيقاً له ، والأصل فيه أنّ الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع ، فضرب ذلك مثلاً في العجز والقدرة .
) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (
العنكبوت : ( 34 ) إنا منزلون على . . . . .
الرجز والرجس : العذاب ، من قولهم : ارتجز وارتجس إذا اضطرب ، لما يلحق المعذب من القلق والاضطراب . وقريء ) مُنزِلُونَ ( مخففاً ومشدّداً ) مِنْهَا ( من القرية ) بَيّنَةً لّقَوْمٍ ( هي آثار منازلهم الخربة . وقيل : بقية الحجارة . وقيل : الماء الأسود على وجه الأرض . وقيل : الخبر عما صنع بهم ) لِقَوْمٍ ( متعلق بتركنا أو ببينة .
) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاٌّ خِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاٌّ رْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (
العنكبوت : ( 36 - 37 ) وإلى مدين أخاهم . . . . .
) وَارْجُواْ ( وافعلوا ما ترجون به العاقبة . فأقيم المسبب مقام السبب . أو أمروا بالرجاء : والمراد : اشتراط ما يسوّغه من الإيمان ، كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط . وقيل : هو من الرجاء بمعنى الخوف . والرجفة : الزلزلة الشديدة . وعن الضحاك : صيحة جبريل عليه السلام ؛ لأنّ القلوب رجفت لها ) فِي دَارِهِمْ ( في بلدهم وأرضهم . أو في ديارهم ، فاكتفى بالواحد لأنه لا يلبس ) جَاثِمِينَ ( باركين على الركب ميتين .

" صفحة رقم 458 "
) وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ (
العنكبوت : ( 38 ) وعادا وثمود وقد . . . . .
) وَعَاداً ( منصوب بإضمار ( أهلكنا ) لإنه قوله : ) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ( يدل عليه ، لأنه في معنى الإهلاك ) وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم ( ذلك : يعني ما وصفه في إهلاكهم ) مِّن ( جهة ) مَسَاكِنِهِمْ ( إذا نظرتم إليها عند مروركم بها . وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها ) وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ ( عقلاء متمكنين من النظر والافتكار . ولكنهم لم يفعلوا . أو كانوا متبينين أن العذاب نازل بهم لأن الله تعالى قد بين لهم على ألسنة الرسل عليهم السلام ، ولكنهم لجوا حتى هلكوا .
) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاٌّ رْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاٌّ رْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (
العنكبوت : ( 39 ) وقارون وفرعون وهامان . . . . .
) سَابِقِينَ ( فائتين ، أدركهم أمر الله فلم يفوتوه .
العنكبوت : ( 40 ) فكلا أخذنا بذنبه . . . . .
الحاصب : لقوم لوط ، وهي ريح عاصف فيها حصباء . وقيل : ملك كان يرميهم . والصيحة : لمدين وثمود . والخسف : لقارون . والغرق : لقوم نوح وفرعون .
) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (
العنكبوت : ( 41 ) مثل الذين اتخذوا . . . . .
الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلاً ومعتمداً في دينهم وتولوه من دون الله ، بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوّة . وهو نسج العنبكوت . ألا ترى إلى مقطع التشبيه وهو قوله : ) وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ( ؟ فإن قلت : ما معنى قوله : ) لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ( وكل أحد يعلم وهن بيت العنكبوت ؟ قلت : معناه لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن . ووجه آخر : وهو أنه إذا صحّ تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت ، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعملون . أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز ، فكأنه قال : وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون .

" صفحة رقم 459 "
ولقائل أن يقول : مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله ، مثل عنكبوت يتخذ بيتاً ، بالإضافة إلى رجل يبني بيتاً بآجر وجص أو ينحته من صخر ، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون . قرىء : ( تدعون ) بالتاء والياء . وهذا توكيد للمثل وزيادة عليه ، حيث لم يجعل ما يدعونه شيئاً ) وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( فيه تجهيل لهم حيث عبدوا ما ليس بشيء ؛ لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلاً ، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء ، الحكيم الذي لا يفعل شيئاً إلا بحكمة وتدبير .
) وَتِلْكَ الاٌّ مْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ (
العنكبوت : ( 43 ) وتلك الأمثال نضربها . . . . .
كان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون إنُّ ربّ محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، فلذلك قال : ) وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ( أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها إلا هم ، لأنّ الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار حتى تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها للأفهام ، كما صوّر هذا التشبيه الفرق بين حال المشرق وحال الموحد وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه تلا هذه الآية فقال :
( 826 ) ( العالمُ مَنْ عقلَ عنِ اللَّهِ فعملَ بطاعَتِهِ واجتنبَ سخطهِ ) :
) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (
العنكبوت : ( 44 ) خلق الله السماوات . . . . .
) بِالْحَقّ ( أي بالغرض الصحيح الذي هو حق لا باطل ، وهو أن تكونا مساكن عبادة وعبرة للمعتبرين منهم ، ودلائل على عظم قدرته : ألا ترى إلى قوله : ) إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ( ونحوه قوله تعالى : ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ( ( ص : 27 ) ثم قال : ) ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ( ص : 27 ) .
) اتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَواةَ إِنَّ الصَّلَواةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( 7 )
العنكبوت : ( 45 ) اتل ما أوحي . . . . .

" صفحة رقم 460 "
الصلاة تكون لطفاً في ترك المعاصي ، فكأنها ناهية عنها . فإن قلت : كم من مصل يرتكب ولا تنهاه صلاته ؟ قلت الصلاة التي هي الصلاة عند الله المستحق بها الثواب : أن يدخل فيها مقدّماً للتوبة النصوح ، متقياً ؛ لقوله تعالى : ) إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( ( المائدة : 27 ) ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح ، فقد روي عن حاتم : كأنّ رجلي على الصراط والجنة عن يميني والنار عن يساري وملك الموت من فوقي ، وأصلي بين الخوف والرجاء ؛ ثم يحوطها بعد أن يصليها فلا يحبطها ، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما :
( 827 ) من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً . وعن الحسن رحمه الله : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فليست صلاته بصلاة ، وهي وبال عليه . وقيل : من كان مراعياً للصلاة جرّه ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوماً ما ، فقد روي أنه
( 828 ) قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّ فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل ، فقال : ( إنّ صلاته لتردعه ) وروي
( 829 ) أنّ فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ، ولا يدع شيئاً من الفواحش

" صفحة رقم 461 "
إلا ركبه ، فوصف له فقال : ( إن صلاته ستنهاه ) فلم يلبث أن تاب . وعلى كل حال إنّ المراعي للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها . وأيضاً فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر ، واللفظ لا يقتضي أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها ، كما تقول : إنّ زيداً ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكير ، وإنما تريد أنّ هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم ) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ( يريد : وللصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله كما قال : ) فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( ( الجمعة : 9 ) وإنما قال : ولذكر الله : ليستقلّ بالتعليل ، كأنه قال : وللصلاة أكبر ، لأنها ذكر الله . أو ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر ، فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( من الخير والطاعة ، فيثيبكم أحسن الثواب .
) وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَاهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (
العنكبوت : ( 46 ) ولا تجادلوا أهل . . . . .
) بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( بالخصلة التي هي أحسن : وهي مقابلة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم . والسورة بالأناة ، كما قال : ) ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( ( المؤمنون : 96 ) ، ) إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( فأفرطوا في الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق . فاستعملوا معهم الغلظة ، وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : وقيل إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا : يد الله مغلولة . وقيل : معناه ولا تجادلوا الداخلين في الذمّة المؤدّين للجزية إلا بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمّة ومنعوا الجزية ، فإن أولئك مجادلتهم بالسيف . وعن قتادة : الآية منسوخة بقوله تعالى : ) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ ( ( التوبة : 29 ) ولا مجادلة أشد من السيف : وقوله : ) وَقُولُواْ ءامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا ( من جنس المجادلة بالتي هي أحسن . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 830 ) ( ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلاً لم تصدّقوهم ، وإن كان حقاً لم تكذبوهم ) .

" صفحة رقم 462 "
) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَاؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِايَاتِنَآ إِلاَّ الْكَافِرونَ (
العنكبوت : ( 47 ) وكذلك أنزلنا إليك . . . . .
ومثل ذلك الإنزال ) أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ( أي : أنزلناه مصدّقاً لسائر الكتب السماوية ، تحقيقاً لقوله : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم . وقيل : كما أنزلنا الكتب إلى من كان قبلك أنزلنا إليك الكتاب ) فَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ( هم عبد الله بن سلام ومن آمن معه ) وَمِنْ هَؤُلاء ( من أهل مكة وقيل : أراد بالذين أوتوا الكتاب الذين تقدموا عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل الكتاب . ومن هؤلاء ممن في عهده منهم ) وَمَا يَجْحَدُ بِايَاتِنَآ ( مع ظهورها وزوال الشبهة عنها ، إلا المتوغلون في الكفر المصممون عليه . وقيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه .
) وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِأايَاتِنَآ إِلاَّ الظَّالِمُونَ (
العنكبوت : ( 48 ) وما كنت تتلو . . . . .
وأنت أميّ ما عرفك أحد قط بتلاوة كتاب ولا خط ) إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( لو كان شيء من ذلك ، أي ، من التلاوة والخط ) لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( من أهل الكتاب وقالوا : الذي نجده في كتبنا أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به . أو لارتاب مشركو مكة وقالوا : لعله تعلمه أو كتبه بيده . فإن قلت : لم سماهم مبطلين ، ولو لم يكن أمّياً وقالوا : ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا صادقين محقين ؟ ولكان أهل مكة أيضاً على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه فإنه رجل قارىء كاتب ؟ قلت : سماهم مبطلين لأنهم كفروا به وهو أميّ بعيد من الريب ، فكأنه قال : هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمّياً لارتابوا أشدّ الريب ، فحين ليس بقارىء كاتب فلا وجه لارتيابهم . وشيء آخر : وهو أن سائر الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا أمّيين ، ووجب الإيمان بهم وبما جاؤوا به ، لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات ، فهب أنه قارىء كاتب فمالهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى عليهما السلام ؟ على أن المنزلين ليسا بمعجزين ، وهذا المنزل معجز ، فإذاً هم مبطلون حيث لم يؤمنوا به وهو أمي ، ومبطلون لو لم يؤمنوا به وهو غير أمي . فإن

" صفحة رقم 463 "
قلت : ما فائدة قوله : ) بِيَمِينِكَ ( قلت ذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط : زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتباً . ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات ؛ رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه ، كان أشد لإثباتك أنه تولى كتبته ، فكذلك النفي ) بَلِ ( القرآن ) بَيّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ ( العلماء به وحفاظه ، وهما من خصائص القرآن : كون آياته بينات الإعجاز ، وكونه محفوظاً في الصدور يتلوه أكثر الأمة ظاهراً : بخلاف سائر الكتب ، فإنها لم تكن معجزات ، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف . ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة
( 831 ) ( صدورهم أناجيلهم ) ) وَمَا يَجْحَدُ ( بآيات الله الواضحة ، إلا المتوغلون في الظلم المكابرون .
) وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الاٌّ يَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (
العنكبوت : ( 50 ) وقالوا لولا أنزل . . . . .
قرىء ( آية ) و ( آيات ) أرادوا : هلا أنزل عليه آية مثل ناقة صالح ومائدة عيسى عليهما السلام ونحو ذلك ) إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ( ينزل أيتها شاء ، ولو شاء أن ينزل ما تقترحونه لفعل ) وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ ( كلفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات ، وليس لي أن أتخير على الله آياته فأقول : أنزل عليّ آية كذا دون آية كذا ، مع علمي أنّ الغرض من الآية ثبوت الدلالة ، والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك ، ثم قال : ) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ( آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحلّ . كما تزول كل آية بعد كونها ، وتكون في مكان دون مكان . إنّ في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر ) لَرَحْمَةً ( لنعمة عظيمة لا تشكر . وتذكرة ) لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( وقيل : أولم يكفهم ، يعني اليهود : أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك . وقيل :

" صفحة رقم 464 "
( 832 ) إنّ ناساً من المسلمين أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقود اليهود ، فلما أن نظر إليها ألقاها وقال : كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم ، فنزلت . والوجه ما ذكرناه ) كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ( أني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم ، وأنكم قابلتموني بالجحد والتكذيب ) يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ ( فهو مطلع على أمري وأمركم ، وعالم بحقي وباطلكم ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْبَاطِلِ ( منكم وهو ما تعبدون من دون الله ) وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ ( وآياته ) أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان ، إلا أن الكلام ورد مورد الإنصاف ، كقوله : ) وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ( سبأ : 24 ) وكقول حسان : فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ ;
وروي أنّ كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا : يا محمد ، من يشهد لك بأنك رسول الله ، فنزلت .
) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (
العنكبوت : ( 53 ) ويستعجلونك بالعذاب ولولا . . . . .
كان استعجال العذاب استهزاء منهم وتكذيباً ، والنضر بن الحرث هو الذي قال : اللَّهم أمطر علينا حجارة من السماء ، كما قال أصحاب الأيكة : فأسقط علينا كسفاً من السماء ) وَلَوْلاَ أَجَلٌ ( قد سماه الله وبينه في اللوح لعذابهم ، وأوجبت الحكمة تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى ) لَّجَاءهُمُ الْعَذَابُ ( عاجلاً . والمراد بالأجل : الآخرة ، لما روي
( 833 ) أنّ الله تعالى وعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا يعذب قومه ولا يستأصلهم ، وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة . وقيل : يوم بدر . وقيل : وقت فنائهم بآجالهم ) لَمُحِيطَةٌ (

" صفحة رقم 465 "
أي ستحيط بهم ) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ ( أو هي محيطة بهم في الدنيا : لأنّ المعاصي التي توجبها محيطة بهم . أو لأنها مآلهم ومرجعهم لا محالة فكأنها الساعة محيطة بهم . و ) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ( على هذا منصوب بمضمر ، أي : يوم يغشاهم العذاب كان كيت وكيت . ) مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ( كقوله تعالى : ) لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ( ( الزمر : 16 ) ، ) وَيَقُولُ ( قرىء بالنون والياء ) مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( أي جزاءه .
) ياعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ (
العنكبوت : ( 56 ) يا عبادي الذين . . . . .
معنى الآية : أنّ المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه كما يحب فليهاجر عنه إلى بلد يقدّر أنه فيه أسلم قلباً وأصح ديناً وأكثر عبادة وأحسن خشوعاً . ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير ، ولقد جربنا وجرّب أوّلونا ، فلم نجد فيما درنا وداروا : أعون على قهر النفس وعصيان الشهوة وأجمع للقلب المتلفت وأضم للهم المنتشر وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من كثير من الفتن وأضبط للأمر الديني في الجملة من سكنى حرم الله وجوار بيت الله ، فللَّه الحمد على ما سهل من ذلك وقرب ، ورزق من الصبر وأوزع من الشكر . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
( 834 ) ( مَنْ فَرَّ بدينهِ مِنْ أَرْضٍ إِلى أرضِ وإنْ كانَ شبراً منَ الأَرْضِ ؛ استوجَبَ الجنةَ وكانَ رفيقَ إبراهيم ومحمدٍ ) وقيل : هي في المستضعفين بمكة الذين نزل فيهم : ) أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ( ( النساء : 97 ) وإنما كان ذلك لأنّ أمر دينهم ما كان يستتب لهم بين ظهراني الكفرة ) فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ ( في المتكلم ، نحو : إياه ضربته ، في الغائب وإياك عضتك ، في المخاطب . والتقدير : فإياي فاعبدوا : فاعبدون . فإن قلت : ما معنى الفاء في ) فَاعْبُدُونِ ( وتقديم المفعول ؟ قلت : الفاء جواب شرط محذوف ؛ لأنّ المعنى : إنّ أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فاخلصوها لي في غيرها ، ثم حذف الشرط وعوّض من حذفه تقديم المفعول ، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص .
) كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (
العنكبوت : ( 57 ) كل نفس ذائقة . . . . .
لما أمر عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد

" صفحة رقم 466 "
وإن شسعتَّ ، أتبعه قوله : ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ( أي واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق . ومعناه : إنكم ميتون فواصلون إلى الجزاء ، ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بد من التزود لها والاستعداد بجهده .
) وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (
العنكبوت : ( 58 - 59 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
) لَنُبَوّئَنَّهُمْ ( لننزلنهم ) مِنَ الْجَنَّةِ ( علالي . وقرىء ( لنثوّينهم ) من الثواء وهو النزول للإقامة . يقال : ثوى في المنزل ، وأثوى هو ، وأثوى غيره وثوى : غير متعد ، فإذا تعدى بزيادة همزة النقل لم يتجاوزه مفعولاً واحداً ، نحو : ذهب ، وأذهبته . والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف : إمّا إجراؤه مجرى لننزلنهم ونبوئنهم . أو حذف الجار وإيصال الفعل : أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم . وقرأ يحيى بن وثاب : ( فنعم ) ، فزيادة الفاء ) الَّذِينَ صَبَرُواْ ( على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين . وعلى أذى المشركين ، وعلى المحن والمصائب ، وعلى الطاعات ، وعن المعاصي ، ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله .
) وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (
العنكبوت : ( 60 ) وكأين من دابة . . . . .
لما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أسلم بمكة بالهجرة ، خافوا الفقر والضيعة . فكان يقول الرجل منهم : كيف أقدم بلدة ليس لي فيها معيشة ، فنزلت . والدابة : كل نفس دبت على وجه الأرض ، عقلت أو لم تعقل . ) تَحْمِلُ رِزْقَهَا ( لا تطيق أن تحمله لضعفها على حمله ) اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ( أي لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله ، ولا يرزقكم أيضاً أيها الأقوياء إلا هو وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها ، لأنه لو لم يقدركم ولم يقدّر لكم أسباب الكسب ، لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل ، وعن الحسن ) لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ( لا تدّخره ، إنما تصبح فيرزقها الله . وعن ابن عيينة : ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة . وعن بعضهم : رأيت البلبل يحتكر في حضنيه . ويقال : للعقعق مخابىء إلا أنه ينساها ) وَهُوَ السَّمِيعُ ( لقولكم : نخشى الفقر والضيعة ) الْعِلْمِ ( بما في ضمائركم .

" صفحة رقم 467 "
) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (
العنكبوت : ( 61 ) ولئن سألتهم من . . . . .
الضمير في ) سَأَلْتَهُمْ ( لأهل مكة ) فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ( فكيف يصرفون عن توحيد الله وأن لا يشركوا به ، مع إقرارهم بأنه خالق السماوات والأرض .
) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٍ (
العنكبوت : ( 62 ) الله يبسط الرزق . . . . .
قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه . فإن قلت : الذي رجع إليه الضمير في قوله : ) وَيَقْدِرُ لَهُ ( هو من يشاء ، فكأن بسط الرزق وقدره جعلا لواحد . قلت : يحتمل الوجهين جميعاً : أن يريد ويقدر لمن يشاء ، فوضع الضمير موضع من يشاء ، لأن ) مَن يَشَآء ( مبهم غير معين ، فكان الضمير مبهماً مثله ، وأن يريد تعاقب الأمرين على واحد على حسب المصلحة ) أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ ( يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم .
) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاٌّ رْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (
العنكبوت : ( 63 ) ولئن سألتهم من . . . . .
استحمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به ؛ ثم نفعه ذلك في توحيد الله ونفي الأنداد والشركاء عنه ، ولم يكن إقراراً عاطلاً كإقرار المشركين ؛ وعلى أنهم أقروا بما هو حجة عليهم حيث نسبوا النعمة إلى الله وقد جعلوا العبادة للصنم ، ثم قال : ) بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد . أو لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد لله ، ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم ؟
) وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الاٌّ خِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (
العنكبوت : ( 64 ) وما هذه الحياة . . . . .
) هَذِهِ ( فيها ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ، وكيف لا يصغرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة . يريد : ما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون ) وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ ( أي ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة خالدة لا موت فيها ، فكأنها في ذاتها حياة . والحيوان : مصدر حي ، وقياسه حييان ، فقلبت الياء الثانية واواً ، كما قالوا : حيوة ، في اسم رجل ، وبه سمى ما

" صفحة رقم 468 "
فيه حياة : حيوانا . قالوا : اشتر من الموتان ولا تشتر من الحيوان . وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة ، وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب ، كالنزوان والنغصان واللهبان ، وما أشبه ذلك . والحياة : حركة ، كما أن الموت سكون ، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة ، مبالغة في معنى الحياة ، ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع المقتضى للمبالغة ) لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ( فلم يؤثروا الحياة الدنيا عليها .
) فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ (
العنكبوت : ( 65 ) فإذا ركبوا في . . . . .
فإن قلت : بم اتصل قوله ) فَإِذَا رَكِبُواْ ( ؟ قلت : بمحذوف دلّ عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم ، معناه : هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد ) فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون معه إلاهاً آخر . وفي تسميتهم مخلصين : ضرب من التهكم ) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ ( وآمنوا عادوا إلى حال الشرك : واللام في ) لِيَكْفُرُواْ ( محتملة أن تكون لام كي ، وكذلك في ) وَلِيَتَمَتَّعُواْ ( فيمن قرأها بالكسر . والمعنى : أنهم يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود إلى شركهم كافرين بنعمة النجاة ، قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير ، على خلاف ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة : إذا أنجاهم الله أن يشكروا نعمة الله في إنجائهم ، ويجعلوا نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة ، لا إلى التمتع والتلذذ ، وأن تكون لام الأمر وقراءة من قرأ وليتمتعوا بالسكون تشهد له . ونحوه قوله تعالى : ) اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ( فصلت : 41 ) . فإن قلت : كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر وبأن يعمل العصاة ما شاءوا ، وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه ؟ قلت : هو مجاز عن الخذلان والتخلية ، وأن ذلك الأمر متسخط إلى غاية . ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر ، وعندك أنّ ذلك الأمر خطأ ، وأنه يؤدي إلى ضرر عظيم ، فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه ، فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم ، حردت عليه وقلت : أنت وشأنك وافعل ما شئت ، فلا تريد بهذا حقيقة الأمر . وكيف والآمر بالشيء مريد له ، وأنت شديد الكراهة متحسر ، ولكنك كأنك تقول له : فإذ قد

" صفحة رقم 469 "
أبيت قبول النصيحة ، فأنت أهل ليقال لك : افعل ما شئت وتبعث عليه ، ليتبين لك إذا فعلت صحة رأي الناصح وفساد رأيك .
) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (
العنكبوت : ( 67 ) أو لم يروا . . . . .
كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضاً ، ويتغاورون ، ويتناهبون ، وأهل مكة قارّون آمنون فيها ، لا يغزون ولا يغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب ، فذكرهم الله هذه النعمة الخاصة عليهم ، ووبخهم بأنهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه ، ومثل هذه النعمة المكشوفة الظاهرة وغيرها من النعم التي لا يقدر عليها إلا الله وحده مكفورة عندهم .
) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (
العنكبوت : ( 68 ) ومن أظلم ممن . . . . .
افتراؤهم على الله كذباً : زعمهم أن لله شريكاً . وتكذيبهم بما جاءهم من الحق : كفرهم بالرسول والكتاب . وفي قوله : ) لَمَّا جَاءهُ ( تسفيه لهم ، يعني : لم يتلعثموا في تكذيبه وقت سمعوه ، ولم يفعلوا كما يفعل المراجيح العقول المثبتون في الأمور : يسمعون الخبر فيستعملون فيه الروية والفكر . ويستأنسون إلى أن يصح لهم صدقه أو كذبه ) أَلَيْسَ ( تقرير لثوائهم في جهنم ، كقوله : أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ;
قال بعضهم : ولو كان استفهاماً ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل . وحقيقته : أن الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي ، فرجع إلى معنى التقرير ، فهما وجهان ، أحدهما : ألا يثوون في جهنم ، وألا يستوجبون الثواء فيها ، وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله ، وكذبوا بالحق هذا التكذيب والثاني : ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين ، حتى اجترؤوا مثل هذه الجرأة ؟ .
) وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (
العنكبوت : ( 69 ) والذين جاهدوا فينا . . . . .
أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول . ليتناول كل ما يجب مجاهدته من النفس

" صفحة رقم 470 "
الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين ) فِينَا ( في حقنا ومن أجلنا ولو جهنا خالصاً ) لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقاً ، كقوله تعالى : ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( ( محمد : 17 ) وعن أبي سليمان الداراني : والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا . وعن بعضهم : من عمل بما يعلم وفق لما لا يعلم . وقيل : إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم ، إنما هو من تقصيرنا فيما نعلم ) لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( لناصرهم ومعينهم .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 835 ) ( مَنْ قَرأَ سورةَ العنكبوتِ كانَ لَهُ منَ الأَجرِ عشرُ حسناتٍ بعددِ كلِّ المؤمنينَ والمنافقينَ ) .

" صفحة رقم 471 "
( سورة الروم )
مكية وآياتها ستون
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الاٌّ رْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الاٌّ مْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (
الروم : ( 1 ) الم
القراءة المشهورة الكثيرة ) غُلِبَتِ ( بضم الغين . وسيغلبون بفتح الياء . والأرض : أرض العرب ، لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم . والمعنى : غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام . أو أراد أرضهم ، على إنابة اللام مناب المضاف إليه ، أي : في أدنى أرضهم إلى عدوّهم . قال مجاهد : هي أرض الجزيرة ، وهي أدنى أرض الروم إلى فارس . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الأردن وفلسطين . وقريء ( في أداني الأرض ) والبضع ما بين الثلاث إلى العشر عن الأصمعي . وقيل :
( 836 ) احتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى ، فغلبت فارس الروم ، فبلغ

" صفحة رقم 472 "
الخبر مكة فشق على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين ؛ لأن فارس مجوس لا كتاب لهم والروم أهل الكتاب ، وفرح المشركون وشمتوا وقالوا : أنتم والنصارى أهل الكتاب ، ونحن وفارس أميون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ، ولنظهرنّ نحن عليكم ، فنزلت . فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه : لا يقرّر الله أعينكم ، فوالله لتظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين فقال له أبيّ بن خلف : كذبت يا أبا فصيل ، اجعل بيننا أجلاً أُناحبك عليه . والمناحبة : المراهنة فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما ، وجعلا الأجل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايده في الخطر ومادّه في الأجل . فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين . ومات أُبيُّ من جرح رسول الله ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين . وقيل :
( 837 ) كان النصر يوم بدر للفريقين ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي ، وجاء به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : تصدّق به . وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة على صحة النبوّة ، وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله . وقرىء : ( غلبهم ) بسكون اللام . والغلب والغلب مصدران كالجلب والجلب ، والحلب والحلب . وقريء : ( غلبت الروم ) بالفتح ، وسيغلبون ، بالضم . ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون في بضع سنين . وعند انقضاء هذه المدّة أخذ المسلمون في جهاد الروم ، وإضافة غلبهم تختلف باختلاف القراءتين ، فهي في إحداهما إضافة المصدر إلى المفعول . وفي الثانية إضافته إلى الفاعل . ومثالهما ) مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ( ( البقرة : 85 ) ، ) وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ( ( الحج : 47 ) . فإن قلت : كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار ؟ قلت : عن قتادة رحمه الله تعالى أنه كان ذلك قبل تحريم القمار . ومن

" صفحة رقم 473 "
مذهب أبي حنيفة ومحمد : أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار . وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر بينه وبين أبيّ بن خلف ) مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( أي في أوّل الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا وحين يغلبون ، كأنه قيل : من قبل كونهم غالبين ، وهو وقت كونهم مغلوبين . ومن بعد كونهم مغلوبين ، وهو وقت كونهم غالبين ، يعني أن كونهم مغلوبين أوّلاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمر الله وقضائه ) وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ( ( آل عمران : 140 ) وقرىء : ( من قبل ومن بعد ) على الجرّ من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه . كأنه قيل : قبلاً وبعداً ، بمعنى أوّلاً وآخراً ) وَيَوْمَئِذٍ ( ويوم تغلب الروم على فارس ويحل ما وعده الله عزّ وجل من غلبتهم ) يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له . وغيظ من شمت بهم من كفار مكة . وقيل : نصر الله : هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم وقيل نصر الله أنه ولي بعض الظالمين بعضاً وفرق بين كلمهم ، حتى تفانوا وتناقصوا ، وفل هؤلاء شوكة هؤلاء وفي ذلك قوّة للإسلام . وعن أبي سعيد الخدري : وافق ذلك يوم بدر ، وفي هذا اليوم نصر المؤمنين ) وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ينصر عليكم تارة وينصركم أخرى .
) وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاٌّ خِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (
الروم : ( 6 - 7 ) وعد الله لا . . . . .
) وَعَدَ اللَّهُ ( مصدر مؤكد ، كقولك : لك عليّ ألف درهم عرفاً : لأنّ معناه : أعترف لك بها اعترافاً ، ووعد الله ذلك وعداً ؛ لأنّ ما سبقه في معنى وعد . ذمّهم الله عزّ وجل بأنهم عقلاء في أمور الدنيا ، بله في أمر الدين ، وذلك أنهم كانوا أصحاب تجارات ومكاسب . وعن الحسن . بلغ من حذق أحدهم أنه يأخذ الدرهم فينقره بأصبعه ، فيعلم أرديء أم جيد . وقوله : ) يَعْلَمُونَ ( بدل من قوله : ) لاَّ يَعْلَمُونَ ( وفي هذا الإبدال

" صفحة رقم 474 "
من النكتة أنه أبدله منه ، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا . وقوله : ) ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً ، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها . وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة : يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة . وفي تنكير الظاهر : أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة الظواهر . و ( هم ) الثانية يجوز أن يكون مبتدأ . و ) غَافِلُونَ ( خبره ، والجملة خبر ( هم ) الأولى ، وأن يكون تكريراً للأولى ، وغافلون خبر الأولى . وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرّها ومعلمها ، وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع .
) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (
الروم : ( 8 ) أو لم يتفكروا . . . . .
) فِى أَنفُسِهِمْ ( يحتمل أن يكون ظرفاً ، كأنه قيل : أولم يحدثوا التفكر في أنفسهم ، أي : في قلوبهم الفارغة من الفكر ، والتفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك ، وأن يكون صلة للتفكر ، كقولك : تفكر في الأمر وأجال فيه فكره . و ) مَا خَلَقَ ( متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول . وقيل : معناه : فيعلموا ، لأنّ في الكلام دليلاً عليه ) إِلاَّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى ( أي ما خلقها باطلاً وعبثاً بغير غرض صحيح وحكمة بالغة ، ولا لتبقى خالدة : إنما خلقها مقرونة بالحق مصحوبة بالحكمة ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه ، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ( ( المؤمنون : 115 ) كيف سمي تركهم غير راجعين إليه عبثاً . والباء في قوله : ) إِلاَّ بِالْحَقّ ( مثلها في قولك : دخلت عليه بثياب السفر ، واشترى الفرس بسرجه ولجامه ، تريد : اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام ، غير منفك عنهما . وكذلك المعنى ما خلقها إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به ، فإن قلت : إذا جعلت ) فِى أَنفُسِهِمْ ( صلمة للتفكر ، فما معناه ؟ قلت : معناه : أولم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات ، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها ، فتدبروا ما أودعها الله ظاهراً وباطناً من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبر أمرها على الإحسان إحساناً وعلى الإساءة مثلها ، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى

" صفحة رقم 475 "
ذلك الوقت ، والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى .
) أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الاٌّ رْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (
الروم : ( 9 ) أو لم يسيروا . . . . .
) أَوَلَمْ يَسيرُواْ ( تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المدمّرين من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية ، ثم أخذ يصف لهم أحوالهم وأنهم ) كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الاْرْضَ ( وحرثوها قال الله تعالى : ) لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الاْرْضَ ( ( البقرة : 71 ) وقيل لبقر الحرث : المثيرة . وقالوا : سمي ثوراً لإثارته الأرض وبقرة ؛ لأنها تبقرها أي تشقها ) وَعَمَرُوهَا ( يعني أولئك المدمّرون ) أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ( من عمارة أهل مكة ، وأهل مكة : أهل واد غير ذي زرع ، ما لهم إثارة الأرض أصلاً ولا عمارة لها رأساً فما هو إلا تهكم بهم ، وبضعف حالهم في دنياهم ؛ لأنّ معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة ، وهم أيضاً ضعاف القوى ، فقوله : ) كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ( أي عاد وثمود وأضرابهم من هذا القبيل ، كقوله : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ( ( فصلت : 15 ) وإن كان هذا أبلغ ، لأنه خالق القوى والقدر . فما كان تدميره إياهم ظلماً لهم ، لأنّ حاله منافية للظلم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم .
) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوءَى أَن كَذَّبُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (
الروم : ( 10 ) ثم كان عاقبة . . . . .
قرىء ( عاقبة ) بالنصب والرفع . و ) السوأى ( تأنيث الأسوأ وهو الأقبح ، كما أنّ الحسنى تأنيث الأحسن . والمعنى : أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ، ثم كانت عاقبتهم سوأى ؛ إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر ، أي : العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم التي أعدّت للكافرين . و ) السُّوءى أَن كَذَّبُواْ ( بمعنى لأن كذبوا . ويجوز أن يكون أن بمعنى : أي ؛ لأنه إذا كان تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء كانت في معنى القول ، نحو : نادى . وكتب ، وما أشبه ذلك . ووجه آخر : وهو أن يكون ) أَسَاءُواْ السُّوءَى ( بمعنى اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا ، و ) أَن كَذَّبُواْ ( عطف بيان لها ، وخبر كان محذوف كما يحذف جواب لما ولو ، إرادة الإبهام .

" صفحة رقم 476 "
) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (
الروم : ( 11 ) الله يبدأ الخلق . . . . .
) ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( أي إلى ثوابه وعقابه . وقرىء بالتاء والياء .
) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ (
الروم : ( 12 ) ويوم تقوم الساعة . . . . .
الإبلاس : أي يبقى بائساً ساكناً متحيراً . يقال : ناظرته فأبلس . إذا لم ينبش وبئس من أن يحتجّ . ومنه الناقة المبلاس : التي لا ترغو . وقريء ( يبلس ) بفتح اللام ، من أبلسه إذا أسكته ) مّن شُرَكَائِهِمْ ( من الذين عبدوهم من دون الله ) وَكَانُواْ بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ( أي يكفرون بإلهيتهم ويجحدونها . أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم . وكتب ) شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ ( في المصحف بواو قبل الألف ، كما كتب ) عُلَمَاء بَنِى إِسْراءيلَ ( ( الشعراء : 197 ) وكذلك كتبت ) السوأى ( بألف قبل الياء إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها .
) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَلِقَآءِ الاَّخِرَةِ فَأُوْلَائِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (
الروم : ( 14 - 16 ) ويوم تقوم الساعة . . . . .
الضمير في ) يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ( للمسلمين والكافرين ، لدلالة ما بعده عليه . وعن الحسن رضي الله عنه : هو تفرّق المسلمين والكافرين : هؤلاء في عليين ، وهؤلاء في أسفل السافلين وعن قتادة رضي الله عنه : فرقة لا اجتماع بعدها ) فِى رَوْضَةٍ ( في بستان ، وهي الجنة . والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه . والروضة عند العرب : كل أرض ذات نبات وماء . وفي أمثالهم : أحسن من بيضة في روضة ، يريدون : بيضة النعامة ) يُحْبَرُونَ ( يسرون . يقال : حبره إذا سرّه سروراً تهلل له وجهه وظهر فيه أثره ، ثم اختلفت فيه الأقاويل لاحتماله وجوه جميع المسارّ ؛ فعن مجاهد رضي الله عنه : يكرمون ، وعن قتادة : ينعمون . وعن ابن كيسان : يحلون . وعن أبي بكر بن عياش : التيجان على رؤوسهم . وعن وكيع : السماع في الجنة . وعن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 838 ) أنَّه ذكرَ الجنةَ وما فيها منَ النعيم ، وفي آخرِ القوم أعرابيّ فقال :

" صفحة رقم 477 "
يا رسولَ اللَّهِ ، هل في الجنةِ من سماع ؟ قالَ : ( نعم يا أَعرابي ، إنّ في الجنة لنهراً حافتاه الأبكار من كلِّ بيضاء خوصانية ، يتغنين بأصواتٍ لم تسمعّ الخلائق بمثلها قط ، فذلكَ أفضلَ نعم الجنة ) قال الراوي : فسألت أبا الدرداء : بم يتغنين ؟ قال : بالتسبيح . وروي :
( 839 ) ( إنّ في الجنة لأشجاراً عليها أجراس من فضة ، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحاً من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار ، فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طرباً ) ) مُحْضَرُونَ ( لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم ، كقوله : ) وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ( ( المائدة : 37 ) ، ) لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ( ( الزخرف : 75 ) .
) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْىِ الاٌّ رْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (
الروم : ( 17 ) فسبحان الله حين . . . . .
لما ذكر الوعد والوعيد ، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد والمراد بالتسبيح ظاهره الذي هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدّد فيها من نعمة الله الظاهرة . وقيل : الصلاة . وقيل لابن عباس رضي الله عنهما : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال : نعم ، وتلا هذه الآية ) تُمْسُونَ ( صلاتا المغرب والعشاء ) تُصْبِحُونَ ( صلاة الفجر ) وَعَشِيّاً ( صلاة العصر . و ) تُظْهِرُونَ ( صلاة الظهر . وقوله : ) وَعَشِيّاً ( متصل بقوله : ) حِينَ تُمْسُونَ ( وقوله : ) وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ ( اعتراض بينهما . ومعناه : إنّ على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه . فإن قلت : لم ذهب الحسن رحمه الله إلى أنّ هذه الآية مدنية ؟ قلت : لأنه كان يقول : فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم . والقول الأكثر أنّ الخمس إنما فرضت بمكة . وعن عائشة رضي الله عنها :

" صفحة رقم 478 "
( 840 ) فرضت الصلاة ركعتين فلما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة أقرّت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 841 ) ( من سره أن يكال له بالقفيز الأوفي فليقل : ) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( . . . الآية ) وعنه عليه السلام :
( 842 ) ( من قال حين يصبح : ) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( إلى قوله : ) وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( أدرك ما فاته في يومه . ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته ) ، وفي قراءة عكرمة : ( حينا تمسون وحينا تصبحون ) والمعنى : تمسون فيه وتصبحون فيه . كقوله : ) يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( ( البقرة : 48 ) بمعنى فيه ) الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ ( الطائر من البيضة ، و ) الْمَيّتِ مِنَ الْحَىّ ( البيضة من الطائر . وإحياء الأرض : إخراج النبات منها ) وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور وتبعثون . والمعنى : أنّ الإبداء والإعادة متساويان في قدرة من هو قادر على الطرد والعكس من إخراج الميت من الحيّ وإخراج الحي من الميت وإحياء الميت وإماتة الحي . وقرىء ( الميت ) بالتشديد . وتخرجون ، بفتح التاء .

" صفحة رقم 479 "
) وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (
الروم : ( 20 ) ومن آياته أن . . . . .
) خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ( لأنه خلق أصلهم منه . و ) إِذَا ( للمفاجأة . وتقديره : ثم فاجأتهم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض . كقوله : ) وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء ( ( النساء : 1 ) ، ) مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً ( لأنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم عليه السلام ، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال . أو من شكل أنفسكم وجنسها ، لا من جنس آخر ، وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الألف والسكون ، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر ) وَجَعَلَ بَيْنَكُم ( التوادّ والتراحم بعصمة الزواج ، بعد أن لم تكن بينكم سابقة معرفة ، ولا لقاء ، ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم . وعن الحسن رضي الله عنه : المودة كناية عن الجماع ، والرحمة عن الولد ، كما قال : ) وَرَحْمَةً مّنَّا ( ( مريم : 21 ) وقال : ) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ ( ( مريم : 2 ) . ويقال : سكن إليه ، إذا مال إليه ، كقولهم : انقطع إليه ، واطمأن إليه ومنه السكن . وهو الألف المسكون إليه . فعل بمعنى مفعول . وقيل : إن المودة والرحمة من قبل الله وإن الفرك من قبل الشيطان .
) وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لأَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ (
الروم : ( 22 ) ومن آياته خلق . . . . .
الألسنة : اللغات ، أو أجناس النطق وأشكاله . خالف عزّ وعلا بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ، ولا جهارة ، ولا حدّة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة ، ولا لكنة ، ولا نظم ، ولا أسلوب ، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله ، وكذلك الصور وتخطيطها ، والألوان وتنويعها ، ولاختلاف ذلك وقع التعارف ، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس ، ولتعطلت مصالح كثيرة ، وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية ، فيعروك الخطأ في التمييز بينهما ، وتعرف حكمة الله في المخالفة بين الحليّ وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد ، وفرّعوا من أصل فذ ، وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون . وقريء ( للعالمين ) بفتح اللام وكسرها ، ويشهد للكسر قوله تعالى : ) وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ( ( العنكبوت : 43 ) .

" صفحة رقم 480 "
) وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (
الروم : ( 23 ) ومن آياته منامكم . . . . .
هذا من باب اللفّ وترتيبه : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار ، إلا أنه فصل بين القرينين الأوّلين بالقرينين الآخرين . لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشيء واحد ، مع إعانة اللفّ على الاتحاد . ويجوز أن يراد : منامكم في الزمانين ، وابتغاءكم فيهما ، والظاهر هو الأول لتكرّره في القرآن ، وأسدّ المعاني ما دل عليه القرآن يسمعونه بالآذان الواعية .
) وَمِنْ ءايَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْىِ بِهِ الاٌّ رْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (
الروم : ( 24 ) ومن آياته يريكم . . . . .
في ) يُرِيكُمْ ( وجهان : إضماران ، وإنزال الفعل منزلة المصدر ، وبهما فسر المثل : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه . وقول القائل : وَقَالُوا مَا تَشَاءُ فَقُلْتُ أَلْهُو
إِلَى الإِصبَاحِ آثَرَ ذِي أَثِيرِ
) خَوْفًا ( من الصاعقة أو من الإخلاف ) وَطَمَعًا ( في الغيث . وقيل : خوفاً للمسافر ، وطمعاً للحاضر ، وهما منصوبان على المفعول له . فإن قلت : من حق المفعول له أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل ؛ والخوف والطمع ليسا كذلك . قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن المفعولين فاعلون في المعنى ، لأنهم راءون ، فكأنه قيل : يجعلكم رائين البرق خوفاً وطمعاً . والثاني : أن يكون على تقدير حذف المضاف ، أي : إرادة خوف

" صفحة رقم 481 "
وإرادة طمع ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . ويجوز أن يكون حالين ؛ أي : خائفين وطامعين . وقرىء ( ينزل ) بالتشديد .
) وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالاٌّ رْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الاٌّ رْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (
الروم : ( 25 - 26 ) ومن آياته أن . . . . .
) وَمِنْ ءايَاتِهِ ( قيام السماوات والأرض واستمساكهما بغير عمد ) بِأَمْرِهِ ( أي بقوله : كوناً قائمتين . والمراد بإقامته لهما : إرادته لكونهما على صفة القيام دون الزوال . وقوله : ) إِذَا دَعَاكُمْ ( بمنزلة قوله : يريكم ، في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى ، كأنه قال : ومن آياته قيام السماوات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة : يا أهل القبور اخرجوا . والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث ، كما يجيب الداعي المطاع مدعوّه ، كما قال القائل : دَعَوْتُ كلَيْباً دَعْوَةً فَكَأَنَّمَا
دَعَوْتُ بِهِ ابْنَ الطَّوْدِ أَوْ هُوَ أَسْرَعُ
يريد بابن الطود : الصدى ، أو الحجر إذا ندهدى ، وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بثم ، بياناً لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور ، قوموا ؛ فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر ، كما قال تعالى : ) ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( ( الزمر : 68 ) . قولك : دعوته من مكان كذا ، كما يجوز أن يكون مكانك يجوز أن يكون مكان صاحبك ، تقول : دعوت زيداً من أعلى الجبل فنزل عليّ : ودعوته من أسفل الوادي فطلع إليّ . فإن قلت : بم تعلق ) مّنَ الاْرْضِ ( أبالفعل أم بالمصدر ؟ قلت : هيهات ، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل . فإن قلت : ما الفرق بين إذا وإذا ؟ قلت : الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة ، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط . وقرىء ( تخرجون ) بضم التاء وفتحها ) قَانِتُونَ ( منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه .
) وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 7 )
الروم : ( 27 ) وهو الذي يبدأ . . . . .

" صفحة رقم 482 "
) وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( فيما يجب عندكم وينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم ؛ لأنّ من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها ، وتعتذرون للصانع إذا خطيء في بعض ما ينشئه بقولكم : أوّل الغزو أخرق ، وتسمون الماهر في صناعته معاوداً ، تعنون أنه عاودها كرّة بعد أخرى ؛ حتى مرن عليها وهانت عليه . فإن قلت : لم ذكر الضمير في قوله : ) وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( والمراد به الإعادة ؟ قلت : معناه : وأن يعيده أهون عليه . فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله : ) وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( وقدّمت في قوله : ) هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ ( ( مريم : 21 ) ؟ قلت : هناك قصد الاختصاص وهو محزه ، فقيل : هو عليّ هين ، وإن كان متعصباً عندكم أن يولد بين هم وعاقر ؛ وأما ههنا فلا معنى للاختصاص ، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أنّ الإعادة أسهل من الابتداء ؛ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى . فإن قلت : ما بال الإعادة استعظمت في قوله : ) ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ ( حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره ، ثم هوّنت بعد ذلك ؟ قلت : الإعادة في نفسها عظيمة ، ولكنها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء . وقيل الضمير في عليه للخلق . ومعناه : أنّ البعث أهون على الخلق من الإنشاء ، لأن تكوينه في حدّ الاستحكام ، والتمام أهون عليه وأقل تعباً وكبداً ، من أن يتنقل في أحوال ويندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحدّ . وقيل : الأهون بمعنى الهين . ووجه آخر : وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله ، والإعادة من قبيل الواجب

" صفحة رقم 483 "
الذي لا بدّ له من فعله ، لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب ، والأفعال : إما محال والمحال ممتنع أصلاً خارج عن المقدور ، وأما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح ، وهو رديف المحال ؛ لأنّ الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة . وإما تفضل والتفضل حالة بين بين ، للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله . وإما واجب لا بدّ من فعله ، ولا سبيل إلى الإخلال به ، فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول . فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب ، كانت أبعد الأفعال من الامتناع . وإذا كانت أبعدها من الامتناع ، كانت أدخلها في التأني والتسهل ، فكانت أهون منها . وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء ) وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى ( أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به . ووصف في السماوات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات ، ويدل عليه قوله تعالى : ) وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( أي القاهر لكل مقدور ) الْحَكِيمُ ( الذي يجري كل فعل على قضايا حكمته وعلمه . وعن مجاهد ) الْمَثَلُ الاعْلَى ( قول لا إلاه إلا الله ، ومعناه : وله الوصف الأعلى الذي هو الوصف بالوحدانية . ويعضده قوله تعالى : ) ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ ( ( الروم : 28 ) وقال الزجاج : ) وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( أي : قوله تعالى : ) وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( قد ضربه لكم مثلاً فيما يصعب ويسهل . يريد : التفسير الأوّل .
) ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (
الروم : ( 28 ) ضرب لكم مثلا . . . . .
فإن قلت : أي فرق بين الأولى والثانية والثالثة في قوله تعالى : ) مّنْ أَنفُسِكُمْ ( ، ) مّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( ، ) مّن شُرَكَاء ( ؟ قلت : الأولى للابتداء ، كأنه قال : أخذ مثلاً

" صفحة رقم 484 "
وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم ولم يبعد ، والثانية للتبعيض ، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي . ومعناه : هل ترضون لأنفسكم وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد أن يشارككم بعضهم ) فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ ( من الأموال وغيرها ما تكونون أنتم وهم فيه على السواء ، من غير تفصلة بين حرّ وعبد : تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم ، وأن تفتاتوا بتدبير عليهم كما يهاب بعضكم بعضاً من الأحرار ، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم ، فكيف ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء ؟ ) كَذالِكَ ( أي مثل هذا التفصيل ) نُفَصّلُ الآيَاتِ ( أي نبينها : لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها ؛ لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها . ألا ترى كيف صوّر الشرك بالصورة المشوّهة ؟ .
) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ (
الروم : ( 29 ) بل اتبع الذين . . . . .
) الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( أي أشركوا ، كقوله تعالى : ) إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( ، ) بِغَيْرِ عِلْمٍ ( أي اتبعوا أهواءهم جاهلين لأنّ العالم إذا ركب هواه ربما ردعه علمه وكفه . وأما الجاهل فيهيم على وجهه كالبهيمة لا يكفه شيء ) مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ( من خذله ولم يلطف به ، لعلمه أنه ممن لا لطف له ، فمن يقدر على هداية مثله . وقوله : ) وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ ( دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان .
) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلواةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (
الروم : ( 30 ) فأقم وجهك للدين . . . . .
) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ ( فقوِّم وجهك له وعدِّ له ، غير ملتفت عنه يميناً ولا شمالاً ، وهو تمثيل لإقباله على الدين ، واستقامته عليه ، وثباته ، واهتمامه بأسبابه ، فإنّ من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه ، وسدّد إليه نظره ، وقوّم له وجهه ، مقبلاً به عليه . و ) حَنِيفاً ( حال من المأمور . أو من الدين ) فِطْرَةَ اللَّهِ ( أي الزموا فطرة الله . أو عليكم فطرة الله . وإنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله : ) مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ( ومنيبين : حال من الضمير في : الزموا . وقوله : ) وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ وَلاَ تَكُونُواْ ( معطوف على هذا الضمير . والفطرة : الخلقة . ألا ترى إلى قوله : ) لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( والمعنى : أنه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام ، غير نائين عنه ولا منكرين له ، لكونه مجاوباً

" صفحة رقم 485 "
للعقل ، مساوقاً للنظر الصحيح ، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه ديناً آخر ، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجن . ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 843 ) ( كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري ) وقوله عليه السلام :
( 844 ) ( كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرانه ) ، ) لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( أي ما ينبغي أن تبدّل تلك الفطرة أو تغير . فإن قلت : لم وحد الخطاب أولاً ، ثم جمع ؟ قلت : خوطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أولاً ، وخطاب الرسول خطاب لأمته مع ما فيه من التعظيم للإمام ، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص ) مِنَ الَّذِينَ ( بدل من المشركين ( فارقوا دينهم ) تركوا دين الإسلام . وقرىء : ( فرّقوا دينهم ) بالتشديد ، أي : حعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم ) وَكَانُواْ شِيَعاً ( فرقاً ، كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها ) كُلُّ حِزْبٍ ( منهم فرح بمذهبه مسرور ، يحسب باطله حقاً ويجوز أن يكون ) مِنَ الَّذِينَ ( منقطعاً مما قبله ، ومعناه : من المفارقين دينهم كل حزب فرحين بما لديهم ، ولكنه رفع فرحون على الوصف لكل ، كقوله : وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ ;
) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (
الروم : ( 33 ) وإذا مس الناس . . . . .
الضر : الشدّة من هزال أو مرض أو قحط أو غير ذلك . والرحمة : الخلاص من الشدّة . واللام في ) لِيَكْفُرُواْ ( مجاز مثلها في ) لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً ( ( القصص : 8 ) . ) فَتَمَتَّعُواْ ( نظير ) اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( ( فصلت : 40 ) ) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( وبال تمتعكم . وقرأ ابن مسعود : وليتمتعوا .

" صفحة رقم 486 "
) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ (
الروم : ( 35 ) أم أنزلنا عليهم . . . . .
السلطان : الحجة ، وتكلمه . مجاز ، كما تقول : كتابه ناطق بكذا ، وهذا مما نطق به القرآن . ومعناه الدلالة والشهادة ، كأنه قال : فهو يشد بشركهم وبصحته . وما في ) بِمَا كَانُوا ( مصدرية أي : بكونهم بالله يشركون . ويجوز أن تكون موصولة ويرجع الضمير إليها . ومعناه : فهو يتكلم بالأمر الذي يسببه يشركون ، ويحتمل أن يكون المعنى : أم أنزلنا عليهم ذا سلطان ، أي : ملكاً معه برهان فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يشركون .
) وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (
الروم : ( 36 ) وإذا أذقنا الناس . . . . .
) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً ( أي نعمة من مطر أو سعة أو صحة ) فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ ( أي بلاء من جدب أو ضيق أو مرض والسبب فيها شؤم معاصيهم قنطوا من الرحمة .
) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (
الروم : ( 37 ) أو لم يروا . . . . .
ثم أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه هو الباسط القابض ، فما لهم يقنطون من رحمته ، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدّة من أجلها ، حتى يعيد إليهم رحمته .
) فَأاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (
الروم : ( 38 ) فآت ذا القربى . . . . .
حق ذي القربى : صلة الرحم . وحق المسكين وابن السبيل : نصيبهما من الصدقة المسماة لهما . وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب . وعند الشافعي رحمه الله : لا نفقة بالقرابة إلا على الولد والوالدين : قاس سائر القرابات على ابن العم ، لأنه لا ولاد بينهم . فإن قلت : كيف تعلق قوله : ) فَأاتِ ذَا الْقُرْبَى ( بما قبله حتى جيء بالفاء ؟ قلت : لما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم ، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك ) يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ( يحتمل أن يراد بوجهه ذاته أو جهته وجانبه ، أي : يقصدون بمعروفهم إياه خالصاً وحقه ، كقوله تعالى : ) إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى ( ( الليل : 20 ) أو يقصدون جهة التقرّب إلى الله لا جهة أخرى ، والمعنيان متقاربان ، ولكن الطريقة مختلفة .

" صفحة رقم 487 "
) وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَآ ءاتَيْتُمْ مِّن زَكَواةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (
الروم : ( 39 ) وما آتيتم من . . . . .
هذه الآية في معنى قوله تعالى : ) يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ ( ( البقرة : 278 ) سواء بسواء ، يريد : وما أعطيتم أكلة الربا ) مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى ( أموالهم : ليزيد ويزكو في أموالهم ، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه ) وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً ( أي صدقة تبتغون به وجهه خالصاً ، لا تطلبون به مكافأة ولا رياء وسمعة ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ( ذوو الإضعاف من الحسنات . ونظير المضعف : المقوى والموسر ، لذي القوّة واليسار : وقرىء بفتح العين . وقيل نزلت في ثقيف ، وكانوا يربون . وقيل : المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدي له ، ليعوّضه أكثر مما وهب أو أهدى ، فليست تلك الزيادة بحرام ، ولكن المعوّض لا يثاب على تلك الزيادة . وقالوا : الربا ربوان : فالحرام : كل قرض يؤخذ فيه أكثر منه : أو يجرّ منفعة . والذي ليس بحرام : أن يستدعى بهبته أو بهديته أكثر منها . وفي الحديث : المستغزر يثاب من هبته وقرىء : ( وما أتيتم من ربا ) بمعنى : وما غشيتموه أو رهقتموه من إعطاء ربا . وقرىء : ( لتربوا ) ، أي : لتزيدوا في أموالهم ، كقوله تعالى : ) وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ ( أي يزيدها . وقوله تعالى : ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ( التفات حسن ، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه : فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم : هم المضعفون . فهو أمدح لهم من أن يقول : فأنتم المضعفون . والمعنى : المضعفون به ، لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما ، ووجه آخر : وهو أن يكون تقديره : فمؤتوه أولئك هم المضعفون . والحذف لما في الكلام من الدليل عليه ، وهذا أسهل مأخذاً ، والأوّل أملأ بالفائدة .
) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَىْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (
الروم : ( 40 ) الله الذي خلقكم . . . . .
) اللَّهِ ( مبتدأ وخبره ) الَّذِى خَلَقَكُمْ ( أي الله هو فاعل هذه الأفعال الخاصة التي لا يقدر على شيء منها أحد غيره ، ثم قال : ) هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ ( الذين اتخذتموهم أنداداً له من الأصنام وغيرها ) مَن يَفْعَلُ ( شيئاً قط من تلك الأفعال ؛ حتى يصح ما ذهبتم إليه ، ثم استبعد حاله من حال شركائهم . ويجوز أن يكون ) الَّذِى خَلَقَكُمْ ( صفة للمبتدأ ، والخبر :

" صفحة رقم 488 "
هل من شركائكم ، وقوله : ) مّن ذالِكُمُ ( هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ ، لأن معناه : من أفعاله ومن الأولى والثانية والثالثة : كل واحدة منهنّ مستقلة بتأكيد ، لتعجيز شركائهم ، وتجهيل عبدتهم .
) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (
الروم : ( 41 ) ظهر الفساد في . . . . .
) الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( نحو : الجدب ، والقحط ، وقلة الريع في الزراعات والربح في التجارات ، ووقوع الموتان في الناس والدواب ، وكثر الحرق والغرق ، وإخفاق الصيادين والغاصة ، ومحق البركات من كل شيء ، وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضارّ . وعن ابن عباس : أجدبت الأرض وانقطعت مادّة البحر . وقالوا : إذا انقطع القطر عميت دواب البحر . وعن الحسن أنّ المراد بالبحر : مدن البحر وقراه التي على شاطئه . وعن عكرمة : العرب تسمي الأمصار البحار . وقرىء : ( في البر والبحور ) ) بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ ( بسبب معاصيهم وذنوبهم ، كقوله تعالى : ) وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فِيمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ( ( الشورى : 30 ) وعن ابن عباس ) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ ( بقتل ابن آدم أخاه . وفي البحر بأن جلندي كان يأخذ كل سفينة غصباً ، وعن قتادة : كان ذلك قبل البعث ، فلما بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجع راجعون عن الضلال والظلم . ويجوز أن يريد ظهور الشر والمعاصي بكسب الناس ذلك . فإن قلت : ما معنى قوله : ) لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ؟ قلت أمّا على التفسير الأول فظاهر ، وهو أنّ الله قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها ، ليذيقهم وبال بعضهم أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة ، لعلهم يرجعون عما هم عليه ، وأما على الثاني فاللام مجاز ، على معنى أنّ ظهور الشرور بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم إرادة الرجوع ، فكأنهم إنما أفسدوا وتسببوا لفشوّ المعاصي في الأرض لأجل ذلك . وقرىء : ( لنذيقهم ) بالنون .
) قُلْ سِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ (
الروم : ( 42 ) قل سيروا في . . . . .
ثم أكد تسبب المعاصي لغضب الله ونكاله : حيث أمرهم بأن يسيروا في الأرض فينظروا كيف أهلك الله الأمم وأذاقهم سوء العاقبة لمعاصيهم ، ودل بقوله : ) كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ ( على أنّ الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم ، وأنّ ما دونه من المعاصي يكون

" صفحة رقم 489 "
سبباً لذلك .
) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ الْقِيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (
الروم : ( 43 ) فأقم وجهك للدين . . . . .
القيم : البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج ) مِنَ اللَّهِ ( إمّا أن يتعلق بيأتي ، فيكون المعنى : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يردّه أحد ، كقوله تعالى : ) فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ( ( الأنبياء : 40 ) أو بمردّ ، على معنى : لا يردّه هو بعد أن يجيء به ، ولا ردّ له من جهته . والمردّ : مصدر بمعنى الردّ ) يَصَّدَّعُونَ ( يتصدّعون : أي يتفرقون ، كقوله تعالى : ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ( ( الروم : 14 ) .
) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلاًّنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (
الروم : ( 44 ) من كفر فعليه . . . . .
) فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ( كلمة جامعة لما لا غاية وراءه من المضارّ . لأنّ من كان ضاره كفره ؛ فقد أحاطت به كلّ مضرّة ) فَلاِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( أي يسوّون لأنفسهم ما يسوّيه لنفسه الذي يمهد فراشه ويوطئه ، لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه عليه وينغص عليه مرقده : من نتوء أو قضض أو بعض ما يؤذي الراقد . ويجوز أن يريد : فعلى أنفسهم يشفقون ، من قولهم في المشفق : أمّ فرشت فأنامت . وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أنّ ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعدّاه . ومنفعة الإيمان والعمل الصالح : ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه ) لِيَجْزِىَ ( متعلق بيمهدون تعليل له ) مِن فَضْلِهِ ( مما يتفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب ؛ وهذا يشبه الكناية ، لأن الفضل تبع للثواب ، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له : أو أراد من عطائه وهو ثوابه ؛ لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب . وتكرير ) الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح . وقوله : ) إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( تقرير بعده تقرير ، على الطرد والعكس .
) وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (
الروم : ( 46 ) ومن آياته أن . . . . .
) الرّيَاحِ ( هي الجنوب والشمال والصبا ، وهي رياح الرحمة . وأما الدبور ، فريح العذاب . ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) :

" صفحة رقم 490 "
( 845 ) ( اللَّهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً ) وقد عدد الأغراض في إرسالها ، وأنه أرسلها للبشارة بالغيث ولإذاقة الرحمة ، وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه ، والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 846 ) ( إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض ) وإزالة العفونة من الهواء ، وتذرية الحبوب ، وغير ذلك ) وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ ( في البحر عند هبوبها . وإنما زاده ) بِأَمْرِهِ ( لأن الريح قد تهب ولا تكون مؤاتية ، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال لحبسها ، وربما عصفت فأغرقتها ) وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( يريد تجارة البحر ؛ ولتشكروا نعمة الله فيها . فإن قلت : بم يتعلق وليذيقكم ؟ قلت : فيه وجهان : أن يكون معطوفاً على مبشرات على المعنى ، كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم . وأن يتعلق بمحذوف تقديره : وليذيقكم ، وليكون كذا وكذا : أرسلناها .
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ (
الروم : ( 47 ) ولقد أرسلنا من . . . . .
اختصر الطريق إلى الغرض بأن أدرج تحت ذكر الانتصار والنصر ذكر الفريقين ، وقد أخلى الكلام أوّلاً عن ذكرهما . وقوله : ) وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( تعظيم للمؤمنين ، ورفع من شأنهم ، وتأهيل لكرامة سنية ، وإظهار لفضل سابقة ومزية ، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم ، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم ، وقد يوقف على ) حَقّاً ( . ومعناه : وكان الانتقام منهم حقاً ، ثم يبتدأ : ) عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( ، وعن

" صفحة رقم 491 "
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 847 ) ( ما من امرىء مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة ) . ثم تلا قوله تعالى : ) وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( .
) اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (
الروم : ( 48 ) الله الذي يرسل . . . . .
) فَيَبْسُطُهُ ( متصلاً تارة ) وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً ( أي قطعاً تارة ) فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ( في التارتين جميعاً . والمراد بالسماء . سمت السماء وشقها ، كقوله تعالى : ) وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاء ( ( إبراهيم : 24 ) ، وبإصابة العباد : إصابة بلادهم وأراضيهم ) مِن قَبْلِهِمُ ( من باب التكرير والتوكيد ، كقوله تعالى : ) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا ( ( الحشر : 17 ) . ومعنى التوكيد فيه : الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم بأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك .
) فَانظُرْ إِلَىءَاثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الاٌّ رْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ (
الروم : ( 50 ) فانظر إلى آثار . . . . .
قرىء : ( أثر ) و ( آثار ) على الوحدة والجمع . وقرأ أبو حيوة وغيره : ( كيف تحيي ) ،

" صفحة رقم 492 "
أي : الرحمة ) إِنَّ ذالِكَ ( يعني إنّ ذلك القادر الذي يحي الأرض بعد موتها ، هو الذي يحي الناس بعد موتهم ) وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء ( من المقدورات قادر ، وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء .
) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِ الْعُمْىِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِأايَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ (
الروم : ( 51 ) ولئن أرسلنا ريحا . . . . .
) فَرَأَوْهُ ( فرأوا أثر رحمة الله . لأنّ رحمة الله هي الغيث ، وأثرها : النبات . ومن قرأ بالجمع : رجع الضمير إلى معناه ؛ لأنّ معنى آثار الرحمة النبات ، واسم النبات يقع على القليل والكثير ، لأنه مصدر سمي به ما ينبت . ولئن : هي اللام الموطئة للقسم ، دخلت على حرف الشرط ، و ) لَّظَلُّواْ ( جواب القسم سدّ مسدّ الجوابين ، أعني : جواب القسم وجواب الشرط ، ومعناه : ليظلنّ ذمّهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم القطر قنطوا من رحمته وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين ، فإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر : استبشروا وابتهجوا ، فإذا أرسل ريحاً فضرب زروعهم بالصفار ، ضجوا وكفروا بنعمة الله . فهم في جميع هذه الأحوال على الصفة المذمومة ، كان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله ، فقنطوا . وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ، فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار . وأن يصبروا على بلائه ، فكفروا . والريح التي اصفرّ لها النبات : يجوز أن تكون حروراً وحرجفاً ، فكلتاهما مما يصوح له النبات ويصبح هشيماً . وقال : مصفرّاً : لأنّ تلك صفرة حادثة . وقيل : فرأوا السحاب مصفراً ، لأنه إذا كان كذلك لم يمطر .
) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (
الروم : ( 54 ) الله الذي خلقكم . . . . .
قرىء : بفتح الضاد وضمها ، وهما لغتان . والضم أقوى في القراءة ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : قال :
( 848 ) قرأتها على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من ضَعف ، فأقرأني من ضُعف . وقوله :

" صفحة رقم 493 "
) خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ( كقوله : ) خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( ( الأنبياء : 37 ) يعني أنّ أساس أمركم وما عليه جبلتكم وبنيتكم الضعف ) وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ( ( النساء : 28 ) أي ابتدأناكم في أوّل الأمر ضعافاً . وذلك حال الطفولة والنشء حتى بلغتم وقت الاحتلام والشبيبة ، وتلك حال القوّة إلى الاكتهال وبلوغ الأشدّ ، ثم رددتم إلى أصل حالكم وهو الضعف بالشيخوخة والهرم . وقيل : من ضعف من النطف ، كقوله تعالى : ) مّن مَّاء مَّهِينٍ ( ( السجدة : 8 ) ، ( المرسلات : 20 ) وهذا الترديد في الأحوال المختلفة ، والتغيير من هيئة إلى هيئة وصفة إلى صفة : أظهر دليل وأعدل شاهد على الصانع العليم القادر .
) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ (
الروم : ( 55 ) ويوم تقوم الساعة . . . . .
) السَّاعَةَ ( القيامة ، سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من الدنيا ، أو لأنها تقع بغتة وبديهة . كما تقول : ( في ساعة ) لمن تستعجله ، وجرت علماً لها كالنجم للثريا ، والكوكب للزهرة . وأرادوا : لبثهم في الدنيا ، أو في القبور ، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث . وفي الحديث :
( 849 ) ( ما بينَ فناءِ الدُّنيا إلى وقتِ البعثِ أربعَونَ ) قالوا : لا نعلم أهي أربعون سنة أم أربعون ألف سنة ؟ وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم ، وإنما يقدّرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له . أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون ) كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ ( أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا ، وهكذا كانوا يبنون أمرهم على خلاف الحق . أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الاغترار بما

" صفحة رقم 494 "
تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة .
) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (
الروم : ( 56 ) وقال الذين أوتوا . . . . .
القائلون : هم الملائكة ، والأنبياء . والمؤمنون ) فِى كِتَابِ اللَّهِ ( في اللوح . أو في علم الله وقضائه . أو فيما كتبه ، أي : أوجبه بحكمته . ردّوا ما قالوه وحلفوا عليه ، وأطلعوهم على الحقيقة ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم : ) فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه . فإن قلت : ما هذه الفاء ؟ وما حقيقتها ؟ قلت : هي التي في قوله : فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
وحقيقتها : أنها جواب شرط يدل عليه الكلام ، كأنه قال : إن صح ما قلتم من أن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان ، وآن لنا أن نخلص ، وكذلك إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث ، أي فقد تبين بطلان قولكم . وقرأ الحسن يوم البعث ، بالتحريك ) لاَّ ينفَعُ ( قرىء بالياء والتاء ) يُسْتَعْتَبُونَ ( من قولك : استعتبني فلان فأعتبته . أي : استرضاني فأرضيته ، وذلك إذا كنت جانياً عليه . وحقيقة أعتبته : أزلت عتبه . ألا ترى إلى قوله :
غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تُقَتِّلَ عامِر يَومَ النِّسَارِ فَأَعْتَبُوا بِالصِّيْلَمِ
كيف جعلهم غضابا ، ثم قال : فأعتبوا ، أي : أزيل غضبهم . والغضب في معنى العتب . والمعنى : لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة ، ومثله قوله تعالى : ) لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ ( ( الجاثية : 35 ) . فإن قلت : كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات ، وغير معتبين في بعضها ، وهو قوله : ) وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ ( ( فصلت : 24 ) ؟ قلت : أما كونهم غير مستعتبين : فهذا معناه . وأما كونهم غير معتبين ، فمعناه : أنهم غير راضين بما هم فيه ، فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم ، فهم عاتبون على الجاني غير راضين عنه ، فإن يستعتبوا الله : أي يسألوه إزالة ما هم فيه ، فما هم من المجابين إلى إزالته .

" صفحة رقم 495 "
) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِأايَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ (
الروم : ( 58 ) ولقد ضربنا للناس . . . . .
) وَلَقَدْ ( وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كصفة المبعوثين يوم القيامة ، وقصتهم ، وما يقولون وما يقال لهم ، وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة إذا جئتهم بآية من آيات القرآن ، قالوا : جئتنا بزور وباطل ، ثم قال : مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الجهلة . ومعنى طبع الله : منع الألطاف التي ينشرح لها الصدور حتى تقبل الحق ، وإنما يمنعها من علم أنها لا تجدي عليه ولا تغني عنه ، كما يمنع الواعظ والموعظة من يتبين له أنّ الموعظة تلغو ولا تنجع فيه ، فوقع ذلك كناية عن قسوة قلوبهم وركوب الصدأ والرين إياها ، فكأنه قال : كذلك تقسو وتصدأ قلوب الجهلة ، حتى يسموا المحقين مبطلين ، وهم أعرق خلق الله في تلك الصفة ) فَاصْبِرْ ( على عداوتهم ) إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ ( بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله ) حَقٌّ ( لا بد من إنجازه والوفاء به ، ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعاً مما يقولون ويفعلون فإنهم قوم شاكرون ضالون لا يستبدع منهم ذلك . وقرىء بتخفيف النون . وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب : ( ولا يستحقنك ) ، أي : لا يفتننك فيملكوك ويكونوا أحق بك من المؤمنين .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 850 ) ( مَن قرأَ سورةَ الرومِ كانَ لَهُ منَ الأَجرِ عشرُ حسناتٍ بعددِ كلِّ ملكٍ سبحَ اللَّهُ بينَ السماءِ والأرضِ وأدركَ ما ضيَّع في يومِهِ وليلتِهِ ) .

" صفحة رقم 496 "
( سورة لقمان )
مكية وآياتها 34 وقيل 33
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) الم تِلْكَ ءاَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُمْ بِالاٌّ خِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (
لقمان : ( 1 - 5 ) الم
) الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( ذي الحكمة . أو وصف بصفة الله تعالى على الإسناد المجازي . ويجوز أن يكون الأصل : الحكيم قائله ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فبانقلابه مرفوعاً بعد الجر استكن في الصفة المشبهة ) هُدًى وَرَحْمَةً ( بالنصب على الحال عن الآيات ، والعامل فيها : ما في تلك من معنى الإشارة . وبالرفع على أنه خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ) لّلْمُحْسِنِينَ ( للذين يعملون الحسنات وهي التي ذكرها : من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيقان بالآخرة ونظيره قول أوس : الأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّن
كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا
حكى عن الأصمعي : أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد . أو للذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال ، ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاث بفضل اعتداد بها .
) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (
لقمان : ( 6 ) ومن الناس من . . . . .
اللهو كل باطل ألهي عن الخير وعما يعني و ) لَهْوَ الْحَدِيثِ ( نحو السمر بالأساطير

" صفحة رقم 497 "
والأحاديث التي لا أصل لها ، والتحدث بالخرفات والمضاحيك وفضول الكلام ، وما لا ينبغي من كان وكان ، ونحو الغناء وتعلم الموسيقار ، وما أشبه ذلك .وقيل : نزلت في النضر بن الحرث ، وكان يتجر إلى فارس ، فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشاً ويقول : إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة ، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن . وقيل : كان يشتري المغنيات ، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ، ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه . وفي حديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 851 ) ( لا يحلُّ بيعُ المغنياتِ ولا شراؤُهن ولا التجارةُ فيهنّ ولا أثمانهنّ ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 852 ) ( ما مِنْ رجلٍ يَرفعُ صوتَه بالغناءِ إلا بَعث اللَّهُ عليهِ شيطانَين : أحدُهما على هذا المنكبِ والآخرُ على هذا المنكبِ ، فلا يزالان يضربانهِ بأَرجلِهِما حتى يكونَ هو الذي يسكتُ ) ، وقيل : الغناءُ منفدة للمال ، مسخطة للرب ، مفسدة للقلب . فإن قلت : ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث ؟ قلت : معناها التبيين ، وهي الإضافة بمعنى من ، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه ، كقولك : صفّة خز وباب ساج . والمعنى : من يشتري اللهو من الحديث ؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره ، فبين بالحديث . والمراد بالحديث . الحديث المنكر ، كما جاء في الحديث :

" صفحة رقم 498 "
( 853 ) ( الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش ) ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى ( من ) التبعيضية ، كأنه قيل : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه . وقوله : ) يَشْتَرِى ( إما من الشراء ، على ما روى عن النضر : من شراء كتب الأعاجم أو من شراء القيان . وإما من قوله : ) اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ ( ( آل عمران : 177 ) أي استبدلوه منه واختاروه عليه . وعن قتادة : اشتراؤه : استحبابه ، يختار حديث الباطل على حديث الحق . وقرىء : ) لِيُضِلَّ ( بضم الياء وفتحها . و ) سَبِيلِ اللَّهِ ( دين الإسلام أو القرآن . فإن قلت : القراءة بالضم بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو : أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح ؟ قلت : فيه معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ، ولا يصدف عنه ، ويزيد فيه ويمدّه ، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصدّ الناس عنه . والثاني : أن يوضع ليضل موضع ليضل ، من قبل أن من أضل كان ضالاً لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف . فإن قلت : ما معنى قوله : ) بِغَيْرِ عِلْمٍ ( قلت : لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال : يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها ، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق . ونحوه قوله تعالى : ) فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ( ( البقرة : 16 ) أي : وما كانوا مهتدين للتجارة بصراء بها : وقرىء ) وَيَتَّخِذَهَا ( بالنصب والرفع عطفاً على يشتري . أو ليضل ، والضمير للسبيل ؛ لأنها مؤنثة ، كقوله تعالى : ) وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ( ( الأعراف : 86 ) . ) وَلَّى مُسْتَكْبِراً ( زاما لا يعبأ بها ولا يرفع بها رأساً : تشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع ) كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً ( أي ثقلاً ولا وقر فيهما ، وقرىء : بسكون الذال . فإن قلت : ما محل الجملتين المصدرتين بكأن ؟ قلت : الأولى حال من مستكبراً والثانية من لم يسمعها : ويجوز أن تكونا استئنافين ، والأصل في كأن المخففة : كأنه ، والضمير : ضمير الشأن .
) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِى الاٌّ رْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ

" صفحة رقم 499 "
فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ (
لقمان : ( 8 - 11 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ( مصدران مؤكدان ، الأوّل : مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره ؛ لأن قوله : ) لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ( في معنى : وعدهم الله جنات النعيم ، فأكد معنى الوعد بالوعد . وأما ) حَقّاً ( فدال على معنى الثبات : أكد به معنى الوعد ، ومؤكدهما جميعاً قوله : ) لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ( ) وَهُوَ الْعَزِيزُ ( الذي لا يغلبه شيء ولا يعجزه ، يقدر على الشيء وضده ، فيعطى النعيم من شاء والبؤس من شاء ، وهو ) الْحَكِيمُ ( لا يشاء إلا ما توجبه الحكمة والعدل ) تَرَوْنَهَا ( الضمير فيه للسماوات ، وهو استشهاد برؤيتهم لها ، غير معمودة على قوله : ) بِغَيْرِ عَمَدٍ ( كما تقول لصاحبك : أنا بلا سيف ولا رمح تراني فإن قلت : ما محلها من الإعراب ؟ قلت : لا محل لها لأنها مستأنفة . أو هي في محل الحرّ صفة للعمد أي : بغير عمد مرئية ، يعني : أنه عمدها بعمد لا ترى ، وهي إمساكها بقدرته ) هَاذَا ( إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته . والخلق بمعنى المخلوق . و ) الَّذِينَ مِن دُونِهِ ( آلهتهم ، بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه . فأروني ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة ، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورّط في ضلال ليس بعده ضلال .
) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ (
لقمان : ( 12 ) ولقد آتينا لقمان . . . . .
هو لقمان بن باعورا : ابن أخت أيوب أو ابن خالته . وقيل : كان من أولاد آزر ، وعاش ألف سنة ، وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام ، فلما بعث قطع الفتوى ، فقيل له ؟ فقال : ألا أكتفي إذا كفيت ؟ وقيل : كان قاضياً في بني إسرائيل ، وأكثر الأقاويل أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لقمان لم يكن نبياً ولا ملكاً ، ولكن كان راعياً أسود ، فرزقه الله العتق ، ورضي قوله ووصيته ، فقص أمره في القرآن لتمسكوا بوصيته . وقال عكرمة والشعبي : كان نبياً . وقيل : خيّر بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة . وعن ابن المسيب : كان

" صفحة رقم 500 "
أسود من سودان مصر خياطاً ، وعن مجاهد : كان عبداً أسود غليظ الشفتين متشقق القدمين . وقيل : كان نجاراً . وقيل : كان راعياً وقيل : كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة . وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه : إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق ، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض . وروي أن رجلاً وقف عليه في مجلسه فقال : ألست الذي ترعى معي في مكان كذا ؟ قال : بلى . قال ما بلغ بك ما أرى ؟ قال : صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني . وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع وقد لين الله له الحديد كالطين ، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت . فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله ، فقال له داود : بحق ما سميت حكيماً . وروي أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين ، فأخرج اللسان والقلب ، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب ، فسأله عن ذلك ؟ فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا ، وأخبث ما فيها إذا خبثا . وعن سعيد بن المسيب أنه قال لأسود : لا تحزن ، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان : بلال ومهجع مولى عمر ، ولقمان . ) ءانٍ ( هي المفسرة ، لأنّ إيتاء الحكمة في معنى القول ، وقد نبه الله سبحانه على أنّ الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي : هو العمل بهما وعبادة الله والشكر له ، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر ) غَنِىٌّ ( غير محتاج إلى الشكر ) حَمِيدٌ ( حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد .
) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (
لقمان : ( 13 ) وإذ قال لقمان . . . . .
قيل : كان اسم ابنه ( أنعم ) وقال الكلبي : ( أشكم ) وقيل : كان ابنه وامرأته كافرين ، فما زال بهما حتى أسلما ) لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلا هي منه ، ومن لا نعمة منه البتة ولا يتصوّر أن تكون منه ظلم لا يكتنه عظمه .
) وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (
لقمان : ( 14 ) ووصينا الإنسان بوالديه . . . . .
أي ) حَمَلَتْهُ ( تهن ) وَهْناً عَلَى وَهْنٍ ( كقولك رجع عوداً على يده ، بمعنى ؛ يعود

" صفحة رقم 501 "
عوداً على يده ، وهو في موضع الحال . والمعنى : أنها تضعف ضعفاً فوق ضعف ، أي : يتزايد ضعفها ويتضاعف ؛ لأنّ الحمل كلما ازداد وعظم ، ازدادت ثقلاً وضعفاً . وقرىء : ( وهنا على وهن ) . بالتحريك عن أبي عمرو . يقال : وهن يوهن . ووهن يهن وقرىء : ( وفصله ) ) أَنِ اشْكُرْ ( تفسير لوصينا ) مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( أراد بنفي العمل به نفيه ، أي : لا تشرك بي ما ليس بشيء ، يريد الأصنام ، كقوله تعالى : ) مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْء ( ( العنكبوت : 42 ) . ) مَّعْرُوفاً ( صحابا ، أو مصاحباً معروفاً حسناً بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة ، وما يقتضيه الكرم والمروءة ) وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ( يريد : واتبع سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه وإن كنت مأموراً بحسن مصاحبتهما في الدنيا ثم إليّ مرجعك ومرجعهما ، فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما ، علم بذلك حكم الدنيا وما يجب على الإنسان في صحبتهما ومعاشرتهما : من مراعاة حق الأبوة وتعظيمه ، وما لهما من المواجب التي لا يسوغ الاخلال بها ، ثم بين حكمهما وحالهما في الآخرة . وروي : أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمّه . وفي القصة : أنها مكثت ثلاثاً لا تطعم ولا تشرب حتى شجروا فاهاً بعود . وروي أنه قال : لو كانت لها سبعون نفساً فخرجت ، لما ارتددت إلى الكفر . فإن قلت : هذا الكلام كيف وقع في أثناء وصية لقمان ؟ قلت : هو كلام اعترض به على سبيل الاستطراد ، تأكيداً لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك . فإن قلت : فقوله : ) حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ ( كيف اعترض به بين المفسر والمفسر ؟ قلت : لما وصى بالوالدين : ذكر ما تكابده الأمّ وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدّة المتطاولة ، إيجاباً للتوصية بالوالدة خصوصاً . وتذكيراً بحقها العظيم مفرداً ، ومن ثمّ
( 854 ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لمن قال له : من أبر ؟ ( أمّك ثم أمّك ثم أمّك ) ثم قال

" صفحة رقم 502 "
بعد ذلك ( ثم أباك ) . وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه : أحْمِلُ أُمِّي وَهِيَ الْحَمَّالَه
تُرْضِعُنِي الدُّرَّةَ وَالْعُلاَلَه
وَلاَ يُجَازَى وَالِدٌ فَعَالَهْ
فإن قلت : ما معنى توقيت الفصال بالعامين ؟ قلت : المعنى في توقيته بهذه المدة أنها الغاية التي لا تتجاوز ، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم : إن علمت أنه يقوي على الفطام فلها أن تفطمه ، ويدل عليه قوله تعالى : ) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ( ( البقرة : 233 ) وبه استشهد الشافعي رضي الله عنه على أن مدة الرضاع سنتان ، لا تثبت حرمة الرضاع بعد انقضائهما ، وهو مذهب أبي يوسف ومحمد . وأما عند أبي حنيفة رضي الله عنه . فمدة الرضاع ثلاثون شهراً . وعن أبي حنيفة : إن فطمته قبل العامين فاستغنى بالطعام ثم أرضعته ، لم يكن رضاعاً . وإن أكل أكلاً ضعيفاً لم يستغن به عن الرضاع ثم أرضعته ، فهو رضاع محرم .
) يابُنَىَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الاٌّ رْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (
لقمان : ( 16 ) يا بني إنها . . . . .
قرىء ) مِثْقَالَ حَبَّةٍ ( بالنصب والرفع ، فمن نصب كان الضمير للهنة من الإساءة أو الإحسان ، أي : إن كانت مثلاً في الصغر والقماءة كحبة الخردل ، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي ) يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ( يوم القيامة فيحاسب بها عاملها ) إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ ( يتوصل علمه إلى كل خفي ) خَبِيرٌ ( عالم بكنهه . وعن قتادة : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرّها . ومن قرأ بالرفع : كان ضمير القصة ، وإنما أنث المثقال لإضافته إلى الحبة ، كما قال :

" صفحة رقم 503 "
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
وروي أنّ ابن لقمان قال له : أرأيت الحبة تكون في مقل البحر أي : في مغاصه يعلمها الله ؟ فقال : إنّ الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة : لأنّ الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء . وقيل : الصخرة هي التي تحت الأرض ، وهي السجين يكتب فيها أعمال الكفار . وقرىء : ( فتكن ) بكسر الكاف . من وكن الطائر يكن : إذا استقر في وكنته ، وهي مقره ليلاً .
) يابُنَىَّ أَقِمِ الصَّلَواةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاٍّ مُورِ (
لقمان : ( 17 ) يا بني أقم . . . . .
) وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ( يجوز أن يكون عاماً في كل ما يصيبه من المحن ، وأن يكون خاصاً بما يصيبه فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : من أذى من يبعثهم على الخير وينكر عليهم الشر ) إِنَّ ذالِكَ ( مما عزمه الله من الأمور ، أي : قطعه قطع إيجاب والزام . ومنه الحديث :
( 855 ) ( لاَ صِيامَ لمنْ لم يعزمِ الصيامَ مِنَ الليلِ ) أي لم يقطعه بالنية : ألا ترى إلى قوله عليه السلام :
( 856 ) ( لمنْ لم يبيتِ الصيامَ ) ومنه :
( 857 ) ( إنّ اللَّهَ يحبُّ أَنْ يؤخذَ برخصهِ كما يحبُّ أَنْ يؤخذَ بعزائمِهِ ) ، وقولهم :

" صفحة رقم 504 "
عزمة من عزمات ربنا . ومنه : عزمات الملوك . وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده : عزمت عليك إلا فعلت كذا ، إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله ولا مندوحة في تركه . وحقيقته : أنه من تسمية المفعول بالمصدر ، وأصله من معزومات الأمور ، أي : مقطوعاتها ومفروضاتها . ويجوز أن يكون مصدراً في معنى الفاعل ، أصله : من عازمات الأمور ، من قوله تعالى : ) فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ ( ( محمد : 21 ) كقولك : جد الأمر ، وصدق القتال . وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات ، وأنها كانت مأموراً بها في سائر الأمم ، وأنّ الصلاة لم تزل عظيمة الشأن ، سابقة القدم على ما سواها ، موصى بها في الأديان كلها .
) وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الاٌّ رْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاٌّ صْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (
لقمان : ( 18 ) ولا تصعر خدك . . . . .
تصاعر ، وتصعر : بالتشديد والتخفيف . يقال : أصعر خدّه ، وصعره ، وصاعره : كقولك أعلاه وعلاه وعالاه : بمعنى . والصعر والصيد : داء يصيب البعير يلوي منه عنقه . والمعنى : أقبل على الناس بوجهك تواضعاً ، ولا نولهم شق وجهك وصفحته ، كما يفعل المتكبرون . أراد : ) وَلاَ تَمْشِ ( تمرح ) مَرَحاً ( أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا . ويجوز أن يريد : ولا تمش لأجل المرح والأشر ، أي لا يكن غرضك في المشي البطالة والأشر كما يمشي كثير من الناس لذلك ، لا لكفاية مهم ديني أو دنيوي . ونحوه قوله تعالى : ) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ ( ( الأنفال : 47 ) . والمختال : مقابل للماشي مرحاً . وكذلك الفخور للمصعر خدّه كبراً ) وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ ( واعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين : لا تدب دبيب المتماوتين ، ولا تثب وثيب الشطار . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 858 ) ( سرعةُ المشي تذهبُ بهاءَ المؤمنِ ) وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنهما ( كان إذا مشى أسرع ) فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت .

" صفحة رقم 505 "
وقرىء : ( وأقصد ) بقطع الهمزة ، أي : سدّد في مشيك من أقصد الرامي إذا سدّد سهمه نحو الرمية ) وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ( وانقص منه واقصر ؛ من قولك : فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه ) أَنكَرَ الاْصْواتِ ( أوحشها ، من قولك : شيء نكر ، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت . والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة ، وكذلك نهاقه . ومن استفحاشهم لذكره مجرداً وتفاديهم من اسمه : أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به ، فيقولون : الطويل الأذنين ، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة : وقد عدّ في مساوىء الآداب : أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة . ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافاً وإن بلغت منه الرجلة ، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير ، وتمثيل أصواتهم بالنهاق ، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعار وإن جعلوا حميراً وصوتهم نهاقاً ومبالغة شديدة في الذم والتهجين وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه . وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان . فإن قلت : لم وحد صوت الحمير ولم يجمع ؟ قلت : ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع ، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت ، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس ، فوجب توحيده .
) أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ (
لقمان : ( 20 ) ألم تروا أن . . . . .
) مَا فِى السَّمَاواتِ ( الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك ) وَمَا فِى الاْرْضِ ( البحار والأنهار والمعادن والدواب وما لا يحصى ) وَأَسْبَغَ ( وقرىء بالسين والصاد ، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف ، تقول في سلخ ، صلخ ، وفي سقر : صقر ، وفي سالغ صالغ وقرىء : ( نعمه ) . ( ونعمة ) ، ( ونعمته ) . فإن قلت : ما النعمة ؟ قلت : كل نفع قصد به الأحسان ، والله تعالى خلق العالم كله نعمة ؛ لأنه إما حيوان ، وإما غير حيوان . فما ليس بحيوان نعمة على الحيوان ، والحيوان نعمة من حيث أنّ إيجاده حياً نعمة عليه . لأنه لولا إيجاده حياً لما صح منه الانتفاع ، وكل ما أدى إلى الانتفاع وصححه فهو نعمة . فإن قلت : لم كان خلق العالم مقصوداً به الإحسان ؟ قلت : لأنه لا يخلقه إلا لغرض ، وإلا كان عبثاً ، والعبث لا يجوز عليه ولا يجوز أن يكون لغرض راجع إليه من

" صفحة رقم 506 "
نفع ؛ لأنه غني غير محتاج إلى المنافع ، فلم يبق إلا أن يكون لغرض يرجع إلى الحيوان وهو نفعه . فإن قلت : فما معنى الظاهرة والباطنة ؟ قلت : الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة ، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل ، أو لا يعلم أصلاً ، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها ولا يهتدي إلى العلم بها ، وقد أكثروا في ذلك : فعن مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصرة على الأعداء ، والباطنة : الأمداد من الملائكة . وعن الحسن رضي الله عنه : الظاهرة : الإسلام . والباطنة الستر . وعن الضحاك : الظاهرة : حسن الصورة ، وامتداد القامة . وتسوية الأعضاء . والباطنة : المعرفة . وقيل : الظاهرة البصر ، والسمع ، واللسان ، وسائر الجوارح الظاهرة . والباطنة : القلب ، والعقل ، والفهم ، وما أشبه ذلك . ويروى في دعاء موسى عليه السلام : إلهي ، دلني على أخفى نعمتك على عبادك ؛ فقال : أخفى نعمتي عليهم النفس . ويروى : أن أيسر ما يعذب به أهل النار : الأخذ بالأنفاس .
) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (
لقمان : ( 21 ) وإذا قيل لهم . . . . .
معناه ) أ ( يتبعونهم ) وَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ ( أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب .
) وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الاٌّ مُورِ (
لقمان : ( 22 ) ومن يسلم وجهه . . . . .
قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( ومن يسلم ) بالتشديد ، يقال : أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله . فإن قلت : ماله عدّي بإلى ، وقد عدّي باللام في قوله : ) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ( ( البقرة : 112 ) ؟ قلت : معناه مع اللام : أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالماً لله ، أي خالصاً له . ومعناه مع إلى : أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه . والمراد : التوكل عليه والتفويض إليه ) فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ( من باب التمثيل : مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق ، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه ) وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الاْمُورِ ( أي هي صائرة إليه .
) وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

" صفحة رقم 507 "
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (
لقمان : ( 23 ) ومن كفر فلا . . . . .
قرىء : ( يحزنك ) ، و ( يحزنك ) من حزن ، وأحزن . والذي عليه الاستعمال المستفيض : أحزنه ويحزنه . والمعنى : لا يهمنك كفر من كفر وكيده للإسلام ، فإن الله عزّ وجلّ دافع كيده في نحره ، ومنتقم منه ، ومعاقبه على عمله ) إِنَّ اللَّهَ ( يعلم ما في صدور عباده ، فيفعل بهم على حسبه ) نُمَتّعُهُمْ ( زماناً ) قَلِيلاً ( بدنياهم ) ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ( شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطرُّ إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك منه . والغلظ : مستعار من الأجرام الغليظة . والمراد . الشدّة والثقل على المعذب .
) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِى الاٌّ رْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (
لقمان : ( 25 - 27 ) ولئن سألتهم من . . . . .
) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ( إلزام لهم على إقرارهم بأنّ الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده ، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر . وأن لا يعبد معه غيره ، ثم قال : ) بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( أنّ ذلك يلزمهم ، وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا ) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ ( عن حمد الحامدين المستحق للحمد ، وإن لم يحمدوه .
قرىء : ( والبحر ) بالنصب عطفاً على اسم إنّ ، وبالرفع عطفاً على محل إن ، ومعمولها على ، ولو ثبت كون الأشجار أقلاماً ، وثبت البحر ممدوداً بسبعة أبحر . أو على الابتداء والواو للحال ، على معنى . ولو أنّ الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدوداً ، وفي قراءة ابن مسعود : و ( بحر يمدّه ) على التنكير ، ويجب أن يحمل هذا على الوجه الأوّل . وقرىء : ( يمدّه ) و ( يمدّه ) وبالتاء والياء . فإن قلت : كان مقتضى الكلام أن يقال : ولو أنّ الشجر أقلام ، والبحر مداد . قلت : أغنى عن ذكر المداد قوله : يمدّه ، لأنه من قولك :

" صفحة رقم 508 "
مدّ الدواة وأمدّها ، جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مداداً ، فهي تصب فيه مداداً أبداً صباً لا ينقطع . والمعنى : ولو أنّ أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود بسبعة أبحر . وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ، لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد ، كقوله تعالى : ) قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبّى ( ( الكهف : 109 ) . فإن قلت : زعمت أنّ قوله : ) وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ ( حال في أحد وجهي الرفع ، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال . قلت : هو كقوله : وَقَدِ اغْتَدَى وَالطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا ;
و : جئت والجيش مصطف . وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف . ويجوز أن يكون المعنى : وبحرها ، والضمير للأرض . فإن قلت : لم قيل : ) مِن شَجَرَةٍ ( على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر ؟ قلت : أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة ، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلاماً . فإن قلت : الكلمات جمع قلة ، والموضع موضع التكثير لا التقليل . فهلا قيل : كلم الله ؟ قلت : معناه أنّ كلماته لا تفي بكتبتها البحار ، فكيف بكلمه ؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنها نزلت جواباً لليهود لما قالوا : ( قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة ) وقيل : إن المشركين قالوا : إنّ هذا يعنون الوحي كلام سينفد ، فأعلم الله أن كلامه لا ينفد . وهذه الآية عند بعضهم مدنية ، وأنها نزلت بعد الهجرة ، وقيل هي مكية ، وإنما أمر اليهود وفد قريش أن يقولوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ألست تتلو فيما أنزل عليك : أنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء ) أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ( لا يعجزه شيء ) حَكِيمٌ ( لا يخرج من علمه وحكمته شيء ، ومثله لا تنفد كلماته وحكمه .
) مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (
لقمان : ( 28 ) ما خلقكم ولا . . . . .
) إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ( إلا كخلقها وبعثها ، أي : سواء في قدرته القليل والكثير ، والواحد والجمع ، لا يتفاوت ، وذلك أنه إنما كانت تتفاوت النفس الواحدة والنفوس

" صفحة رقم 509 "
الكثيرة العدد : إن لو شغله شأن عن شأن وفعل عن فعل ، وقد تعالى عن ذلك ) إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( يسمع كل صوت ويبصر كل مبصر في حالة واحدة ، لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض ، فكذلك الخلق والبعث .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ (
لقمان : ( 29 ) ألم تر أن . . . . .
كل واحد من الشمس والقمر يجري في فلكه ، ويقطعه إلى وقت معلوم : الشمس إلى آخر السنة ، والقمر إلى آخر الشهر . وعن الحسن : الأجل المسمى : يوم القيامة . لأنه لا ينقطع جريهما إلا حينئذٍ . دلّ أيضاً بالليل والنهار وتعاقبهما وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما كل ذلك على تقدير وحساب . وبإحاطته بجميع أعمال الخلق : على عظم قدرته وحكمته . فإن قلت : يجري لأجل مسمى ، ويجري إلى أجل مسمى : أهو من تعاقب الحرفين ؟ قلت : كلا ، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن . ولكن المعنيين . أعني الانتهاء والاختصاص كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض ؛ لأنّ قولك يجري إلى أجل مسمى : معناه يبلغه وينتهي كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض ؛ لأنّ قولك يجري إلى أجل مسمى : معناه يبلغه وينتهي إليه . وقولك : يجري لأجل مسمى : تريد يجري لإدراك أجل مسمى ، تجعل الجري مختصاً بإدراك أجل مسمى . ألا ترى أن جري الشمس مختص بآخر السنة . وجري القمر مختص بآخر الشهر . فكلا المعنيين غير ناب به موضعه ) ذالِكَ ( الذي وصف من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون . فكيف بالجماد الذي تدعونه من دون الله ، إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت إلاهيته . وأنّ من دونه باطل الإلاهية ) وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ ( الشأن ) الْكَبِيرُ ( السلطان . أو ذلك الذي أوحى إليك من هذه الآيات بسبب بيان أنّ الله هو الحق ، وأنّ إلاهاً غيره باطل ، وأنّ الله هو العليّ الكبير عن أن يشرك به .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ ءَايَاتِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( 7 )
لقمان : ( 31 ) ألم تر أن . . . . .

" صفحة رقم 510 "
قرىء : ( الفلك ) بضم اللام . وكل فعل : يجوز فيه فعل ، كما يجوز في كل فعل فعل ، على مذهب التعويض . وبنعمات الله : بسكون العين . وعين فعلات يجوز فيها الفتح والكسر والسكون ) أَلَمْ تَرَ ( بإحسانه ورحمته ) صَبَّارٍ ( على بلائه ) شَكُورٍ ( لنعمائه ، وهما صفتا المؤمن ، فكأنه قال : إنّ في ذلك لآيات لكل مؤمن .
) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِأايَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (
لقمان : ( 32 ) وإذا غشيهم موج . . . . .
يرتفع الموج ويتراكب ، فيعود مثل الظلل ، والظلة : كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرهما وقريء : كالظلال ، جمع ظلة . كقلة وقلال ) فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ( متوسط في الكفر والظلم ، خفض من غلوائه ، وانزجر بعض الانزجار . أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر ، يعني أنّ ذلك الإخلاص الحادث عن الخوف ، لا يبقى لأحد قط ، والمقتصد قليل نادر . وقيل : مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر . والخثر : أشد الغدر . ومنه قولهم : إنك لا تمدّ لنا شبراً من غدر إلا مددنا لك باعاً من ختر ، قال : وَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ أَبَا عُمَيْر
مَلأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ
) ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (
لقمان : ( 33 ) يا أيها الناس . . . . .
) لاَّ يَجْزِى ( لا يقضي عنه شيئاً . ومنه قيل للمتقاضي : المتجازي . وفي الحديث في جذعة بن نيار :
( 859 ) ( تجزِي عنكَ ولا تجزِي عنْ أحدٍ بعدَك ) . وقرىء : ( لا يجزىء ) لا يغني . يقال : أجزأت عنك مجزأ فلان . والمعنى : لا يجزى فيه ، فحذف ) الْغُرُورِ ( الشيطان . وقيل : الدنيا وقيل : تمنيكم في المعصية المغفرة . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : الغرّة بالله : أن يتمادى الرجل في المعصية ويتمنى على الله المغفرة . وقيل : ذكرك لحسناتك ونسيانك لسيئاتك غرة . وقرىء بضم الغين وهو مصدر غره غروراً ، وجعل الغرور غارًّا ، كما قيل : جدّ جدّه . أو أريد زينة الدنيا لأنها غرور . فإن قلت : قوله : ) وَلاَ

" صفحة رقم 511 "
مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً ( وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه . قلت : الأمر كذلك ؛ لأنّ الجملة الإسمية أكد من الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك قوله : ) هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( وقوله : ) مَوْلُودٌ ( والسبب في مجيئه على هذا السنن : أنّ الخطاب للمؤمنين وعليتهم : قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي ، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس فيهم : أن ينفعوا آباءهم في الآخرة ، وأن يشفعوا لهم ، وأن يغنوا عنهم من الله شيئاً ؛ فلذلك جيء به على الطريق الآكد . ومعنى التوكيد في لفظ المولود : أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه ، لم تقبل شفاعته ، فضلاً أن يشفع لمن فوقه من أجداده ؛ لأنّ الولد يقع على الولد وولد الولد ؛ بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك .
) إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الاٌّ رْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ (
لقمان : ( 34 ) إن الله عنده . . . . .
روي :
( 860 ) أنّ رجلاً من محارب وهو الحرث بن عمرو بن حارثة أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن الساعةِ متَى قيامُها ، وإنّي قد ألقيتُ حياتِي في الأرض وقدْ أبطأتُ عنَّا السماءُ ، فمتَى تمطرُ ؟ وأخبرنِّي عنِ امرأتِي فقدْ اشتملتْ ما في بطنِها ، أذكرُ أمْ أنثى ؟ وإنِّي علمْتُ ما علمْتُ أمس ، فما أعملُ غداً ؟ وهذا مولدِي قد عرفتُه ، فأينَ أموتُ ؟ فنزلَتْ وعن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 861 ) ( مفاتحُ الغيبِ خمسٌ ) وتلا هذه الآية . وعن ابن عباس رضي الله عنهما :

" صفحة رقم 512 "
من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب ، إياكم والكهانة فإن الكهانة تدعو إلى الشرك والشرك وأهله في النار . وعن المنصور أنه أهمه معرفة مدّة عمره ، فرأى في منامه كأن خيالاً أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس ، فاستفتى العلماء في ذلك ، فتأوّلوها بخمس سنين ، وبخمسة أشهر ، وبغير ذلك ، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله : تأويلها أنّ مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه ) عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ( أيان مرساها ) وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ ( في إبانه من غير تقديم ولا تأخير ، وفي بلد لا يتجاوزه به ) وَيَعْلَمُ مَا فِى الاْرْحَامِ ( أذكر أم أنثى ، أتام أم ناقص ، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال ) وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ ( برّة أو فاجرة ) مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ( من خير أو شر ، وربما كانت عازمة على خير فعملت شراً . وعازمة على شر فعملت خيراً ) وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ ( أين تموت ، وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت : لا أبرحها وأقبر فيها . فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها ، ولا حدّثتها به ظنونها . وروي أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه ، فقال الرجل من هذا ؟ قال : ملك الموت ، فقال : كأنه يريدني . وسأل سليمان أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند ، ففعل . ثم قال ملك الموت لسليمان كان دوام نظري إليه تعجباً منه ، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك . وجعل العلم لله والدراية للعبد . لما في الدراية من معنى الختل والحيلة . والمعنى : أنها لا تعرف وإن أعملت حيلها ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها ، ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته ، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما ، كان من معرفة ما عداهما أبعد . وقرىء : ( بأية أرض ) . وشبه سيبويه تأنيث ( أيّ ) بتأنيث كل في قولهم : كلتهن .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 862 ) ( مَن قرأَ سورَة لقمان كانَ له لقمانُ رفيقاً يومَ القيامةِ وأُعطي من الحسناتِ عشراً عشراً بعدد منْ عمل بالمعروفِ ونهَى عن المنكر ) .

" صفحة رقم 513 "
( سورة السجدة )
مكية وآياتها 30 وقيل 29
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (
السجدة : ( 1 ) الم
) الم ( على أنها اسم السورة مبتدأ خبره ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( وإن جعلتها تعديداً للحروف ارتفع ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( بأنه خبر مبتدإ محذوف : أو هو مبتدأ خبره ) لاَ رَيْبَ فِيهِ ( والوجه أن يرتفع بالابتداء ، وخبره ) مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ ( و ) لاَ رَيْبَ فِيهِ ( : اعتراض لا محل له . والضمير في ) فِيهِ ( راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أي في كونه منزلاً من رب العالمين ويشهد لوجاهته قوله ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( لأنّ قولهم : هذا مفترى ، إنكار لأن يكون من رب العالمين ، وكذلك قوله : ) بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ( وما فيه من تقدير أنه من الله ، وهذا أسلوب صحيح محكم : أثبت أولاً أن تنزيله من رب العالمين ، وأن ذلك ما لا ريب فيه ، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله : ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( لأن ( أم ) هي المنقطعة الكائنة بمعنى : بل والهمزة ، إنكاراً لقولهم وتعجيباً منه لظهور أمره : في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه ، ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك . ونظيره أن يعلل العالم في المسألة بعلة صحيحة جامعة ، قد احترز فيها أنواع الاحتراز . كقول المتكلمين : النظر أوّل الأفعال الواجبة على الإطلاق التي لا يعرى عن وجوبها مكلف ، ثم يعترض عليه فيها ببعض ما وقع احترازه منه ، فيرده بتلخيص أنه احترز من ذلك ، ثم يعود إلى تقرير كلامه وتمشيته . فإن قلت : كيف نفي أن يرتاب في أنه من الله ، وقد أثبت ما هو أطم من الريب ، وهو قولهم : ) افْتَرَاهُ ( ؟ قلت : معنى ) لاَ رَيْبَ فِيهِ ( أن لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله : لأن نافي الريب ومميطه معه لا ينفك عنه وهو كونه معجزاً للبشر ، ومثله أبعد شيء من الريب .

" صفحة رقم 514 "
وأما قولهم : ) افْتَرَاهُ ( فإما قول متعنت مع علمه أنه من الله لظهور الإعجاز له ، أو جاهل يقوله قبل التأميل والنظر لأنه سمع الناس يقولونه : ) مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ ( كقوله : ) مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ ( ( يس : 6 ) وذلك أن أن قريشاً لم يبعث الله إليهم رسولاً قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . فإن قلت : فإذا لم يأتهم نذير لم تقم عليهم حجة . قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا ، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم ؛ لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان ) لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( فيه وجهان : أن يكون على الترجي من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما كان ) لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ( ( طه : 44 ) على الترجي من موسى وهرون عليهما السلام ، وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة .
) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (
السجدة : ( 4 ) الله الذي خلق . . . . .
فإن قلت : ما معنى قوله : ) مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ ( قلت : هو على معنيين ، أحدهما : أنكم إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً ، أي : ناصراً ينصركم ولا شفيعاً يشفع لكم . والثاني : أن الله وليكم الذي يتولى مصالحكم ، وشفيعكم أي ناصركم على سبيل المجاز ، لأن الشفيع ينصر المشفوع له . فهو كقوله تعالى : ) وَمَا لَكُم مّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ ( ( البقرة : 107 ) فإذا خذلكم لم يبق لكم وليّ ولا نصير .
) يُدَبِّرُ الاٌّ مْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الاٌّ رْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (
السجدة : ( 5 ) يدبر الأمر من . . . . .
) الاْمْرُ ( المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبراً ) مِنَ السَّمَاء إِلَى الاْرْضِ ( ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصاً كما يريده ويرتضيه إلا في مدة متطاولة ؛ لقلة عمال الله والخلص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة ، لأنه لا يوصف

" صفحة رقم 515 "
بالصعود إلا الخالص ودل عليه قوله على أثره ) قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( ( الأعراف : 10 ) ، ( المؤمنون : 78 ) أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض : لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة ، كما قال : ) وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ ( ( الحج : 47 ) ، ) ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ( أي يصير إليه ، ويثبت عنده ، ويكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدّة : ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها ، ثم يدبر أيضاً ليوم آخر ، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة . وقيل : ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض . ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي أو ردّه مع جبريل ، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة ؛ لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود ؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل ؛ لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد ، وقيل : يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ، ثم يعرج إليه ذلك الأمر كله ؛ أي يصير إليه ليحكم فيه ) فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ( وهو يوم القيامة . وقرأ ابن أبي عبلة : ( يعرج ) على البناء للمفعول . وقرىء : ( يعدون ) بالتاء والياء .
) ذالِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالاٌّ فْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (
السجدة : ( 6 ) ذلك عالم الغيب . . . . .
) أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء ( حسنه ، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة ؛ فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت من حسن وأحسن ، كما قال : ) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( ( التين : 4 ) وقيل : علم كيف يخلقه من قوله : قيمة المرء ما يحسن . وحقيقته . يحسن معرفته أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان . وقريء ( خلقه ) على البدل ، أي : أحسن ، فقد خلق كل شيء . وخلقه : على الوصف ، أي : كل شيء خلقه فقد أحسنه . سميت الذرية نسلاً ؛ لأنها تنسل منه ، أي : تنفصل منه وتخرج من صلبه ونحوه قولهم للولد : سليل ونجل ، و ) سَوَّاهُ ( قوّمه ، كقوله تعالى : ) فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( ( التين : 4 ) ودل بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلا هو ، كقوله : ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ( الآية ( الإسراء : 85 ) ، كأنه قال : ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبمعرفته .
) وَقَالُواْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الاٌّ رْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ( 7 )
السجدة : ( 10 ) وقالوا أئذا ضللنا . . . . .

" صفحة رقم 516 "
) وَقَالُواْ ( قيل القائل أبي بن خلف ، ولرضاهم بقوله أُسند إليهم جميعاً . وقرىء : ( ائنا ) ، و ( أنا ) ، على الاستفهام وتركه ) ضَلَلْنَا ( صرنا تراباً ، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض ، لا نتميز منه ، كما يضل الماء في اللبن أو غبنا ) فِى الاْرْضِ ( بالدفن فيها . من قوله : وَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ;
وقرأ علي وابن عباس رضي الله عنهما : ( ضللنا ) بكسر اللام . يقال : ضل يضل وضل يضل . وقرأ الحسن رضي الله عنه : صللنا ، من صلّ اللحم وأصلّ : إذا أننن . وقيل : صرنا من جنس الصلة وهي الأرض . فإن قلت : بم انتصب الظرف في ) أَءذَا ضَلَلْنَا ( ؟ قلت : بما يدل عليه ) أَنَاْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ( ( الرعد : 5 ) وهو نبعث . أو يجدد خلقنا . لقاء ربهم : هو الوصول إلى العاقبة ، من تلقى ملك الموت وما وراءه ، فلما ذكر كفرهم بالإنشاء . أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة ، لا بالإنشاء وحده : ألا ترى كيف خوطبوا بتوفي ملك الموت وبالرجوع إلى ربهم بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء ، وهذا معنى لقاء الله على ما ذكرنا والتوفي : استيفاء النفس وهي الروح . قال الله تعالى : ) اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ ( ( الزمر : 42 ) وقال : أخرجوا أنفسكم ، وهو أن يقبض كلها لا يترك منها شيء . من قولك : توفيت حقي من فلان ، واستوفيته إذا أخذته وافياً كاملاً من غير نقصان . والتفعل والاستفعال : يلتقيان في مواضع : منها : تقصيته واستقصيته ، وتعجلته واستعجلته . وعن مجاهد رضي الله عنه : حويت لملك الموت والأرض ، وجعلت له مثل الطست ، يتناول منها حيث يشاء . وعن قتادة : يتوفاهم ومعه أعوان من الملائكة . وقيل : ملك الموت : يدعو الأرواح فتجيبه ، ثم يأمر أعوانه بقبضها .
) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لاّتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاّمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 7 )
السجدة : ( 12 ) ولو ترى إذ . . . . .

" صفحة رقم 517 "
) وَلَوْ تَرَى ( يجوز أن يكون خطاباً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفيه وجهان : أن يراد به التمني ، كأنه قال : وليتك ترى ، كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) للمغيرة :
( 863 ) ( لو نظرت إليها ) والتمني لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، كما كان الترجي له في ) لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم ، فجعل الله له تمني أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم ، وأن تكون لو الامتناعية قد حذف جوابها ، وهو : لرأيت أمراً فظيعاً . أو : لرأيت أسوأ حال ترى . ويجوز : أن يخاطب به كل أحد ، كما تقول : فلان لئيم ، إن أكرمته أهانك ، وإن أحسنت إليه أساء إليك ، فلا تريد به مخاطباً بعينه ، فكأنك قلت : إن أكرم وإن أحسن إليه ، ولو وإذ : كلاهما للمضي ، وإنما جاز ذلك ؛ لأن المترقب من الله بمنزلة الوجود المقطوع به في تحققه ، ولا يقدر لنرى ما يتناوله ، كأنه قيل : ولو تكون منكم الرؤية ، وإذ ظرف له . يستغيثون بقولهم ) رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ( فلا يغاثون ، يعني : أبصرنا صدق وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك . أو كنا عمياً وصماً فأبصرنا وسمعنا ) فَارْجِعْنَا ( هي الرجعة إلى الدنيا ) لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ( على طريق الإلجاء والقسر ، ولكننا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار ، فاستحيوا العمى على الهدى ، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون البصراء ألا ترى إلى ما عقبه به من قوله : ) فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ ( فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم : من نسيان العاقبة ، وقلة الفكر فيها ، وترك الاستعداد لها . والمراد بالنسيان : خلاف التذكر ، يعني : أن الانهماك في الشهوات أذهلكم وألهاكم عن تذكر العاقبة وسلط عليكم نسيانها ، ثم قال : ) إِنَّا نَسِينَاكُمْ ( على المقابلة ، أي : جازيناكم جزاء نسيانكم . وقيل : هو بمعنى الترك ، أي : تركتم الفكر في العاقبة ، فتركناكم من الرحمة ، وفي استئناف قوله إنا نسيناكم وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم . والمعنى فذوقوا هذا أي ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم بسبب نسيان اللقاء ، وذوقوا العذاب المخلد في جهنم بسبب ما عملتم من المعاصي والكبائر

" صفحة رقم 518 "
الموبقة .
) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِأايَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (
السجدة : ( 15 ) إنما يؤمن بآياتنا . . . . .
) إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا ( أي وعظوا : سجدوا تواضعاً لله وخشوعاً ، وشكراً على ما رزقهم من الإسلام ) وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ( ونزهوا الله من نسبة القبائح إليه ، وأثنوا عليه حامدين له ) وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( كما يفعل من يصر مستكبراً كأن لم يسمعها ، ومثله قوله تعالى : ) إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا ( ( الإسراء : 107 ) . ) تَتَجَافَى ( ترتفع وتتنحى ) عَنِ الْمَضَاجِعِ ( عن الفرش ومواضع النوم ، داعين ربهم عابدين له ؛ لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته ، وهم المتهجدون . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في تفسيرها :
( 864 ) ( قيام العبد من الليل ) وعن الحسن رضي الله عنه : أنه التهجد . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 865 ) ( إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادي بصوت يسمع

" صفحة رقم 519 "
الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم . ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ؛ فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء ، فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعاً إلى الجنة ، ثم يحاسب سائر الناس ) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : كان أناس من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة . فنزلت فيهم . وقيل : هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها ) مَّآ أُخْفِىَ لَهُم ( على البناء للمفعول . ما أخفى لهم على البناء للفاعل ، وهو الله سبحانه ، وما أخفى لهم . وما نخفي لهم . وما أخفيت لهم : الثلاثة للمتكلم ، وهو الله سبحانه . وما : بمعنى الذي ، أو بمعنى أي . وقرىء : ( من قرّة أعين ) ( وقرات أعين ) . والمعنى : لا تعلم النفوس كلهنّ ولا نفس واحدة منهنّ لا ملك مقرب ولا نبيّ مرسل أيّ نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك وأخفاه من جميع خلائقه ، لا يعلمه إلا هو مما تقربه عيونهم ، ولا مزيد على هذه العدة ولا مطمح وراءها ، ثم قال : ) جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( فحسم أطماع المتمنين ، وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :

" صفحة رقم 520 "
( 866 ) ( يقولُ اللَّهُ تعالَى : أعددتُ لعبادِي الصالحينَ ما لاَ عينُ رأتْ ولا أذنَ سمعَت ولا خطر على قلبِ بشرٍ ، يَلْهَ ما أطلعتُهم عليهِ . اقرؤُوا إن شئتمُ : فلا تعلمُ نفسُ ما أخفيَ لهمُ منْ قرةِ أعينٍ ) وعن الحسن رضي الله عنه : أخفى القوم أعمالاً في الدنيا ، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت .
) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الاٌّ دْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاٌّ كْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (
السجدة : ( 18 ) أفمن كان مؤمنا . . . . .
) كَانَ مُؤْمِناً ( و ) كَانَ فَاسِقاً ( محمولان على لفظ من و ) لاَّ يَسْتَوُونَ ( محمول على المعنى ، بدليل قوله تعالى : ) أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ( ) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ ( ونحوه قوله تعالى : ) وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ ( ( محمد : 16 ) و ) جَنَّاتُ الْمَأْوَى ( نوع من الجنان ؛ قال الله تعالى : ) وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ( ( النجم : 15 ) سميت بذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : تأوي إليها أرواح الشهداء . وقيل : هي عن يمين العرش . وقرىء : ( جنة المأوى ) ، على التوحيد ) نُزُلاً ( عطاء بأعمالهم . والنزل : عطاء النازل ، ثم صار عاماً ) فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ( أي ملجؤهم ومنزلهم . ويجوز أن يراد : فجنة مأواهم النار ، أي النار لهم ، مكان جنة المأوى للمؤمنين ؛ كقوله : ) فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ( آل عمران : 21 ) ، ( التوبة : 34 ) ، ( الإنشقاق : 24 ) ، ) الْعَذَابِ الاْدْنَى ( عذاب الدنيا من القتل والأسر ، وما محنوا به من السنة سبع سنين . وعن مجاهد رضي الله عنه ، عذاب القبر . و ) الْعَذَابَ الاْكْبَرَ ( عذاب الآخرة ، أي : نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة ) لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( أي يتوبون عن الكفر ، أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه . كقوله تعالى : ) فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ

" صفحة رقم 521 "
صَالِحاً ( ( السجدة : 12 ) وسميت إرادة الرجوع رجوعاً ، كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله تعالى : ) يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ( ( المائدة : 6 ) ويدل عليه قراءة من قرأ : ( يرجعون ) على البناء للمفعول . فإن قلت : من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة ؟ و ( لعل ) من الله إرادة ، وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يمتنع ، وتوبتهم مما لا يكون ، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر ؟ قلت : إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده ، فإذا أراد شيئاً من أفعاله كان ولم يمتنع ، للاقتدار وخلوص الداعي . وأما أفعال عباده : فإما أن يريدها وهم مختارون لها ، أو مضطرون إليها بقسره وإلجائه ، فإن أرادها وقد قسرهم عليها فحكمها حكم أفعاله ، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره ، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك وهو لا يختارها ، لأنّ اختياره لا يتعلق بقدرتك ، وإذا لم يتعلق بقدرتك لم يكن فقده دالاً على عجزك . وروي في نزولها :
( 867 ) ( أنه شجر بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي

" صفحة رقم 522 "
معيط يوم بدر كلام ، فقال له الوليد : اسكت فإنك صبيّ : أنا أشبّ منك شباباً ، وأجلد منك جلداً ، وأذرب منك لساناً ، وأحدّ منك سناناً ، وأشجع منك جناناً ، وأملأ منك حشواً في الكتيبة . فقال له علي رضي الله عنه : اسكت ، فإنك فاسق ، فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين ، فتناولتهما وكل من كان في مثل حالهما . وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما : أنه قال للوليد : كيف تشتم علياً وقد سماه الله مؤمناً في عشر آيات ؟ وسماك فاسقاً ؟ .
) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِأايَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (
السجدة : ( 22 ) ومن أظلم ممن . . . . .
ثم في قوله : ) ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ( للاستبعاد . والمعنى : أنّ الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقد والعدل ، كما تقول لصاحبك : وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها استبعاداً لتركه الانتهاز . ومنه ثم في بيت الحماسة : لاَ يَكْشِفُ الغُمَّاءَ إلاَّ ابْنُ حُرَّة
يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدّتها . فإن قلت : هلا قيل : إنا منه منتقمون ؟ قلت : لما جعله أظلم كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام ، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة .
) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِأايَاتِنَا يُوقِنُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (
السجدة : ( 23 - 25 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
) الْكِتَابِ ( للجنس والضمير في ) لّقَائِهِ ( له . ومعناه : إنا آتينا موسى عليه السلام

" صفحة رقم 523 "
مثل ما آتيناك من الكتاب ، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي ، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ولقيت نظيره كقوله تعالى : ) فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ( ( يونس : 94 ) ونحو قوله : ) مّن لّقَائِهِ ( وقوله : ) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( ( النمل : 6 ) وقوله : ) وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ( ( الإسراء : 13 ) . وجعلنا الكتاب المنزل على موسى عليه السلام ) هُدًى ( لقومه ) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ ( الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه ، لصبرهم وإيقانهم بالآيات . وكذلك لنجعلنّ الكتاب المنزل إليك هدى ونوراً ، ولنجعلنّ من أمّتك أئمة يهدون مثل تلك الهداية لما صبروا عليه من نصرة الدين وثبتوا عليه من اليقين . وقيل : من لقائك موسى عليه السلام ليلة الإسراء أو يوم القيامة وقيل : من لقاء موسى عليه السلام الكتاب ، أي : من تلقيه له بالرضا والقبول . وقرىء : ( لما صبروا ) ( ولما صبروا ) أي لصبرهم . وعن الحسن رضي الله عنه : صبروا عن الدنيا . وقيل : إنما جعل الله التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ، ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل عليه السلام ) يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ( يقضي ، فيميز المحق في دينه من المبطل .
) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ (
السجدة : ( 26 ) أولم يهد لهم . . . . .
الواو في ) أَوَ لَمْ يَهْدِ ( للعطف على معطوف عليه منوي من جنس المعطوف ، والضمير في ) لَهُمْ ( لأهل مكة . وقرىء بالنون والياء ، والفاعل ما دلّ عليه ) كَمْ أَهْلَكْنَا ( لأنّ كم لا تقع فاعلة ، لا يقال : جاءني كم رجل ، تقديره : أو لم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون . أو هذا الكلام كما هو بمضمونه ومعناه ، كقولك : يعصم لا إلاه إلا الله الدماء والأموال . ويجوز أن يكون فيه ضمير الله بدلالة القراءة والنون . و ) الْقُرُونِ ( عاد وثمود وقوم لوط ) يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ ( يعني أهل مكة ، يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم . وقرىء : ( يمشون ) بالتشديد .
) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الاٌّ رْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ (
السجدة : ( 27 ) أولم يروا أنا . . . . .
) الْجُرُزِ ( الأرض التي جرز نباتها أي قطع : إمّا لعدم الماء ، وإمّا لأنه رعي وأزيل ، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ : جرز . ويدل عليه قوله : ) فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً ( وعن ابن عباس رضي الله عنه : إنها أرض اليمن . وعن مجاهد رضي الله عنه : هي

" صفحة رقم 524 "
أبين . ) بِهِ ( بالماء ) تَأْكُلُ ( من الزرع ) أَنْعَامُهُمْ ( من عصفه ) وَأَنفُسِهِمْ ( من حبه . وقرىء : ( يأكل ) بالياء .
) وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ (
السجدة : ( 28 ) ويقولون متى هذا . . . . .
الفتح : النصر ، أو الفصل بالحكومة ، من قوله : ) رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا ( ( الأعراف : 89 ) وكان المسلمون يقولون إنّ الله سيفتح لنا على المشركين . ويفتح بيننا وبينهم ، فإذا سمع المشركون قالوا : ) مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ ( أي في أيّ وقت يكون ) إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( في أنه كائن . و ) يَوْمَ الْفَتْحِ ( يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ، ويوم نصرهم عليهم ، وقيل : هو يوم بدر . وعن مجاهد والحسن رضي الله عنهما : يوم فتح مكة . فإن قلت : قد سألوا عن وقت الفتح ، فكيف ينطبق هذا الكلام جواباً على سؤالهم . قلت : كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح ، استعجالاً منهم عن وجه التكذيب والاستهزاء ، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا ، فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم ، وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا . فإن قلت : فمن فسره بيوم الفتح أو يوم بدر كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان ، وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناساً يوم بدر . قلت : المراد أنّ المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق ) وَانتَظِرْ ( النصرة عليهم وهلاكهم ) إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ ( الغلبة عليكم وهلاككم ، كقوله تعالى : ) فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ ( ( التوبة : 52 ) وقرأ ابن السميقع رحمه الله : منتظرون ، بفتح الظاء . ومعناه : وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم ، يعني أنهم هالكون لا محالة . أو وانتظر ذلك ؛ فإن الملائكة في السماء ينتظرونه .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 868 ) ( مَنْ قرأ آلم تنزيل وتبارك الَّذِي بيدهِ الملك ، أُعطي من الأجرِ كأنما أحيا ليلةَ القدرِ ) ، وقالَ :

" صفحة رقم 525 "
( 869 ) ( منْ قرأَ آلم تنزيل في بيته لمّ يدخلِ الشيطانَ بيته ثلاثةَ أيامٍ ) .

" صفحة رقم 526 "
) وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ (
الفتح : النصر ، أو الفصل بالحكومة ، من قوله : ) رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا ( ( الأعراف : 89 ) وكان المسلمون يقولون إنّ الله سيفتح لنا على المشركين . ويفتح بيننا وبينهم ، فإذا سمع المشركون قالوا : ) مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ ( أي في أيّ وقت يكون ) إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( في أنه كائن . و ) يَوْمَ الْفَتْحِ ( يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ، ويوم نصرهم عليهم ، وقيل : هو يوم بدر . وعن مجاهد والحسن رضي الله عنهما : يوم فتح مكة . فإن قلت : قد سألوا عن وقت الفتح ، فكيف ينطبق هذا الكلام جواباً على سؤالهم . قلت : كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح ، استعجالاً منهم عن وجه التكذيب والاستهزاء ، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا ، فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم ، وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا . فإن قلت : فمن فسره بيوم الفتح أو يوم بدر كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان ، وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناساً يوم بدر . قلت : المراد أنّ المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق ) وَانتَظِرْ ( النصرة عليهم وهلاكهم ) إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ ( الغلبة عليكم وهلاككم ، كقوله تعالى : ) فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ ( ( التوبة : 52 ) وقرأ ابن السميقع رحمه الله : منتظرون ، بفتح الظاء . ومعناه : وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم ، يعني أنهم هالكون لا محالة . أو وانتظر ذلك ؛ فإن الملائكة في السماء ينتظرونه .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 868 ) ( مَنْ قرأ آلم تنزيل وتبارك الَّذِي بيدهِ الملك ، أُعطي من الأجرِ كأنما أحيا ليلةَ القدرِ ) ، وقالَ :
( 869 ) ( منْ قرأَ آلم تنزيل في بيته لمّ يدخلِ الشيطانَ بيته ثلاثةَ أيامٍ ) .
( سورة الأحزاب )
مدنية ، وهي ثلاث وسبعون آية
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) يأَيُّهَا النَّبِىِّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (
( 870
الأحزاب : ( 1 ) يا أيها النبي . . . . .
عن زرّ قال : قال لي أبيّ بن كعب رضي الله عنه : كم تعدّون سورة الأحزاب ؟ قلت : ثلاثاً وسبعين آية . قال : فوالذي يحلف به أبيّ بن كعب ، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول . ولقد قرأنا منها آية الرجم : ) وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ( النور : ) ، أراد أبيّ رضي الله عنه أنّ ذلك من جملة ما نسخ من القرآن . وأمّا ما يحكى : أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضي الله عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض . جعل نداءه بالنبيّ والرسول في قوله : ) مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىّ اتَّقِ اللَّهَ ( ) عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ ( ( التحريم : 1 ) ، ) يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ( ( المائدة : 67 ) وترك نداءه باسمه كما قال : يا آدم ، يا موسى ، يا عيسى ، يا داود : كرامة له وتشريفاً ، وربئاً بمحله وتنويهاً بفضله . فإن قلت : إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الإخبار في قوله : ) مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ( ( الفتح : 29 ) ، ) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ ( ( آل عمران : 144 ) . قلت : ذاك لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به ، فلا تفاوت بين النداء والإخبار ، ألا

" صفحة رقم 527 "
ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره بنحو ما ذكره في النداء ) لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( ( التوبة : 128 ) ، و ) وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ رَبّ ( ( الفرقان : 30 ) ، ) لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( ( الأحزاب : 21 ) ، ) وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ( ( التوب : 62 ) ، ) النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ( ( الأحزاب : 6 ) . ) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ( ( الأحزاب : 56 ) ، ) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ ( ( المائدة : 81 ) ، اتق الله : واظب على ما أنت عليه من التقوى ، واثبت عليه ، وازدد منه ، وذلك لأن التقوى باب لا يبلغ آخره ) وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( لا تساعدهم على شيء ولا تقبل لهم رأياً ولا مشورة ، وجانبهم واحترس منهم ، فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين ، لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة . وروي :
( 871 ) أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود قريظة والنضير وبني قينقاع وقد بايعه أناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم . وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه . وكان يسمع منهم فنزلت . وروي :
( 872 ) أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم ، وقام معهم عبد الله بن أبيّ ومعتب بن قشير والجد بن قيس ، فقالوا للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تشفع وتنفع وندعك وربك ، فشق ذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى المؤمنين وهموا بقتلهم ، فنزلت : أي اتق الله في نقض العهد ونبذ الموادعة ، ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك . وروي أنّ أهل مكة دعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم ، وأن يزوّجه شيبة بن ربيعة بنته ، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع . فنزلت ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً ( بالصواب من الخطإ ، والمصلحة من المفسدة ) حَكِيماً ( لا يفعل شيئاً ولا يأمر به إلا بداعي الحكمة ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ( في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك ) إِنَّ اللَّهَ ( الذي يوحي إليك خبير ) بِمَا تَعْمَلُونَ ( فموح إليك ما يصلح به أعمالكم ، فلا حاجة بكم إلى الاستماع من الكفرة . وقرىء : ( يعملون ) بالياء ، أي : بما يعمل المنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم

" صفحة رقم 528 "
) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ( وأسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره ) وَكِيلاً ( حافظاً موكولاً إليه كل أمر .
) مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لاًّبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ءَابَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (
الأحزاب : ( 4 ) ما جعل الله . . . . .
ما جمع الله قلبين في جوف ، ولا زوجية وأمومة في أمرأه ، ولا بنوّة ودعوة في رجل . والمعنى : أن الله سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين ، لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليها ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك ، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً . عالماً ظاناً . موقناً شاكاً في حالة واحدة لم ير أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أُمًّا لرجل زوجاً له ؛ لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل ، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة وهما حالتان متنافيتان ، وأن يكون الرجل الواحد دعياً لرجل وابنا له : لأنّ البنوّة أصالة في النسب وعراقة فيه ، والدعوة : إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل ، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً . وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون . فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهبته له ، وطلبه أبوه وعمه ، فخير فاختار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأعتقه . وكانوا يقولون : زيد بن محمد ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية ، وقوله : ) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ ( ( الأحزاب : 40 ) وقيل : كان أبو معمر رجلاً من أحفظ العرب وأرواهم ، فقيل له : ذو القلبين ، وقيل : هو جميل بن أسد الفهري . وكان يقول : إن لي قلبين . أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد ، فروي أنه انهزم يوم بدر ، فمرّ بأبي سفيان وهو معلق أحدى نعليه بيده والأخرى في رجله . فقال له : ما فعل الناس ؟ فقال : هم ما

" صفحة رقم 529 "
بين مقتول وهارب . فقال له : ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك ؟ فقال : ما ظننت إلا أنهما في رجليّ ، فأكذب الله قوله وقولهم ، وضربه مثلاً في الظهار والتنبي . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان فأكذبهم الله . وقيل : سها في صلاته ، فقالت اليهود : له قلبان : قلب مع أصحابه ، وقلب معكم . وعن الحسن : نزلت في أن الواحد يقول : نفس تأمرني ونفس تنهاني . والتنكير في رجل ، وإدخال من الاستغراقية على قلبين تأكيدان لما قصد من المعنى ، كأنه قال : ما جعل الله لأمة الرجال ولا لواحد منهم قلبين البتة في جوفه . فإن قلت : أي فائدة في ذكر الجوف ؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة في قوله : ) الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( ( الحج : 46 ) وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر التجلي للمدلول عليه ، لأنه إذا سمع به صور لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين ، فكان أسرع إلى الإنكار . وقرىء : ( اللايىء ) ، بياء وهمزة مكسورتين ، و ( اللائي ) بياء ساكنة بعد الهمزة : وتظاهرون : من ظاهر . وتظاهرون . من اظاهر ، بمعنى تظاهر . وتظهرون : من أظهر ، بمعنى تظهر . وتظهرون : من ظهر ، بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد . وتظهرون : من ظهر ، بلفظ فعل من الظهور . ومعنى ظاهر من امرأته : قال لها : أنت عليّ كظهر أمي . ونحوه في العبارة عن اللفظ : لبى المحرم ، إذا قال لبيك . وأفف الرجل : إذا قال : أُف وأخوات لهنّ . فإن قلت : فما وجه تعديته وأخواته بمن ؟ قلت : كان الظهار طلاقاً عند أهل الجاهلية . فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة ، فكان قولهم : تظاهر منها تباعد منها بجهة الظهار ، وتظهر منها : تحرز منها . وظاهر منها : حاذر منها ، وظهر منها : وحش منها . وظهر منها : خلص منها . ونظيره : آلى من امرأته ، لما ضمن معنى التباعد منها عدّي بمن ، وإلا فآلى في أصله الذي هو بمعنى : حلف وأقسم ، ليس هذا بحكمه . فإن قلت : ما معنى قولهم : أنت عليّ كظهر أمي ؟ قلت : أرادوا أن يقولوا : أنت عليّ حرام كبطن أمي . فكنوا عن البطن بالظهر ؛ لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج ، وإنما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر لأنه عمود البطن . ومنه حديث عمر رضي الله عنه : يجيء به أحدهم على عمود بطنه : أراد على ظهره . ووجه آخر : وهو أن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان محرّماً عندهم محظوراً . وكان أهل المدينة يقولون : إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول ، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه ، شبهها بالظهر

" صفحة رقم 530 "
ثم لم يقنع بذلك حتى جعله ظهر أمّه فلم يترك . فإن قلت : الدعيّ فعيل بمعنى مفعول ، وهو الذي يُدعى ولداً فما له جمع على افعلاء ، وبابه : ما كان منه بمعنى فاعل ، كتقى وأتقياء ، وشقيّ وأشقياء ، ولا يكون ذلك في نحو رمى وسمى . قلت : إن شذوذه عن القياس كشذوذ قتلاء وأسراء ، والطريق في مثل ذلك التشبيه اللفظي ) ذالِكُمْ ( النسب هو ) قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ ( هذا ابني لا غير من غير أن يواطئه اعتقاد لصحته وكونه حقاً . والله عز وجل لا يقول إلا ما هو حق ظاهره وباطنه ، ولا يهدي إلا سبيل الحق . ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق ، وهو قوله : ) ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ ( وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل ، وفي فصل هذه الجمل ووصلها : من الحسن والفصاحة مالا يعني على عالم بطرق النظم . وقرأ قتادة : ( وهو الذي يهدي السبيل ) . وقيل : كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه : ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه ، وكان ينسب إليه فيقال : فلان ابن فلان ) فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ( لهم آباء تنسبونهم إليهم ) ف ( هم ) إِخْوانِكُمْ فِى الدّينِ ( وأولياؤكم في الدين فقولوا : هذا أخي وهذا مولاي ، ويا أخي ، ويا مولاي : يريد الأخوّة في الدين والولاية فيه ) مَّا تَعَمَّدَتْ ( في محل الجرّ عطفاً على ما أخطأتم . ويجوز أن يكون مرتفعاً على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح . والمعنى : لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهي ، ولكن الإثم فيما تعمدتموه بعد النهي . أو لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بنيّ على سبيل الخطإ وسبق اللسان ، ولكن إذا قلتموه متعمدين . ويجوز أن يراد العفو عن الخطإ دون العمد على طريق العموم ، كقوله عليه الصلاة والسلام :
( 873 ) ( ما أخشَى عليكُم الخطأَ ولكنْ أخشَى عليْكُم العمدَ ) وقوله عليه الصلاة والسلام :
( 874 ) ( وُضع عن أمّتي الخطأُ والنسيانْ وما أكرهُوا عليه ) ثم تناول لعمومه خطأ

" صفحة رقم 531 "
التبني وعمده . فإن قلت : فإذا وجد التبني فما حكمه ؟ قلت : إذا كان المتبني مجهول النسب وأصغر سناً من المتبني ثبت نسبه منه ، وإن كان عبداً له عتق مع ثبوت النسب ، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم يثبت النسب ، ولكنه يعتق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وعند صاحبيه لا يعتق . وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وإن كان عبداً عتق ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( لعفوه عن الخطأ وعن العمد إذا تاب العامد .
) النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الاٌّ رْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُوراً (
الأحزاب : ( 6 ) النبي أولى بالمؤمنين . . . . .
) النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ ( في كل شيء من أمور الدين والدنيا ) مّنْ أَنفُسِهِمْ ( ولهذا أطلق ولم يقيد ، فيجب عليهم أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها ، وأن يبدلوها دونه ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب ، ووقاءه إذا لقحت حرب ، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ولا ما تصرفهم عنه ، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصرفهم عنه ، لأنّ كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين وما صرفهم عنه ، فأخذ بحجزهم لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار . أو هو أولى بهم ، على معنى أنه أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم ، كقوله تعالى : ) بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ ( ( التوبة : 128 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 875 ) ( ما مِنْ مؤمنٍ إلاّ أنا أولى بهِ فِي الدنيا والآخرةِ . اقرؤوا إنْ شئتم ) النَّبِىّ

" صفحة رقم 532 "
ُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ( فأيما مؤمن هلك وترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا ، وإن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ ) وفي قراءة ابن مسعود : ( النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ) . وقال مجاهد : كل نبيّ فهو أبو أمّته . ولذلك صار المؤمنون إخوة ؛ لأنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبوهم في الدين ) وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( تشبيه لهنّ بالأمهات في بعض الأحكام ، وهو وجوب تعظيمهنّ واحترامهن ، وتحريم نكاحهن : قال الله تعالى : ) وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً ( ( الأحزاب : 53 ) وهنّ فيما وراء ذلك بمنزلة الأجنبيات ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : لسنا أمهات النساء . تعني أنهنّ إنما كنّ أمّهات الرجال ، لكونهنّ محرّمات عليهم كتحريم أمّهاتهم . والدليل على ذلك : أنّ هذا التحريم لم يتعد إلى بناتهنّ ، وكذلك لم يثبت لهنّ سائر أحكام الأمهات . كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة ، كما كانت تتألف قلوب قوم بإسهام لهم في الصدقات ، ثم نسخ ذلك لما دجا الإسلام وعزّ أهله ، وجعل التوارث بحق القرابة ) فِى كِتَابِ اللَّهِ ( في اللوح . أو فيما أوحى الله إلى نبيه وهو هذه الآية . أو في آية المواريث . أو فيما فرض الله كقوله : ) كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ( ( النساء : 24 ) . ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ( يجوز أن يكون بياناً لأولى الأرحام ، أي : الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب . ويجوز أن يكون لابتداء الغاية . أي : أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين ، ومن المهاجرين بحق الهجرة . فإن قلت : مم استثنى ) أَن تَفْعَلُواْ ( ؟ قلت : من أعم العام في معنى النفع والإحسان ، كما تقول : القريب أولى من الأجنبي إلا في الوصية ، تريد : أنه أحق منه في كل نفع من ميراثه وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك ، إلا في الوصية . والمراد بفعل المعروف : التوصية لأنه لا وصية لوارث وعدى تفعلوا بإلى ، لأنه في معنى : تسدوا وتزلوا والمراد بالأولياء : المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين ) ذَلِكَ ( إشارة إلى ما ذكر في الآيتين جميعاً . وتفسير الكتاب : ما مر آنفاً ، والجملة مستأنفة كالخاتمة لما ذكر من الأحكام .
) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (
الأحزاب : ( 7 ) وإذ أخذنا من . . . . .
) و ( اذكر حين ) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ ( جميعاً ) مِيثَاقَهُمْ ( بتبليغ الرسالة والدعاء إلى

" صفحة رقم 533 "
الدين القيم ) وَمِنْكَ ( خصوصاً ) وَمِن نُّوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ( وإنما فعلنا ذلك ) لِّيَسْأَلَ ( الله يوم القيامة عند تواقف الأشهاد المؤمنين الذين صدقوا عهدهم ووفوا به ، من جملة من أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) عَن صِدْقِهِمْ ( عهدهم وشهادتهم ، فيشهد لهم الأنبياء بأنهم صدقوا عهدهم وشهادتهم وكانوا مؤمنين . أو ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم . لأن من قال للصادق : صدقت ، كان صادقاً في قوله . أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم . وتأويل مسألة الرسل : تبكيت الكافرين بهم ، كقوله : ) قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( ( المائدة : 116 ) . فإن قلت : لم قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على نوح فمن بعده قلت هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم ، فلما كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل هؤلاء المفضلين : قدم عليهم لبيان أنه أفضلهم ، ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه . فإن قلت : فقد قدم عليه نوح عليه السلام في الآية التي هي أخت هذه الآية ، وهي قوله : ) شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( ( الشورى : 13 ) ثم قدم على غيره . قلت : مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك ، وذلك أنّ الله تعالى إنما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنه قال : شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم ، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث ، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير . فإن قلت : فماذا أراد بالميثاق الغليظ ؟ قلت : أراد به ذلك الميثاق بعينه . معناه : وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقاً غليظاً . والغلظ : استعارة من وصف الأجرام ، والمراد : عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه . وقيل الميثاق الغليظ : اليمين بالله على الوفاء بما حملوا . فإن قلت : علام عطف قوله : ) وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ ( ؟ قلت : على أخذنا من النبيين ، لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين . وأعد للكافرين عذاباً أليماً . أو على ما دل عليه ) لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ ( كأنه قال : فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين .

" صفحة رقم 534 "
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاٌّ بْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً (
الأحزاب : ( 9 ) يا أيها الذين . . . . .
) اذْكُرُواْ ( ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق ) إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ ( وهم الأحزاب ، فأرسل الله عليهم ريح الصبا . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 876 ) ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ( وهم الملائكة وكانوا ألفاً : بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية ، فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم ، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وماجت الخيل بعضها في بعض ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم ، فقال طليحة بن خويلد الأسدي : أما محمد فقد بدأكم بالسحر ، فالنجاء النجاء ، فانهزموا من غير قتال ، وحين سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة ، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه ، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام واشتدّ الخوف ، وظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر لا نقدر أن نذهب إلى الغائط . وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان ، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن . وعامر بن الطفيل في هوازن ، وضامتهم اليهود من قريظة والنضير ، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة ، حتى أنزل الله النصر ) تَعْمَلُونَ ( قرىء بالتاء والياء ) مّن فَوْقِكُمْ ( من أعلى الوادي من قبل المشرق : بنو غطفان ) وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ( من أسفل الوادي من قبل المغرب : قريش تحزبوا وقالوا : سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمداً ) زَاغَتِ الاْبْصَارُ ( مالت عن سننها ومستوى نظرها

" صفحة رقم 535 "
حيرة وشخوصاً . وقيل : عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوّها لشدة الروع . الحنجرة : رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم . والحلقوم : مدخل الطعام والشراب ، قالوا : إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغمّ الشديد : ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، ومن ثمة قيل للجبان : انتفخ سحره . ويجوز أن يكون ذلك مثلاً في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة ) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ( خطاب للذين آمنوا . ومنهم الثبت القلوب والأقدام ، والضعاف القلوب : الذين هم على حرف ، والمنافقون : الذين لم يوجد منهم الإيمان إلا بألسنتهم فظن الأولون بالله أنه يبتليهم ويفتنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ، وأمّا الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم . وعن الحسن : ظنوا ظنوناً مختلفة : ظن المنافقون أنّ المسلمين يستأصلون ، وظنّ المؤمنون أنهم يبتلون . وقرىء ( الظنون ) بغير ألف في الوصل والوقف وهو القياس ، وبزيادة ألف في الوقف زادوها في الفاصلة ، كما زادها في القافية من قال : أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالعِتَابَا ;
وكذلك الرسولا والسبيلا . وقرىء بزيادتها في الوصل أيضاً ، إجراء له مجرى الوقف . قال أبو عبيد : وهنّ كلهنّ في الإمام بألف . وعن أبي عمرو إشمام زاي زلزلوا . وقرىء : ( زلزالاً ) بالفتح . والمعنى : أنّ الخوف أزعجهم أشد الإزعاج .
) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأَهْلَ . يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لاّتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً (
الأحزاب : ( 12 ) وإذ يقول المنافقون . . . . .
) إِلاَّ غُرُوراً ( قيل قائله : معتب بن قشير حين رأى الأحزاب قال : يعدنا محمد فتح فارس والروم ، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا ، ما هذا إلا وعد غرور ) طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ( هم أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه . وعن السدي عبد الله بن أبيّ وأصحابه . ويثرب : اسم المدينة . وقيل : أرض وقعت المدينة في ناحية منها ) لاَ مُقَامَ لَكُمْ ( قرىء بضم الميم

" صفحة رقم 536 "
وفتحها ، أي لا قرار لكم ههنا ، ولا مكان تقيمون فيه أو تقومون ) فَارْجِعُواْ ( إلى المدينة : أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقيل : قالوا لهم : ارجعوا كفاراً وأسلموا محمداً ، وإلا فليست يثرب لكم بمكان . قرىء : ( عورة ) بسكون الواو وكسرها ، فالعورة : الخلل ، والعورة : ذات العورة ، يقال : عور المكان عوراً إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق . ويجوزأن تكون ) عَوْرَةٌ ( تخفيف : عورة ، اعتذروا أنّ بيوتهم معترضة للعدو ممكنة للسراق لأنها غير محرزة ولا محصنة ، فاستأذنوه وليحصنوها ثم يرجعوا إليه ، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك ، وإنما يريدون الفرار ) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ ( المدينة . وقيل : بيوتهم ، من قولك : دخلت على فلانه داره ) مّنْ أَقْطَارِهَا ( من جوانبها ، يريد : ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفاً منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها . وانثالت على أهاليهم وأولادهم ناهبين سابين ، ثم سئلوا عند ذلك الفزع وتلك الرجفة ) الْفِتْنِةِ ( أي الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين ، لأتوها : لجاؤها وفعلوها . وقرىء : ( لآتوها ) لأعطوها ) وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا ( وما ألبثوا إعطاءها ) إِلاَّ يَسِيراً ( ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف . أو وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيراً ، فإن الله يهلكهم . والمعنى : أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم ، ويتمحلون ليفروا عن نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين ، وعن مصافة الأحزاب الذين ملؤوهم هولاً ورعباً ؛ وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر وقيل لهم كونوا على المسلمين ، لسارعوا إليه وما تعللوا بشيء ، وما ذاك إلا لمقتهم الإسلام . وشدة بغضهم لأهله ، وحبهم الكفر وتهالكهم على حزبه .
) وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاٌّ دْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (
الأحزاب : ( 15 ) ولقد كانوا عاهدوا . . . . .
عن ابن عباس : عاهدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم . وقيل : هم قوم غابوا عن بدر فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلنّ . وعن محمد بن إسحاق عاهدوا يوم أحد أن لا يفرّوا بعدما نزل فيهم ما نزل ) مَسْئُولاً ( مطلوباً مقتضى حتى يوفي به ) لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ ( مما لا بدّ لكم من نزوله بكم من حتف أنف أو قتل . وإن نفعكم الفرار مثلاً فمنعتم بالتأخير : لم يكن ذلك التمتيع إلا زماناً قليلاً . وعن

" صفحة رقم 537 "
بعض المروانية : أنه مرّ بحائط مائل فأسرع ، فتليت له هذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب .
) قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (
الأحزاب : ( 17 ) قل من ذا . . . . .
فإن قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء ؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله : مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحَا ;
أو حمل الثاني على الأوّل لما في العصمة من معنى المنع .
) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَائِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ الاٌّ حْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الاٌّ حْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاٌّ عْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً (
الأحزاب : ( 18 ) قد يعلم الله . . . . .
) الْمُعَوّقِينَ ( المثبطين عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم المنافقون : كانوا يقولون ) لإِخْوانِهِمْ ( من ساكني المدينة من أنصار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه ، فخلوهم و ) هَلُمَّ إِلَيْنَا ( أي قربوا أنفسكم إلينا . وهي لغة أهل الحجاز : يسوّونَ فيه بين الواحد والجماعة . وأمّا تميم فيقولون : هلمّ يا رجل ، وهلموا يا رجال ، وهو صوت سمي به فعل متعدّ مثل احضر وقرب ) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ ( ( الأنعام : 15 ) ) إِلاَّ قَلِيلاً ( إلا اتياناً قليلاً يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم ، ولا نراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطرّوا إليه ، كقوله : ) مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً ( ، ) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ( في وقت الحرب أضناء بكم ، يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف ) يَنظُرُونَ إِلَيْكَ ( في تلك الحالة كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذراً أو خوراً ولواذاً بك ، فإذا ذهب

" صفحة رقم 538 "
الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة : نقلوا ذلك الشحّ وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير وهو المال والغنيمة ونسوا تلك الحالة الأولى ، واجترؤا عليكم وضربوكم بألسنتهم وقالوا : وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم ، وبمكاننا غلبتم عدوّكم وبنا نصرتم عليهم . ونصب ) أَشِحَّةً ( على الحال أو على الذمّ . وقرىء : ( أشحة ) ، بالرفع . و ( صلقوكم ) بالصاد . فإن قلت : هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط ؟ قلت : لا ولكنه تعلم لمن عسى يظن أنّ الإيمان باللسان إيمان وإن لم يوطئه القلب ، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجدي عليه ، فبين أنّ إيمانه ليس بإيمان ، وأنّ كل عمل يوجد منه باطل . وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح ، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء على غير أساس ، وأنها مما يذهب عند الله هباء منثوراً . فإن قلت : ما معنى قوله : ) وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ( وكل شيء عليه يسير ؟ قلت : معناه : أن أعمالهم حقيقة بالإحباط ، تدعو إليه الدواعي ، ولا يصرف عنه صارف ) يَحْسَبُونَ ( أنّ الأحزاب لم ينهزموا ، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن المفرط ) وَإِن يَأْتِ الاْحْزَابُ ( كرّة ثانية . تمنوا لخوفهم مما منوا به هذه الكرّة أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب ) يُسْئَلُونَ ( كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم ) وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ ( ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال لم يقاتلوا إلا تعلة رياء وسمعة . وقرىء : ( بدّي ) على فعَّل جمع باد كغاز وغزَّي . وفي رواية صاحب الإقليد : ( بديّ ) ، بوزن عديّ . ويساءلون ، أي : يتساءلون . ومعناه : يقول بعضهم لبعض : ماذا سمعت ؟ ماذا بلغك ؟ أو يتساءلون الأعراب كما تقول : رأيت الهلال وتراءيناه : كان عليكم أن تواسوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأنفسكم فتوازروه وتثبتوا معه ، كما آساكم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مرحى الحرب ، حتى كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ وجهه .
) لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاٌّ خِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ( 7 )
الأحزاب : ( 21 ) لقد كان لكم . . . . .

" صفحة رقم 539 "
فإن قلت : فما حقيقة قوله : ) لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( . وقرىء : ( أسوة ) بالضم ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه في نفسه أسوة حسنة ، أي : قدوة ، وهو الموتسى ، أي : المقتدي به ، كما تقول : في البيضة عشرون منا حديد ، أي : هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد . والثاني : أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع . وهي المواساة بنفسه ) لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ ( بدل من لكم ، كقوله : ) لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ( ( الأعراف : 75 ) يرجو الله واليوم الآخر : من قولك رجوت زيداً وفضله ، أي : فضل زيد ، أو يرجو أيام الله . واليوم الآخر خصوصاً . والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف ) وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ( وقرن الرجال بالطاعات الكثيرة والتوفر على الأعمال الصالحة ، والمؤتسى برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : من كان كذلك .
) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الاٌّ حْزَابَ قَالُواْ هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً (
الأحزاب : ( 22 ) ولما رأى المؤمنون . . . . .
وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ، ويستنصروه في قوله : ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ( ( البقرة : 214 ) فلما جاء الأحزاب وشخص بهم واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد ) قَالُواْ هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( وأيقنوا بالجنة والنصر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
( 877 ) قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه : ( إنّ الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً ) أي : في آخر تسع ليال أو عشر ، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك . وهذا إشارة إلى الخطب أو البلاء ) إِيمَاناً ( بالله وبمواعيده ) وَتَسْلِيماً ( لقضاياه وأقداره .
) مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً لِّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً (
الأحزاب : ( 23 ) من المؤمنين رجال . . . . .
نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثبتوا وقاتلوا حتى

" صفحة رقم 540 "
يستشهدوا ، وهم : عثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وحمزة ، ومصعب بن عمير ، وغيرهم ، رضي الله عنهم : ) فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ ( يعني حمزة ومصعباً ) وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ ( يعني عثمان وطلحة . وفي الحديث :
( 877 ) ( من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة ) فإن قلت : ما قضاء النحب ؟ قلت : وقع عبارة عن الموت ؛ لأنّ كل حي لا بدّ له من أن يموت . فكأنه نذرٌ لازم في رقبته ، فإذا مات فقد قضى نحبه ، أي : نذره . وقوله : ) فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ ( يحتمل موته شهيداً ، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . فإن قلت : فما حقيقة قوله : ) صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ( ؟ قلت : يقال : صدقني أخوك وكذبني ، إذا قال لك الصدق والكذب . وأمّا المثل : صدقني سنّ بكره . فمعناه : صدقني في سن بكره ، بطرح الجار وإيصال الفعل ، فلا يخلو ) مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ( إما أن يكون بمنزلة السنّ في طرح الجار ، وإمّا أن يجعل المعاهد عليه مصدوقاً على المجاز ، كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي بك ، وهم وافون به فقد صدقوه ، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ولكان مكذوباً ) وَمَا بَدَّلُواْ ( العهد ولا غيروه ، لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة ، ولقد
( 878 ) ثبت طلحة مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أُحد حتى أصيبت يده ، فقال

" صفحة رقم 541 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أوجب طلحة ) وفي تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرض القلوب : جعل المنافقون ، كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم ، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب ، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما . ويعذبهم ) إِن شَاء ( إذا لم يتوبوا ) أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ( إذا تابوا ) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الأحزاب ) بِغَيْظِهِمْ ( مغيظين ، كقوله : ) تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ( ( المؤمنون : 20 ) . ) لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً ( غير ظافرين ، وهما حالان بتداخل أو تعاقب . ويجوز أن تكون الثانية بياناً للأولى أو استئنافاً ) وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ( بالريح والملائكة ) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ( ظاهروا الأحزاب من أهل الكتاب ) مِن صَيَاصِيهِمْ ( من حصونهم . والصيصية ما تحصن به ، يقال لقرن الثور والظبي : صيصية ، ولشوكة الديك ، وهي مخلبه التي في ساقه ، لأنه يتحصن بها . روي
( 880 ) أنّ جبريل عليه السلام أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج ، فقال : ما هَذَا يا جبريلُ ؟ قال : من متابعة قريش : فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن السرج ، فقال : يا رسول الله ، إن الملائكة لم تضع السلاح ، إن اللَّهَ يأمرُكَ المسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم ، فإن الله داقهم دق البيض على الصفا ، وإنهم لكم طعمة فأذن في الناس : أَنْ مَنْ كانَ سَامعاً مطيعاً فَلاَ يصلي العصرَ إلا في بني قريظةَ . فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة ، لقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : تنزلون على حكمي ؟ فأبوا ، فقال : على حكم سعد بن معاذ ؟ فرضوا به ، فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبي ذراريهم ونساؤهم ، فكبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ) ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً . وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة وقيل كانوا

" صفحة رقم 542 "
ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير . وقرىء : ( الرعب ) ، بسكون العين وضمها . وتأسرون ، بضم السين . وروي
( 881 ) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار ، فقالت الأنصار في ذلك ، فقال : ( إنكم في منازلكم ) ، وقال عمر رضي الله عنه : أما تخمس كما خمست يوم بدر ؟ قال : ( لا ، إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس ) . قال : رضينا بما صنع الله ورسوله ) وَأَرْضاً لَّمْ ( عن الحسن رضي الله عنه : فارس والروم . وعن قتادة رضي الله عنه : كنا نحدث أنها مكة . وعن مقاتل رضي الله عنه : هي خيبر . وعن عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة . ومن بدع التفاسير : أنه أراد نساءهم .
) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاٌّ زْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الاٌّ خِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (
( 882
الأحزاب : ( 28 ) يا أيها النبي . . . . .
أردن شيئاً من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن ، فغم ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت . فبدأ بعائشة رضي الله عنها وكانت أحبهنّ إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن ، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم اختارت جميعهنّ اختيارها ، فشكر لهنّ الله ذلك ، فأنزل ) حَلِيماً لاَّ يَحِلُّ لَكَ النّسَاء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ( ( الأحزاب : 52 ) . روي أنه قال لعائشة :
( 883 ) ( إنِّي ذاكرٌ لكَ أمراً ، ولا عليك أنْ لا تعجلي فيه حتّى تستأمري أبويْكَ ثم قرأَ عليها القرآنَ فقالَت : أفي هذا أستأمر أبويَّ ، فإنِّي أريدُ الله ورسولَهُ والدارَ الآخرةَ .
( 884 ) وروي أنها قالت : لا تخبر أزواجك أنِّي اخترتك ، فقال : ( إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً ) . فإن قلت : ما حكم التخيير في الطلاق ؟ قلت : إذا قال لها

" صفحة رقم 543 "
اختاري ، فقالت : اخترت نفسي . أو قال : اختاري نفسك ، فقالت : اخترت ، لا بد من ذكر النفس في قول المخير أو المخيرة وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه ، واعتبروا أن يكون ذلك في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض ، واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن مسعود . وعن الحسن وقتادة الزهري رضي الله عنهم : أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره ، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بإجماع فقهاء الأمصار . وعن عائشة رضي الله عنها :
( 885 ) خيرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاخترناه ولم يعده طلاقاً . وروي : أفكان طلاقاً . وعن عليّ رضي الله عنه . إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية ، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وروي عنه أيضاً أنها إن اختارت زوجها فليس بشيء . أصل تعال : أن يقوله من في المكان المرتفع ، لمن في المكان المستوطيء ، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة . ومعنى تعالين : أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين ، ولم يرد نهوضهنّ إليه بأنفسهنّ . كما تقول : أقبل يخاصمني ، وذهب يكلمني . وقام يهددني ) أُمَتّعْكُنَّ ( أعطكنّ متعة الطلاق . فإن قلت : المتعة في الطلاق واجبة أم لا ؟ قلت : المطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد ، متعتها واجبة عند أبي حنيفة وأصحابه ، وأما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة وعن الزهري رضي الله عنه : متعتان ، إحداهما : يقضي بها السلطان : من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها . والثانية : حق على المتقين من طلق بعد ما يفرض ويدخل ، وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال : متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : المتعة حق مفروض . وعن الحسن رضي الله عنه : لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة ، والمتعة : درع وخمار وملحفة على حسب السعة والإقتدار ، إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك ، فيجب لها الأقل منهما . ولا تنقص من خمسة دراهم ؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها . فإن قلت : ما وجه قراءة من قرأ : ( أمتعكنّ وأسرحكنّ ) بالرفع ؟ قلت : وجهه الاستئناف ) سَرَاحاً جَمِيلاً ( من غير ضرار طلاقاً بالسنة ) مِنكُنَّ ( للبيان لا للتبعيض .
) يانِسَآءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ

" صفحة رقم 544 "
عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (
الأحزاب : ( 30 ) يا نساء النبي . . . . .
الفاحشة : السيئة البليغة في القبح وهي الكبيرة . والمبينة : الظاهرة فحشها ، والمراد كل ما اقترفن من الكبائر : وقيل هي عصيانهن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونشوزهنّ ، وطلبهن منه ما يشق عليه أو ما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله وقيل : الزنا ، والله عاصم رسوله من ذلك ، كما مرّ في حديث الإفك ، وإنما ضوعف عذابهنّ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهنّ وأقبح ؛ لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة وزيادة النعمة على العاصي من المعصي ، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا على أحد منهنّ مثل ما لله عليهن من النعمة ، والجزاء يتبع الفعل ، وكون الجزاء عقاباً يتبع كون الفعل قبيحاً ، فمتى ازداد قبحاً . ازداد عقابه شدّة ، ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العام : أشدّ منه للعاصي الجاهل ؛ لأن المعصية من العالم أقبح ، ولذلك فضل حدّ الأحرار على حد العبيد ، حتى أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون الرجم على الكافر ) وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ( إيذان بأن كونهن نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليس بمغن عنهن شيئاً . وكيف يغني عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب ، فكان داعياً إلى تشديد الأمر عليهنّ غير صارف عنه . قرىء ( يأت ) ، بالتاء والياء . مبينة : بفتح الياء وكسرها ، من بين بمعنى تبين . يضاعف ، ويضعف : على البناء للمفعول . ويضاعف ، ونضعف : بالياء والنون . وقرىء : ( تقنت ) وتعمل : بالتاء والياء . ونؤتها : بالياء والنون . والقنوت : الطاعة ، وإنما ضوعف أجرهنّ لطلبهنّ رضا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحسن الخلق ، وطيب المعاشرة والقناعة ، وتوفرهنّ على عبادة الله والتقوى .
) يانِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (
الأحزاب : ( 32 ) يا نساء النبي . . . . .
أحد في الأصل بمعنى وحد ، وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه . ومعنى قوله : ) لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء ( لستنّ

" صفحة رقم 545 "
ِ كجماعة واحدة من جماعات النساء ، أي : إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة ، ومثله قوله تعالى : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ ( ( النساء : 152 ) يريد بين جماعة واحدة منهم ، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين ) إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ( إن أردتن التقوى ، وإن كنتن متقيات ) فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ( فلا تجبن بقولكن خاضعاً ، أي : لينا خنثا مثل كلام المريبات والمومسات ) فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ ( أي ريبة وفجور . وقرىء بالجزم ، عطفاً على محل فعل النهي ، على أنهن نهين عن الخضوع بالقول . ونهى المريض القلب عن الطمع ، كأنه قيل : لا تخضعن فلا يطمع . وعن ابن محيصن أنه قرأ بكسر الميم ، وسبيله ضم الياء مع كسرها وإسناد الفعل إلى ضمير القول ، أي : فيطمع القول المريب ) قَوْلاً مَّعْرُوفاً ( بعيداً من طمع المريب بجد وخشونة من غير تخنث ، أو قولاً حسناً مع كونه خشناً .
) وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاٍّ ولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَواةَ وَءَاتِينَ الزَّكَواةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (
الأحزاب : ( 33 ) وقرن في بيوتكن . . . . .
) وَقَرْنَ ( بكسر القاف ، من قر يقر وقاراً . أو من قرّ يقرّ ، حذفت الأولى من رائي : أقررن ، ونقلت كسرتها إلى القاف ، كما تقول : ظلن ، وقرن : بفتحها ، وأصله : أقررن ، فحذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها ، كقولك : ظلن ، وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان : وجهاً آخر ، قال : قار يقار : إذا اجتمع . ومنه . القارة ، لاجتماعها ، ألا ترى إلى قول عضل والديشع 2 : اجتمعوا فكونوا قارة . و ) الْجَاهِلِيَّةِ الاْولَى ( هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء ، وهي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام : كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشى وسط الطريق تعرض تفسها على الرجال ، وقيل : ما بين آدم ونوح . وقيل : بين إدريس ونوح . وقيل : زمن داود وسليمان ، والجاهلية الأخرى : ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى : جاهلية

" صفحة رقم 546 "
الكفر قبل الإسلام . والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام ، فكأن المعنى : ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل الجاهلية الكفر . ويعضده ما روي :
( 886 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأبي الدرداء رضي الله عنه : ( إن فيك جاهلية ) قال جاهلية كفر أم إسلام ؟ فقال : ( بل جاهلية كفر ) . أمرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة ، ثم جاء به عاماً في جميع الطاعات ؛ لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات : من أعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما ، ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ، ووعظهنّ ، لئلا يُقارفُ أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المآثم ، ولتصوّنوا عنها بالتقوى . واستعار للذنوب : الرجس ، والتقوى : الطهر ؛ لأنّ عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس ، كما يتلوث بدنه بالأرجاس . وأما المحسنات ، فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر . وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه ، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به . و ) أَهْلَ الْبَيْتِ ( نصب على النداء . أو على المدح . وفي هذا دليل بيّن على أنّ نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل بيته .
) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (
الأحزاب : ( 34 ) واذكرن ما يتلى . . . . .
ثم ذكرهنّ أنّ بيوتهن مهابط الوحي ، وأمرهنّ أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين : هو آيات بينات تدلّ على صدق النبوّة ؛ لأنه معجزة بنظمه . وهو حكمة وعلوم وشرائع ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ( حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم أو علم من يصلح لنبوّته من يصلح لأن يكرهوا أهل بيته . أو حيث جعل الكلام الواحد جامعاً بين الغرضين .
) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ( 7 )
الأحزاب : ( 35 ) إن المسلمين والمسلمات . . . . .

" صفحة رقم 547 "
يروى :
( 887 ) أنّ أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قلن : يا رسولَ اللَّهِ ، ذكر اللَّهُ الرجالَ في القرآنِ بخيرٍ ، أفما فينا خير نذكر بهِ ؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة . وقيل : السائلة أم سلمة .
وروي :
( 888 ) أنه لما نزل في نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما نزل ، قال نساء المسلمين : فما نزل فينا شيء ؟ فنزلت ، والمسلم : الداخل في السلم بعد الحرب ، المنقاد الذي لا يعاند ، أو المفوّض أمره إلى الله المتوكل عليه من أسلم وجهه إلى الله . والمؤمن : المصدق بالله ورسوله وبما يجب أن يصدق به . والقانت : القائم بالطاعة الدائم عليها . والصادق : الذي يصدق في نيته وقوله وعمله . والصابر : الذي يصبر على الطاعات وعن المعاصي . والخاشع : المتواضع لله بقلبه وجوارحه . وقيل : الذي إذا صلّى لم يعرف من عن يمينه وشماله . والمتصدق : الذي يزكي ماله ولا يخل بالنوافل . وقيل : من تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدّقين . ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين . والذاكر لله كثيراً : من لا يكاد يخلو من ذكر الله بقلبه أو لسانه أو بهما . وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 889 ) ( من استيقظ من نومه وأيقظ امرأته فصليا جميعاً ركعتين كتبا في الذاكرين لله كثيراً والذاكرات ) والمعنى : والحافظاتها والذاكراته ، فحذف ؛ لأنّ الظاهر يدلّ عليه . فإن قلت : أي فرق بين العطفين ، أعني عطف الإناث على الذكور وعطف الزوجين على الزوجين ؟ قلت : العطف الأوّل نحو قوله تعالى : ) ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ( ( التحريم : 5 ) في أنهما جنسان مختلفان ، إذا اشتركا في حكم لم يكن بدّ من توسيط العاطف بينهما . وأما

" صفحة رقم 548 "
العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع ، فكأن معناه : إنّ الجامعين والجامعات لهذه الطاعات ) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ( .
) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (
( 890
الأحزاب : ( 36 ) وما كان لمؤمن . . . . .
خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة ، فأبت وأبى أخوها عبد الله ، فنزلت ، فقال : رضينا يا رسول الله ، فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهماً وخماراً وملحفة ودرعاً وإزاراً وخمسين مدّاً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر . وقيل :
( 891 ) هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أوّل من هاجر من النساء ، وهبت نفسها للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( قد قبلت ) ، وزوّجها زيداً . فسخطت هي وأخوتها وقالا : إنما أردنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فزوّجنا عبده ، والمعنى وما صحّ لرجل ولا امرأة من المؤمنين ) إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( أي رسول الله أو لأن قضاء رسول الله هو قضاء الله ) أمْراً ( من الأمور : أن يختاروا من أمرهم ما شاؤوا ، بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه ، واختيارهم تلواً لاختياره . فإن قلت : كان من حق الضمير أن يوحد كما تقول : ما جاءني من رجل ولا امرأة إلاّ كان من شأنه كذا ، قلت : نعم ولكنهما وقعا تحت النفي ، فعما كل مؤمن ومؤمنة ، فرجع الضمير على المعنى لا على اللفظ . وقرىء : ( يكون ) بالتاء والياء . ) الْخِيَرَةُ ( ما يتخير .
) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (
الأحزاب : ( 37 ) وإذ تقول للذي . . . . .
) لِلَّذِى أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ( بالإسلام الذي هو أجلّ النعم . وبتوفيقك لعتقه ومحبته

" صفحة رقم 549 "
واختصاصه ) وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ( بما وفقك الله فيه ، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو زيد بن حارثة ) أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ( يعني زينب بنت جحش رضي الله عنها :
( 892 ) وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبصرها بعدما أنكحها إياه ، فوقعت في نفسه ، فقال : سبحان الله مقلب القلوب ، وذلك أنّ نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها ، ولو أرادتها لاختطبها ، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ، ففطن وألقى الله في نفسة كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إني أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : ( مالك : أرابك منها شيء ؟ ) قال : لا والله ؛ ما رأيت منها إلاّ خيراً ، ولكنها تتعظم عليّ لشرفها وتؤذيني ، فقال له : ( امسك عليك زوجك واتق الله ) ، ثم طلقها بعد ، فلما اعتدّت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك ، اخطب عليّ زينب . قال زيد : فانطلقت فإذا هي تخمر عجينتها ، فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها ، حين علمت أنْ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرها ، فوليتها ظهري وقلت : يا زينب ، أبشري إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخطبك ، ففرحت وقالت : ما أنا بصانعه شيئاً حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ) زَوَّجْنَاكَهَا ( فتزوجها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ودخل بها ، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها : ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتدّ النهار . فإن قلت : ما أراد بقوله : ) وَاتَّقِ اللَّهَ ( ؟ قلت : أراد : واتق الله فلا تطلقها ، وقصد نهي تنزيه لا تحريم ، لأن الأولى أن لا يطلق . وقيل : أراد : واتق الله فلا تذمّها بالنسبة إلى الكبر وأذّى الزوج . فإن قلت : ما الذي أخفى في نفسه ؟ قلت : تعلق قلبه بها . وقيل : مودة مفارقة زيد إياها . وقيل : علمه بأن زيداً سيطلقها وسينكحها ، لأن الله قد أعلمه بذلك . وعن عائشة رضي الله عنها :
( 893 ) لو كتم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً مما أوحى إليه لكتم هذه الآية . فإن قلت

" صفحة رقم 550 "
: فماذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد : أريد مفارقتها ، وكان من الهجنة أن يقول له : افعل ، فإني أريد نكاحها ؟ قلت : كأن الذي أراد منه عزّ وجلّ أن يصمت عند ذلك ، أو يقول له : أنت أعلم بشأنك ، حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته ؛ لأن الله يريد من الأنبياء تساوي الظاهر والباطن ، والتصلب في الأمور ، والتجاوب في الأحوال والاستمرار على طريقة مستتبة .
( 894 ) كما جاء في حديث إرادة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قتل عبد الله بن أبي سرح واعتراض عثمان بشفاعته له : أن عمر قال له : لقد كان عيني إلى عينك ، هل تشير إليّ فأقتله ، فقال : إن الأنبياء لا تومض ظاهرهم وباطنهم واحد . فإن قلت : كيف عاتبه الله في ستر ما استهجن التصريح به ، ولا يستهجن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) التصريح بشيء إلاّ الشيء في نفسه مستهجن ، وقالة الناس لا تتعلق إلاّ بما يستقبح في العقول والعادات ؟ وما له لم

" صفحة رقم 551 "
يعاتبه في نفس الأمر ولم يأمره بقمع الشهوة وكف النفس عن أن تنازع إلى زينب وتتبعها ؟ ولم يعصم نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن تعلق الهجنة به وما يعرضه للقالة ؟ قلت : كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحي من اطلاع الناس عليه ، وهو في نفسه مباح متسع ، وحلال مطلق ، لا مقال فيه ولا عيب عند الله ، وربما كان الدخول في ذلك المباح سلماً إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين ويجلّ ثوابها ، ولو لم يتحفظ منه لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم إلاّ من أوتي فضلاً وعلماً وديناً ونظراً في حقائق الأمور ولبوبها دون قشورها . ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يرتمون مستأنسين بالحديث ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يؤذيه قعودهم ويضيق صدره حديثهم ، والحياء يصده أن يأمرهم بالانتشار ، حتى نزلت ) إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الْحَقّ ( ( الأحزاب : 53 ) ولو أبرز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكنون ضميره وأمرهم أن ينتشروا ، لشقّ عليهم ، ولكان بعض المقالة ، فهذا من ذاك القبيل ، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة أو غيرها غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع ، لأنه ليس بفعل الإنسان ولا وجوده باختياره ، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضاً ، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ، ولا طلب إليه وهو أقرب منه من زرّ قميصه أن يواسيه بمفارقتها ، مع قوة العلم بأن نفس زيد لم تكن من التعلق بها في شيء ، بل كانت تجفوا عنها ، ونفس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متعلقة بها ، ولم يكن مستنكراً عندهم أن ينزل الرجل عن امرأته لصديقه ، ولا مستهجناً إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر ، فإنّ المهاجرين حين دخلوا المدينة استهم الأنصار بكل شيء ، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر ، وإذا كان الأمر مباحاً من جميع جهاته ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ولا مفسدة ولا مضرّة بزيد ولا بأحد ، بل كان مستجراً مصالح ، ناهيك بواحدة منها أن بنت عمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أُماً من أمّهات المسلمين ، إلى ما ذكر الله عزّ وجلّ من المصلحة العامّة في قوله : ) لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً ( فبالحري أن يعاتب الله ورسوله حين كتمه وبالغ في كتمه بقوله : ) أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ( وأن لا يرضى له إلا اتحاد الضمير والظاهر ، والثبات في مواطن الحق ، حتى يقتدي به المؤمنون ، فلا يستحيوا من المكافحة بالحق وإن كان مراً . فإن قلت : الواو في ) وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ ( ، ) وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ ( ما هي ؟ قلت : واو الحال ، أي : تقول لزيد : أمسك عليك زوجك مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها ، وتخفى خاشياً قالة الناس وتخشى الناس ، حقيقاً في ذلك بأن تخشى الله ، أو واو العطف ، كأنه

" صفحة رقم 552 "
قيل : وإذ تجمع بين قولك : أمسك ، وإخفاء خلافه ، وخشية الناس . والله أحقّ أن تخشاه ، حتى لا تفعل مثل ذلك . إذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همة قيل : قضى منه وطره . والمعنى : فلما لم يبق لزيد فيها حاجة ، وتقاصرت عنها همته ، وطابت عنها نفسه ، وطلقها ، وانقضت عدّتها ) زَوَّجْنَاكَهَا ( وقراءة أهل البيت : زوّجتكها . وقيل لجعفر بن محمد رضي الله عنهما : أليس تقرأ عليّ غير ذلك ، فقال : لا والذي لا إلاه إلاّ هو ، ما قرأتها على أبي إلاّ كذلك ، ولا قرأها الحسن بن عليّ على أبيه إلاّ كذلك ، ولا قرأها علي بن أبي طالب على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ كذلك ) وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ( جملة اعتراضية ، يعني : وكان أمر الله الذي يريد أن يكونه ، مفعولاً مكوناً لا محالة ، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زينب ، ومن نفي الحرج عن المؤمنين في إجراء ، أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهم بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن ، ويجوز أن يراد بأمر الله : المكون ، لأنه مفعول بكن ، وهو أمر الله .
) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (
الأحزاب : ( 38 - 39 ) ما كان على . . . . .
) فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ( قسم له وأوجب ، من قولهم : فرض لفلان في الديوان كذا . ومنه فروض العسكر لرزقاتهم ) سُنَّةَ اللَّهِ ( اسم موضوع موضع المصدر كقولهم : تربا ، وجندلا : مؤكد لقوله تعالى : ) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىّ مِنْ حَرَجٍ ( كأنه قيل : سنّ الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين ، وهو أن لا يحرج عليهم في الاقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره ، وقد كانت تحتهم المهائر والسراري ، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلثمائة سرية ، ولسليمان عليه السلام ثلثمائة وسبعمائة ) فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ ( في الأنبياء الذين مضوا ) الَّذِينَ يُبَلّغُونَ ( يحتمل وجوه الاعراب : الجرّ ، على الوصف للأنبياء ، والرفع والنصب ، على المدح على هم الذين يبلغون . أو على : أعني الذين يبلغون . وقرىء : ( رسالة الله ) . قدراً مقدوراً : قضاء مقضياً ، وحكماً مبتوتاً ، ووصف الأنبياء بأنهم لا يخشون إلاّ الله : تعريض بعد التصريح في قوله تعالى ) وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ( ( الأحزاب : 37 ) . ) حَسِيباً ( كافياً للمخاوف ، أو محاسباً على الصغيرة والكبيرة ، فيجب أن يكون حق الخشية من مثله .
) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً ( 7 )
الأحزاب : ( 40 ) ما كان محمد . . . . .

" صفحة رقم 553 "
) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ ( أي لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة ، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح ) وَلَاكِنِ ( كان ) رَسُولِ اللَّهِ ( وكل رسول أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم . ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه ، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء ، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة ، فكان حكمه حكمكم ، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير ) و ( كان ) وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ ( يعني أنه لو كان له ولد بالغ مبلغ الرجال لكان نبياً ولم يكن هو خاتم الأنبياء ، كما يروى :
( 895 ) أنه قال في إبراهيم حين توفي : ( لو عاش لكان نبياً ) . فإن قلت : أما كان أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم ؟ قلت : قد أخرجوا من حكم النفي بقوله : ) مّن رّجَالِكُمْ ( من وجهين ، أحدهما : أنّ هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال . والثاني : أنه قد أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم . فإن قلت : أما كان أبا للحسن والحسين ؟ قلت : بلى ، ولكنهما لم يكونا رجلين حينئذ ، وهما أيضاً من رجاله لا من رجالهم ، وشيء آخر : وهو أنه إنما قصد ولده خاصة ، لا ولد ولده ؛ لقوله تعالى : ) وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ ( ألا ترى أن الحسن والحسين قد عاشا إلى أن نيّف أحدهما على الأربعين والآخر على الخمسين . قرىء : ( لكن رسول الله ) بالنصب ، عطفاً على ) أَبَا أَحَدٍ ( بالرفع على : ولكن هو رسول الله ، ولكنّ ، بالتشديد على حذف الخبر ، تقديره : ولكنّ رسول الله من عرفتموه ، أي : لم يعش له ولد ذكر . وخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع ، وبكسرها بمعنى الطابع وفاعل الختم . وتقويه قراءة ابن مسعود : ولكنّ نبياً ختم النبيين . فإن قلت : كيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان ؟ قلت : معنى كونه آخر الأنبياء أنه لا ينبأ

" صفحة رقم 554 "
أحد بعده ، وعيسى ممن نبىء قبله ، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعة محمد ، مصلياً إلى قبلته ، كأنه بعض أمته .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (
الأحزاب : ( 41 - 42 ) يا أيها الذين . . . . .
) اذْكُرُواْ اللَّهَ ( أثنوا عليه بضروب الثناء من التقديس والتحميد والتهليل والتكبير وما هو أهله ، وأكثروا ذلك ) بُكْرَةً وَأَصِيلاً ( أي في كافة الأوقات قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 896 ) ( اذكروا الله على فم كل مسلم ) . وروي : ( في قلب كل مسلم ) . وعن قتادة : قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إلاه إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ، وعن مجاهد : هذه كلمات يقولها الطاهر والجنب . والفعلان ، أعني اذكروا وسبحوا موجهان إلى البكرة والأصيل ، كقولك : صم وصلّ يوم الجمعة ، والتسبيح من جملة الذكر ، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة ، ليبين فضله عى سائر الأذكار ، لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال ، وتبرئته من القبائح . ومثال فضله على غيره من الأذكار فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي ، والطهر من أرجاس المآثم ، على سائر أوصافه من كثرة الصلاة والصيام ، والتوقر على الطاعات كلها ، والاشتمال على العلوم ، والاشتهار بالفضائل ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره : تكثير الطاعات ، والإقبال على العبادات ؛ فإن كل طاعة وكل خير من جملة الذكر ، ثم خصّ من ذلك التسبيح بكرة وأصيلاً وهي الصلاة في جميع أوقاتها لفضل الصلاة على غيرها . أو صلاة الفجر والعشاءين ؛ لأنّ أداءها أشقّ ومراعاتها أشدّ .
) هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ( 7 )
الأحزاب : ( 43 ) هو الذي يصلي . . . . .

" صفحة رقم 555 "
لما كان من شأن المصلي أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره حنوّاً عليه ترؤفاً . كعائد المريض في انعطافه عليه ، والمرأة في حنوّها على ولدها ، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤف ومنه قولهم : صلّى الله عليك ، أي ترحم عليك وترأف . فإن قلت : قوله : ) هُوَ الَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ ( إن فسرته بيترحم عليكم ويترأف ، فما تصنع بقوله : ) وَمَلَئِكَتُهُ ( وما معنى صلاتهم ؟ قلت : هي قولهم : اللَّهم صلّ على المؤمنين ، جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة . ونظيره قوله : حياك الله ، أي حياك وأبقاك ، وحييتك ، أي : دعوت لك بأن يحييك الله ؛ لأنك لا تكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة ، وكذلك : عمرك الله ، وعمرتك ، وسقاك الله ، وسقيتك ، وعليه قوله تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ( ( الأحزاب : 56 ) أي ادعوا الله بأن يصلّي عليه . والمعنى : هو الذي يترحم عليكم ويترأف : حيث يدعوكم إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة ) لِيُخْرِجَكُمْ ( من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة ) وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ( دليل على أنّ المراد بالصلاة الرحمة . ويروى أنه لما نزل قوله تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ( ( الأحزاب : 56 ) قال أبو بكر رضي الله عنه : ما خصك يا رسول اللهبشرف إلاّ وقد أشركنا فيه ، فأنزلت ) تَحِيَّتُهُمْ ( من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : يحيون يوم لقائه بسلام . فيجوز أن يعظمهم الله بسلامه عليهم ، كما يفعل بهم سائر أنواع التعظيم ، وأن يكون مثلاً كاللقاء على ما فسرنا . وقيل : هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم وبشارتهم بالجنة . وقيل : سلام الملائكة عند الخروج من القبور . وقيل : عند دخول الجنة ، كما قال : ) وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( ( الرعد : 23 24 ) والأجر الكريم : الجنة .
) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ( 7 )
الأحزاب : ( 45 - 46 ) يا أيها النبي . . . . .

" صفحة رقم 556 "
) شَاهِداً ( على من بعثت إليهم ، وعلى تكذيبهم وتصديقهم ، أي : مقبولاً قولك عند الله لهم وعليهم ، كمل يقبل قول الشاهد العدل في الحكم . فإن قلت : وكيف كان شاهداً وقت الإرسال ، وإنما يكون شاهداً عند تحمل الشهادة أو عند أدائها ؟ قلت : هي مقدراً به الصيد غداً . فإن قلت : قد فهم من قوله : إنا أرسلناك داعياً : أنه مأذون له في الدعاء ، فما فائدة قوله : ) بِإِذْنِهِ ( ؟ قلت : لم يرد به حقيقة الإذن . وإنما جعل الإذن مستعاراً للتسهيل والتيسير ؛ لأن الدخول في حقّ المالك متعذر ، فإذا صودف الإذن تسهل وتيسر ، فلما كان الإذن تسهيلاً لما تعذر من ذلك ، وضع موضعه ، وذلك أن دعاء أهل الشرك والجاهلية إلى التوحيد والشرائع أمر في غاية الصعوبة والتعذر ، فقيل : بإذنه للإيذان بأن الأمر صعب لا يتأتى ولا يستطاع إلاّ إذا سهله الله ويسّره ، ومنه قولهم في الشحيح : أنه غير مأذون له في الإنفاق ، أي : غير مسهل له الإنفاق لكونه شاقاً عليه داخلاً في حكم التعذر . جلى به ظلمات الشرك واهتدى به الضالون ، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدي به . أو أمدّ الله بنور نبوّته نور البصائر ، كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار ، وصفة بالإناءة لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطة ودقت فتيلته . وفي كلام بعضهم : ثلاثة تضني : رسول بطيء ، وسراج لا يضيء ، ومائدة ينتظر لها من يجيء . وسئل بعضهم عن الموحشين ؟ فقال : ظلام ساتر ، وسراج فاتر . وقيل : وذا سراج منير . أو وتاليا سراجاً منيراً . ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف ) أَرْسَلْنَاكَ ( .
) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً (
الأحزاب : ( 47 ) وبشر المؤمنين بأن . . . . .
الفضل : ما يتفضل به عليهم زيادة على الثواب ، وإذا ذكر المتفضل به وكبره فما ظنك بالثواب . ويجوز أن يريد بالفضل : الثواب ، من قولهم للعطايا : فضول وفواضل ، وأن يريد أنّ لهم فضلاً كبيراً على سائر الأمم ، وذلك الفضل من جهة الله ، وأنه آتاهم ما فضلوهم به .
) وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (
الأحزاب : ( 48 ) ولا تطع الكافرين . . . . .
) وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ( معناه : الدوام والثبات على ما كان عليه . أو التهييج ) أَذَاهُمْ ( يحتمل إضافته إلى الفاعل والمفعول ، يعني : ودع أن تؤذيهم بضرر أو قتل ، وخذ بظاهرهم ، وحسابهم على الله في باطنهم . أو : ودع ما يؤذونك به ولا تجازهم عليه حتى تؤمر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي منسوخة بآية السيف ) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ( فإنه يكفيكهم ، وكفى به مفوّضاً إليه ، ولقائل أن يقول : وصفه الله بخمسة أوصاف ، وقابل كلاً منها بخطاب مناسب له ، قابل الشاهد بقوله : وبشر المؤمنين ، لأنه يكون شاهداً

" صفحة رقم 557 "
على أمّته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم ، وهو الفضل الكبير والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين ، لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين ، وهو مناسب للبشارة والنذير بدع أذاهم ، لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر والأذى لا بدّ له من عقاب عاجل أو آجل كانوا منذرين به في المستقبل ، والداعي إلى الله بتيسيره بقوله : ) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ( لأنّ من توكل على الله يسرّ عليه كل عسير ، والسراج المنير بالاكتفاء به وكيلاً ، لأنّ من أناره الله برهاناً على جميع خلقه ، كان جديراً بأن يكتفي به عن جميع خلقه .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (
الأحزاب : ( 49 ) يا أيها الذين . . . . .
النكاح : الوطء ، وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له ، من حيث أنه طريق إليه . ونظيره تسميتهم الخمر إثماً : لأنها سبب في اقتراف الإثم ، ونحو في علم البيان قول الراجز : أَسْنِمَةُ الآبَالِ في سَحَابِهْ ;
سمى الماء بأسنمة الآبال ؛ لأنه سبب سمن المال وارتفاع أسنمته ، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلاّ في معنى العقد ؛ لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به . ومن آداب القرآن : الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان . فإن قلت : لم خصّ المؤمنات والحكم الذي نطقت به الآية تستوي فيه المؤمنات والكتابيات ؟ قلت : في اختصامهنّ تنبيه على أن أصل أمر المؤمن والأولى به . أن يتخير لنطقته ، وأن لا ينكح إلاّ مؤمنة عفيفة ، ويتنزه عن مزاوجة الفواسق فما بال الكوافر ، ويستنكف أن يدخل تحت لحاف واحدة عدوّة الله ووليه ، فالتي في سورة المائدة : تعليم ما هو جائز غير محرّم ، من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب . وهذه فيها تعليم ما هو الأولى بالمؤمنين من نكاح المؤمنات . فإن قلت : ما فائدة ثم في قوله : ) ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ( قلت : فائداته نفي التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم : بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح ، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح ويتراخى بها المدة في حباله الزواج ثم يطلقها : فإن قلت : إذا خلا بها خلوة يمكنه معها المساس ، هل يقوم ذلك مقام المساس ؟ قلت : نعم . عند إبي حنيفة وأصحابه حكم الخلوة الصحيحة حكم المساس ، وقوله : ) فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ

" صفحة رقم 558 "
َ مِنْ عِدَّةٍ ( دليل على أن العدة حق واجب على النساء للرجال ) تَعْتَدُّونَهَا ( تستوفون عددها ، من قولك : عددت الدراهم فاعتدها ، كقولك : كلته فاكتاله ، ووزنته فاتزنه . وقرىء : ( تعتدونها ) مخففاً ؛ أي : تعتدون فيها ، كقوله :
وَيَوْمٌ شَهِدْنَاهُ
والمراد بالاعتداد ما في قوله تعالى : ) وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ ( ( البقرة : 231 ) . فإن قلت : ما هذا التمتيع أواجب أو مندوب إليه ؟ قلت : إن كانت غير مفروض كانت المتعة واجبة ، ولا تجب المتعة عند أبي حنيفة إلاّ لها وحدها دون سائر المطلقات ، وإن كان مفروضاً لها ؛ فالمتعة مختلف فيها : فبعض على الندب والاستحباب ، ومنهم أبو حنيفة . وبعض على الوجوب ) سَرَاحاً جَمِيلاً ( من غير ضرار ولا منع واجب .
) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِىءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللاَّتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (
الأحزاب : ( 50 ) يا أيها النبي . . . . .
) أُجُورَهُنَّ ( مهورهنّ : لأنّ المهر أجر على البضع . وإيتاؤها : إما إعطاؤها عاجلاً . وإما فرضها وتسميتها في العقد . فإن قلت : لم قال : ) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا ( و ) مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ ( و ) اللاَّتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ ( وما فائدة هذه التخصيصات ؟ قلت : قد اختار الله لرسوله الأفضل الأولى ، واستحبه بالأطيب الأزكى ، كما اختصه بغيرها من الخصائص ، وآثره بما سواها من الأثر ، وذلك أن تسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية ، وإن وقع العقد جائزاً ؛ وله أن يماسها وعليه مهر المثل إن دخل بها ، والمتعة إن لم يدخل بها . وسوق المهر إليها عاجلاً أفضل من أن يسميه ويؤجله ، وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم ، وما لا يعرف بينهم غيره . وكذلك الجارية إذا كانت سبية مالكها ، وخطبة سيفه ورمحه ، ومما غنمه الله من دار الحرب أحلّ وأطيب مما يشتري من شقّ الجلب . والسبي على ضربين : سبي طيبة ، وسبي خبيثة : فسبي الطيبة : ما سبي من أهل الحرب . وأما من كان له عهد فالمسبي منهم سبي خبيثة ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ) مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ ( لأن فيء الله لا يطلق إلاّ على الطيب دون الخبيث ، كما أنّ رزق الله

" صفحة رقم 559 "
يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام ، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من قرائبه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه .
( 897 ) وعن أم هانيء ، بنت أبي طالب : خطبني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم أنزل الله هذه الآية ، فلم أحلّ له ؛ لأني لم أهاجر معه ، كنت من الطلقاء . وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها ولا تطلب مهراً من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك ، ولذلك نكرها . واختلف في اتفاق ذلك ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما : لم يكن عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحد منهنّ بالهبة . وقيل : الموهوبات أربع : ميمونة بنت الحرث ، وزينب بنت خزيمة أمّ المساكين الأنصارية ، وأمّ شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم رضي الله عنهنّ . قرىء : ) إِن وَهَبَتْ ( على الشرط . وقرأ الحسن رضي الله عنه : ) ءانٍ ( بالفتح ، على التعليل بتقدير حذف اللام . ويجوز أن يكون مصدراً محذوفاً معه الزمان ، كقولك : اجلس ما دام زيد جالساً ، بمعنى دوامه جالساً ، ووقت هبتها نفسها . وقرأ ابن مسعود بغير أن . فإن قلت : ما معنى الشرط الثاني مع الأوّل ؟ قلت : هو تقييد له شرط في الإحلال هبتها نفسها ، وفي الهبة : إرادة استنكاح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها ؛ لأنّ إرادته هي قبول الهبة وما به تتمّ . فإن قلت : لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى : ) نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ ( ثم رجع إلى الخطاب ؟ قلت : للإيذان بأنه مما خصّ به وأوثر ، ومجيئه على لفظ النبي للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة ، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوّته ، واستنكاحها : طلب نكاحها والرغبة فيه ، وقد استشهد به أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة ؛ لأنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأمّته سواء في الأحكام إلاّ فيما خصّه الدليل ، وقال الشافعي : لا يصحّ ، وقد خصّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمعنى الهبة ولفظها جميعاً ؛ لأنّ اللفظ تابع للمعنى ، والمدعي للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل . وقال أَبو الحسن الكرخي : إن عقدالنكاح بلفظ الإجارة جائز ، لقوله تعالى : ) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا ( وقال أبو بكر الرازي : لا يصحّ : لأنّ الإجارة عقد مؤقت ، وعقد النكاح مؤبد ، فهما متنافيان ) خَالِصَةٌ ( مصدر مؤكد ، كوعد الله ، وصبغة الله ، أي : خلص لك

" صفحة رقم 560 "
إحلال ما أحللنا لك خالصة ، بمعنى خلوصاً ، والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين ، كالخارج والقاعد ، والعافية والكاذبة . والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التوكيد لها قوله : ) قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْواجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( بعد قوله : ) مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( وهي جملة اعتراضية ، وقوله : ) لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ( متصل بخالصة لك من دون المؤمنين ، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية أنّ الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء ، وعلى أي حدّ وصفه يجب أن يفرض عليهم ففرضه ، وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما اختصّه به ففعل ؛ ومعنى : ) لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ( لئلا يكون عليك ضيق في دينك : حيث اختصصناك بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل ، وفي دنياك : حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات وزدنا لك الواهبة نفسها . وقرىء : ( خالصة ) بالرفع ، أي : ذاك خلوص لك وخصوص من دون المؤمنين ومن جعل خالصة نعتاً للمرأة ، فعلى مذهبه : هذه المرأة خالصة لك من دونهم ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً ( للواقع في الحرج إذا تاب ) رَّحِيماً ( بالتوسعة على عباده . ) تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (
الأحزاب : ( 51 ) ترجي من تشاء . . . . .
( 898 ) روي أن أمهات المؤمنين حين تغايرن وابتغين زيادة النفقة وغظن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، هجرهنّ شهراً ، ونزل التخيير ، فأشفقن أنّ يطلقهنّ ، فقلن : يا رسول الله ، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت . وروي :
( 899 ) أن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إني أرى ربك يسارع في هواك . ) تُرْجِى ( بهمز وغير همز : تؤخر ) وَتُؤْوِى ( تضمّ ، يعني : تترك مضاجعة من تشاء منهن . وتضاجع من تشاء . أو تطلق من تشاء ، وتمسك من تشاء . أو تقسم لأيتهنّ شئت ،

" صفحة رقم 561 "
وتقسم لمن شئت . أو تترك تزوّج من شئت من نساء أمّتك ، وتتزوج من شئت . وعن الحسن رضي الله عنه : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها ، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض ؛ لأنه إما أن يطلق ، وإما أن يمسك ؛ فإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم . وإذا طلق وعزل ، فإما أنّ تخلي المعزولة لا يبتغيها ، أو يبتغيها . روي : أنه أرجى منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة ، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء ، وكانت ممن آوى إليه : عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضي الله عنهنّ أرجى خمسة وآوى أربعة . وروي :
( 900 ) أنه كان يسوّي مع ما أطلق له وخير فيه إلاّ سودة ، فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك ) ذَلِكَ ( التفويض إلى مشيئتك ) أَدْنَى ( إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعاً ؛ لأنه إذا سوّى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء . وارتفع التفاضل ، ولم يكن لإحداهنّ مما تريد ومما لا تريد إلاّ مثل ما للأخرى . وعلمن أنّ هذا التفويض من عند الله بوحيه اطمأنت نفوسهن وذهب التنافس والتغاير ، وحصل الرضا وقرّت العيون ، وسلت القلوب ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ ( فيه وعيدٌ لمن لم ترضى منهنّ بما دبر الله من ذلك ، وفوّض إلى مشيئة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبعثٌ على تواطؤ قلوبهنّ والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما فيه طيب نفسه . وقرىء : ( تقرّ أعينهنّ ) ، بضم التاء ونصب الأعين . وتقرّ

" صفحة رقم 562 "
أعينهنّ ، على البناء للمفعول ) وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً ( بذات الصدور ) حَلِيماً ( لا يعاجل بالعقاب ، فهو حقيق بأن يتقى ويحذر ، ) كُلُّهُنَّ ( تأكيد لنون يرضين ، وقرأ ابن مسعود : ( ويرضين كلهنّ ، بما آتيتهنّ ) ، على التقديم . وقرأ : ( كلهنّ ) ، تأكيد ل ( هنّ ) في ) ءاتَيْتَهُنَّ ( .
) لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ رَّقِيباً (
الأحزاب : ( 52 ) لا يحل لك . . . . .
) لاَّ يَحِلُّ ( وقرىء التذكير ، لأنّ تأنيث الجمع غير حقيقي ، وإذا جاز بغير فصل في قوله تعالى : ) وَقَالَ نِسْوَةٌ ( ( يوسف : 30 ) كان مع الفضل أجوز ) مِن بَعْدِ ( من بعد التسع ، لأنّ التسع نصاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الأزواج ، كما أن الأربع نصاب أمّته منهنّ ، فلا يحل له أن يتجاوز النصاب ) وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ ( ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً أخر بكلهنّ أو بعضهنّ ، أراد التسع لهنّ كرامة وجزاء على ما اخترن ورضين . فقصر النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) عليهنّ ، وهي التسع اللاتي مات عنهنّ : عائشة بنت أبي بكر ، حفصة بنت عمر ، أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، سودة بنت زمعة ، أمّ سلمة بنت أبي أمية ، صفية بنت حيي الخيبرية ، ميمونة بنت الحرث الهلالية ، زينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحرث المصطلقية ، رضي الله عنهنّ . من في ) مِنْ أَزْوَاجٍ ( لتأكيد النفي ، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم . وقيل معناه : لا تحلّ لك النساء من بعد النساء اللاتي نصّ إحلالهنّ لك من الأجناس الأربعة من الأعرابيات والغرائب ، أو من الكتابيات ، أو من الإماء بالنكاح ، وقيل في تحريم التبدل : هو من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل : بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي ، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه . ويحكى :
( 901 ) أنّ عيينة بن حصن دخل على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده عائشة من غير استئذان ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا عيينة ، أين الاستئذان ) ؟ قال : يا رسول الله ، ما استأذنت على رجل قط ممن مضى مند أدركت ، ثم قال : من هذه الجميلة إلى جنبك ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( هذه

" صفحة رقم 563 "
عائشة أمّ المؤمنين ) . قال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنّ الله قد حرّم ذلك ) ، فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها : من هذا يا رسول الله ؟ قال : ( أحمق مطاع ، وإنه على ما ترين لسيد قومه ) . وعن عائشة رضي الله عنها :
( 902 ) ما مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أحلّ له النساء ، يعني : أنّ الآية قد نسخت . ولا يخلو نسخها إما أن يكون بالسنة ، وإما بقوله تعالى : ) إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْواجَكَ ( وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف ) وَلَوْ أَعْجَبَكَ ( في موضع الحال من الفاعل ، وهو الضمير في ) تُبَدَّلُ ( لا من المفعول الذي هو ) مِنْ أَزْوَاجٍ ( لأنه موغل في التنكير ، وتقديره : مفروضاً إعجابك بهنّ . وقيل ؛ هي أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب ، والمراد أنها ممن أعجبه حسنهنّ ، واستثنى ممن حرم عليه : الإماء ) رَقِيباً ( حافظاً مهيمناً ، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده ونخطى حلاله إلى حرامه .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىِّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْألُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً (
الأحزاب : ( 53 ) يا أيها الذين . . . . .
) أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ( في معنى الظرف تقديره وقت أن يؤذن لكم . و ) غَيْرَ نَاظِرِينَ ( حال من ) لاَ تَدْخُلُواْ ( وقع الاستثناء على الوقت والحال معاً . كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا وقت الإذن ، ولا تدخلوها إلاّ غير ناظرين ، وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله ، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه . ومعناه : لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام ، إلاّ أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إياه ، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصاً ، لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ أن يؤذن له إذناً خاصاً ، وهو الإذن إلى الطعام فحسب . وعن ابن أبي عبلة أنه قرأ : غير ناظرين ، مجروراً صفةٌ لطعام ، وليس بالوجه ، لأنه جرى على غير ما هو له ، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ ، فيقال : غير ناظرين إناه أنتم ، كقولك : هند زيد ضاربته هي ، وإني الطعام : إدراكه .

" صفحة رقم 564 "
يقال : أني الطعام إنىً ، كقولك : قلاة قلىً . ومنه قوله : ) بَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ ( ( الرحمن : 44 ) بالغ إناة . وقيل : ( إناه ) : وقته ، أي : غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله . وروي :
( 903 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أولم على زينب بتمر وسويق وشاة ، وأمر أنساً أن يدعو بالناس ، فترادفوا أفواجاً يأكل فوج فيخرج ، ثم يدخل فوج إلى أن قال : يا رسول الله ، دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه ، فقال : ارفعوا طعامكم وتفرق الناس ، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا ؛ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليخرجوا ، فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : السلام عليكم أهل البيت فقالوا : عليك السلام يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك ؟ وطاف في الحجرات فسلم عليهنّ ودعون له ؛ ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شديد الحياء ، فتولى ، فلما رأوه متولياً خرجوا ، فرجع ونزلت : ) وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ( نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه به . أو عن أن يستأنسوا حديث أهل البيت ، واستئناسه : تسمعه وتوجهه ، وهو مجرور معطوف على ناظرين . وقيل : هو منصوب على : ولا تدخلوها مستأنسين . لا بدّ في قوله : ) فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ ( من تقدير المضاف ، أي : من إخراجكم ، بدليل قوله : ) وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الْحَقّ ( يعني أن إخراجكم حتى ما ينبغي أن يستحيا منه ، ولما كان الحياء مما يمنع الحي من بعض الأفعال ، قيل : ) لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىّ ( بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحي منكم ، وهذا أدبٌ أدّب الله به الثقلاء . وعن ابن أبي عن عائشة رضي الله عنها : حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال : فإذا طعمتم فانتشروا . وقرىء : ( لا يستحي ) بياء واحدة . الضمير في ) سَأَلْتُمُوهُنَّ ( لنساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولم يذكرن لأنّ الحال ناطقة بذكرهن ) مَّتَاعًا ( حاجة ) فَاسْئَلُوهُنَّ ( المتاع . قيل :
( 904 ) إن عمر رضي الله عنه كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة ،

" صفحة رقم 565 "
وكان يذكره كثيراً ، ويزد أن ينزل فيه ، وكان يقول : لو أُطاع فيكن ما رأتكن عين ، وقال : يا رسول الله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فنزلت . وروي أنه مر عليهن وهن مع النساء في المسجد ، فقال : لئن احتجبتن ، فإن لكن على النساء فضلاً ، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل ، فقالت زينب رضي الله عنها : يا ابن الخطاب ، إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى نزلت . وقيل :
( 906 ) إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة ، فكره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك ، فنزلت آية الحجاب . وذكر أنّ بعضهم قال : أننهى أن نكلم بنات عمنا إلاّ من وراء حجاب ، لئن مات محمد لأتزوّجن عائشة . فأعلم الله أن ذلك محرم ) وَمَا كَانَ لَكُمْ ( وما صحّ لكن إيذاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا نكاح أزواجه من بعده ، وسمي نكاحهن بعده عظيماً عنده ، وهو من أعلام تعظيم الله لرسوله وإيجاب حرمته حياً وميتاً ، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه وسر قلبه واستعزر شكره . فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلي منه فكره . ومن الناس من تفرظ غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده . وعن بعض الفتيان أنه كانت له

" صفحة رقم 566 "
جارية لا يرى الدنيا بها شغفاً واستهتاراً ، فنظر إليها ذات يوم فتنفس الصعداء ، وانتحب فعلا نحيبه مما ذهب به فكره هذا المذهب ، فلم يزل به ذلك حتى قتلها ، تصوراً لما عسى يتفق من بقائها بعده وحصولها تحت يد غير . وعن بعض الفقهاء أن الزوج الثاني في هدم الثلاث مما يجري مجرى العقوبة ؛ فصين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عما يلاحظ ذلك .
) إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً (
الأحزاب : ( 54 ) إن تبدوا شيئا . . . . .
) إِن تُبْدُواْ شَيْئاً ( من نكاحهن على ألسنتكم ) أَوْ تُخْفُوهْ ( في صدوركم ) فَإِنَّ اللَّهَ ( يعلم ذلك فيعاقبكم به ، وإنما جاء به على أثر ذلك عاماً لكل باد وخاف ، ليدخل تحته نكاحهن وغيره ولأنه على هذه الطريقة أهول وأجزل .
) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِىءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً (
الأحزاب : ( 55 ) لا جناح عليهن . . . . .
روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : يا رسول الله ، أو نحن أيضاً نكلمهن من وراء الحجاب ، فنزلت ) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ ( أي لا إثم عليهم في أن لا يحتجبن من هؤلاء ولم يذكر العم والخال ، لأنهما يجريان مجرى الوالدين ، وقد جاءت تسمية العم أباً . قال الله تعالى : ) وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( ( البقرة : 133 ) وإسماعيل عمّ يعقوب . وقيل : كره ترك الاحتجاب عنهما لأنهما يصفانها لأبنائهما ، وأبناؤهما غير محارم ، ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب ، وفي هذا النقل ما يدلّ على فضل تشديد ، فقيل : ) وَاتَّقِينَ اللَّهَ ( فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحي من الاستتار ، واحططن فيه ، وفيما استثنى منه ما قدرتن ، واحفظن حدودهما واسلكن طريق التقوى في حفظهما ؛ وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأنتن غير محجبات ، ليفضل سركن علنكن ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْء ( من السرّ والعلن وظاهر الحجاب وباطنه ) شَهِيداً ( لا يتفاوت في علمه الأحوال .
) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (
الأحزاب : ( 56 ) إن الله وملائكته . . . . .
قرىء : ( وملائكته ) بالرفع ، عطفاً على محل إن واسمها ، وهو ظاهر على مذهب الكوفيين ، ووجهه عند البصريين ، أن يحذف الخبر لدلالة يصلون عليه ) صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ ( أي قولوا الصلاة على الرسول والسلام . ومعناه : الدعاء بأن يترحم عليه الله

" صفحة رقم 567 "
ويسلم . فإن قلت : الصلاة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واجبة أم مندوب إليها ؟ قلت : بل واجبة ، وقد اختلفوا في حال وجوبها . فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره . وفي الحديث :
( 907 ) ( مَنْ ذكرتُ عنده فلمّ يصلِّ عليَّ فدخلَ النار فأبعَده الله ) ، ويروى :
( 908 ) أنه قيل : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى : ) إِنَّ للَّهِ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ( فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكُم به ، إنّ اللَّهَ وكّل بي ملكين فلا أذكرُ عندَ مسلمٍ فيصلي عليّ إلاّ قال ذانكَ الملكان : غفرَ اللهُ لكَ ، وقال الله تعالى وملائكته جواباً لذينك الملكين : آمينَ ، ولا أذكرُ عند عبدٍ مسلمٍ فلاَ يصلي عليّ إلاّ قال ذانك الملكان : لا غفرَ اللَّهُ لكَ ، وقالَ اللَّهُ وملائكتهُ لذينك الملكين : آمين ) ، ومنهم من قال : تجب في كل مجلس مرة ، وإن تكرر ذكره ، كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس ، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره . ومنهم من أوجبها في العمر مرة ، وكذا قال في إظهار الشهادتين . والذي يقتضيه الاحتياط . الصلاة عليه عند كل ذكر ، لما ورد من الأخبار . فإن قلت : فالصلاة عليه في الصلاة ، أهي شرط في جوازها أم لا ؟ قلت : أبو حنيفة وأصحابه لا يرونها شرطاً ، وعن إبراهيم النخعي : كانوا يكتفون عن ذلك يعني الصحابة بالتشهد ، وهو السلام عليك أيها النبي ، وأما الشافعي رحمه الله فقد

" صفحة رقم 568 "
جعلها شرطاً . فإن قلت : فما تقول في الصلاة على غيره ؟ قلت : القياس جواز الصلاة على كل مؤمن ، لقوله تعالى : ) هُوَ الَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ ( ( الأحزاب : 43 ) وقوله تعالى : ) وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ( ( التوبة : 103 ) وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 909 ) ( اللَّهم صلّ على آل أبي أوفى ) ولكن للعلماء تفصيلاً في ذلك : وهو أنها إن كانت على سبيل التبع كقولك : صلى الله على النبيّ وآله ، فلا كلام فيها . وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو ، فمكروه ، لأن ذلك صار شعاراً لذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولأنه يؤدي إلى الاتهام بالرفض . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 910 ) ( من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم ) .
) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (
الأحزاب : ( 57 - 58 ) إن الذين يؤذون . . . . .
) يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( فيه وجهان ، أحدهما : أن يعبر بإيذائهما عن فعل ما يكرهانه ولا يرضيانه : من الكفر والمعاصي ، وإنكار النبوّة ، ومخالفة الشريعة ، وما كانوا يصيبون به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أنواع المكروه ، على سبيل المجاز . وإنما جعلته مجازاً فيهما جميعاً ، وحقيقة الإيذاء صحيحة في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لئلا أجعل العبارة الواحدة معطية معنى المجاز والحقيقة . والثاني : أن يراد يؤذون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقيل : في أذى الله : هو قول اليهود والنصارى والمشركين : يد الله مغلولة وثالث ثلاثة والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه . وقيل : قول الذين يلحدون في أسمائه وصفاته . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما حكى عن ربه :
( 911 ) ( شتمني ابنُ آدمَ ولم ينبغ لَهُ أنْ يشتمني ، وآذَانِي ولم ينبغِ لَهُ أنْ يؤذيني ، فأمّا شتمُهُ إياي فقولِه : إنِّي اتخذْتُ ولَداً . وأما أذاه فقولُه : إنّ الله لا يعيدني بعد أنْ بدأني ) وعن عكرمة : فعل أصحاب التصاوير الذين يرمون تكوين خلق مثل خلق الله ، وقيل : في أذى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قولهم : ساحر ، شاعر ، كاهن ، مجنون . وقيل : كسر

" صفحة رقم 569 "
رباعيته وشجّ وجهه يوم بدر . وقيل : طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حيي ، وأطلق إيذاء الله ورسوله ، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات ؛ لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلاّ غير حق أبداً . وأما أذى المؤمنين والمؤمنات ، فمنه ومنه . ومعنى ) بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ ( بغير جناية واستحقاق للأذى . وقيل : نزلت في ناس من المنافقين يؤذون علياً رضي الله عنه ويسمعونه . وقيل : في الذين أفكوا على عائشة رضي الله عنها . وقيل : في زناة كانوا يتبعون النساء وهنّ كارهات . وعن الفضيل : لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق ، فكيف ، وكان ابن عون لا يكري الحوانيت إلا من أهل الذمّة ، لما فيه من الروعة عند كرّ الحول .
) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاًّزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (
الأحزاب : ( 59 ) يا أيها النبي . . . . .
الجلباب : ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقى منه ما ترسله على صدرها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل . وقيل : الملحفة وكل ما يستتر به من كساء أو غيره . قال أبو زبيد : مُجَلْبَبٌ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ جِلْبَابَا ;
ومعنى ) يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ( يرخينها عليهنّ ، ويغطين بها وجوههنّ وأعطافهنّ . يقال : إذا زل الثوب عن وجه المرأة : أدنى ثوبك على وجهك ، وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجيراهنّ في الجاهلية متبذلات ، تبرز المرأة في درع وخمار فصل بين الحرّة والأمة ، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرّضون إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهنّ من النخيل والغيطان للإماء ، وربما تعرّضوا للحرّة بعلة الأمة ، يقولون : حسبناها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهنّ عن زي الأماء الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ، ليحتشمن ويهين فلا يطمع فيهن طامع ، وذلك قوله : ) ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ ( أي أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرّض لهن ولا يلقين ما يكرهن . فإن قلت : ما معنى ) مِن ( في ) مِن جَلَابِيبِهِنَّ ( ؟ قلت : هو للتبعيض . إلا : أن يكون معنى التبعيض

" صفحة رقم 570 "
محتمل وجهين ، أحدهما : أن يتجلببن ببعض ما لهنّ من الجلاليب ، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار ، كالأمة والماهنة ولها جلبابان فصاعداً في بيتها . والثاني : أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة . وعن ابن سيرين : سألت عبيدة السلماني عن ذلك فقال : أن تضع رداءها فوق الحاجب ثم تديره حتى تضعه على أنفها . وعن السديّ : تغطي إحدى عينيها وجبهتها ، والشقّ الآخر إلاّ العين ، وعن الكسائي : يتقنعن بملاحفهنّ منضمة عليهنّ ، أراد بالانضمام معنى الإدناء ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً ( لما سلف منهن من التفريط مع التوبة ؛ لأنّ هذا مما يمكن معرفته بالعقل .
) لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (
الأحزاب : ( 60 - 62 ) لئن لم ينته . . . . .
) الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه . وقيل : هم الزناة وأهل الفجور من قوله تعالى : ) فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ ( ( الأحزاب : 32 ) . ) وَالْمُرْجِفُونَ ( ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فيقولون : هزموا وقتلوا ، وجرى عليهم كيت وكيت ، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين . يقال : أرجف بكذا ، إذا أخبر به على غير حقيقة ، لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت ، من الرجفة وهي الزلزلة . والمعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدكم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء : لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم وتنوءهم ، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة ، وإلى أن لا يساكنوك فيها ) إِلا ( زمناً ) قَلِيلاً ( ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم ، فسمى ذلك إغراء ، وهو التحريش على سبيل المجاز ) مَّلْعُونِينَ ( نصب على الشتم أو الحال ، أي : لا يجاورونك إلاّ ملعونين ، دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معاً ، كما مرّ في قوله : ) إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ( ( الأحزاب : 53 ) ولا يصحّ أن ينتصب عن ) أُخِذُواْ ( لأنّ ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها . وقيل : في ) قَلِيلاً (

" صفحة رقم 571 "
وهو منصوب على الحال أيضاً . ومعناه : لا يجاورونك إلاّ أقلاء أذلاء ملعونين . فإن قلت : ما موقع لا يجاورونك ؟ قلت : لا يجاورونك عطف على لنغرينك ، لأنه يجوز أن يجاب به القسم . ألا ترى إلى صحة قولك : لئن لم ينتهوا لا يجاورونك . فإن قلت : أما كان من حق لا يجاورونك أن يعطف بالفاء ، وأن يقال لنغرينك بهم فلا يجاورونك ؟ قلت : لو جعل الثاني مسبباً عن الأوّل لكان الأمر كما قلت : ولكنه جعل جواباً آخر للقسم معطوفاً على الأوّل ، وإنما عطف بثم ، لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم وأعظم من جميع ما أصيبوا به ، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه ) سُنَّةَ اللَّهِ ( في موضع مؤكد ، أي : سنّ الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا وعن مقاتل : يعني كما قتل أهل بدر وأسروا .
) يَسْألُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (
الأحزاب : ( 63 ) يسألك الناس عن . . . . .
كان المشركون يسألون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن وقت قيام الساعة استعجالاً على سبيل الهزء ، واليهود يسألونه امتحاناً ؛ لأنّ الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به ، لم يطلع عليه ملكاً ولا نبياً ، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع ، تهديداً للمستعجلين ، وإسكاتاً للمتحنين ) قَرِيبًا ( شيئاً قريباً ، أو لأن الساعة في معنى اليوم ، أو في زمان قريب .
) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (
الأحزاب : ( 64 ) إن الله لعن . . . . .
السعير : النار المسعورة الشديدة الإيقاد .
) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ يَقُولُونَ يالَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ (
الأحزاب : ( 66 ) يوم تقلب وجوههم . . . . .
وقرىء : ( تقلب ) على البناء للمفعول . وتقلب : بمعنى يتقلب . ونقلب ، أي : نقلب نحن . وتقلب ، على أن الفعل للسعير ، ومعي تقليبها : تصريفها في الجهات ، كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت فترامى بها الغليان من جهة إلى جهة . أو تغييرها عن أحوالها وتحويلها عن هيئاتها . أو طرحها في النار مقلوبين منكوسين . وخصت الوجوه بالذكر ، لأنّ الوجه أكرم موضع في الإنسان من جسده . ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة ، وناصب الظرف ) يَقُولُونَ ( أو محذوف ، وهو ( اذكر ) وإذا نصب بالمحذوف كان ) يَقُولُونَ ( حالاً .
) وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ( 7 )
الأحزاب : ( 67 ) وقالوا ربنا إنا . . . . .

" صفحة رقم 572 "
وقرىء : ( سادتنا ) و ( ساداتنا ) : وهم رؤوساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم . يقال : ضلّ السبيل وأضله إياه ، وزيادة الألف لإطلاق الصوت : جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر ، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع ، وأن ما بعده مستأنف . وقرىء : ( كثيراً ) تكديراً لإعداد اللعائن . وكبيراً ، ليدل على أشدّ اللعن وأعظمه ) ضِعْفَيْنِ ( ضعفاً لضلاله وضعفاً لإضلاله : يعترفون ، ويستغيثون ، ويتمنون ، ولا ينفعهم شيء من ذلك .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً (
الأحزاب : ( 69 ) يا أيها الذين . . . . .
) لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءاذَوْاْ مُوسَى ( قيل : نزلت في شأن زيد وزينب ، وما سمع فيه من قالة بعض الناس . وقيل : في أذى موسى عليه السلام : هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها ، وقيل : اتهامهم إياه بقتل هارون ، وكان قد خرج معه الجبل فمات هناك ، فحملته الملائكة ومرّوا به عليهم ميتاً فأبصروه حتى عرفوا أنه غير مقتول . وقيل : أحياه الله فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام . وقيل : قرفوه بعيب في جسده من برص أو أدرة ، فأطلعهم الله على أنه برىء منه ) وَجِيهاً ( ذا جاه ومنزلة عنده ، فلذلك كان يميط عنه التهم ، ويدفع الأذى ، ويحافظ عليه ، لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة ، كما يفعل الملك بمن به عنده قربة ووجاهة . وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة : ( وكان عبد الله وجيهاً ) قال ابن خالويه : صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان ، فسمعته يقرؤها . وقراءة العامة أوجه ؛ لأنها مفصحة عن وجاهته عند الله ، كقوله تعالى : ) عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ ( ( التكوير : 20 ) وهذه ليست كذلك ، فإن قلت : قوله : ) مِمَّا قَالُواْ ( معناه : من قولهم ، أو من مقولهم ؛ لأنّ ( ما ) إما مصدرية أو موصولة ، وأيهما كان فكيف تصحّ البراءة منه ؟ قلت : المراد بالقول أو المقول : مؤداه ومضمونة وهو الأمر المعيب ، ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة ، والقالة بمعنى القول ؟ .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً إِنَّا عَرَضْنَا الاٌّ مَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( 7 )
الأحزاب : ( 70 ) يا أيها الذين . . . . .

" صفحة رقم 573 "
) قَوْلاً سَدِيداً ( قاصداً إلى الحق والسداد : القصد إلى الحق ، والقول بالعدل . يقال : سدّد السهم نحو الرمية : إذا لم يعدل به عن سمتها ، كما قالوا : سهم قاصد ، والمراد : نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول ، والبعث على أن يسد قولهم في كل باب ؛ لأنّ حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله . والمعنى : راقبوا الله في حفظ ألسنتكم ، وتسديد قولكم ، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة : من تقبل حسناتكم والإثابة عليها ، ومن مغفرة سيآتكم وتكفيرها . وقيل : إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية وهذه الآية مقرّرة للتي قبلها ، بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ؛ ليترادف عليهم النهي والأمر ، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام ، وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه . لما قال : ) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( وعلق بالطاعة الفوز العظيم ، أتبعه قوله : ) إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَةَ ( وهو يريد بالأمانة الطاعة ، فعظم أمرها وفخم شأنها ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنّ هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عزّ وعلا انقياد مثلها وهو ما يتأتى من الجمادات وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها . حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيآت مختلفة وأشكال متنوعة ، كما قال : ) قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( ( فصلت : 11 ) وأما الإنسان فلم تكن حاله فيما يصحّ منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصحّ منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع ، والمراد بالأمانة : الطاعة ؛ لأنها لازمة الوجود ، كما أن الأمانة لازمة الأداء . وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها : مجاز . وأما حمل الأمانة فمن قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمّته ويخرج عن عهدتها ؛ لأنّ الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ، ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ، ولي عليه حق ، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملاً لها . ونحوه قولهم ، لا يملك مولى لمولى نصراً . يريدون : أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ، ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل ، ومنه قول القائل : أَخُوكَ الَّذِي لاَ تَمْلِكُ الْحِسَّ نَفسُه
وَتَرْفَضُّ عِنْدَ الْمُحْفِظَاتِ الْكَتَائِفُ

" صفحة رقم 574 "
أي لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده ، بل يبذل ذلك ويسمح به . ومنه قولهم أبغض حق أخيك ؟ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده ، وإذا أبغضه أخرجه وأدّاه ، فمعنى ، فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان ، فأبين إلاّ أن يؤدينها وأبى الإنسان إلاّ أن يكون محتملاً لها لا يؤديها . ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة ، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها . والثاني : أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله : أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشدّه : أن يتحمله ويستقل به ، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه ، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته ) إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ( حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها ، وضمنها ثم خاس بضمانة فيها ، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب . وما جاء القرآن إلاّ على طرقهم وأساليبهم من ذلك قولهم : لو قيل للشحم : أين تذهب ؟ لقال : أسوي العوج ، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات . وتصوّر مقاولة الشحم محال ، ولكن الغرض أنّ السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه ، فصوّر أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها . فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد : أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ؛ لأنه مثلت حاله في تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضي على أحدهما بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه . وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة ، وليس كذلك ما في هذه الآية ؛ فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه ، غير مستقيم ، فكيف صحّ بناء التمثيل على المحال ، وما مقال هذا إلاّ أن تشبه شيئاً والمشبه به غير معقول . قلت : الممثل به في الآية وفي قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب . وفي نظائره مفروض ، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات : مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحالة المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها . واللام في ) لّيُعَذّبَ ( لام التعليل على طريق المجاز : لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة ، كما أن التأديب في ضربته للتأديب نتيجة الضرب . وقرأ الأعمش : ( ويتوب ) ؛ ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ، ويبتدىء :

" صفحة رقم 575 "
( ويتوب الله ) . ومعنى قراءة العامة : ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها ، لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعاً من عذاب الغادر ، والله أعلم . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 912 ) ( من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه ، أعطي الأمان من عذاب القبر ) .

" صفحة رقم 576 "
( سورة سبإ )
مكية
وآياتها 54
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاٌّ خِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الاٌّ رْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (
سبأ : ( 1 - 2 ) الحمد لله الذي . . . . .
ما في السماوات والأرض كله نعمة من الله ، وهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجله ، ولما قال : ) الْحَمْدُ للَّهِ ( ثم وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيوية ، كان معناه : أنه المحمود على نعم الدنيا ، كما تقول : أحمد أخاك الذي كساك وحملك ، تريد : أحمده على كسوته وحملانه . ولما قال : ) وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاْخِرَةِ ( علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب . فإن قلت : ما الفرق بين الحمدين ؟ قلت : أمّا الحمد في الدنيا فواجب ، لأنه على نعمة متفضل بها ، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة وهي الثواب . وأمّا الحمد في الآخرة فليس بواجب ، لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها ، وإنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم : يلتذون به كما يلتذ من به العطاش بالماء البارد ) وَهُوَ الْحَكِيمُ ( الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته ) الْخَبِيرُ ( بكل كائن يكون .

" صفحة رقم 577 "
ثم ذكرها مما يحيط به علماً ) مَا يَلْجُ فِى الاْرْضِ ( من الغيث كقوله : ) فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الاْرْضِ ( ( الزمر : 21 ) ومن الكنوز والدفائن والأموات ، وجميع ما هي له كفات ) وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ( من الشجر والنبات ، وماء العيون ، والغلة والدواب ، وغير ذلك ) مَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء ( من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة وأنواع البركات والمقادير ، كما قال تعالى : ) وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( ( الذاريات : 22 ) ) وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ( من الملائكة وأعمال العباد ) وَهُوَ ( مع كثرة نعمه وسبوغ فضله ) الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ( للمفرطين في أداء مواجب شكرها . وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : تنزل ، بالنون والتشديد .
) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاٌّ رْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ لِّيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (
سبأ : ( 3 - 4 ) وقال الذين كفروا . . . . .
قولهم : ) لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ ( نفي للبعث وإنكار لمجيء الساعة . أو استبطاء لما قد وعدوه من قيامها على سبيل الهزء والسخرية ، كقولهم : ) مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ ( ( يونس : 48 ) ، ( الأنبياء : 38 ) . أوجب ما بعد النفي ببلى على المعنى : أن ليس الأمر إلا إتيانها ، ثم أعيد إيجابه مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد ، وهو التوكيد باليمين بالله عزّ وجلّ ، ثم أمد التوكيد القمسي إمداداً بما أتبع المقسم به من الوصف بما وصف به ، إلى قوله : ) لِيَجْزِىَ ( لأنّ عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وشدّة ثباته واستقامته ، لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر ، وكلما كان المستشهد به أعلى كعباً وأبين فضلاً وأرفع منزلة ، كانت الشهادة أقوى وآكد ، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ . فإن قلت : هل للوصف الذي وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى ؟ قلت : نعم وذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب ، وأدخلها في الخفية ، وأوّلها مسارعة إلى القلب : إذا قيل : عالم الغيب ، فحين أقسم باسمه على إثبات قيام الساعة ، وأنه كائن لا محالة ، ثم وصف بما يرجع إلى علم الغيب ، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات ، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة ، فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئاً واضحاً . فإن قلت : الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه ، فهب أنه حلف لهم بأغلظ الأيمان وأقسم عليهم جهد القسم ، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذباً كيف تكون مصححة لما أنكروه ؟ قلت : هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها الحجة القاطعة البينة الساطعة وهي قوله : ) لِيَجْزِىَ ( فقد وضع الله في العقول وركب في الغرائز وجوب الجزاء ، وأن

" صفحة رقم 578 "
المحسن لا بدّ له من ثواب ، والمسيء لا بدّ له من عقاب . وقوله : ) لِيَجْزِىَ ( متصل بقوله ) لَتَأْتِيَنَّكُمْ ( تعليلاً له . قرىء : ( لتأتينكم ) بالتاء والياء . ووجه من قرأ بالياء : أن يكون ضميره للساعة بمعنى اليوم . أو يسند عالم الغيب ، أي ليأتينكم أمره كما قال تعالى : ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ ( ( الأنعام : 158 ) وقال : ) أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ ( ( النحل : 33 ) . وقرىء : ( عالم الغيب ) و ( علام الغيب ) : بالجرّ ، صفة لربي . وعالم الغيب ، وعالم الغيوب : بالرفع ، على المدح . ولا يعزب : بالضم والكسر في الزاي ، من العزوب وهو البعد . يقال : روض غزيب : بعيد من الناس ) مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ( مقدار أصغر نملة ) ذالِكَ ( إشارة إلى مثقال ذرّة . وقرىء : ( ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) . بالرفع على أصل الابتداء . وبالفتح على نفي الجنس ، كقولك : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، بالرفع والنصب . وهو كلام منقطع عما قبله . فإن قلت : هل يصحّ عطف المرفوع على مثقال ذرّة ، كأنه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرة وأصغر وأكبر وزيادة ، لا لتأكيد النفي . وعطف المفتوح على ذرّة بأنه فتح في موضع الجرّ لامتناع الصرف ، كأنه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرّة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر ؟ قلت : يأبى ذلك حرف الاستثناء ، إلاّ إذا جعلت الضمير في ) عَنْهُ ( للغيب . وجعلت ) الْغَيْبَ ( اسماً للخفيات . قبل أن تكتب في اللوح لأنّ إثباتها في اللوح من البروز عن الحجاب ، على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ، ولا يزل عنه إلاّ مسطوراً في اللوح .
) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِىءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (
سبأ : ( 5 ) والذين سعوا في . . . . .
وقرىء : ( معجزين ) . وأليم ، وبالرفع والجر . وعن قتادة : الرجز : سوء العذاب .
) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (
سبأ : ( 6 ) ويرى الذين أوتوا . . . . .
وقرىء : ( معجزين ) . وأليم : بالرفع والجرّ ، وعن قتادة : الرجز : سوء العذاب . ويرى في موضع الرفع ، أي : ويعلم أولو العلم ، يعني أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن يطأ أعقابهم من أمّته . أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا مثل كعب والأحبار وعبد الله ابن سلام رضي الله عنهما . ) الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ الْحَقّ ( هما مفعولان ليرى ، وهو فصل من قرأ ( الحق ) بالرفع : جعله مبتدأ و ) الْحَقّ ( خبراً ، والجملة في موضع المفعول الثاني . وقيل : ) يَرَى ( في موضع النصب معطوف على ) لِيَجْزِىَ ( أي : وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق . علماً لا يزاد عليه في الإيقان ، ويحتجوا به على الذين كذبوا وتولوا . ويجوز أن يريد : وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه الحق فيزدادوا

" صفحة رقم 579 "
حسرة وغماً .
) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (
سبأ : ( 7 ) وقال الذين كفروا . . . . .
) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( قريش . قال بعضهم لبعض : ) هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ ( يعنون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) : يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب : أنكم تبعثون وتنشئون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً ويمزق أجسادكم البلى كل ممزق ، أي : يفرقكم ويبدد أجزاءكم كل تبديد . أهو مفتر على الله كذباً فيما ينسب إليه من ذلك ؟ أم به جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه ؟ ثم قال سبحانه ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء ، وهو مبرأ منهما ؛ بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث : واقعون في عذاب النار فيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك ، وذلك أجنّ الجنون وأشدّه إطباقاً على عقولهم : جعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال ، كأنهما كائنان في وقت واحد : لأنّ الضلال لما كان العذاب من لوازمه وموجباته : جعلا كأنهما في الحقيقة مقترنان . وقرأ زيد بن عليّ رضي الله عنه : ينبيكم . فإن قلت : فقد جعلت الممزق مصدراً ، كبيت الكتاب : أَلَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِي الْقَوَافِي
فَلاَعِيّاً بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَاً
فهل يجوز أن يكون مكاناً ؟ قلت : نعم . ومعناه ما حصل من الأموات في بطون الطير والسباع ، وما مرّت به السيول فذهبت به كل مذهب ، وما سفته الرياح فطرحته كل مطرح . فإن قلت : ما العامل في إذا ؟ قلت : ما دلّ عليه ) إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ( وقد سبق نظيره . فإن قلت : الجديد فعيل بمعنى فاعل أم مفعول ؟ قلت : هو عند البصريين بمعنى فاعل ، تقول : جد فهو جديد ، كحدّ فهو حديد ، وقلّ فهو قليل . وعند الكوفيين بمعنى : مفعول ، من جده إذا قطعه . وقالوا : هو الذي جده الناسج الساعة في الثوب ؛ ثم شاع . ويقولون : ولهذا قالوا ملحفة جديد ، وهي عند البصريين كقوله تعالى : ) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( ( الأعراف : 56 ) ونحو ذلك . فإن قلت : لم أسقطت الهمزة في قوله ) افْتَرَى ( دون قوله : ) السِّحْرُ ( ، وكلتاهما همزة وصل ؟ قلت :

" صفحة رقم 580 "
القياس الطرح ، ولكون أمراً اضطرّهم إلى ترك إسقاطها في نحو ) السِّحْرُ ( وهو خوف التباس الاستفهام بالخبر ، لكون همزة الوصل مفتوحة كهمزة الاستفهام . فإن قلت : ما معنى وصف الضلال بالبعد ؟ قلت : هو من الإسناد المجازي ؛ لأنّ البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادّة ، وكلما ازداد عنها بعداً كان أضلّ . فإن قلت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مشهوراً علماً في قريش ، وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم ، فما معنى قوله : ) هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ ( فنكروه لهم ، وعرضوا عليهم الدلالة عليه كما يدلّ على مجهول في أمر مجهول . قلت : كانوا يقصدون بذلك الطنز والسخرية ، فأخرجوه مخرج التحلي ببعض الأحاجي التي يتحاجى بها للضحك والتلهي متجاهلين به وبأمره .
) أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالاٌّ رْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاٌّ رْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (
سبأ : ( 9 ) أفلم يروا إلى . . . . .
[يريد] أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض ، وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم ، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عزّ وجلّ ، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفاً ، لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وبما جاء به ، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة ) إِنَّ فِى ذَلِكَ ( النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلاّن عليه من قدرة الله ) لآيَةً ( ودلالة ) لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( وهو الراجع إلى ربه المطيع له ؛ لأنّ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله ، على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به . قرىء : ( يشأ ويخسف ويسقط ) : بالياء ؛ لقوله تعالى : ) افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ( ( الأنعام : 21 ) وبالنون لقوله : ) وَلَقَدْ ءاتَيْنَا ( وكسفاً : بفتح السين وسكونه . وقرأ الكسائي : ( يخسف بهم ) بالإدغام وليست بقوية .
) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ (
سبأ : ( 10 - 13 ) ولقد آتينا داود . . . . .
) يا جِبَالٍ ( إمّا أن يكون بدلاً من ) فَضْلاً ( ، وإمّا من ) ءاتَيْنَا ( بتقدير : قولنا يا جبال . أو : قلنا يا جبال . وقرىء : ( أوّبي ) و ( أوبي ) من التأويب . والأوب : أي رجعي معه التسبيح . أو ارجعى معه في التسبيح كلما رجع فيه ؛ لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه :

" صفحة رقم 581 "
ومعنى تسبيح الجبال : أنّ الله سبحانه وتعالى يخلق فيها تسبيحاً كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبح : معجزة لداود . وقيل : كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين ، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها . وقرىء : ( والطير ) ، رفعاً ونصباً ، وعطفاً على لفظ الجبال ومحلها . وجوّزوا أن ينتصب مفعولاً معه ، وأن يعطف على فضلاً ، بمعنى وسخرنا له الطير . فإن قلت : أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال : ) وَءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلاً ( تأويب الجبال معه والطير ؟ قلت : كم بينهما . ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى : من الدلالة على عزّة الربوبية وكبرياء الإلاهية ، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذي إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا : إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت ، إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته ) وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ( وجعلناه له ليناً كالطين والعجين والشمع ، يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة . وقيل : لأن الحديد في يده لما أوتي من شدّة القوّة . وقرىء : ( صابغات ) وهي الدروع الواسعة الضافية ، وهو أوّل من اتخذها وكانت قبل صفائح . وقيل : كان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ، ويتصدّق على الفقراء . وقيل : كان يخرج حين ملك بني إسرائيل متنكراً ، فيسأل الناس عن نفسه ، ويقول لهم : ما تقولون في داود ؟ فيثنون عليه ، فقيض الله له ملكاً في صورة آدمي فسأله على عادته ، فقال : نعم الرجل لولا خصلة فيه فريع داود ، فسأله ؟ فقال : لولا أنه يطعم عياله من بيت المال ، فسأل عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغني به عن بيت المال ، فعلمه صنعة الدروع ) وَقَدَّرَ ( لا تجعل المسامير دقاقاً فتقلق ، ولا غلاظاً فتفصم الحلق . والسرد : نسج الدروع ) وَاعْمَلُواْ ( الضمير لدواد وأهله ) و ( سخرنا ) لِسْلَيْمَانَ الرّيحَ ( فيمن نصب : ولسليمان الريح مسخرة ، فيمن رفع ، وكذلك فيمن قرأ : الرياح ، بالرفع ) غُدُوُّهَا شَهْرٌ ( جريها بالغداة مسيرة شهر ، وجريها بالعشي كذلك . وقرىء : ( غدوتها وروحتها ) . وعن الحسن رضي الله عنه : كان يغدون فيقيل باصطخر ، ثم يروح فيكون رواحه بكابل . ويحكى أنّ بعضهم رأي مكتوباً في منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان : نحن نزلناه وما بنيناه ومبنياً وجدناه ، غدونا من اصطخر فقلناه ، ونحن رائحون منه فبائتون بالشام إن شاء الله . القطر : النحاس المذاب من القطران . فإن قلت : ماذا أراد بعين القطر ؟ قلت : أراد بها معدن النحاس ولكنه أساله كما ألان

" صفحة رقم 582 "
الحديد لداود ، فنبع كما ينبع الماء من العين ؛ فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه ، كما قال : ) إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا ( ( يوسف : 36 ) وقيل : كان يسبل في الشهر ثلاثة أيام ) بِإِذْنِ رَبّهِ ( بأمره ) وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ ( ومن يعدل ) عَنْ أَمْرِنَا ( الذي أمرناه به من طاعة سليمان . وقرىء : ( يزغ من أزاغه ) . وعذاب السعير : عذاب الآخرة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن السدي : كان معه ملك بيده سوط من نار ، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني . المحاريب : المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال : سميت محاريب لأنه يحامي عليها ويذب عنها . وقيل : هي المساجد والتماثيل : صور الملائكة والنبيين والصالحين ، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم . فإن قلت : كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير ؟ قلت : هذا مما يجوز أن تختلف في الشرائع لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب ، وعن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرّماً . ويجوز أن يكون غير صور الحيوان كصور الأشجار وغيرها ؛ لأنّ التمثال كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان . أو تصوّر محذوفة الرؤوس . وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ، ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما . والجوابي : الحياض الكبار ، قال : تَرُوحُ عَلَى آل الْمُحَلِّقِ جَفْنَة
كَجَابِيَةِ السَّيْحِ العِرَاقِيِّ تَفْهَقُ
لأنّ الماء يجبى فيها ، أي : يجمع . جعل الفعل لها مجازاً وهي من الصفات العالية كالدابة . وقيل : كان يقعد على الجفنة ألف رجل . وقرىء : بحذف الياء اكتفاء بالكسرة . كقوله تعالى : ) يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ ( ( القمر : 6 ) . ) رسِيَاتٍ ( ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها ) اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودُ ( حكاية ما قيل لآل داود . وانتصب ) شَاكِراً ( على أنه مفعول له ، أي : اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه . وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدّى على طريق الشكر . أو على الحال ، أي : شاكرين . أو على تقدير اشكروا واشكرا ، لأن عملوا فيه معنى اشكروا ، من حيث أنّ العمل للمنعم شكر له . ويجوز أن ينتصب باعملوا مفعولاً به . ومعناه : إنا سخّرنا لكم الجنّ يعملون لكم ما شئتم ، فاعملوا أنتم شكراً على طريق المشاكلة و ) الشَّكُورُ ( المتوفر على أداء الشكر ، الباذل وسعه فيه : قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه ، اعتقاداً واعترافاً وكدحاً ، وأكثر أوقاته . وعن

" صفحة رقم 583 "
ابن عباس رضي الله عنهما ؛ من يشكر على أحواله كلها . وعن السدي : من يشكر على الشكر . وقيل : من يرى عجزه عن الشكر . وعن داود أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله ، فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلاّ وإنسان من آل داود قائم يصلي . وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول : اللَّهم اجعلني من القليل ، فقال عمر ما هذا الدعاء ؟ فقال الرجل : إني سمعت الله يقول : ) وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ ( فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل ، فقال عمر : كل الناس أعلم من عمر .
) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاٌّ رْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ (
سبأ : ( 14 ) فلما قضينا عليه . . . . .
قرىء : ( فلما قضى عليه الموت ) ودابة الأرض : الأرضة ، وهي الدويبة التي يقال لها السرفة والأرض فعلها ، فأضيفت إليه . يقال : أرضت الخشبة أرضاً . إذا أكلتها الأرضة . وقرىء بفتح الراء ، من أرضت الخشبة أرضاً ، وهو من باب فعلته ففعل ، كقولك : أكلت القوادح الأسنان أكلاً . فأكلت أكلاً والمنسأة : العصا . لأنه ينسأ بها ، أي : يطرد ويؤخر وقرىء : بفتح الميم وبتخفيف الهمزة قلباً وحذفاً وكلاهما ليس بقياس ، ولكن إخراج الهمزة بين بين هو التخفيف القياسي . ومنساءته على مفعاله ، كما يقال في الميضأة ميضاءة . ومن سأته ، أي : من طرف عصاه ، سميت بسأة القوس على الاستعارة . وفيها لغتان ، كقولهم : قحة وقحة ، وقرىء : ( أكلت منسأته ) ) تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ ( من تبين الشيء إذا ظهر وتجلّى . و ) أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال ، كقولك : تبين زيد جهله : والظهور له في المعنى ، أي : ظهر أنّ الجن ) لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ ( أو علم الجن كلهم علماً بيناً بعد التباس الأمر على عامّتهم وضعفتهم وتوهّمهم أنّ كبارهم يصدّقون في ادعائهم علم الغيب أو علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم ، وأنهم لا يعلمون الغيب وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم ، وإنما أريد التهكم بهم كما تتهكم بمدّعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله بقولك : هل تبينت أنك مبطل . وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبيناً . وقرىء : ( تبينت الجن ) على البناء

" صفحة رقم 584 "
للمفعول ، على أنّ المتبين في المعنى هو ) أَن ( مع ما في صلتها ، لأنه بدل . وفي قراءة أبيّ : تبينت الإنس . وعن الضحاك : تباينت الأنس بمعنى تعارفت وتعالمت . والضمير في ) كَانُواْ ( للجن في قوله : ) وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ ( أي علمت الإنس أن لو كان الجن يصدقون فيما يوهمونهم من علمهم الغيب ؛ ما لبثوا . وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : ( تبينت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ) . روي أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال ، فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله ، فيسألها : لأي شيء أنت ؟ فتقول لكذا ، حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة ، فسألها ، فقالت : نبت لخراب هذا المسجد : فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط له وقال : اللَّهم عم عن الجن موتي ، حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب . لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموّهون على الإنس أنهم يعلمون الغيب ، وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني ، فقال : أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة ؛ فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي متكئاً على عصاه ، فقبض روحه وهو متكىء عليها ؛ وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلّى ، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلاّ احترق فمرّ به شيطان فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع ، فنظر فإذا سليمان قد خرّ ميتاً ، ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة ، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقداراً ، فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة ، وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حياً ، فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب سنة ، وروي أنّ داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام ، فمات قبل أن يتمه ، فوصى به إلى سليمان ، فأمر الشياطين بإتمامه ، فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ، ليبطل دعواهم علم الغيب . روي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه ، فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها ؛ فلم يجسر أحد بعدُ أن يدنوا منه ، وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة : ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، فبقي في ملكه أربعين سنة ، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه .
) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ ( 7 )
سبأ : ( 15 ) لقد كان لسبإ . . . . .

" صفحة رقم 585 "
قرىء : ) لِسَبَإٍ ( بالصرف ومنعه ، وقلب الهمزة ألفاً . ومسكنهم : بفتح الكاف وكسرها ، وهو موضع سكناهم ، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها ، أو مسكن كل واحد منهم . وقرىء : ( مساكنهم ) و ) جَنَّتَانِ ( بدل من آية . أو خبر مبتدإ محذوف ، تقديره : الآية جنتان . وفي الرفع معنى المدح ، تدلّ عليه قراءة من قرأ : ( جنتين ) ، بالنصب على المدح . فإن قلت : ما معنى كونهما ؟ آية ، قال : لم يجعل الجنتين في أنفسهما آية ، وإنما جعل قصتهما ، وأنّ أهلهما أعرضوا عن شكر الله تعالى عليهما فخربهما ، وأبدلهم عنهما الخمط والأثل : آية ، وعبرة لهم ، ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم . ويجوز أن تجعلهما آية ، أي : علامة دالة على الله ، وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره ، فإن قلت : كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ، ورب قرية من قريات العراق يحتف بها من الجنان ما شئت ؟ قلت : لم يرد بستانين اثنين فحسب ، وإنما أراد جماعتين من البساتين : جماعة عن يمين بلدهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامها . كأنها جنة واحدة ، كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ، كما قال : جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب ) كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ ( إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم ، أو لما قال لهم لسان الحال ، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، ولما قال : ) كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ ( ) وَاشْكُرُواْ لَهُ ( أتبعه قوله : ) بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( يعني : هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة ، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت أخصب البلاد وأطيبها : تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر ، فيمتلىء المكتل بما يتساقط فيه من الثمر ) طَيّبَةً ( لم تكن سبخة . وقيل : لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية . وقرىء : ( بلدة طيبة ورباً غفوراً ) بالنصب على المدح . وعن ثعلب : معناه اسكن واعبد ) الْعَرِمِ ( الجرذ الذي نقب عليهم السكر ، ضربت لهم بلقيس الملكة بسدّ ما بين الجبلين بالصخر والقار ، فحقنت به ماء العيون والأمطار ، وتركت فيه خروقاً على مقدار ما يحتاجون إليه من سقيهم ، فلما طغوا قيل : بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبياً يدعونهم إلى الله ويذكرونهم نعمته عليهم فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة سلط الله على سدّهم الخُلد فنقبه من إسفله فغرقهم . وقيل : العرم جمع عرمة ، وهي الحجارة المركومة . ويقال للكدس من الطعام ، عرمة : والمراد : المسناة التي عقدوها سكراً : وقيل : العرم اسم الوادي ، وقيل : العرم المطر الشديد . وقرىء : ( العرم ) بسكون الراء . وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) . وقرىء :

" صفحة رقم 586 "
( أكل ) بالضم والسكون ، وبالتنوين والإضافة ، والأكل : الثمر . والخمط : شجر الأراك : وعن أبي عبيدة : كل شجر ذي شوك . وقال الزجاج : كل نبت أخذ طمعاً من مرارة ، حتى لا يمكن أكله . والأثل : شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عوداً . ووجه من نون : أن أصله ذواتي أكل أكل خمط . فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذواتي أكل بشع . ومن أضاف وهو أبو عمر وحده ، فلأن أكل الخمط في معنى البرير ، كأنه قيل : ذواتي برير . والأثل والسدر : معطوفان على أكل ، لا على خمط لأن الأثل لا أكل له . وقرىء : ( وأثلاً ) وشيئاً . بالنصب عطفاً على جنتين . وتسمية البدل جنتين ، لأجل المشاكلة و فيه : ضرب من التهكم . وعن الحسن رحمه الله . قلل السدر : لأنه أكرم ما بدلوا . وقرىء : ( وهل يجازي ) و ( هل نجازي ) بالنون . و ( هل يجازي ) والفاعل الله وحده . و ( هل يجزي ) ؛ والمعنى : أن مثل هذا الجزاء لا يستحقه إلاّ الكافر ، وهو العقاب العاجل ، وقيل : المؤمن تكفر سيآته بحسناته ، والكافر يحبط عمله فيجازي بجميع ما عمله من السوء ، ووجه آخر : وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة ، يستعمل تارة في معنى المعاقبة ، وأخرى في معنى الإتابة ، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله : ) جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ ( بمعنى : عاقبناهم بكفرهم . قيل : ) وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ ( بمعنى : وهل يعاقب ؟ وهو الوجه الصحيح ؛ وليس لقائل أن يقول : لم قيل : وهل يجازى إلاّ الكفور ، على اختصاص الكفور بالجزاء ، والجزاء عام للكافر والمؤمن ، لأنه لم يرد الجزاء العام ، وإنما أراد الخاص وهو العقاب ، بل لا يجوز أن يراد العموم وليس بموضعه . ألا ترى أنك لو قلت : جزيناهم بما كفروا ، وهل يجازى إلاّ الكافر والمؤمن : لم يصحّ ولم يسد كلاماً ، فتبين أن ما يتخيل من السؤال مضمحل ، وأن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءَامِنِينَ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (
سبأ : ( 18 - 19 ) وجعلنا بينهم وبين . . . . .
) الْقُرَى الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا ( وهي قرى الشام ) قُرًى ظَاهِرَةً ( متواصلة ؛ يرى بعضها

" صفحة رقم 587 "
من بعض لتقاربها ، فهي ظاهرة لأعين الناظرين . أو راكبة متن الطريق : ظاهرة للسابلة ؛ لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم ) وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ( قيل : كان الغادي منهم يقيل في قرية ، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعاً ولا عطشاً ولا عدواً ، ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء ) سِيرُواْ فِيهَا ( وقلنا لهم : سيروا ؛ ولا قول ثم ، ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه ؛ كأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه . فإن قلت : ما معنى قوله ) لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ( قلت : معناه سيروا فيها ، إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات . أو سيروا فيها آمنين لا تخافون . وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت أياماً وليالي . أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم ، فإنكم في كل حين وزمان ، لا تلقون فيها إلا الأمن . وقرىء : ( ربنا باعد بين أسفارنا ) وبعد . ويا ربنا ، على الدعاء ، بطروا النعمة ، وبشموا من طيب العيش ، وملوا العافية ، فطلبوا الكد والتعب كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المنّ والسلوى ، وقالوا : لو كان جنى جناننا أبعد كان أجدر أن نشتهيه ، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشأم مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد ، فجعل الله لهم الإجابة . وقرىء : ( ربنا بعد بين أسفارنا ) وبعد بين أسفارنا على النداء ، وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به ، كما تقول : سير فرسخان ، وبوعد بين أسفارنا . وقرىء : ( ربنا باعد بين أسفارنا ) و ( بين سفرنا ) وبعد ، برفع ربنا على الابتداء ، والمعنى خلاف الأوّل ، وهو استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها لفرط تنعمهم وترفههم ، كأنهم كانوا يتشاجون على ربهم ويتحازنون عليه ) أَحَادِيثَ ( يتحدّث الناس بهم ، ويتعجبون من أحوالهم ، وفرقناهم تفريقاً اتخذه الناس مثلاً مضروباً ، يقولون : ذهبوا أيدي سبأ ، وتفرقوا أيادي سبأ . قال كثير : أَيَادِي سَبَا يَا عَزَّ مَا كُنْتُ بَعْدَكُم
فَلَمْ يَحْلُ بَالْعَيْنَيْنِ بَعْدَكِ مَنْظَرُ
لحق غسان بالشأم ، وأنمار يثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان ، ) صَبَّارٍ ( عن المعاصي ) شَكُورٍ ( للنعم .
) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاٌّ خِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفُيظٌ ( 7 )
سبأ : ( 20 ) ولقد صدق عليهم . . . . .

" صفحة رقم 588 "
قرىء : ( صدّق ) بالتشديد والتخفيف ، ورفع إبليس ونصب الظن ، فمن شدّد فعلى : حقق عليهم ظنه ، أو وجده صادقاً ؛ ومن خفف فعلى : صدّق في ظنه أو صدّق يظن ظناً ، نحو فعلته جهدك ، وبنصب إبليس ورفع الظنّ ؛ فمن شدّد فعلى : وجده ظنه صادقاً ؛ ومن حفف فعلى : قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم ، يقولون : صدقك ظنك ، وبالتخفيف ورفعهما على : صدق عليهم ظن إبليس ؛ ولو قرىء بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في صدق ، كقوله : صدقت فيهم ظنوني ، ومعناه : أنه حين وجد آدم ضعيف العزم قد أصغى إلى وسوسته قال : إنّ ذرّيته أضعف عزماً منه ، فظنّ بهم اتباعه وقال : لأضلنهم لأغوينهم . وقيل : ظنّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكة أنه يجعل فيها من يفسد فيها ، والضمير في ) عَلَيْهِمْ ( و ) اتَّبَعُوهُ ( إماّ لأهل سبأ ، أو لبني آدم . وقلل المؤمنين بقوله : ) إِلاَّ فَرِيقاً ( لأنهم قليل بالإضافة إلى الكفار ، كما قال : ) لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ( ( الإسراء : 62 ) ، ) وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( ( الأعراف : 17 ) . ) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ ( من تسليط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء إلاّ لغرض صحيح وحكمة بينة ، وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها . وعلل التسليط بالعلم والمراد ما تعلق به العلم . وقرىء : ( ليعلم ) على البناء للمفعول ) حَفِيظٌ ( محافظ عليه ، وفعيل ومفاعل : متآخيان .
) قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاٌّ رْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ (
سبأ : ( 22 ) قل ادعوا الذين . . . . .
) قُلِ ( لمشركي قومك ) ادْعُواْ الَّذِينَ ( عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه كما تدعون الله . والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجؤون إليه . وانتظروا استجابتهم لدعائكم ورحمتهم كما تنتظرون وأن يستجيب لكم ويرحمكم ، ثم أجاب عنهم بقوله : ) لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ ( من خير أو شرّ ، أو نفع أو ضرّ ) فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ وَمَا لَهُمْ ( في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك ، كقوله تعالى : ) مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ( الكهف : 51 ) وماله منهم من عوين يعينه على تدبير خلقه ، يريد : أنهم على هذه الصفة من العجز والبعد عن أحوال الربوبية ، فكيف يصحّ أن يُدْعوا كما يدعى ويُرجوا كما يرجى ، فإن قلت : أين مفعولاً زعم ؟ قلت : أحدهما الضمير المحذوف الراجع منه إلى الموصول . وأمّا الثاني فلا يخلو إمّا أن يكون ) مِن دُونِ اللَّهِ ( أو ) لاَّ يَمْلِكُونَ ( أو محذوفاً فلا يصحّ الأول ، لأنّ قولك : هم من دون الله ، لا يلتئم كلاماً ، ولا الثاني ، لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك ، فكيف

" صفحة رقم 589 "
يتكلمون بما هو حجة عليهم ؛ وبما لو قالوه قالوا ما هو حق وتوحيد ؟ فبقي أن يكون محذوفاً تقديره : زعمتموهم آلهة من دون الله فحذف الراجع إلى الموصول كما حذف في قوله : ) أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( ( الفرقان : 41 ) استخفافاً ، لطول الموصول لصلته ، وحذف آلهة لأنه موصوف صفته ) مِن دُونِ اللَّهِ ( والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوماً ، فإذاً مفعولاً زعم محذوفان جميعاً بسببين مختلفين .
) وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ (
سبأ : ( 23 ) ولا تنفع الشفاعة . . . . .
تقول : الشفاعة لزيد ، على معنى أنه الشافع ، كما تقول : الكرم لزيد : وعلى معنى أنه المشفوع له ، كما تقول : القيام لزيد ، فاحتمل قوله : ) وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ( أن يكون على أحد هذين الوجهين ، أي : لا تنفع الشفاعة إلاّ كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له . أو لا تنفع الشفاعة إلاّ كائنة لمن أذن له ، أي : لشفيعه ، أو هي اللام الثانية في قولك : أذن لزيد لعمرو ، أي لأجله ، كأنه قيل : إلاّ لمن وقع الأذن للشفيع لأجله ، وهذا وجه لطيف وهو الوجه ، وهذا تكذيب لقولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . فإن قلت : بما اتصل قوله : ) حَتَّى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ( ولأي شيء وقعت حتى غاية ؟ قلت : بما فهم من هذا الكلام من أنّ ثم انتظاراً للإذن وتوقعاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن ؟ وأنه لا يطلق الإذن إلاّ بعد ملي من الزمان ، وطول من التربص ، ومثل هذه الحال دلّ عليه قوله عزّ وجلّ ) رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَانِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَاباً ( ( النبأ : 37 ) كأنه قيل : يتربصون ويتوقفون ملياً فزعين وهلين ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ، أي : كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزّة في إطلاق الإذن : تباشروا بذلك وسأل بضعهم بعضاً ) مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ( قال ) الْحَقّ ( أي القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى . وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 913 ) ( فَإذَا أُذِنَ لِمَنْ أُذنَ أَنْ يَشْفَعَ فزعْتهُ الشفاعةُ ) . وقرىء : ( أذن له ) ، أي : أذن له الله ، وأذن له على البناء للمفعول . وقرأ الحسن : ( فزع ) مخففاً ، بمعنى فزع . وقرىء :

" صفحة رقم 590 "
( فزع ) ، على البناء للفاعل ، وهو الله وحده ، وفزع ، أي : نفي الوجل عنها وأفنى ، من قولهم : فرغ الزاد ، إذا لم يبق منه شيء . ثم ترك ذكر الوجل وأسند إلى الجار والمجرور ، كما تقول : دفع إليّ زيد ، إذا علم ما المدفوع وقد تخفف ، وأصله : فرغ الوجل عنها ، أي : انتفى عنها ، وفني ثم حذف الفاعل وأسند إلى الجار والمجرور . وقرأ : ( افرنقع عن قلوبهم ) ، بمعنى : انكشف عنها . وعن أبي علقمة أنه هاج به المرار فالتف عليه الناس ، فلما أفاق قال : ما لكم تكأكأتم عليَّ تكأكأكم على ذي جنة ؟ افرنقعوا عني . والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما ركب ( اقمطر ) من حروف القمط ، مع زيادة الراء . وقرىء : ( الحق ) بالرفع ، أي : مقولة الحق ) وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ ( ذو العلو والكبرياء ، ليس لملك ولا نبيّ أن يتكلم ذلك اليوم إلاّ بإذنه ، وأن يشفع إلاّ لمن ارتضى .
) قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ (
سبأ : ( 24 ) قل من يرزقكم . . . . .
أمره بأن يقررهم بقوله : ) مَن يَرْزُقُكُم ( ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله : يرزقكم الله . وذلك بالإشعار بأنهم مقرّون به بقلوبهم ، إلاّ أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به ؛ لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته ، ولأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم : لزمهم أن يقال لهم : فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق ، ألا ترى إلى قوله : ) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والاْبْصَارَ ( ( يونس : 31 ) حتى قال : ) فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ( ( يونس : 31 ) ثم قال : ) فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ( ( يونس : 32 ) فكأنهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة ، ومرّة كانوا يتلعثمون عناداً وضراراً وحذاراً من إلزام الحجة ، ونحوه قوله عزّ وجلّ : ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا ( ( الرعد : 16 ) وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه ) وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ومعناه : وإنّ أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق من السموات والأرض بالعبادة ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة ، لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال ، وهذا من الكلام المنصف الذي

" صفحة رقم 591 "
كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به : قد أنصفك صاحبك ، وفي درجة بعد تقدّمه ما قدم من التقرير البليغ : دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين ، ولكن التعريض والتورية أفضل بالمجادل إلى الغرض ، وأهجم به على الغلبة ، مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينا ونحوه قول الرجل لصاحبه : علم الله الصادق مني ومنك ، وإن أحدنا لكاذب . ومنه بيت حسان : أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْء
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
فإن قلت : كيف خولف بين حرفيّ الجرّ الداخلين على الحق والضلال ؟ قلت : لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء ، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أن يتوجه . وفي قراءة أبيّ : ( وإنا أو أياكم إما على هدى أو في ضلال مبين ) .
) قُل لاَّ تُسْألُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْألُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (
سبأ : ( 25 ) قل لا تسألون . . . . .
هذا أدخل في الإنصاف أبلغ فيه من الأوّل ، حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين

" صفحة رقم 592 "
والعمل إلى المخاطبين ، وإن أراد بالإجرام : الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن ، وبالعمل : الكفر والمعاصي العظام . وفتح الله بينهم : وهو حكمه وفصله : أنه يدخل هؤلاء الجنة وأولئك النار .
) قُلْ أَرُونِىَ الَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ (
سبأ : ( 27 ) قل أروني الذين . . . . .
فإن قلت : ما معنى قوله : ) أَرُونِىَ ( وكان يراهم ويعرفهم ؟ قلت : أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله ، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به . و ) كَلاَّ ( ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسده بإبطال المقايسة ، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ) أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( ( الأنبياء : 67 ) بعد ما حجهم ، وقد نبه على تفاحش غلطهم وإن لم يقدروا حق قدره بقوله : ) هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ ( كأنه قال : أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات وهو راجع إلى الله وحده . أو ضمير الشأن ، كما في قوله تعالى : ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( ( الإخلاص : 1 ) .
) وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (
سبأ : ( 28 ) وما أرسلناك إلا . . . . .
) إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ ( إلا إرساله عامة لهم محيطة بهم ؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم . وقال الزجاج المعنى أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار والإبلاغ ، فجعله حالاً من الكاف وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة ، ومن جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ ؛ لأنّ تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار ، وكم ترى ممن يرتكب هذا بالخطأ ثم لا يقع به حتى يضمّ إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى ؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأوّل إلا الخطأ الثاني ، فلا بدّ له من ارتكاب الخطأين .
) وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ ( 7 )
سبأ : ( 29 ) ويقولون متى هذا . . . . .

" صفحة رقم 593 "
قرىء : ( ميعاد يوم ) . ومعياد يوم . وميعاد يوما . والميعاد : ظرف الوعد من مكان أو زمان ، وهو ههنا الزمان . والدليل عليه قراءة من قرأ : ميعاد يوم فأبدل منه اليوم . فإن قلت : فما تأويل من إضافة إلى يوم ، أو نصب يوماً ؟ قلت : أما الإضافة فإضافة تبيين ، كما تقول : سحق ثوب ، وبعير سانية . وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعلى تقديره : لكم ميعاد ، أعني يوماً أو أريد يوماً من صفته كيت وكيت . ويجوز أن يكون الرفع على هذا ، أعني التعظيم . فإن قلت : كيف انطبق هذا جواباً على سؤالهم ؟ قلت : ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلاّ تعنتاً ، ولا استرشاداً ، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقاً لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت ، وأنهم مرصدون ليوم يفاجؤهم ، فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدّماً عليه .
) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَاذَا الْقُرْءَانِ وَلاَ بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (
سبأ : ( 31 ) وقال الذين كفروا . . . . .
الذي بين يديه : ما نزل قبل القرآن من كتب الله ، يروى : أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في كتبهم ، فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع ما تقدمه من كتب الله عزّ وجلّ في الكفر ، فكفروا بها جميعاً . وقيل : الذي بين يديه يوم القيامة . والمعنى : أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله تعالى ، وأن يكون لما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة ، ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام أو للمخاطب ) وَلَوْ تَرَى ( في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحادثة ويتراجعونها بينهم ، لرأيت العجيب ، فحذف الجواب . والمستضعفون : هم الأتباع ، والمستكبرون : هم الرؤوس والمقدّمون .
) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الاٌّ غْلَالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (
سبأ : ( 32 ) قال الذين استكبروا . . . . .
أولى الاسم أعني ) نَحْنُ ( حرف الإنكار ؛ لأنّ الغرض إنكار أن يكونوا هم الصادين لهم عن الإيمان ، وإثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عنه ، وأنهم أتوا من قبل اختيارهم ، كأنهم قالوا : أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين كونكم ممكنين مختارين ) بَعْد

" صفحة رقم 594 "
َ إِذْ جَاءكُمْ ( بعد أن صممتم على الدخول في الإيمان وصحّت نياتكم في اختياره ؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلال على الهدى وأطعتم آمر الشهوة دون آمر النهي ، فكنتم مجرمين كافرين لاختياركم لا لقولنا وتسويلنا . فإن قلت : إذ وإذا من الظروف اللازمة للظرفية ، فلم وقعت إذ مضافاً إليها ؟ قلت : قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره ، فإضيف إليها الزمان ، كما أضيف إلى الجمل في قولك : جئتك بعد إذ جاء زيد ، وحينئذ ، ويومئذ ، وكان ذلك أوان الحجاج أمير ، وحين خرج زيد . لما أنكر المستكبرون بقولهم : ) أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ ( أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وأثبتوا بقولهم : ) بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ ( أن ذلك بكسبهم واختيارهم ، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم : ) بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( فأبطلوا بإضرابهم ، كأنهم قالوا : ما كان الإجرام من جهتنا ، بل من جهة مكركم لنا دائباً ليلاً ونهاراً ، وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد . ومعنى مكر الليل والنهار : مكركم في الليل والنهار ، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه . أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي . وقرىء : ( بل مكر الليل والنهار ) بالتنوين ونصب الظرفين . وبل مكرّ الليل والنهار بالرفع والنصب . أي تكرّون الإغواء مكرّاً دائباً لا تفترون عنه ، فإن قلت : ما وجه الرفع والنصب ؟ قلت : هو مبتدأ أو خبر ، على معنى : بل سبب مكركم أو مكرّكم أو مكركم أو مكرّكم سبب ذلك . والنصب على : بل تكرّون الإغواء مكرّ الليل والنهار . فإن قلت : لم قيل : ) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ ( ، بغير عاطف ؛ وقيل : ) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ ( ؟ قلت : لأن الذين استضعفوا مرّ أولاً كلامهم ، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف ، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين ، فعطف على كلامهم الأوّل . فإن قلت : من صاحب الضمير في ) وَأَسَرُّواْ ( قلت : الجنس المشتمل على النوعين من المستكبرين والمستضعفين ، وهم الظالمون في قوله : ) إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ ( ( سبأ : 31 ) يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم ، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين ) فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( أي في أعناقهم ، فجاء بالصريح للتنويه بذمهم ، وللدلالة على ما استحقوا به الأغلال . وعن قتاده : أسروا الكلام بذلك بينهم . وقيل : أسروا الندامة أظهروها ، وهو من الأضداد .
) وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (
سبأ : ( 34 ) وما أرسلنا في . . . . .
هذه تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مما مني به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به ،

" صفحة رقم 595 "
والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد ، والمفاخرة وزخارفها ، والتكبر بذلك على المؤمنين ، والاستهانة بهم من أجله ، وقولهم : ) أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ( ( مريم : 73 ) وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلاّ قالوا له مثل ما قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أهل مكة وكادوه بنحو ما كادوه به ، وقاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا ، واعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم ، ولولا أنّ المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم ؛ فعلى قياسهم ذلك قالوا : ) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم ، نظراً إلى أحوالهم في الدنيا .
) قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (
سبأ : ( 36 ) قل إن ربي . . . . .
وقد أبطل الله تعالى حسبانهم بأنّ الرزق فضل من الله يقسمه كما يشاء على حسب ما يراه من المصالح ، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع ، وربما عكس ، وربما وسع عليهما وضيق عليهما ، فلا ينقاس عليه أمر الثواب الذي مبناه على الاستحقاق . وقدر الرزق : تضييقه . قال تعالى : ) وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( ( الطلاق : 7 ) وقرىء : ( ويقدّر ) بالتشديد والتخفيف .
) وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِىءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (
سبأ : ( 37 - 38 ) وما أموالكم ولا . . . . .
أراد : وجماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم ، وذلك أنّ الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث ، ويجوز أن يكون التي هي التقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها ، أي : ليست أموالكم بتلك الموضوعة للتقريب . وقرأ الحسن : باللاتي تقرّبكم ؛ لأنها جماعات . وقرىء : ( بالذي يقرّبكم ) ، أي : بالشيء الذي يقرّبكم . والزلفى والزلفة : كالكربى والكربة ، ومحلها النصب ، أي : تقرّبكم قربة ، كقوله تعالى : ) أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( ( نوح : 17 ) ) وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ ( استثناء من ) كَمْ ( في ) تُقَرّبُكُمْ ( ، والمعنى : أنّ الأموال لا تقرب أحداً إلاّ المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ، والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة ، جزاء ) الضّعْفِ ( من إضافة المصدر إلى المفعول ، أصله : فأولئك لهم أن

" صفحة رقم 596 "
يجازوا الضعف ، ثم جزاء الضعف ، ثم جزاء الضعف . ومعنى جزاء الضعف : أن تضاعف لهم حسناتهم ، الواحدة عشراً . وقرىء : ( جزاء الضعف ) ، على : فأولئك لهم الضعف جزاء وجزاء الضعف على : أن يجازوا الضعف ، وجزاء الضعف مرفوعان : الضعف بدل من جزاء . وقرىء : ) فِى الْغُرُفَاتِ ( بضم الراء وفتحها وسكونها . وفي الغرفة .
) قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (
سبأ : ( 39 ) قل إن ربي . . . . .
) فَهُوَ يُخْلِفُهُ ( فهو يعوّضه لا معوّض سواه : إما عاجلاً بالمال ، أو القناعة التي هي كنز لا ينفد . وإما آجلاً بالثواب الذي كل خلف دونه . وعن مجاهد : من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد ، فإنّ الرزق مقسوم ، ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه ، فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقر ، ولا يتأولن : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ، فإن هذا في الآخرة . ومعنى الآية : وما كان من خلف فهو منه ) خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( وأعلاهم ربّ العزّة ، بأن كل ما رزق غيره : من سلطان يرزق جنده ، أو سيد يرزق عبده أو رجل يرزق عياله : فهو من رزق الله ، أجراه على أيدي هؤلاء ، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق . وعن بعضهم : الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي ؛ فكم من مشته لا يجد ، وواجد لا يشتهي .
) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَاؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ (
سبأ : ( 40 ) ويوم يحشرهم جميعا . . . . .
هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار ، وارد على المثل السائر : إيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ ;
ونحوه قوله تعالى : ) قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( ( المائدة : 116 ) وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزهين برآء مما وجه عليهم من

" صفحة رقم 597 "
السؤال الوارد على طريق التقرير ، والغرض أن يقول ويقولوا ، ويسأل ويجيبوا ؛ فيكون تقريعهم أشدّ ، وتعبيرهم أبلغ ، وخجلهم أعظم : وهو أنه ألزم ، ويكون اقتصاص ذلك لطفاً لمن سمعه ، وزاجراً لمن اقتص عليه . والموالاة : خلاف المعاداة . ومنها : اللَّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . وهي مفاعلة من الولي وهو القرب ، كما أنّ المعاداة من العدواء ، وهي البعد ، والولي : يقع على الموالي والموالى جميعاً . والمعنى أنت الذي نواليه من دونهم ، إذ لا موالاة بيننا وبينهم ، فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار : براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم ؛ لأنّ من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك ) بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ( يريدون الشياطين ، حيث أطاعوهم في عبادة غير الله . وقيل : صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها . وقيل : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت ، فيعبدون بعبادتها . وقرىء : ( نحشرهم ) ونقول ، بالنون والياء .
) فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (
سبأ : ( 42 ) فاليوم لا يملك . . . . .
الأمر في ذلك اليوم لله وحده ، لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرّة لأحد ، لأنّ الدار دار ثواب وعقاب ، والمثيب والمعاقب هو الله ، فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف ، والناس فيها مخلى بينهم ، يتضارّون ويتنافعون . والمراد : أنه لا ضارّ ولا نافع يومئذ إلا هو وحده ، ثم ذكر معاقبته الظالمين بقوله : ) وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( معطوفاً على ) لاَ يَمْلِكُ ( .
) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَاذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَاذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (
سبأ : ( 43 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
الإشارة الأولى : إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . والثانية : إلى القرآن . والثالثة : إلى الحق . والحق أمر النبوّة كله ودين الإسلام كما هو . وفي قوله : ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( وفي أن لم يقل وقالوا ، وفي قوله : ) لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ ( وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه ، وفي لما من المبادهة بالكفر : دليل على صدور الكلام عن إنكار عظيم وغضب شديد ، وتعجيب من أمرهم بليغ ، كأنه قال : وقال أولئك الكفرة المتمرّدون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق النير قبل أن يذوقوه ) إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( فبتوا القضاء على أنه سحر ، ثم بتوه على أنه بين ظاهر كل عاقل تأمّله سماه سحراً .

" صفحة رقم 598 "
) وَمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (
سبأ : ( 44 ) وما آتيناهم من . . . . .
وما آتيناهم كتباً يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك ، ولا أرسلنا إليهم نذيراً ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا ، كما قال عزّ وجلّ : ) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ( ( الروم : 35 ) أو وصفهم بأنهم قوم أمّيون أهل جاهلية لا ملة لهم وليس لهم عهد بإنزال كتاب ولا بعثه رسول كما قال : ) أَمْ ءاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ( ( الزخرف : 21 ) فليس لتكذيبهم وجه متشبث ، ولا شبهة متعلق ، كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين : نحن أهل كتب وشرائع ، ومستندون إلى رسل ومن رسل الله . ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله : ) وَكَذَّبَ الَّذِينَ ( تقدّموهم من الأمم والقرون الخالية كما كذبوا ، وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوّة الأجرام وكثرة الأموال ، فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ، ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم به مستظهرون ، فما بال هؤلاء ؟ وقرىء : ( يدرّسونها ) من التدريس وهو تكرير الدرس . أو من درّس الكتاب ، ودرّس الكتب : ويدرّسونها ، بتشديد الدال ، يفتعلون من الدرس . والمعشار كالمرباع ، وهما : العشر . والرابع . فإن قلت : فما معنى ) فَكَذَّبُواْ رُسُلِى ( وهو مستغنى عنه بقوله : ) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ ( ؟ قلت : لما كان معنى ) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ ( : وفعل الذين من قبلهم التكذيب ، وأقدموا عليه : جعل تكذيب الرسل مسبباً عنه ونظيره أن يقول القائل : أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويجوز أن ينعطف على قوله : وما بلغوا ، كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فتفضل عليه ) فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( أي للمكذبين الأوّلين ، فليحذروا من مثله .
) قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (
سبأ : ( 46 ) قل إنما أعظكم . . . . .
) بِواحِدَةٍ ( بخصلة واحدة ، وقد فسرها بقوله : ) أَن تَقُومُواْ ( على أنه عطف بيان بها ، وأراد بقيامهم : إما القيام على مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتفرّقهم عن مجتمعهم عنده وإما القيام الذي لا يراد به المثول على القدمين ، ولكن الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم ، وهي : أن تقوموا لوجه الله خالصاً . متفرّقين اثنين اثنين ، وواحداً واحداً ) ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ ( في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما جاء به . أمّا الاثنان : فيتفكران ويعرض كلّ واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه متصادقين متناصفين ، لا يميل بهما اتباع هوى ولا ينبض لهما

" صفحة رقم 599 "
عرق عصبية ، حتى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر على جادة الحق وسننه ، وكذلك الفرد : يفكر في نفسه من عادات العقلاء ومجاري أحوالهم ، والذي أوجب تفرّقهم مثنى وفرادى : أنّ الاجتماع مما يشوش الخواطر ، ويعمي البصائر ، ويمنع من الروية ، ويخلط القول ؛ ومع ذلك يقل الإنصاف ، ويكثر الاعتساف ، ويثور عجاج التعصب ، ولا يسمع إلاّ نصرة المذهب ، وأراهم بقوله : ) مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنَّةٍ ( أن هذا الأمر عظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة جميعاً ، لا يتصدّى لادعاء مثله إلاّ رجلان : إمّا مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان فعجز ، بل لا يدري ما الافتضاح وما رقبة العواقب . وإمّا عاقل راجح العقل مرشح للنبوّة ، مختار من أهل الدنيا ، لا يدعيه إلا بعد صحته عنده بحجته وبرهانه ، وإلا فما يجدي على العاقل دعوى شيء لا بينة له عليه ، وقد علمتم أنّ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما به من جنة ، بل علمتموه أرجح قريش عقلاً ، وأرزنهم حلماً وأثقبهم ذهناً وآصلهم رأياً ، وأصدقهم قولاً ، وأنزههم نفساً ، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحون به ؛ فكان مظنّة لأن تظنوا به الخير ، وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب ؛ وإذا فعلتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بأن يأتيكم بآية ، فإذا أتى بها تبين أنه نذير مبين . فإن قلت : ) مَا بِصَاحِبِكُمْ ( بم يتعلق ؟ قلت : يجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً تنبيهاً من الله عزّ وجلّ على طريقة النظر في أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . ويجوز أن يكون المعنى : ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة ، وقد جوّز بعضهم أن تكون ما استفهامية ) بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ( كقوله عليه الصلاة والسلام :
( 914 ) ( بعثت في نسم الساعة ) .
) قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٍ (
سبأ : ( 47 ) قل ما سألتكم . . . . .
) فَهُوَ لَكُمْ ( جزاء الشرط الذي هو قوله : ) مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ ( تقديره : أيّ شيء سألتكم من أجر فهو لكم ، كقوله تعالى : ) مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ( ( فاطر : 2 ) وفيه معنيان ، أحدهما : نفي مسألة الأجر رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئاً فخذه ، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئاً ولكنه يريد به البت ؛ لتعليقه الأخذ بما لم يكن . والثاني : أن يريد بالأجر ما أراد في قوله تعالى : ) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً ( ( الفرقان : 57 ) وفي قوله : ) قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ

" صفحة رقم 600 "
َ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى ( ( الشورى : 23 ) لأنّ اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم وما فيه نفعهم ، وكذلك المودّة في القرابة ، لأنّ القرابة قد انتظمته وإياهم ) عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ ( حفيظ مهيمن ، يعلم أني لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلا منه ، ولا أطمع منكم في شيء .
) قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (
سبأ : ( 48 ) قل إن ربي . . . . .
القذف والرمي : تزجية السهم ونحوه بدفع واعتماد ، ويستعاران من حقيقتهما لمعنى الإلقاء ومنه قوله تعالى : ) وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ( ( الأحزاب : 26 ) ، ( الحشر : 2 ) ، ) أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ ( ( طه : 39 ) ومعنى ) يَقْذِفُ بِالْحَقّ ( يلقيه وينزله إلى أنبيائه . أو يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه ) عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( رفع محمول على محل إن واسمها ، أو على المستكن في يقذف ، أو هو خبر مبتدإ محذوف . وقرىء : بالنصب صفة لربي ، أو على المدح . وقرىء : ( الغيوب ) بالحركات الثلاث ، فالغيوب كالبيوت . والغيوب كالصبور ، وهو الأمر الذي غاب وخفي جداً .
) قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (
سبأ : ( 49 ) قل جاء الحق . . . . .
والحيّ إمّا أن يبتدىء فعلاً أو يعيده فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة ، فجعلوا قولهم : لا يبدىء ولا يعيد مثلاً في الهلاك . ومنه قول عبيد : أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عَبِيد
فَالْيَوْمَ لاَ يُبْدِي وَلاَ يُعِيدُ
والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل ، كقوله تعالى : ) جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ( ( الإسراء : 81 ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه :
( 915 ) دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكة وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بعود نبعة ويقول : ) جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ( ( الإسراء : 81 ) ، ) جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىء الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ( . والحق : القرآن . وقيل : الإسلام . وقيل : السيف . وقيل : الباطل : إبليس لعنه الله ، أي : ما ينشىء خلقاً ولا يعيده ، المنشيء

" صفحة رقم 601 "
والباعث : هو الله تعالى . وعن الحسن : لا يبدىء لأهله خيراً ولا يعيده ، أي : لا ينفعهم في الدنيا والآخرة . وقال الزجاج : أيّ شيء ينشيء إبليس ويعيده ، فجعله للاستفهام . وقيل للشيطان : الباطل ؛ لأنه صاحب الباطل ؛ أو لأنه هالك كما قيل له : الشيطان ، من شاط إذا هلك .
) قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (
سبأ : ( 50 ) قل إن ضللت . . . . .
قرىء : ( ضللت أضلّ ) بفتح العين مع كسرها . وضللت أضلّ ، بكسرها مع فتحها ، وهما لغتان ، نحو : ظللت أظلّ . وقرىء : ( إضلّ ) بكسر الهمزة مع فتح العين . فإن قلت : أين التقابل بين قوله : ) فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى ( وقوله : ) فِيمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى ( وإنما كان يستقيم أن يقال : فإنما أضل على نفسي ، وإن اهتديت فإنما اهتدى لها ، كقوله تعالى : ) مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ( ( فصلت : 46 ) فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها . أو يقال : فإنما أضلّ بنفسي . قلت : هما متقابلان من جهة المعنى ؛ لأنّ النفس كل ما عليها فهو بها ، أعني : أن كل ما هو وبال عليها وضار لها فهو بها وبسببها : لأنّ الأمّارة بالسوء ، وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عامّ لكل مكلف ، وإنما أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يسنده إلى نفسه ؛ لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة حمله وسداد طريقته كان غيره أولى به ) إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ( يدرك قول كل ضالّ ومهتد ، وفعله لا يخفى عليه منهما شيء .
) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (
سبأ : ( 51 ) ولو ترى إذ . . . . .
) وَلَوْ تَرَى ( جوابه محذوف ، يعني : لرأيت أمراً عظيماً وحالاً هائلة . و ( لو ) و ( إذ ) والأفعال التي هي ( فزعوا ) و ( أخذوا ) وحيل بينهم : كلها للمضي . والمراد بها الاستقبال ؛ لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه ، ووقت الفزع : وقت البعث وقيام الساعة . وقيل : وقت الموت . وقيل : يوم بدر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في خسف البيداء ، وذلك أن ثمانين ألفاً يغزون الكعبة ليخربوها ، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم ) فَلاَ فَوْتَ ( فلا يفوتون الله ولا يسبقونه . وقرىء : ( فلا فوت ) والأخذ من مكان قريب : من الموقف إلى النار إذا بعثوا . أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا . أو من صحراء بدر إلى القليب . أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم . فإن قلت : علام عطف قوله : ) وَأُخِذُواْ ( ؟ قلت : في وجهان : العطف على فزعوا ، أي : فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم . أو على لا فوت ، على معنى : إذا فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا . وقرىء : ( وأخذ ) وهو معطوف على محل لا فوت ومعناه : فلا فوت هناك ، وهناك أخذ .

" صفحة رقم 602 "
) وَقَالُواْ ءَامَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكٍّ مُّرِيبِ (
سبأ : ( 52 - 54 ) وقالوا آمنا به . . . . .
) ءامنا به ( بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لمرور ذكره في قوله : ) مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنَّةٍ ( : والتناوش والتناول : أخوان ؛ إلاّ أنّ التناوش تناول سهل لشيء قريب ، يقال ناشة ينوشه ، وتناوشه القوم . ويقال : تناوشوا في الحرب : ناش بعضهم بعضاً . وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا : مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة ، كما يتناوله الآخر من قيس ذراع تناولاً سهلاً لا تعب فيه . وقرىء : ( التناوش ) : همزت الواو المضمومة كما همزت في أجؤه وأدؤر وعن أبي عمرو التناوش بالهمز التناول من بعد من قولهم : نأشت إذا أبطأت وتأخرت . ومنه البيت : تَمَنَّى نَئِيشاً أَنّ يَكُونَ أَطَاعَنِي ;
أي أخيراً ) وَيَقْذِفُونَ ( معطوف على قد كفروا ، على حكاية الحال الماضية ، يعني : وكانوا يتكلمون ) بِالْغَيْبِ ( ويأتون به ) مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ ( وهو قولهم في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شاعر ، ساحر ، كذاب . وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي ، لأنهم لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً ، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله ، لأن أبعد شيء مما جاء به : الشعر والسحر ، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت : الكذب والزور : قرىء : ( ويقذفون بالغيب ) ، على البناء للمفعول ، أي : يأتيهم به شياطينهم ويلقنوهم إياه ، وإن شئت فعلقه بقوله : ) وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ ( على أنه مثلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الآخرة ، وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه ، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه شاحطاً ، والغيب : الشيء الغائب ، ويجوز أن يكون الضمير للعذاب الشديد في

" صفحة رقم 603 "
قوله : ) بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ( ( سبأ : 46 ) وكانوا يقولون : وما نحن بمعذبين ، إن كان الأمر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب ، ونحن أكرم على الله من أن يعذّبنا ، قائسين أمر الآخرة على أمر الدنيا ؛ فهذا كان قذفهم بالغيب ، وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة ؛ لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف ) مَّا يَشْتَهُونَ ( من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة . أو من الردّ إلى الدنيا ، كما حكى عنهم ) فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ( ( السجدة : 12 ) . ) بِأَشْيَاعِهِم ( بأشباههم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم ) مُرِيبٍ ( إما من أرابه ، إذا أوقعه في الريبة والتهمة . أو من أراب الرجل ، إذا صار ذا ريبة ودخل فيها ، وكلاهما مجاز ؛ إلاّ أنّ المريب من الأول منقول ممن يصحّ أن يكون مريباً من الأعيان إلى المعنى ، والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك ، كما تقول : شعر شاعر .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 916 ) ( مَنْ قَرَأَ سُورَةَ سَبإٍ لَمْ يَبْقَ رسولٌ ولا نَبِيٌّ إلاّ كانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفِيقاً ومُصَافِحاً ) .

" صفحة رقم 604 "
( سورة الملائكة ـ فاطر ـ )
مكية ، وهي خمس وأربعون آية ، نزلت بعد الفرقان
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ (
فاطر : ( 1 ) الحمد لله فاطر . . . . .
) فَاطِرَ السَّمَاواتِ ( مبتدئها ومبتدعها . وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض ، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي ابتدأتها . وقرىء : الذي فطر السماوات والأرض وجعل الملائكة . وقرىء : جاعل الملائكة ، بالرفع على المدح ) رُسُلاً ( بضم السين وسكونها ) أُوْلِى أَجْنِحَةٍ ( أصحاب أجنحة ، وأولوا : اسم جمع لذو ، كما أن أولاء اسم جمع لذا ، ونظيرهما في المتمكنة : المخاض والخلفة ) مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( صفات لأجنحة ، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر ، كما عدل عمر عن عامر ، وحذام عن حاذمة ، وعن تكرير إلى غير تكرير ، وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيما بين المعدولة والمعدول عنها . ألا تراك تقول : مررت بنسوة أربع ، وبرجال ثلاثة ، فلا يعرج عليها ؛ والمعنى : أن الملائكة خلقاً أجنحتهم اثنان اثنان ، أي : لكل واحد منهم جناحان ، وخلقاً أجنحتهم ثلاثة ثلاثة . وخلقاً أجنحتهم أربعة أربعة ) يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاء ( أي : يزيد في خلق الأجنحة ، وفي غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته . والأصل الجناحان : لأنهما بمنزلة اليدين ، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل ، وذلك أقوى للطيران وأعون عليه ، فإن قلت : قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شقّ نصفه ، فما صورة الثلاثة ؟ قلت : لعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة . أو لعله لغير الطيران ؛ فقد مرّ في بعض الكتب أن صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بها أجسادهم ، وجناحان يطيران بهما في الأمر من أمور الله ،

" صفحة رقم 605 "
وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله . وعن رسو ل الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 917 ) ( أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح . وروي :
( 918 ) أنه سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته فقال : إنك لن تطيق ذلك . قال : ( إني أحب أن تفعل ) فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ليلة مقمرة ، فأتاه جبريل في صورته فغشي على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه ، فقال : سبحان اللها ما كنت أرى أن شيئاً من الخلق هكذا ، فقال جبريل : فكيف لو رأيت إسرافيل : له اثنا عشر جناحاً : جناح منها بالمشرق ، وجناح بالمغرب ، وإن العرش على كاهله ، وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع وهو العصفور الصغير . وروي : عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله تعالى : ) يَزِيدُ الْخَلْقِ مَا يَشَاء ( :
( 919 ) ( هو الوجه الحسن ، والصوت الحسن ، والشعر الحسن ) وقيل : ( الحظ الحسن ) ، وعن قتادة : الملاحة في العينين ، والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق : من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام في الأعضاء ؛ وقوة في البطش ؛ وحصافة في العقل ، وجزالة في الرأي ، وجراءة في القلب ، وسماحة في النفس ، وذلاقة في

" صفحة رقم 606 "
اللسان ولباقة في التكلم ، وحسن تأنّ في مزاولة الأمور ؛ وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف .
) مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (
فاطر : ( 2 ) ما يفتح الله . . . . .
استعير الفتح للإطلاق والإرسال . ألا ترى إلى قوله : ) فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ( مكان : لا فاتح له ، يعني : أي شيء يطلق الله من رحمة أي من نعمة رزق أو مطر أو صحة أو أمن أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها ، وتنكيره الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال : من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية ، فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها ، وأيّ شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه . فإن قلت : لم أنث الضمير أوّلاً ، ثم ذكر آخراً ؟ وهو راجع في الحالين إلى الاسم المتضمن معنى الشرط ؟ قلت : هما لغتان : الحمل على المعنى وعلى اللفظ ، والمتكلم على الخيرة فيهما ، فأنث على معنى الرحمة ، وذكر على أن لفظ المرجوع إليه لا تأنيث فيه ، ولأن الأوّل فسر بالرحمة ، فحسن اتباع الضمير التفسير ، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير وقرىء : ( فلا مرسل لها ) . فإن قلت : لا بدّ للثاني من تفسير ، فما تفسيره ؟ قلت : يحتمل أن يكون تفسيره مثل تفسير الأول . ولكنه ترك لدلالته عليه ، وأن يكون مطلقاً في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته ، وإنما فسر الأوّل دون الثاني للدلالة على أن رحمته سبقت غضبه . فإن قلت : فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس رضي الله عنهما ؟ قلت : إن أراد بالتوبة الهداية لها والتوفيق فيها وهو الذي أراده ابن عباس رضي الله عنهما إن قاله فمقبول ؛ وإن إراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب ، وإن لم يشأ لم يتب ؛ فمردود ؛ لأنّ الله تعالى يشاء التوبة أبداً ، ولا يجوز عليه أن يشاءها ) مِن بَعْدِهِ ( من بعد إمساكه ، كقوله تعالى : ) فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ( ( الجاثية : 23 ) ، ) فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ ( ( الجاثية : 6 ) أي من بعد هدايته وبعد آياته ) وَهُوَ الْعَزِيزُ ( الغالب القادر على الإرسال والإمساك ) الْحَكِيمُ ( الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه .
) ياأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالاٌّ رْضِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (
فاطر : ( 3 ) يا أيها الناس . . . . .
ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط ، ولكن به وبالقلب ، وحفظها من الكفران والغمط وشكرها بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها . ومنه قول الرجل

" صفحة رقم 607 "
لمن أنعم عليه : اذكر أياديّ عندك . يريد حفظها وشكرها والعمل على موجبها ، والخطاب عام للجميع لأنّ جميعهم مغمورين في نعمة الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد : يا أهل مكة اذكروا نعمة الله عليكم ، حيث اسكنكم حرمة ومنعكم من جميع العالم ، والناس يتخطفون من حولكم . وعنه : نعمة الله العافية . وقرىء : ( غير الله ) بالحركات الثلاث ؛ فالجرّ والرفع على الوصف لفظاً ومحلاً ، والنصب على الاستثناء . فإن قلت : ما محل ) يَرْزُقُكُمْ ( ؟ قلت : يحتمل أن يكون له محل إذا أوقعته صفة لخالق وأن لا يكون له محل إذا رفعت محل من خالق ، بإضمار يرزقكم ، وأوقعت يرزقكم تفسيراً له ، أو جعلته كلاماً مبتدأ بعد قوله : ) هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ( . فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الخالق لا يطلق على غير الله تعالى ؟ قلت : نعم إن جعلت ) يَرْزُقُكُمْ ( كلاماً مبتدأ وهو الوجه الثالث من ا لأوجه الثلاثة . وإمّا على الوجهين الآخرين : وهما الوصف والتفسير . فقد يقيد فيهما بالرزق من السماء والأرض ، وخرج من الإطلاق ، فكيف يستشهد به على اختصاصه ، بالإطلاق ؛ والرزق من السماء المطر ، ومن الأرض النبات ) لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( جملة مفصولة لا محل لها ، مثل : يرزقكم في الوجه الثالث ، ولو وصلتها كما وصلت يرزقكم لم يساعد عليه المعنى ؛ لأن قولك : هل من خالق آخر سوى الله لا إلاه إلاّ ذلك الخالق : غير مستقيم : لأن قولك : هل من خالق

" صفحة رقم 608 "
سوى الله إثبات لله . فلو ذهبت تقول ذلك : كنت منقضاً بالنفي بعد الإثبات ) فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك ؟ .
) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ (
فاطر : ( 4 ) وإن يكذبوك فقد . . . . .
نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله ، وتكذيبهم بها ، وسلى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن له في الأنبياء قبله أسوة حسنة ، ثم جاء بما يشتمل على الوعد والوعيد : من رجوع الأمور إلى حكمة ومجازاة المكذب بما يستحقانه . وقرىء : ( ترجع ) بضم التاء وفتحها . فإن قلت : ما وجه صحة جزاء الشرط ؟ ومن حق الجزاء أن يتعقب الشرط هذا سابق له . قلت : معناه : وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك ، فوضع : ) فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ ( موضع : فتأس ، استغناء بالسبب عن المسبب : أعني بالتكذيب عن التأسي . فإن قلت : ما معنى التنكير في رسل ؟ قلت : معناه فقد كذبت رسل ، أي رسل ذوو عدد كثير . وأولوا آيات ونذر . وأهل أعمار طوال وأصحاب صبر وعزم ، وما أشبه ذلك ، وهذا أسلى له ، وأحثّ على المصابرة .
) ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (
فاطر : ( 5 ) يا أيها الناس . . . . .
وعد الله الجزاء بالثواب والعقاب ) فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ( فلا تخدعنكم ) الدُّنْيَا ( ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله ) وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( لا يقولن لكم اعملوا ما شئتم فإن الله غفور يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة . والغرور الشيطان لأن ذلك ديدنه . وقرىء بالضم وهو مصدر غره كاللزوم والنهوك أو جمع غارّ كقاعد وقعود أخبرنا الله عزّ وجلّ أن الشيطان لنا عدوّ مبين ، واقتص علينا قصته وما فعل بأبينا آدم عليه السلام ، وكيف انتدب لعدواة جنسنا من قبل وجوده وبعده ، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا ، فوعظنا عزّ

" صفحة رقم 609 "
وجلّ بأنه كما علمتم عدوّكم الذي لا عدوّ أعرق في العداوة منه ، وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بحاله ) فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ( في عقائدكم وأفعالكم . ولا يوجدن منكم إلاّ ما يدلّ على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم . ثم لخص سر أمره وخطأ من اتبعه بأنّ غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته ومتبعي خطواته : هو أن يوردهم مورد الشقوة والهلاك ، وأن يكونوا من أصحاب السعير . ثم كشف الغطاء وقشر اللحاء ، ليقطع الأطماع الفارغة والأماني الكاذبة ، فبنى الأمر كله على الإيمان والعمل وتركهما .
) أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (
فاطر : ( 8 ) أفمن زين له . . . . .
لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا ، قال لنبيه ) أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً ( يعني : أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين ، كمن لم يزين له ، فكأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا ) فقال : ) فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( ومعنى تزيين العمل والإضلال واحد ، وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدي عليه المصالح ، حتى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى وتخليته وشأنه ، فعند ذلك يهيم في الضلال ويطلق آمر النهي ، ويعتنق طاعة الهوى ، حتى يرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً ، كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه ، ويقعد تحت قول أبي نواس : اسْقِنِي حَتَّى تَرَانِي
حَسَناً عِنْدِي الْقَبِيحُ
وإذا خذل الله المصممين على الكفر وخلاهم وشأنهم ، فإن على الرسول أن لا يهتم بأمرهم ولا يلقي بالاً إلى ذكرهم ، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم : اقتداء بسنة الله تعالى في خذلانهم وتخليتهم . وذكر الزجاج أنّ المعنى : أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة ، فحذف الجواب لدلالة فلا تذهب نفسك عليه : أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله ، فحذف لدلالة ) فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء ( عليه حسرات : مفعول له يعني : فلا تهلك نفسك للحسرات . وعليهم صلة تذهب ، كما تقول : هلك عليه حباً ، ومات عليه حزناً . أو هو بيان للمتحسر عليه . ولا يجوز أن يتعلق بحسرات ، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته ، ويجوز أن يكون حالاً كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر ، كما قال جرير :

" صفحة رقم 610 "
مَشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى
حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُورَاً
يريد : رجعن كلاكلاً وصدوراً ، أي : لم يبق إلا كلاكلها وصدورها . ومنه قوله : فَعَلَى إثْرِهِمْ تَسَاقَطُ نَفْسِي
حَسَرَاتٍ وَذِكْرُهُمْ لِي سَقَامُ
وقرىء : ( فلا تذهب نفسك ) ) إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم .
) وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاٌّ رْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (
فاطر : ( 9 ) والله الذي أرسل . . . . .
وقرىء : ( أرسل الريح ) . فإن قلت : لم جاء ) فَتُثِيرُ ( على المضارعة دون ما قبله ، وما بعده ؟ قلت ؛ ليحكى الحال التي تقع فيها آثارة الرياح السحاب ، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية ، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية ، بحال تستغرب ، أو تهمّ المخاطب ، أو غير ذلك ، كما قال تأبّط شراً : بِأَبِي قَدْ لَقِيتُ الْغُولَ تَهْوِي
بَسَهْبٍ كَالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَان
فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّت
صَرِيعاً للْيَدَيْنِ وَلِلْجِرَانِ
لأنه قصد أن يصوّر لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول ، وكأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها ، مشاهدة للتعجيب من جرأته على كل هول ، وثباته عند كلّ شدّة . وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها : لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل : فسقنا ، وأحيينا ؛ معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه . والكاف في ) كَذالِكَ ( في محلّ الرفع ، أي : مثل إحياء الموات نشور الأموات وروي :
( 920 ) أنه قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى ؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ ؟

" صفحة رقم 611 "
فقال : ( هلْ مررتَ بِوَادِي أهْلك محلاً ثُمَّ مررتَ به يهزّ خضراً ) قال : نَعمْ . قالَ : ( فكذلكَ يحيي الله الموتى وتلكَ آيتُهُ في خَلْقِهِ ) . وقيل : يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمني الرجال ، تنبت منه أجساد الخلق .
) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَائِكَ هُوَ يَبُورُ (
فاطر : ( 10 ) من كان يريد . . . . .
كان الكافرون يتعزرون بالأصنام ، كما قال عزّ وجلّ : ) وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً ( ( مريم : 81 ) ، والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين ، كما قال تعالى : ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ( ( النساء : 139 ) فبين أن لا عزة إلاّ لله ولأوليائه . وقال : ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( والمعنى فليطلبها عند الله ، فوضع قوله : ) فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ( موضعه ، استغناء به عنه لدلالته عليه ؛ لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه . ونظيره قولك : من أراد النصيحة فهي عند الأبرار ، تريد : فليطلبها عندهم ؛ إلاّ أنك أقمت ما يدل عليه مقامه . ومعنى : ) الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ( أنّ العزّة كلها مختصة بالله : عزة الدنيا وعزة الآخرة . ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله : ) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( والكلم الطيب : لا إلاه إلاّ الله . عن ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أنّ هذه الكلم لا تقبل . ولا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة ، كما قال عزّ وجلّ : ) إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ ( ( المطففين : 18 ) إلاّ إذا اقترن بها العمل الصالح الذي يحققها ويصدقها فرفعها وأصعدها . وقيل : الرافع الكلم ، والمرفوع العمل ؛ لأنه لا يقبل عمل إلاّ من موحد . وقيل : الرافع هو الله تعالى ، والمرفوع العمل . وقيل : الكلم الطيب : كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 921 ) ( هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إلاه إلاّ الله والله أكبر إذا قالها

" صفحة رقم 612 "
العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه ) وفي الحديث :
( 922 ) ولا يقبل الله قولاً إلاّ بعمل ، ولا يقبل قولاً ولا عملاً إلاّ بنية ، ولا يقبل قولاً وعملاً ونية إلا بإصابة السنة ) . وعن ابن المقفع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر . وقرىء : ) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( على البناء للمفعول . و ) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( على تسمية الفاعل ، من أصعد والمصعد : هو الرجل أي يصعد إلى الله عزّ وجلّ الكلم الطيب ، وإليه يصعد الكلام الطيب . وقرىء : ) وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( ، بنصب العمل والرافع الكلم أو الله عزّ وجلّ . فإن قلت : مكر : فعل غير متعدّ . لا يقال : مكر فلان عمله فبم نصب ) السَّيّئَاتِ ( ؟ قلت : هذه صفة للمصدر ، أو لما في حكمه ، كقوله تعالى : ) وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( ( فاطر : 43 ) أصله والذين مكروا والمكرات السيئات . أو أصناف المكر السيئات ، وعنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إما إثباته ، أو قتله ، أو إخراجه كما حكى الله سبحانه عنهم ) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ( ( الأنفال : 30 ) . ) وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ( يعني : مكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة يبور ، أي : يكسد ويفسد ، دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر ، فجمع عليهم مكراتهم جميعاً وحقق فيهم قوله : ) وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ( الأنفال : 30 ) وقوله : ) وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( .
) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 7 )
فاطر : ( 11 ) والله خلقكم من . . . . .

" صفحة رقم 613 "
) أَزْواجاً ( أصنافاً ، أو ذكرانا وإناثاً ، كقوله تعالى : ) أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ( ( الشورى : 50 ) وعن قتادة رضي الله عنه : زوج بعضهم بعضاً ) بِعِلْمِهِ ( في موضع الحال ، أي : إلاّ معلومة له . فإن قلت : ما معنى قوله : ) وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ ( ؟ قلت : معناه وما يعمر من أحد ، وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه ، فإن قلت : الإنسان إما معمر ، أي طويل العمر : أو منقوص العمر ، أي قصيره . فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال ، فكيف صحّ قوله : ) وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ( ؟ قلت : هذا من الكلام المتسامح فيه ، ثقة في تأويله بأفهام السامعين ، واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم ، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد . وعليه كلام الناس المستفيض . يقولون : لا يثيب الله عبداً ، ولا يعاقبه إلاّ بحق . وما تنعمت بلداً ولا أجتويته إلاّ قل فيه ثوابي وفيه تأويل آخر : هو أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلاّ في كتاب ، وصورته : أن يكتب في اللوح : إن حجّ فلان أو غزا فعمره أربعون سنة ، وإن حجّ وغزا فعمره ستون سنة ، فإذا جمع بينهما فبلع الستين فقد عمر . وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون ، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون . وإليه أشار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله :
( 923 ) ( إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار ) وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضي الله عنه : لو أن عمر دعا الله لأخّر في أجله ، فقيل لكعب : أليس قد قال الله : ) إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( ( يونس : 49 ) قال : فقد قال الله : ) وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ ( وقد استفاض على الألسنة : أطال الله بقاءك ، وفسح في مدتك وما أشبهه . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : يكتب في الصحيفة عمره كذا

" صفحة رقم 614 "
وكذا سنة ، ثم يكتب في أسفل ذلك : ذهب يوم ، ذهب يومان ، حتى يأتي على آخره . وعن قتادة رضي الله عنه : المعمر من بلغ الستين سنة ، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة ، والكتاب : اللوح . عن ابن عباس رضي الله عنهما : ويجوز أن يراد بكتاب الله : علم الله ، أو صحيفة الإنسان . وقرىء : ( ولا ينقص ) على تسمية الفاعل من عمره بالتخفيف .
) وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (
فاطر : ( 12 ) وما يستوي البحران . . . . .
ضرب البحرين : العذب والمالح مثلين للمؤمن والكافر ، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه ) مِن كُلّ ( أي : ومن كل واحد منهما ( تأكلون لحماً طرياً وهو السمك ) وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً ( وهي اللؤلؤ والمرجان ) وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ ( في كل ) مَوَاخِرَ ( شواق للماء بجريها ، يقال : مخرت السفينة الماء . ويقال للسحاب : بنات مخر ، لأنها تمخر الهواء والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر ، لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره ) مِن فَضْلِهِ ( من فضل الله ، ولم يجر له ذكر في الآية ، ولكن فيما قبلها ، ولو لم يجر لم يشكل ، لدلالة المعنى عليه . وحرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة ، ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل ، كأنما قيل : لتبتغوا ، ولتشكروا . والفرات : الذي يكسر العطش . والسائغ : المريء السهل الانحدار لعذوبته . وقرىء : ( سيغ ) بوزن سيد : وسيغ بالتخفيف ، وملح : على فعل . والأجاج : الذي يحرق بملوحته . ويحتمل غير طريقة الاستطراد : وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين ، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر ؛ بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ : وجرى الفلك فيه والكافر خلو من النفع ، فهو في طريقة قوله تعالى : ) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ( ( البقرة : 74 ) ثم قال : ) وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ( ( البقرة : 74 ) .
) يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاًّجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَايملكون من قطمير ( 7 )
فاطر : ( 13 ) يولج الليل في . . . . .
) ذالكم ( مبيتدأ . و) الله ربكم له الملك ( أخبار مترادفة . أو ) الله ربكم ( خبراتن . وله الملك : جملة مبتدأة واقعة في قران قوله : ) والذين تدعون من دونه ما

" صفحة رقم 615 "
يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ( ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة . أو عطف بيان . وربكم خبراً . لولا أن المعنى يأباه : والقطمير : لفافة النواة ، وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها .
) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (
فاطر : ( 14 ) إن تدعوهم لا . . . . .
إن تدعوا الأوثان ) لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ ( لأنهم جماد ) وَلَوْ سَمِعُواْ ( على سبيل الفرض والتمثيل ل ) مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ ( لأنهم لا يدعون ما تدعون لهم من الإلاهية ، ويتبرؤون منها . وقيل : ما نفعوكم ) يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ( ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به . ويريد : أن الخبير بالأمر وحده ، هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به . والمعنى : أنّ هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق ، لأني خبير بما أخبرت به . وقرىء : ( يدعون ) ، بالياء والتاء .
) ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (
فاطر : ( 15 ) يا أيها الناس . . . . .
فإن قلت : لم عرف الفقراء ؟ قلت : قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء ، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم ، لأن الفقر مما يتبع الضعف ، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر ، وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله : ) وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ( ( النساء : 28 ) وقال سبحانه وتعالى : ) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ( ( الروم : 54 ) ولو نكر لكان المعنى أنتم بعض الفقراء . فإن قلت : قد قوبل الفقراء بالغنى ، فما فائدة الحميد ؟ قلت : لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم وليس كل غني نافعاً بغناه إلاّ إذا كان الغني جواداً منعماً فإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه الحميد على ألسنه مؤمنيهم ) بِعَزِيزٍ ( بممتنع ، وهذا غضب عليهم لاتخاذهم له أنداداً ، وكفرهم بآياته ومعاصيهم ، كما قال : ) وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ( ( محمد : 38 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئاً .
) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 7 )
فاطر : ( 18 ) ولا تزر وازرة . . . . .

" صفحة رقم 616 "
الوزر والوقر : أخوان ؛ ووزر الشيء إذا حمله . والوازرة : صفة للنفس ، والمعنى : أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلاّ وزرها الذي اقترفته : لا تؤخذ نفس بذنب نفس ، كما تأخذ جبابرة الدنيا : الولي بالولي ، والجار بالجار . فإن قلت : هلا قيل : ولا تزر نفس وزر أخرى ؟ ولم قيل وازرة ؟ قلت : لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلاّ حاملة وزرها ، لا وزر غيرها . فإن قلت : كيف توفق بين هذا وبين قوله : ) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ( ( العنكبوت : 13 ) ؟ قلت : تلك الآية في الضالين المضلين ، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم ، وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم . ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في قولهم : ) اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ( ( العنكبوت : 12 ) بقوله تعالى : ) وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مّن شَىْء ( ( العنكبوت : 12 ) . فإن قلت : ما الفرق بين معنى قوله : ) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( وبين معنى : ) وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء ( ؟ قلت : الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه ، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها ، والثاني : في أن لا غياث يومئذ لمن استغاث ، حتى أن نفساً قد أثقلها الأوزار وبهظتها ، لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث ، وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ . فإن قلت : إلام أسند كان في ) وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ( ؟ قلت : إلى المدعو المفهوم من قوله : ) وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ( . فإن قلت : فلم ترك ذكر المدعو ؟ قلت : ليعمّ ، ويشمل كل مدعوّ . فإن قلت : كيف استقام إضمار العام ؟ ولا يصحّ أن يكون العام ذا قربى للمثقلة ؟ قلت : هو من العموم الكائن على طريق البدل . فإن قلت : ما تقول فيمن قرأ : ( ولو كان ذو قربى ) على كان التامّة ، كقوله تعالى : ) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ( ( البقرة : 290 ) ؟ قلت : نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة ؛ لأن المعنى على أن المثقلة إن دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه شيء وإن كان مدعوّها ذا قربى ، وهو معنى صحيح ملتئم ، ولو قلت : ولو وجد ذو قربى ، لتفكك وخرج من اتساقه والتئامه ، على أنّ ههنا ما ساغ أن يستتر له ضمير في الفعل بخلاف ما أوردته ) بِالْغَيْبِ ( حال من الفاعل أو المفعول ، أي : يخشون ربهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابه غائباً عنهم . وقيل : بالغيب في السر ، وهذه صفة الذين كانوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أصحابه ، فكانت عادتهم المستمرّة أن يخشوا الله ، وهم الذين أقاموا الصلاة وتركوها مناراً منصوباً وعلماً مرفوعاً ،

" صفحة رقم 617 "
يعني : إنما تقدر على إنذار هؤلاء وتحذيرهم من قومك ، وعلى تحصيل منفعة الإنذار فيهم دون متمرّديهم وأهل عنادهم ) وَمَن تَزَكَّى ( ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي . وقرىء : ( من أزكى فإنما يزكي ) ، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة ، لأنهما من جملة التزكي ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( وعد للمتزكين بالثواب . فإن قلت : كيف اتصل قوله : ) إِنَّمَا تُنذِرُ ( بما قبله ؟ قلت : لما غضب عليهم في قوله : ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ( أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها ، ثم قال : إنما تنذر كأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسمعهم ذلك ، فلم ينفع ، فنزل : ) إِنَّمَا تُنذِرُ ( أو أخبره الله تعالى بعلمه فيهم .
) وَمَا يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِى الاٌّ حْيَآءُ وَلاَ الاٌّ مْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (
فاطر : ( 19 - 23 ) وما يستوي الأعمى . . . . .
) الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ ( مثل للكافر والمؤمن ، كما ضرب البحرين مثلاً لهما أو للصنم والله عزّ وجلّ ، والظلمات والنور والظل والحرور : مثلان للحق والباطل ، وما يؤدّيان إليه من الثواب والعقاب . والأحياء والأموات : مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه ، وأصروا على الكفر والحرور : السموم ؛ إلاّ أنّ السموم يكون بالنهار ، والحرور بالليل والنهار . وقيل : بالليل خاصة . فإن قلت : لا المقرونة بواو العطف ما هي ؟ قلت : إذا وقعت الواو في النفي قرنت بها لتأكيد معنى النفي . فإن قلت : هل من فرق بين هذه الواوات ؟ قلت : بعضها ضمت شفعاً إلى شفع ، وبعضها وتراً إلى وتر ) إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء ( يعني أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه ، فيهدي الذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه ، ويخذل من علم أنها لا تنفع فيه . وأمّا أنت فخفي عليك أمرهم ، فلذلك تحرص وتتهالك على إسلام قوم من المخذولين . ومثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين وينذر ، وذلك ما لا سبيل إليه ، ثم قال : ) إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ( أي ما عليك إلاّ أن تبلغ وتنذر ، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع ، وإن كان من المصرين فلا عليك . ويحتمل أنّ الله يسمع من يشاء وأنه قادر على أن يهدي المطبوع على قلوبهم على وجه القسر والإلجاء ، وغيرهم على وجه الهداية والتوفيق ، وأما أنت فلا حيلة لك في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى .
) إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ (
فاطر : ( 24 ) إنا أرسلناك بالحق . . . . .
) بِالْحَقّ ( حال من أحد الضميرين ، يعني : محقاً أو محقين ، أو صفة للمصدر ، أي : إرسالاً مصحوباً بالحق . أو صلة لبشير ونذير على : بشيراً بالوعد الحق ، ونذيراً

" صفحة رقم 618 "
بالوعيد الحق . والأمّة الجماعة الكثيرة . قال الله تعالى : وجد عليه أمّة من الناس ، ويقال لأهل كل عصر : أمّة ، وفي حدود المتكلمين : الأمّة هم المصدقون بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) دون المبعوث إليهم ، وهم الذين يعتبر إجماعهم ، والمراد ههنا : أهل العصر . فإن قلت : كم من أمّة في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ولم يخل فيها نذير ؟ قلت : إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس ، حين اندرست آثار نذارة عيسى بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) . فإن قلت : كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرهما ؟ قلت : لما كانت النذارة مشفوعة بالبشارة لا محالة ، دلّ ذكرها على ذكرها ، لا سيما قد اشتملت الآية على ذكرهما .
) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (
فاطر : ( 25 - 26 ) وإن يكذبوك فقد . . . . .
) بِالْبَيِّنَاتِ ( بالشواهد على صحة النبوّة وهي المعجزات ) وَبِالزُّبُرِ ( وبالصحف ) وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ( نحو التوراة والإنجيل والزبور . لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسناداً مطلقاً ، وإن كان بعضها في جميعهم : وهي البينات ، وبعضها في بعضهم : وهي الزبر والكتاب . وفيه مسلاة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالاٌّ نْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (
فاطر : ( 27 ) ألم تر أن . . . . .
) أَلْوَانُهَا ( أجناسها من الرمّان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها . والجدد : الخطط والطرائق . قال لبيد : أَوْ مَذْهَبْ جُدَد عَلَى أَلْوَاحِهِ ;
ويقال : جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره ، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه ) وَغَرَابِيبُ ( معطوف على بيض أو على جدد ، كأنه قيل : ومن الجبال مخطط ذو جدد ، ومنها ما هو على لون واحد غرابيب . وعن عكرمة رضي الله عنه : هي الجبال الطوال السود . فإن قلت : الغربيب تأكيد للأسود . يقال : أسود غربيب ، وأسود حلكوك : وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه . ومنه الغراب : ومن

" صفحة رقم 619 "
حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك : أصفر فاقع ، وأبيض يقق وما أشبه ذلك . قلت : وجهه أن يضمر المؤكد قبله ويكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر ، كقول النابغة : وَالْمُؤْمِنُ العَائِذَاتِ الطَّيْرِ . . . ;
وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد ، حيث يدلّ على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعاً ، ولا بدّ من تقدير حذف المضاف في قوله تعالى : ) وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ ( بمعنى : ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود ، حتى يؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه كما قال : ثمرات مختلفاً ألوانها ) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابّ وَالاْنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ( يعني : ومنهم بعض مختلف ألوانه . وقرىء : ( ألوانها ) ، وقرأ الزهري : ( جدد ) ، بالضم : جمع جديدة ، وهي الجدّة . يقال : جديدة وجدد وجدائد ، كسفينة وسفن وسفائن . وقد فسر بها قول أبي ذؤيب يصف حمار وحش :
جُونُ السَّرَاةِ لَهُ جَدَائِدُ ارْبَعُ ;
وروي عنه : جدد ، بفتحتين ، وهو الطريق الواضح المسفر وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض . وقرىء : ( والدواب ) مخففاً ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ : ( ولا الضألين ) لأنّ كل واحد منهما فرار من التقاء الساكنين ، فحرك ذاك أوّلهما ، وحذف هذا أخرهما . وقوله : ) كَذالِكَ ( أي كاختلاف الثمرات والجبال . والمراد : العلماء به الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فعظموه وقدروه حق قدره ، وخشوه حق خشيته ، ومن ازداد به علماً ازداد منه خوفاً ، ومن كان علمه به أقل كان آمن . وفي الحديث :
( 924 ) ( أَعلمُكُم بِاللَّهِ أَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً ) وعن مسروق : كفى بالمرء علماً أن

" صفحة رقم 620 "
يخشى ، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه . وقال رجل للشعبي : أفتني أيها العالم ، فقال : العالم من خشي الله . وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه . فإن قلت : هل يختلف المعنى إذا قدّم المفعول في هذا الكلام أو أخر ؟ قلت : لا بدّ من ذلك ، فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى : أنّ الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم ، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم يخشون إلا الله ، كقوله تعالى : ) وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ ( ( الأحزاب : 39 ) وهما معنيان مختلفان . فإن قلت : ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله ؟ قلت : لما قال : ) أَلَمْ تَرَ ( بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء ، وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدلّ به عليه وعلى صفاته ، أتبع ذلك ) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( كأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك : ممن عرفه حق معرفته وعلمه كنه علمه . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 925 ) ( أَنَا أَرجُو أَنْ أكونَ أتقاكُم للَّهِ وأَعْلَمَكُمْ بِهِ ) . فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ : ) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( وهو عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبي حنيفة ؟ قلت : الخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى : إنما يجلهم ويعظمهم ، كما يجلّ المهيب المخشي من الرجال بين الناس ومن بين جميع عباده ) إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ( تعليل لوجوب الخشية ، لدلالته على عقوبة العصاة ، وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم ، والمعاقب المثيب : حقه أن يخشى .
) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ

" صفحة رقم 621 "
شَكُورٌ (
فاطر : ( 29 - 30 ) إن الذين يتلون . . . . .
) يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ( يداومون على تلاوته وهي شأنهم وديدنهم . وعن مطرف رحمه الله : هي آية القرّاء . عن الكلبي رحمه الله : يأخذون بما فيه . وقيل : يعلمون ما فيه ويعملون به . وعن السدي رحمه الله : هم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورضي عنهم . وعن عطاء : هم المؤمنون ) يَرْجُونَ ( خبر إن . والتجارة : طلب الثواب بالطاعة . و ) لِيُوَفّيَهُمْ ( متعلق بلن تبور ، أي : تجارة ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم عنده ) أُجُورَهُمْ ( وهي ما استحقوه من الثواب ) وَيَزِيدُهُمْ ( من التفضل على المستحق . وأن شئت جعلت ) يَرْجُونَ ( في موضع الحال على : وأنفقوا راجين ليوفيهم ، أي فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله لهذا الغرض ، وخبر إن قوله : ) إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ( على معنى : غفور لهم شكور لأعمالهم . والشكر مجاز عن الإثابة .
) وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (
فاطر : ( 31 ) والذي أوحينا إليك . . . . .
) بِالْكِتَابِ ( القرآن . ومن للتبيين أو الجنس . ومن للتبعيض ) مُصَدّقاً ( حال مؤكدة ؛ لأنّ الحق لا ينفك عن هذا التصديق ) لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ( لما تقدّمه من الكتب ) لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ( يعني أنه خبرك وأبصر أحوالك ، فرآك أهلاً لأن يوحي إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب .
) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (
فاطر : ( 32 ) ثم أورثنا الكتاب . . . . .
فإن قلت : ما معنى قوله : ) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ( ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثنا من بعدك أي حكمنا بتوريثه . أو قال : أورثناه وهو يريد نورثه ، لما عليه أخبار الله ) الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ( وهم أمّته من الصحابة والتابعين

" صفحة رقم 622 "
وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة ؛ لأنّ الله اصطفاهم على سائر الأمم ، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس ، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل الله ، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله ، ثم قسمهم إلى ظالم لنفسه مجرم وهو المرجأ لأمر الله . ومقتصد : هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وسابق من السابقين . والوجه الثاني : أنه قدم إرساله في كل أمّة رسولاً وأنهم كذبوا برسلهم وقد جاؤهم بالبينات والزبر والكتاب المنير ، ثم قال : إنّ الذين يتلون كتاب الله ، فأثنى على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم واعترض بقوله : ) وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ ( ثم قال : ) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ( أي من بعد أولئك المذكورين ، يريد بالمصطفين من عباده : أهل الملة الحنيفية ، فإن قلت : فكيف جعلت ) جَنَّاتِ عَدْنٍ ( بدلاً من الفضل الكبير ، الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك ؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب ، نزلة منزلة المسبب ، كأنه هو الثواب ، فأبدلت عنه جنات عدن ، وفي اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر ، فليحذر المقتصد ، وذلك الظالم لنفسه حذراً وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله ، ولا يغترا بما رواه عمر رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :

" صفحة رقم 623 "
( 926 ) ( سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له ) فإنّ شرط ذلك صحة التوبة لقوله تعالى : ) عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ( ( التوبة : 102 ) وقوله : ) إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ( ( التوبة : 106 ) ولقد نطق القرآن ذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخدع . وقرىء : ( سباق ) ومعنى : ) بِإِذُنِ اللَّهِ ( بتيسيره وتوفيقه . فإن قلت : لم قدم الظالم ؟ ثم المقتصد ثم السابق ؟ قلت : للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم ، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقلّ من القليل . وقرىء : ( جنة عدن ) على الإفراد ، كأنها جنة مختصة بالسابقين . وجنات عدن : بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر ، أي يدخلون جنات عدن يدخولنها ، ويدخلونها ، على البناء للمفعول . ويحلون : من حليت : المرأة ، فهي حال ) وَلُؤْلُؤاً ( معطوف على محل من أساور ، ومن داخلة للتبعيض ، أي : يحلون بعض أساور من ذهب ، كأنه بعض سابق لسائر الابعاض ، كما سبق المسوّرون به غيرهم . وقيل : إنّ ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ . وقرىء : ( ولو لؤلؤاً ) بتخفيف الهمزة الأولى ، وقرىء : ( الحزن ) والمراد : حزن المتقين ، وهو ما أهمهم من خوف سوء العاقبة ، كقوله تعالى : ) إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ( ( الطور : 26 ) فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : حزن الاعراض والآفات . وعنه : حزن الموت . وعن الضحاك : حزن إبليس ووسوسته . وقيل : همّ المعاش . وقيل : حزن زوال النعم ، وقد أكثروا حتى قال بعضهم : كراء الدار ، ومعناه : أنه يعمّ كل حزن من أحزان الدين والدنيا . حتى هذا . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 927 ) ( ليس على أهل لا إلاه إلاّ الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في

" صفحة رقم 624 "
مسيرهم ؛ وكأني بأهل لا إلاه إلاّ الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ) وذكر الشكور : دليل على أن القوم كثيرو الحسنات ، المقامة : بمعنى الإقامة يقال : أقمت إقامة ومقاماً ومقامة ) مِن فَضْلِهِ ( من عطائه وإفضاله ، من قولهم : لفلان فضول على قومه وفواضل ، وليس من الفضل الذي هو التفضل ؛ لأنّ الثواب بمنزلة الأجر المستحق ، والتفضل كالتبرع . وقرىء : ( لغوب ) بالفتح : وهو اسم ما يلغب منه ، أي : لا تتكلف عملاً يلغبنا : أو مصدر كالقبول والولوغ ، أو صفة للمصدر ، كأنه لغوب لغوب ، كقولك : موت مائت ، فإن قلت : ما الفرق بين النصب واللغوب ؟ قلت : النصب التعب والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول به . وأما اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب : نفس المشقة والكلفة . واللغوب : نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة .
) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (
فاطر : ( 36 ) والذين كفروا لهم . . . . .
) فَيَمُوتُواْ ( جواب النفي ، ونصبه بإضمار أن : وقرىء : ( فيموتون ) عطفاً على يقضي ، وإدخالاً له في حكم النفي ، أي : لا يقضي عليهم الموت فلا يموتون ، كقوله تعالى : ) وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( ( المرسلات : 36 ) ، ) كَذالِكَ ( مثل ذلك الجزاء ) نُجْزِى ( وقرىء : ( يجازى ) . ( وَنُجْزِي ) ) كُلَّ كَفُورٍ ( بالنون ) يَصْطَرِخُونَ ( يتصارخون : يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدّة . قال : كَصَرْخَةٍ حُبْلَى أَسْلَمَتْهَا قبِيلُهَا ;
واستعمل في الاستغاثة لجهد المستغيث صوته . فإن قلت : هلا اكتفى بصالحاً كما أكتفى به في قوله تعالى : ) فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ( ( السجدة : 12 ) وما فائدة زيادة ) غَيْرَ

" صفحة رقم 625 "
الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ( على أنه يؤذن أنهم يعملون صالحاً آخر غير الصالح الذي عملوه ؟ قلت : فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به . وأما الوهم فزائل لظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي ، لأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة ، كما قال الله تعالى : ) وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( ( الكهف : 104 ) فقالوا : أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نحسبه صالحاً فنعمله ) أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ ( توبيخ من الله يعني : فنقول لهم . وقرىء : ( وما يذكر فيه ) من أذكر على الإدغام وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر ؛ إلاّ أن التوبيخ في المتطاول أعظم . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 928 ) ( العمرُ الذي أعذرَ اللَّهُ فيه إلى ابنِ آدمَ ستونَ سنةً ) . وعن مجاهد : ما بين العشرين إلى الستين . وقيل : ثماني عشر وسبع عشر . و ) النَّذِيرُ ( الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) . وقيل : الشيب . وقرىء : ( وجاءتكم النذر ) فإن قلت : علام عطف وجاءكم النذير ؟ قلت : على معنى : أو لم نعمركم ؛ لأن لفظه لفظ استخبار . ومعناه معنى إخبار ، كأنه قيل : قد عمرناكم وجاءكم النذير .
) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (
فاطر : ( 38 ) إن الله عالم . . . . .
) إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( كالتعليل ، لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى ما يكون فقد علم غيب في العالم وذات الصدور : مضمراتها ، وهي تأنيث ذو في نحو قول أبي بكر رضي الله عنه : ذو بطن خارجة جارية وقوله :
لِتُغْنِيَ عَنِّي ذَا إنَائِكَ أَجْمَعَا
المعنى ما في بطنها من الحبل ، وما في إنائك من الشراب ؛ لأنّ الحبل والشراب

" صفحة رقم 626 "
يصحبان البطن والإناء . ألا ترى إلى قولهم : معها حبل ، وكذلك المضمرات تصحب الصدور وهي معها وذو : موضوع لمعنى الصحبة .
) هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِى الاٌّ رْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً (
فاطر : ( 39 ) هو الذي جعلكم . . . . .
يقال للمستخلف : خليفة وخليف ؛ فالخليفة تجمع خلائف ، والخليف : خلفاء ، والمعنى أنه جعلكم خلفاءه في أرضه قد ملككم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها ، وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة ) فَمَن كَفَرَ ( منكم وغمط من هذه النعمة السنية ، فوبال كفره راجع عليه ، وهو مقت الله الذي ليس وراءه خزي وصغار وخسار الآخرة الذي ما بقي بعده خسار ، والمقت : أشدّ البغض . ومنه قيل لمن ينكح امرأة أبيه : مقتي ، لكون ممقوتاً في كل قلب . وهو خطاب للناس . وقيل : خطاب لمن بعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جعلكم أمّة خلفت من قبلها ، ورأت وشاهدت فيمن سلف ما ينبغي أن تعتبر به ، فمن كفر منكم فعليه جزاء كفره من مقت الله وخسار الآخرة ، كما أنّ ذلك حكم من قبلكم .
) قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاٌّ رْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (
فاطر : ( 40 ) قل أرأيتم شركاءكم . . . . .
) أَرُونِىَ ( بدل من أرأيتم : لأنّ المعنى : أرأيتم أخبروني ، كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الإلاهية والشركة أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله أم لهم مع الله شركة في خلق السماوات ، أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب . أو يكون الضمير في ) ءاتَيْنَاهُمُ ( للمشركين ، كقوله : تعالى : ) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً ( ( الروم : 35 ) أم آتيناهم كتاباً من قبله ، بل إن يعد بعضهم وهم الرؤوساء ) بَعْضًا ( وهم الأتباع ) إِلاَّ غُرُوراً ( وهو قولهم : ) هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( ( يونس : 18 ) وقرىء : ( بينات ) .
) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (
فاطر : ( 41 ) إن الله يمسك . . . . .
) أَن تَزُولاَ ( كراهة أن تزولا . أن يمنعهما من أو تزولا : لأن الإمساك منع ) إِنَّهُ كَانَ

" صفحة رقم 627 "
حَلِيمًا غَفُورًا ( غير معاجل بالعقوبة ، حيث يمسكهما ، وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّاً ، لعظم كلمة الشرك كما قال : ) تَكَادُ السَّمَاواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ ( ( مريم : 90 ) . وقرىء : ( ولو زالنا ) ، وإن أمسكهما : جواب القسم في ) وَلَئِن زَالَتَا ( سدّ مسدّ الجوابين ، ومن الأولى مزيدة لتأكيد النفي ، والثانية : للابتداء . ومن بعده : من بعد إمساكه . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لرجل مقبل من الشام : من لقيت به ؟ قال : كعباً . قال : وما سمعته يقول ؟ قال : سمعته يقول : إنّ السماوات على منكب ملك . قال : كذب كعب . أما ترك يهوديته بعد ثم قرأ هذه الآية .
) وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الاٍّ مَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِى الاٌّ رْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاٌّ وَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْءٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاٌّ رْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً (
فاطر : ( 42 ) وأقسموا بالله جهد . . . . .
بلغ قريشاً قبل مبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنّ أهل الكتاب كذبوا رسلهم ، فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم ، فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم ، فلما بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كذبوه . وفي ) إِحْدَى الاْمَمِ ( وجهان ، أحدهما : من بعض الأمم ، ومن واحدة من الأمم من اليهود والنصارى وغيرهم . والثاني : من الأمّة التي يقال لها إحدى الأمم ، تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة ) مَّا زَادَهُمْ ( إسناد مجازي ، لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم . نفوراً عن الحق وابتعاداً عنه كقوله تعالى : ) فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( ( التوبة : 125 ) . ) اسْتِكْبَاراً ( بدل من نفورا . أو مفعول له ، على معنى : فما زادهم إلاّ أن نفروا استكباراً وعلوّاً ) فِى الاْرْضِ ( أو حال بمعنى : مستكبرين وماكرين برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين . ويجوز أن يكون ) وَمَكْرَ ( معطوفاً على نفورا فإن قلت : فما وجه قوله : ) وَمَكْرَ ( ؟ قلت : أصله : وأن مكروا السيء ، ثم مكر السيء . والدليل عليه قوله تعالى : ) وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( ومعنى يحيق : يحيط وينزل . وقرىء : ( ولا يحيق المكر السيء ) أي : لا يحيق الله ، ولقد حاق بهم يوم بدر . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :

" صفحة رقم 628 "
( 929 ) ( لا تمكرُوا ولا تعينُوا ماكراً ؛ فإنّ الله تعالى يقول : ) وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً ، يقول الله تعالى : ) إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( . وعن كعب أنه قال لابن عباس رضي الله عنهما : قرأت في التوراة : من حفر مغواة وقع فيها . قال : أن وجدت ذلك في كتاب الله ، وقرأ الآية . وفي أمثال العرب : من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً . وقرأ حمزة : ( ومكر السيىءْ ) بإسكان الهمزة ، وذلك لاستثقاله الحركات مع الياء والهمزة ، ولعله اختلس فظنّ سكوناً أو وقف وقفة خفيفة ، ثم ابتدى ) وَلاَ يَحِيقُ ( . وقرأ ابن مسعود : ( مكراً سيئاً ) ) سُنَّتُ الاْوَّلِينِ ( إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم ، وجعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم ، وبين أنّ عادته التي هي الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها ولا يحولها ، أي : لا يغيرها ، وأنّ ذلك مفعول له لا محالة ، واستشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم في رحلهم إلى الشام والعراق واليمن : من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم ) لِيُعْجِزَهُ ( ليسبقه ويفوته .
) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (
فاطر : ( 45 ) ولو يؤاخذ الله . . . . .
) بِمَا كَسَبُواْ ( بما اقترفوا من معاصيهم ) عَلَى ظَهْرِهَا ( على ظهر الأرض ) مِن دَابَّةٍ ( من نسمة تدب عليها ، يريد بني آدم . وقيل : ما ترك بني آدم وغيرهم من سائر الدواب بشؤم ذنوبهم . وعن ابن مسعود :
( 930 ) كاد الجعل يعذب في جحره بذنب ابن آدم ، ثم تلا هذه الآية . وعن أنس : إن الضبّ ليموت هزالاً في جحره بذنب ابن آدم . وقيل : يحبس المطر فيهلك كل شيء ) إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ( إلى يوم القيامة ) كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ( وعيد بالجزاء .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :

" صفحة رقم 629 "
( 931 ) ( مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الملائكةِ دعتْهُ ثمانيةُ أَبوابِ الجنةِ : أَنّ أدخلْ مِنْ أَيِّ بابٍ شئتَ ) .

" صفحة رقم 5 "
( سورة يس )
مكية ، وآياتها 83
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) يس وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ (
يس : ( 1 ) يس
قرىء : ( يس ) بالفتح ، كأين وكيف . أو بالنصب على : اتل يس ، وبالكسر على الأصل كجير ، وبالرفع على هذه يس ، أو بالضم كحيث . وفخمت الألف وأميلت . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : معناه يا إنسان في لغة طيىء ، والله أعلم بصحته ، وإن صح فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين ، فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره ، كما قالوا في القسم : م الله في أيمن الله ) الْحَكِيمُ ( ذي الحكمة . أو لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي . أو لأنه كلام حكيم فوصف بصفة المتكلم به ) عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( خبر بعد خبر ، أو صلة للمرسلين . فإن قلت : أي حاجة إليه خبراً كان أو صلة ،

" صفحة رقم 6 "
وقد علم أنّ المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم ؟ قلت : ليس الغرض بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته ، وإنما الغرض وصفه ووصف ما جاء به من الشريعة ، فجمع بين الوصفين في نظام واحد ، كأنه قال : إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت ، وأيضاً فإن التنكير فيه دلّ على أنه أرسل من بين الصرط المستقيمة لا يكتنه وصفه ، وقرىء : ( تنزيلُ العزيز الرحيم ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وبالنصب على أعني ، وبالجرّ على البدل من القرآن ) قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ ( قوماً غير منذر آباؤهم على الوصف ونحوه قوله تعالى : ) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ ( ( القصص : 46 ) ، ) وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ ( ( سبأ : 44 ) ، وقد فسر ) مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ ( على إثبات الإنذار . ووجه ذلك أن تجعل ما مصدرية ، لتنذر قوماً إنذار آبائهم أو موصولة ومنصوبة على المفعول الثاني لتنذر قوماً ما أنذره آباؤهم من العذاب ، كقوله تعالى : ) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ( ( النبأ : 40 ) . فإن قلت : أي فرق بين تعلقي قوله : ) فَهُمْ غَافِلُونَ ( على التفسيرين ؟ قلت : هو على الأوّل متعلق بالنفي ، أي : لم ينذروا فهم غافلون ، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم ، وعلى الثاني بقوله : ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( لتنذر ، كما تقول : أرسلتك إلى فلان لتنذره ، فإنه غافل . أو فهو غافل . فإن قلت : كيف يكونون منذرين غير منذرين

" صفحة رقم 7 "
لمناقضة هذا ما في الآي الأخر ؟ قلت : لا مناقضة : لأنّ الآي في نفي إنذارهم لا في نفي إنذار آبائهم ، وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل وكانت النذارة فيهم . فإن قلت : ففي أحد التفسيرين أنّ آباءهم لم ينذروا وهو الظاهر ، فما تصنع به ؟ قلت : أريد آباؤهم الأدنون دون الأباعد ) الْقَوْلِ ( قوله تعالى : ) لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( ( السجدة : 13 ) يعني تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب ؛ لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر .
) إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِىَ إِلَى الاٌّ ذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (
يس : ( 8 ) إنا جعلنا في . . . . .
ثم مثل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقحمين : في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم له ، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم : في أن لا تأمل لهم ولا تبصّر ، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله . فإن قلت : ما معنى قوله : ) فَهِىَ إِلَى الاْذْقَانِ ( ؟ قلت : معناه : فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها ، وذلك أن طوق الغلّ الذي في عنق المغلول ، يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود ، نادراً من الحلقة إلى الذقن . فلا تخليه يطاطىء رأسه ويوطىء قذاله ، فلا يزال مقحماً . والمقمح : الذي يرفع رأسه ويغض بصره . يقال : قمح البعير فهو قامح : إذا روي فرفع رأسه ومنه شهراً قماح ، لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء لبرده فيهما ، وهما الكانونان . ومنه : اقتحمت السويق . فإن قلت : فما قولك فيمن جعل الضمير

" صفحة رقم 8 "
للأيدي وزعم أن الغل لما كان جامعاً لليد والعنق وبذلك يسمى جامعة كان ذكر الأعناق دالاً على ذكر الأيدي ؟ قلت : الوجه ما ذكرت لك ، والدليل عليه قوله : ) فَهُم مُّقْمَحُونَ ( ألا ترى كيف جعل الإقماح نتيجة قوله : ) فَهِىَ إِلَى الاْذْقَانِ ( ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهراً على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه وترك الحق الأبلج إلى الباطل اللجلج . فإن قلت : فقد قرأ ابن عباس رضي الله عنهما : ( في أيديهم ) وابن مسعود : ( في أيمانهم ) ، فهل تجوّز على هاتين القراءتين أن تجعل الضمير للأيدي أو للأيمان ؟ قلت : يأبى ذلك وإن ذهب الإضمار المتعسف ظهور كون الضمير للأغلال ، وسداد المعنى عليه كما ذكرت . وقرىء : ( سداً ) بالفتح والضم . وقيل : ما كان من عمل الناس فبالفتح ، وما كان من خلق الله فالبضم ) فَأغْشَيْنَاهُمْ ( فأغشينا أبصارهم ، أي : غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح إلى مرئي ، وعن مجاهد : فأغشيناهم : فألبسنا أبصارهم غشاوة . وقرىء : بالعين من العشا . وقيل : نزلت في بني مخزوم ، وذلك . .
( 932 ) أن أبا جهل حلف لئن رأى محمداً يصلي ليرضخن رأسه ، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه به ، فلما رفع يده أثبتت إلى عنقه ولزق الحجر بيده ، حتى فكوه عنها بجهد ، فرجع إلى قومه فأخبرهم ، فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر ، فذهب ، فأعمى الله عينيه .

" صفحة رقم 9 "
) وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَءَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخشِىَ الرَّحْمانَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (
يس : ( 10 ) وسواء عليهم أأنذرتهم . . . . .
فإن قلت : قد ذكر ما دلّ على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الإنذار ثم قفاه بقوله : ) إِنَّمَا ( وإنما كانت تصح هذه التقفية لو كان الإنذار منفياً . قلت : هو كما قلت ، ولكن لما كان ذلك نفياً للإيمان مع وجود الإنذار وكان معناه أن البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة وهي الإيمان ، قفي بقوله : ) قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ ( على معنى : إنما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين وهم المتبعون للذكر : وهو القرآن أو الوعظ ، الخاشون ربهم .
) إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ (
يس : ( 12 ) إنا نحن نحيي . . . . .
) إِنَّا نَحْنُ ( نبعثهم بعد مماتهم . وعن الحسن : إحياؤهم : أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان ) وَنَكْتُبُ مَاَ ( أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها وما هلكوا عنه من أثر حسن ، كعلم علموه ، أو كتاب صنفوه ، أو حبيس حبسوه ، أو بناء بنوه : من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك . أو سيىء كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين ، وسكة أحدث فيها تخسيرهم ، وشيء أحدث فيه صدّعن ذكر الله : من ألحان وملاه ، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها . ونحوه قوله تعالى : ) يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( ( القيامة : 13 ) أي : قدّم من أعماله ، وأخّر من آثاره . وقيل : هي آثار المشائين إلى المساجد . وعن جابر : أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله خالية ، فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأتانا في ديارنا وقال : يا بني سلمة ، بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد ، فقلنا : نعم ، بعد علينا المسجد والبقاع حوله خالية ، فقال : عليكم دياركم . فإنما تكتب آثاركم . قال :

" صفحة رقم 10 "
فما وددنا حضرة المسجد لما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن عمر بن عبد العزيز : لو كان الله مغفلاً شيئاً لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح . والإمام : اللوح . وقرىء : ( ويُكتَبُ ما قدّموا وآثارهم ) على البناء للمفعول ( وكل شيء ) بالرفع .
) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَانُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (
يس : ( 13 - 15 ) واضرب لهم مثلا . . . . .
) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً ( ومثل لهم مثلاً ، من قولهم : عندي من هذا الضرب كذا ، أي : من هذا المثال ، وهذه الأشياء على ضرب واحد ، أي على مثال واحد . والمعنى : واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية ، أي : اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية . والمثل الثاني بيان للأوّل . وانتصاب إذ بأنه بدل من أصحاب القرية . والقرية أنطاكية . و ) الْمُرْسَلُونَ ( رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها ، بعثهم دعاة إلى الحق وكانوا عبدة أوثان . أرسل إليهم اثنين ، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب يس ، فسألهما فأخبراه ، فقال : أمعكما آية ؟ فقالا : نشفي المريض ونبرىء الأكمة والأبرص ، وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه ، فقام ، فآمن حبيب وفشا الخبر ، فشفي على أيديهما خلق كثير ، ورقى حديثهما إلى الملك وقال لهما : ألنا إلاه سوى آلهتنا ؟ قالا : نعم من أوجدك وآلهتك ، فقال : حتى انظر في أمركما ، فتبعهما الناس وضربوهما . وقيل : حبسا . ثم بعث عيسى عليه السلام شمعون ؛ فدخل متنكراً وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ، ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به ، فقال له ذات يوم : بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه ؟ فقال : لا ، حال الغضب بيني وبين ذلك ، فدعاهما ، فقال شمعون : من أرسلكما ؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك ، فقال : صفاه وأوجزا . قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . قال : وما آيتكما ؟ قالا : ما يتمنّى الملك ، فدعا بغلام مطموس العينين ، فدعوا الله حتى انشق له بصر ، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما ، فقال له شمعون : أرأيت لو سألت إلاهك حتى يضع مثل هذا فيكون لك وله الشرف . قال : ليس لي عنك سر ، إنّ إلاهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضرّ ولا ينفع ، وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبون أنه منهم ، ثم قال : إن قدر إلاهكما على إحياء ميت آمنا به ، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال : إني أدخلت في سبعة أودية من النار ، وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا ، وقال : فتحت أبواب السماء فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع

" صفحة رقم 11 "
لهؤلاء الثلاثة ، قال الملك : ومن هم ؟ قال شمعون : وهذان ، فتعجب الملك . فلما رأى شمعون أنّ قوله قد أثّر فيه نصحه فآمن وآمن معه قوم ، ومن لن يؤمن صاح عليهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا ) فَعَزَّزْنَا ( فقوّينا . يقال : المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدّها ، وتعزز لحم الناقة . وقرىء : بالتخفيف من عزه يعزه : إذا غلبه ، أي : فغلبنا وقهرنا ) بِثَالِثٍ ( وهو شمعون . فإن قلت : لم ترك ذكر المفعول به ؟ قلت : لأنّ الغرض ذكر المعزز به وهو شمعون وما لطف فيه من التدبير حتى عزّ الحق وذلّ الباطل ، وإذا كان الكلام منصباً إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه ، كأن ما سواه مرفوض مطرح . ونظيره قولك : حكم السلطان اليوم بالحق ، الغرض المسوق إليه : قولك بالحق فلذلك رفضت ذكر المحكوم وله المحكوم عليه . إنما رفع بشر هنا ونصب في قوله : ) مَا هَاذَا بَشَرًا ( ( يوسف : 31 ) لأنّ إلاّ تنقض النفي ، فلا يبقى لما المشبهة بليس شبه ، فلا يبقى له عمل . فإن قلت : لم قيل : إنا إليكم مرسلون أوّلاً ، ) إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ( آخراً ؟ قلت : لأنّ الأوّل ابتداء إخبار ، والثاني جواب عن إنكار .
) قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (
يس : ( 16 ) قالوا ربنا يعلم . . . . .
وقوله : ) رَبُّنَا يَعْلَمُ ( جار مجرى القسم في التوكيد ، وكذلك قولهم : شهد الله ، وعلم الله . وإنما حسن منهم هذا الجواب الوارد على طريق التوكيد والتحقيق مع قولهم : ) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( أي الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة لصحته ؛ وإلا فلو قال المدعي : والله إني لصادق فيما أدعي ولم يحضر البينة كان قبيحاً .
) قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَءِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (
يس : ( 18 ) قالوا إنا تطيرنا . . . . .
) تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ( تشاءمنا بكم ، وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منهم نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم ، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه ، فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا ببركة هذا وبشؤم هذا ، كما حكى الله عن القبط : ) وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ( ( الأعراف : 131 ) . وعن

" صفحة رقم 12 "
مشركي مكة : ) وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ ( ( النساء : 78 ) . وقيل : حبس عنهم القطر فقالوا ذلك . وعن قتادة : إن أصابنا شيء كان من أجلكم ( وطائركم معكم ) وقرىء : ( طيركم ) أي سبب شؤمكم معكم وهو كفرهم ، أو أسباب شؤمكم معكم ، وهي كفرهم ومعاصيهم . وقرأ الحسن ( أطيركم ) أي تطيركم . وقرىء : ( اثن ذكرتم ) بمهزة الاستفهام وحرف الشرط . وآثن بألف بينهما ، بمعنى : أتطيرون إن ذكرتم ؟ وقرىء : ( أأن ذكرتم ) بهمزة الاستفهام وأن الناصبة ، يعني : أتطيرتم لأن ذكرتم ؟ وقرىء : أن ، وإن بغير استفهام لمعنى الإخبار ، أي تطيرتم لأن ذكرتم ، أو إن ذكرتم تطيرتم . وقرىء : ( أين ذكرتم ) : على التخفيف ، أي شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم ، وإذا شئم المكان بذكرهم كان بحلولهم فيه أشأم ) بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ( في العصيان : ومن ثم أتاكم الشؤم ، لا من قبل رسل الله وتذكيرهم ، أو بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم متمادون في غيكم ، حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله .
) وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ ياقَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْألُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَءَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ إِنِّى إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِنِّىءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (
يس : ( 20 ) وجاء من أقصى . . . . .
) رَجُلٌ يَسْعَى ( هو حبيب بن إسرائيل النجار ، وكان ينحت الأصنام ، وهو من آمن برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبينهما ستمائة سنة كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما ، ولم يؤمن بني أحد إلا بعد ظهوره . وقيل : كان في غار يعبد الله ، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة ، فقالوا : أو أنت تخالف ديننا ، فوثبوا عليه فقتلوه . وقيل : توطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره . وقيل : رجموه وهو يقول : اللهمّ اهد قومي ؛ وقبره في سوق أنطاكية ، فلما قتل غضب الله عليهم فأهلكوا بصيحة جبريل عليه السلام . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 934 ) ( سباق الأمم ثلاثة : لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب ،

" صفحة رقم 13 "
وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون ) ، ) مَن لاَّ يَسْألُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ( كلمة جامعة في الترغيب وفيهم ، أي : لا تخسرون معهم شيئاً من ديناكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة ، ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم ، ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لروحه ، ولقد وضع قوله : ) وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى ( مكان قوله : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم . ألا ترى إلى قوله : ) وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ولولا أنه قصد ذلك لقال : الذي فطرني وإليه أرجع ، وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال : ) بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ قِيلَ ( يريد فاسمعوا قولي وأطيعوني ، فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه : أنّ العبادة لا تصحّ إلاّ لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم ، وما أدفع العقول وأنكرها لأن تستحبوا على عبادته عبادة أشياء إن أرادكم هو بضرّ وشفع لكم هؤلاء لم تنفع شفاعتهم ولم يمكنوا من أن يكونوا شفعاء عنده ؛ ولم يقدروا على إنقاذكم منه بوجه من الوجوه ، إنكم في هذا الاستحباب لواقعون في ضلال ظاهر بين لا يخفى على ذي عقل وتمييز . وقيل : لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل ، فقال لهم : ) إِنّىءامَنتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ ( أي اسمعوا إيماني تشهدوا لي به . وقرىء : ( إن يردني الرحمن بضرّ ) بمعنى : أن يوردني ضرّاً ، أي يجعلني مورداً للضرّ .
) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ (
يس : ( 26 ) قيل ادخل الجنة . . . . .
أي لما قتل ) قِيلَ ( له ) ادْخُلِ الْجَنَّةَ ( وعن قتادة : أدخله الله الجنة وهو فيها حيّ يرزق أراد قوله تعالى : ) بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ ( ( آل عمران : 169 ) وقيل : معناه البشري بدخول الجنة وأنه من أهلها . فإن قلت : كيف مخرج هذا القول في علم

" صفحة رقم 14 "
البيان ؟ قلت : مخرجه مخرج الاستئناف ، لأنّ هذا من مظان المسئلة عن حاله عند لقاء ربه ، كأنّ قائلاً قال : كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلب في نصرة دينه والتسخي لوجهه بروحه ؟ فقيل : قيل ادخل الجنة ولم يقل قيل له ، لأنصباب الغرض إلى المقول وعظمه ، لا إلى القول له مع كونه معلوماً ، وكذلك ) قَالَ يَاءادَمُ يالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ ( مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم ، وإنما تمنى علم قومه بحاله ، ليكون علمهم بها سبباً لاكتساب مثلها لأنفسهم ، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والعمل الصالح المفضيين بأهلهما إلى الجنة . وفي حديث مرفوع :
( 935 ) ( نصح قومه حياً وميتاً ) وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ ، والحلم عن أهل الجهل ، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي ، والتشمر في تخليصه والتلطف في افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه . ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام . ويجوز أن يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره ، وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة ، وأن عداوتهم إلا فوزاً ولم تعقبه إلا سعادة ، لأنّ في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور . والأوّل أوجه . وقرىء : ( المكرمين ) . فإن قلت : ما في قوله تعالى : ) بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى ( أي الماآت هي ؟ قلت : المصدرية أو الموصولة ؛ أي : بالذي غفره لي من الذنوب . ويحتمل أن تكون استفهامية ؛ يعني بأي شيء غفر لي ربي ؛ يريد به ما كان منه معهم من المصابرة لإعزاز الدين حتى قتل ، إلى أنّ قولك : ( بم غفر لي ) بطرح الألف

" صفحة رقم 15 "
أجود وإن كان إثباتها جائزاً ؛ يقال : قد علمت بما صنعت هذا ، أي : بأي شيء صنعت وبم صنعت .
) وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (
يس : ( 28 ) وما أنزلنا على . . . . .
المعنى : أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك ، ولم ينزل لإهلاكهم جنداً من جنود السماء ، كما فعل يوم بدر والخندق ، فإن قلت : وما معنى قوله : ) وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ( ؟ قلت : معناه : وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جنداً من السماء ، وذلك لأن الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون البعض ، وما ذلك إلا بناء على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً مِنْهُمْ وَمِنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاْرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا ( ( العنكبوت : 40 ) . فإن قلت : فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق ؟ قال تعالى : ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ( ( الأحزاب : 9 ) ، ) بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ ( ( الأنفال : 9 ) ، ) بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ ( ( آل عمران : 124 ) ، ) بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ ( ( آل عمران : 125 ) ؟ قلت : إنما كان يكفي ملك واحد ، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل ، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة منه ، ولكن الله فضل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بكل شيء على كبار الأنبياء وأولي العزم من الرسل ، فضلاً عن حبيب النجار ، وأولاده من أسباب الكرامة والإعزاز ما لم يوله أحداً ؛ فمن ذلك أنه أنزل له جنوداً من اسماء وكأنه أشار بقوله : ) وَمَا أَنزَلْنَا ( ) وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ( الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلاّ مثلك ، وما كنا نفعله بغيرك ( إن كانت إلاّ صيحة واحدة ) إن كانت الآخذة أو العقوبة إلاّ صيحة واحدة . وقرأ أبو جعفر المدني بالرفع على كان التامة ، أي : ما وقعت إلاّ صيحة ، والقياس والاستعمال على تذكير الفعل ؛ لأنّ المعنى : ما وقع شيء إلاّ صيحة ، ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل ، ومثلها قراءة الحسن : ( فأصبحوا لا ترى إلاّ مساكنهم ) وبيت ذي الرمّة : وَمَا بَقِيَتْ إلاَّ الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ

" صفحة رقم 16 "
وقرأ ابن مسعود ( الأزقية ) : واحدة ، من زقا الطائر يزقو ويزقي ، إذا صاح . ومنه المثل : أثقل من الزواقي ) خَامِدُونَ ( خمدوا كما تخمد النار ، فتعود رماداً ، كما قال لبيد :
وَمَا الْمَرْءُ إلاَّ كَالشَّهَابِ وَضَوْئِه
يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ
) ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (
يس : ( 30 ) يا حسرة على . . . . .
) ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ( نداء للحسرة عليهم ، كأنما قيل لها تعالى : يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها ، وهي حال استهزائهم بالرسل . والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون ، ويتلهف على حالهم المتلهفون . أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين . ويجوز أن يكون من الله تعالى على سبيل الاستعارة فى معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ومحنوها به ، وفرط إنكاره له وتعجيبه منه ، وقراءة من قرأ : ( يا حسرتاه ) تعضد هذا الوجه لأن المعنى : يا حسرتي . وقرىء : ( يا حسرة العباد ) ، على الإضافة إليهم لاختصاصها بهم ؛ من حيث أنها موجهة إليهم . ويا حسرة على العباد : على إجراء الوصل مجرى الوقف .
) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (
يس : ( 31 ) ألم يروا كم . . . . .
) أَلَمْ يَرَوْاْ ( ألم يعلموا ، وهو معلق عن العمل في ) كَمْ ( لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها ، كانت للاستفهام أو للخبر ؛ لأنّ أصلها الاستفهام ، إلا أن معناه نافذ في الجملة ، كما نفذ في قولك : ألم يروا إن زيداً لمنطلق ، وإن لم يعمل في لفظه . و ) أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( بدل من ) كَمْ أَهْلَكْنَا ( على المعنى ، لا على اللفظ ، تقديره : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم . وعن الحسن : كسر إنّ على الاستئناف . وفي قراءة ابن مسعود : ( ألم يروا من أهلكنا ) والبدل على هذه القراءة بدل اشتمال ، وهذا مما يردّ قول أهل الرجعة . ويحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له : إن قوماً يزعمون أنّ علياً مبعوث قبل يوم القيامة ، فقال : بئس القوم نحن إذن : نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه . قرىء : ( لما ) بالتخفيف ، على أن ( ما ) صلة للتأكيد ،

" صفحة رقم 17 "
وإن : مخففة من الثقيلة ، وهي متلقاة باللام لا محالة . ولما بالتشديد ، بمعنى : إلاّ ، كالتي في مسألة الكتاب . نشدتك بالله لما فعلت ، وإن نافية ، والتنوين في ) كُلٌّ ( هو الذي يقع عوضاً من المضاف إليه ، كقولك : مررت بكل قائماً . والمعنى أن كلهم محشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة . وقيل : محضرون معذبون . فإن قلت : : كيف أخبر عن كل بجميع ومعناهما واحد ؟ قلت : ليس واحد ؟ لأنّ كلاً يفيد معنى الإحاطة ، وأن لا ينفلت منهم أحد ، والجميع : معناه الاجتماع ، وأن المحشر يجمعهم . والجميع : فعيل بمعنى مفعول ، يقال حي جميع ، وجاؤا جميعاً .
) وَءَايَةٌ لَّهُمُ الاٌّ رْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِى خَلَق الاٌّ زْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الاٌّ رْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ (
يس : ( 33 ) وآية لهم الأرض . . . . .
القراءة بالميتة على الخفة أشيع ، لسلسها على اللسان . و ) أحيياها ( استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية ، كذلك نسلخ ، ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل ، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض وليل بأعيانهما ، فعوملا معاملة النكرات في وصفهما بالأفعال ، ونحوه : وَلَقَدْ امُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
وقوله : ) حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ( بتقديم الظرف للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس ، وإذا قل جاء القحط ووقع الضرّ ، وإذا فقد جاء الهلاك ونزل البلاء . وقرىء : ( وفجرنا ) بالتخفيف والتثقيل ، والفجر والتفجير ، كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى . وقرىء : ( ثمرة ) بفتحتين وضمتين وضمة

" صفحة رقم 18 "
وسكون ، والضمير لله تعالى : والمعنى : ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر ( و ) من ) مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ( من الغرس والسقي والآبار ، وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه وإبان أكله ، يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه ، وفيه آثار من كد بني آدم ، وأصله من ثمرنا كما قال : وجعلنا ، وفجرنا : فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات . ويجوز أن يرجع إلى النخيل ، وتترك الأعناب غير مرجوع إليها ، لأنه علم أنها في حكم النخيل فيما علق به من أكل ثمره . ويجوز أن يراد من ثمر المذكور وهو الجنات ، كما قال رؤبة : فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ بَيَاضٍ وَبَلَق
كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
فقيل له ، فقال : أردت كأن ذاك : ولك أن تجعل ) مَا ( نافية على أنّ الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه . وقرىء على الوجه الأوّل ، وما عملت من غير راجع ، وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك ، وفي مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام مع الضمير ) الاٌّ زْوَاجَ ( الأجناس والأصناف ) وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ( ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها ولا توصلوا إلى معرفتها بطريق من طرق العلم ، ولا يبعد أن يخلق الله تعالى من الخلائق الحيوان والجماد ما لم يجعل للبشر طريقاً إلى العلم به ، لأنه لا حاجة بهم في دينهم ودنياهم إلى ذلك العلم ، ولو كانت بهم إليه حاجة لأعلمهم بما لا يعلمون ، كما أعلمهم بوجود ما لا يعلمون . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لم يسمهم . وفي الحديث :
( 936 ) ( ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، بله ما أطلعتهم عليه ) فأعلمنا بوجوده وإعداده ولم يعلمنا به ما هو ، ونحوه : ) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ( ( السجدة : 17 ) وفي الإعلام بكثرة ما خلق مما علموه ومما جهلوه ما دلّ على عظم قدرته واتساع ملكه .
) وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (
يس : ( 37 ) وآية لهم الليل . . . . .
سلخ جلد الشاة : إذا كشطه عنها وأزاله . ومنه : سلخ الحية لخرشائها ، فاستعير لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله ) مُّظْلِمُونَ ( داخلون في الظلام ،

" صفحة رقم 19 "
يقال : أظلمنا ، كما تقول : أعتمنا وأدجينا
يس : ( 38 ) والشمس تجري لمستقر . . . . .
) لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ( لحدّ لها مؤقت مقدّر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة ، شبه بمستقرّ المسافر إذا قطع مسيره ، أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب ؛ لأنها تتقصاها مشرقاً مشرقاً ومغرباً مغرباً حتى تبلغ أقصاها ، ثم ترجع فذلك حدّها ومستقرّها ؛ لأنها لا تعدوه أو لحدّ لها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب . وقيل : مستقرّها أجلها الذي أقرّ الله عليه أمرها في جريها ، فاستقرّت عليه وهو آخر السنة . وقيل : الوقت الذي تستقرّ فيه وينقطع جريها وهو يوم القيامة .
) وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (
وقرىء : ( تجري إلى مستقر لها ) وقرأ ابن مسعود : ( لا مستقرّ لها ) أي : لا تزال تجري لا تستقرّ . وقرىء : ( لا مستقرّ لها ) على أنّ لا بمعنى ليس ) ذَلِكَ ( الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق الذي تكل الفطن عن استخراجه وتتحير الأفهام في استنباطه ، ما هو إلا تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور ، المحيط علماً بكل معلوم . وقرىء : ( والقمر ) رفع على الابتداء ، أو عطفاً على الليل ، يريد : من آياته القمر ، ونصباً بفعل يفسره قدرناه ، ولا بدّ في ) قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ( . من تقدير مضاف لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل والمعنى : قدرنا مسيره منازل وهي ثمانية وعشرون منزلاً ، ينزل القمر كلّ ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه ، على تقدير مستوٍ لا يتفاوت ، يسير فيها كل ليلة من المستهل إلى الثامنة والعشرين ، ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذاً نقص الشهر ، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمترة ، وهي : الشرطان ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الزبرة ، الصرفة ، العوّا ، السماك ، الغفر ، الزباني ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرغ الدلو المقدم ، فرغ الدلو المؤخر ، الرشا . فإذا كان في آخر منازله دقّ واستقوس ، و ) عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ ( وهو عود العذق ، ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة . وقال الزجاج : هو ( فعلون ) من الانعراج وهو الانعطاف . وقرىء : ( العرجون ) بوزن الفرجون ؛ وهما لغتان ، كالبزيون

" صفحة رقم 20 "
والبزيون ، والقديم المحول ، وإذا قدم دق وانحنى واصفر ، فشبه به من ثلاثة أوجه . وقيل : أقل مدّة الموصوف بالقدم الحول ، فلو أنّ رجلاً قال : كل مملوك لي قديم فهو حرّ . أو كتب ذلك في وصيته : عتق منهم من مضى له حول أو أكثر . وقرىء : ( سابق النهار ) . على الأصل ، والمعنى : أنّ الله تعالى قسم لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسماً من الزمان ، وضرب له حدّاً معلوماً ، ودبر أمرهما على التعاقب ، فلا ينبغي للشمس : أي لا يتسهل لها ولا يصحّ ولا يستقيم لوقوع التدبير على المعاقبة ، وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان على حياله ) أَن تدْرِكَ القَمَرَ ( فتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه فتطمس نوره ، ولا يسبق الليل النهار يعني آية الليل آية النهار وهما

" صفحة رقم 21 "
النيران ، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك ، وينقض ما ألف فيجمع بين الشمس والقمر ، ويطلع الشمس من مغربها فإن قلت : لم جعلت الشمس غير مدركة ، والقمر غير سابق ؟ قلت : لأنّ الشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة ، والقمر يقطع فلكه في شهر ، فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالإدراك لتباطىء سيرها عن سير القمر خليقاً بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره ) وَكُلٌّ ( التنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، والمعنى : كلهم ، والضمير للشموس والأقمار على ما سبق ذكره .
) وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (
يس : ( 41 ) وآية لهم أنا . . . . .
) ذُرِّيَّتَهُمْ ( أولادهم ومن يهمهم حمله . وقيل : اسم الذرية يقع على النساء ، لأنهنّ مزارعها وفي الحديث :
( 937 ) أنه نهى عن قتل الذراري يعني النساء . ) مّن مّثْلِهِ ( من مثل الفلك ) مَا يَرْكَبُونَ ( من الإبل وهي سفائن البر وقيل ) الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( سفينة نوح ، ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها : أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين ، وفي أصلابهم هم وذرياتهم ، وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنّه أبلغ في الامتنان عليهم ، وأدخل في التعجيب من قدرته ، في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح . و ) مّن مّثْلِهِ ( من مثل ذلك الفلك ما يركبون من السفن والزوارق ) لا صَرِيخَ ( لا مغيث . أو لا إغاثة . يقال : أتاهم الصريخ ) وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ ( لا ينجون من الموت بالغرق ) إِلاَّ رَحْمَةً ( إلا لرحمة منا ولتمتيع بالحياة ) إِلَى حِينٍ ( إلى أجل يموتون فيه لا بدّ لهم منه بعد النجاة من موت الغرق . ولقد أحسن من قال :

" صفحة رقم 22 "
وَلَمْ أَسْلَمْ لِكَيْ أَبْقَى وَلَكِن
سَلِمْتُ مِنَ الْحِمَامِ إلَى الْحِمَام
وقرأ الحسن رضي الله عنه : ( نغرقهم ) .
) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (
يس : ( 45 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ ( كقوله تعالى : ) أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( ( سبأ : 9 ) وعن مجاهد : ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخر . وعن قتادة : ما بين أيديكم من الوقائع التي خلت ، يعني من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذبة بأنبيائها ، وما خلفكم من أمر الساعة ) لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( لتكونوا على رجاء رحمه الله . وجواب إذا محذوف مدلول عليه بقوله : ) إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( فكأنه قال : وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا . ثم قال : ودأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة .
) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ (
يس : ( 47 ) وإذا قيل لهم . . . . .
كانت الزناذقة منهم يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون : لو شاء الله لأغنى فلاناً ، ولو شاء لأعزّه ، ولو شاء لكان كذا ؛ فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله . ومعناه : أنطعم المقول فيه هذا القول بينكم ، وذلك أنهم كانوا دافعين أن يكون الغنى والفقر من الله ؛ لأنهم معطلة لا يؤمنون بالصانع : وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان بمكة زنادقة ، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا : لا والله ، أيفقره الله ونطعمه نحن ؟ وقيل : كانوا يوهمون أن الله تعالى لما كان قادراً على إطعامه ولا يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك . نزلت في مشركي قريش حين قال فقراء أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أعطونا مما زعمتم من أموالكم أنها لله ، يعنون قوله :
) وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاْنْعَامِ نَصِيباً ( ( الأنعام : 136 ) ، فحرموهم وقالوا : لو شاء الله لأطعمكم .

" صفحة رقم 23 "
) إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( قول الله لهم . أو حكاية قول المؤمنين لهم . أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين ) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (
.
يس : ( 48 - 50 ) ويقولون متى هذا . . . . .
وقرىء : ( وهم يخصمون ) بإدغام التاء في الصاد مع فتح الخاء وكسرها ، وإتباع الياء الخاء في الكسر ، ويختصمون على الأصل . ويخصمون ، من خصمه . والمعنى : أنها تبغتهم وهم في أمنهم وغفلتهم عنها ، لا يخطرونها ببالهم مشتغلين بخصوماتهم في متاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ويتشاجرون . ومعنى خصمون : يخصم بعضهم بعضاً . وقيل : تأخذهم وهم عند أنفسهم يخصمون في الحجة في أنهم لا يبعثون ) فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ( أن يوصلوا في شيء من أمورهم ) تَوْصِيَةً ( ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم وأهاليهم ، بل يموتون بحيث تفجؤهم الصيحة .
) وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الاٌّ جْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (
يس : ( 51 ) ونفخ في الصور . . . . .
قرىء : ( الصور ) بسكون الواو وهو الفرن ، أو جمع صورة ، وحرّكها بعضهم ، و ( الأجداث ) القبور . وقرىء : بالفاء ) يَنسِلُونَ ( يعدون بكسر السين وضمها ، وهي النفخة الثانية . وقرىء : ( يا ويلتنا ) عن ابن مسعود رضي الله عنه : من أهبنا ، من هب من نومه إذا انتبه ، وأهبه غيره وقرىء : ( من هبنا ) بمعنى أهبنا : وعن بعضهم : أراد هب بنا ، فحذف الجار وأوصل الفعل : وقرىء : ( من بعثنا ) ومن هبنا ، على من الجارة والمصدر ، و ) هَذَا ( مبتدأ ، و ) مَا وَعَدَ ( خبره ، وما مصدرية أو موصولة . ويجوز أن يكون هذا صفة للمرقد ، وما وعد : خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا وعد الرحمن ، أي : مبتدأ محذوف الخبر ، أي ما وعد ) الرَّحْمانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( حق . وعن مجاهد : للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم ، فإذا صيح بأهل القبور قالوا : من بعثنا ، وأما ) هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمانُ ( فكلام الملائكة . عن ابن عباس . وعن الحسن : كلام المتقين . وقيل : كلام الكافرين يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو بعضهم بعضاً . فإن قلت : إذا جعلت ( ما ) مصدرية : كان المعنى : هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين ، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق ، فما وجه قوله : ) وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( إذا

" صفحة رقم 24 "
جعلتها موصولة ؟ قلت : تقديره : هذا الذي وعده الرحمن والذي صدّقه المرسلون ، بمعنى : والذي صدق فيه المرسلون ، من قولهم : صدقوهم الحديث والقتال . ومنه صدقني سن بكره . فإن قلت : ) مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ( ؟ سؤال عن الباعث ، فكيف طابقه ذلك جواباً ؟ قلت : معناه بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل ؛ إلا أنه جيء به على طريقة : سيئت بها قلوبهم ، ونعيت إليهم أحوالهم ، وذكروا كفرهم وتكذيبهم ، وأخبروا بوقوع ما أنذروا به وكأنه قيل لهم : ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده ، حتى يهمكم السؤال عن الباعث ، إن هذا هو البعث الأكبر ذو الأهوال والأفزاع ، وهو الذي وعده الله في كتبه المنزّلة على ألسنة رسله الصادقين .
) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظِلَالٍ عَلَى الاٌّ رَآئِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (
يس : ( 53 ) إن كانت إلا . . . . .
(إلا صيحة واحدة ) قرئت منصوبة ومرفوعة ) فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ( . . . . . . ) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ ( حكاية ما يقال لهم في ذلك اليوم . وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود ، وتمكين له في النفوس ، وترغيب في الحرص عليه وعلى ما يثمره ) فِى شُغُلٍ ( في أي شغل وفي شغل لا يوصف ، وما ظنك بشغل من سعد بدخول الجنة التي هي دار المتقين ، ووصل إلى نيل تلك الغبطة وذلك الملك الكبير والنعيم المقيم ، ووقع في تلك الملاذ التي أعدّها الله للمرتضين من عباده ، ثواباً لهم على أعمالهم مع كرامة وتعظيم ، وذلك بعد الوله والصبابة ، والتفصي من مشاق التكليف ومضايق التقوى والخشية ، وتخطي الأهوال ، وتجاوز الأخطار وجواز الصراط . ومعاينة ما لقى العصاة من العذاب ، وعن ابن عباس : في افتضاض الأبكار . وعنه : في ضرب الأوتار . وعن ابن كيسان : في التزاور . وقيل : في ضيافة الله . وعن الحسن : شغلهم عما فيه أهل النار التنعم بما هم فيه . وعن الكلبي : هم شغل عن أهاليهم من أهل النار ، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم : لئلا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم . قرىء : ( في شغل ) بضمتين وضمة وسكون ، وفتحتين ، وفتحة وسكون . والفاكه والفكه : المتنعم

" صفحة رقم 25 "
والمتلذذ : ومنه الفاكهة ؛ لأنها مما يتلذذ به . وكذلك الفكاهة ، وهي المزاحة . وقرىء : ( فاكهون ) وفكهون ، بكسر الكاف وضمها ، وكقولهم : رجل حدث وحدث ، ونطس ونطس . وقرىء : ( فاكهين ) وفكهين ، على أنه حال والظرف مستقر ) هُمْ ( يحتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون تأكيداً للضمير في ) فِى شُغُلٍ ( وفي ) فَاكِهُونَ ( على أنّ أزواجهم يشاركنهم في ذلك الشغل والتفكه والاتكاء على الأرائك تحت الظلال . وقرىء : ( في ظلل ) ، والأريكة : السرير في الحجلة . وقيل : الفراش فيها . وقرأ ابن مسعود : ( متكين ) ) يَدَّعُونَ ( يفتعلون من الدعاء ، أي : يدعون به لأنفسهم ، كقولك : اشتوى واجتمل ، إذا شوى وجمل لنفسه . قال لبيد : فَاشْتَوَى لَيْلَةَ رِيحٍ وَاجْتَمَلْ ;
ويجوز أن يكون بمعنى يتداعونه ، كقولك : ارتموه ، وتراموه . وقيل : يتمنون ، من قولهم : ادّع عليّ ما شئت ، بمعنى تمنه عليّ ، وفلان في خير ما أدّعى ، أي في خير ما تمنّى . قال الزجاج : وهو من الدعاء ، أي : ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم . و ( سلام ) بدل مما يدعون ، كأنه قال لهم : سلام يقال لهم ) قَوْلاً مّن ( جهة ) رَّبّ رَّحِيمٍ ( والمعنى : أنّ الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة ، أو بغير واسطة ، مبالغة في تعظيمهم وذلك متمناهم ، ولهم ذلك لا يمنعونه . قال ابن عباس : فالملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين . وقيل : ) مَّا يَدَّعُونَ ( ، مبتدأ وخبره سلام ، بمعنى : ولهم ما يدعون سالم خالص لا شوب فيه . و ) قَوْلاً ( مصدر مؤكد لقوله تعالى : ) وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سَلَامٌ ( أي : عدة من رب رحيم . والأوجه : أن ينتصب على الاختصاص ، وهو من مجازه . وقرىء : ( سلم ) وهو بمعنى السلام في المعنيين . وعن ابن مسعود : سلاماً نصب على الحال ، أي لهم مرادهم خالصاً .
) وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (
يس : ( 59 ) وامتازوا اليوم أيها . . . . .
) وَامْتَازُواْ ( وانفردوا عن المؤمنين ، وكونوا على حدة ، وذلك حين يحشر المؤمنون

" صفحة رقم 26 "
ويسار بهم إلى الجنة . ونحوه قوله تعالى : ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ ( . . . الآية ( الروم : 14 ) . يقال : مازه فانماز وامتاز . وعن قتادة : اعتزلوا عن كل خير . وعن الضحاك : لكل كافر بيت من النار يكون فيه ، لا يرى ولا يرى . ومعناه : أنّ بعضهم يمتاز من بعض .
) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِىءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِى هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (
يس : ( 60 ) ألم أعهد إليكم . . . . .
العهد : الوصية ، وعهد إليه : إذا وصاه . وعهد الله إليهم : ما ركزه فيهم من أدلة العقل وأنزل عليهم من دلائل السمع . وعبادة الشيطان : طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم . وقرىء : ( إعهد ) بكسر الهمزة . وباب ( فعل ) كله يجوز في حروف مضارعته الكسر ، إلا في الياء . وأعهد ، بكسر الهاء . وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب . وأحهد : بالحاء . وأحد : وهي لغة تميم . ومنه قولهم : دحا محا ) هَاذَا ( إشارة إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن ، إذ لا صراط أقوم منه ، ونحو التنكير فيه ما في قول كثيِّرُ : لَئِنْ كَانَ يُهْدَى بَرْدُ أَنْيَابِهَا الْعُلا
لأَفْقَرَ مِنِّي إنَّنِي لَفَقِيرُ
أراد : إنني لفقير بليغ الفقر ، حقيق بأن أوصف به لكمال شرائطه فيّ ، وإلا لم يستقم معنى البيت ، وكذلك قوله : ) هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( يريد : صراط بليغ في بابه ، بليغ في استقامته ، جامع لكل شرط يجب أن يكون عليه . ويجوز أن يراد : هذا بعض الصرط المستقيمة ، توبيخاً لهم على العدول عنه ، والتفادي عن سلوكه ، كما يتفادى الناس على الطريق المعوج الذي يؤدي إلى الضلالة والتهلكة ، كأنه قيل : أقل أحوال الطريق الذي هو أقوم الطرق : أن يعتقد فيه كما يعتقد في الطريق الذي لا يضل السالك ، كما يقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ الذي لبس بعده : هذا فيما أظنّ قول نافع غير ضار ، توبيخاً له على الإعراض عن نصائحه .
) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
يس : ( 62 ) ولقد أضل منكم . . . . .

" صفحة رقم 27 "
(
قرىء : ( جبلا ) بضمتين ، وضمة وسكون ، وضمتين وتشديدة ، وكسرتين ، وكسرة وسكون ، وكسرتين وتشديدة . وهذه اللغات في معنى الخلق . وقرىء : ( جبلا ) جمعة جبلة ، كفطر وخلق ، وفي قراءة علي رضي الله عنه : جيلا واحداً ، لا أجيال .
) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (
يس : ( 65 ) اليوم نختم على . . . . .
يروى أنهم يجحدون ويخاصمون ؛ فتشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم ، فيحلفون ما كانوا مشركين ، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم . وفي الحديث :
( 938 ) ( يقول العبد يوم القيامة : إني لا أجيز عليّ شاهداً إلا من نفسي ، فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكنّ وسحقاً ، فعنكن كنت أناضل ) ، وقرىء : ( يختم على أفواههم ) تتكلم أيديهم . وقرىء : ( ولتكلمنا أيديهم وتشهد ) بلام كي والنصب على معنى : ولذلك تختم على أفواههم : وقرىء : ( ولتكلمنا أيديهم ولتشهد ) بلام الأمر والجزم على أنّ الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة .
) وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ (
يس : ( 66 ) ولو نشاء لطمسنا . . . . .
الطمس : تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة ) فَاسْتَبَقُواْ الصّراطَ ( لا يخلو من أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل . والأصل : فاستبقوا إلى الصراط . أو يضمن معنى ابتدروا . أو يجعل الصراط مسبوقاً لا مسبوقاً إليه . أو ينتصب على الظرف . والمعنى : أنه لو شاء لمسح أعينهم ، فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع الذي اعتادوا سلوكه إلى مساكنهم وإلى مقاصدهم المألوفة التي تردّدوا إليها كثيراً كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرفاتهم موضعين في أمور دنياهم لم يقدروا ، وتعايي عليهم أن يبصروا

" صفحة رقم 28 "
ويعلموا جهة السلوك فضلاً عن غيره . أو لو شاء لأعماهم ، فلوا أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيراهم لم يستطيعوا . أو لو شاء لأعماهم ، فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقاً ، يعني أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك ، كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضروا به من المقاصد دون غيرها ( على مكانتهم ) وقرىء : ( على مكاناتهم ) والمكانة والمكان واحد ، كالمقامة والمقام . أي : لمسخناهم مسخاً يجمدهم مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه بإقبال ولا إدبار ولا مضيّ ولا رجوع واختلف في المسخ ، فعن ابن عباس : لمسخناهم قردة وخنازير . وقيل : حجارة . عن قتادة : لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم . وقرىء : ( مضياً ) بالحركات الثلاث ، فالمضيّ والمضي كالعتيّ والعتي . والمضيّ كالصبيّ .
) وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ (
يس : ( 68 ) ومن نعمره ننكسه . . . . .
(ننكسه في الخلق ) نقلبه فيه فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل ، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده ، وخلو من عقل وعلم ، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال ويرتقي من درجة إلى درجة ، إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته ، ويعقل ويعلم ما له وما عليه ، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقص ، حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبيّ في ضعف جسده وقلة عقله وخلّوه من العلم ، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله . قال عزّ وجلّ : ) وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ( ( الحج : 5 ) ، ) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( ( التين : 5 ) وهذه دلالة على أنّ من ينقلهم من الشباب إلى الهرم ومن القوّة إلى الضعف ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ومن العلم إلى الجهل بعد ما نقلهم خلاف هذا النقل وعكسه قادر على أن يطمس على أعينهم ويمسخهم على مكانتهم ويفعل بهم ما شاء وأراد : وقرىء : بكسر الكاف ( وننكسه ) و ( ننكسه ) من التنكيس والإنكاس ) أَفَلاَ يَعْقِلُونَ ( بالياء والتاء .
) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (
يس : ( 69 ) وما علمناه الشعر . . . . .
كانوا يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : شاعر ، وروى أنّ القائل : عقبة بن أبي معيط ، فقيل :

" صفحة رقم 29 "
) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ ( أي : وما علمناه بتعليم القرآن الشعر ، على معنى : أنّ القرآن ليس بشعر وما هو من الشعر في شيء . وأين هو عن الشعر ، والشعر إنما هو كلام موزون مقفى ، يدل على معنى ، فأين الوزن ؟ وأين التقفية ؟ وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء عن معانيه ؟ وأين نظم كلامهم من نظمه وأساليبه ؟ فإذاً لا مناسبة بينه وبين الشعر إذا حققت ، اللهمّ إلا أنّ هذا لفظه عربي ، كما أنّ ذاك كذلك ) وَمَا يَنبَغِى لَهُ ( وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه ، أي : جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل ، كما جعلناه أمّياً لا يتهدّى للخط ولا يحسنه ، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض . وعن الخليل : كان الشعر أحب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من كثير من الكلام ، ولكن كان لا يتأتى له . فإن قلت :
( 939 ) فقوله : أَنَا النَّبيُّ لاَ كَذِب
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِب
( 940 ) وقوله : هَلْ أَنْتَ إلاَّ أُصْبُعٌ دَمِيت
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيت
قلت : ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة ، من غير صنعة ولا تكلف ، إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه إن جاء موزوناً ، كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة لا يسميها أحد شعراً ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنها شعر ، وإذا فتشت في كل كلام عن نحو ذلك وجدت الواقع في أوزان البحور غير عزيز ، على أن الخليل ما كان يعدّ المشطور من الرجز شعراً ، ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال : ) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ ( يعني : ما هو إلا ذكر من الله تعالى يوعظ به الإنس والجنّ ، كما قال : ) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( ( التكوير : 27 ) وما هو إلا قرآن كتاب سماوي ، يقرأ في المحاريب ، ويتلى في المتعبدات ، وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين ، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين ؟ ) لّيُنذِرَ ( القرآن أو الرسول

" صفحة رقم 30 "
وقرىء : ( لتنذر ) بالتاء . ولينذر : من نذر به إذا علمه ) مَن كَانَ حَيّاً ( أي عاقلاً متأملاً ، لأن الغافل كالميت . أو معلوماً منه أنه يؤمن فيحيا بالإيمان ) وَيَحِقَّ الْقَوْلُ ( وتجب كلمة العذاب ) عَلَى الْكَافِرِينَ ( الذي لا يتأملون ولا يتوقع منهم الإيمان .
) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ (
يس : ( 71 ) أو لم يروا . . . . .
) مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ( مما تولينا نحن إحداثه ولم يقدر على توليه غيرنا ، وإنما قال ذلك لبائع الفطرة والحكمة فيها ، التي لا يصحّ أن يقدر عليها إلا هو . وعمل الأيدي : استعارة من عمل من يعملون بالأيدي ) فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ( أي خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم ، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك ، مختصون بالانتفاع فيها لا يزاحمون . أو فهم لها ضابطون قاهرون ، من قوله : أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السِّلاَحَ وَلا
أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إنْ نَفَرَا
أي لا أضبطه ، وهو من جملة النعم الظاهرة ، وإلا فمن كان يقدر عليها لولا تذليله وتسخيره لها ، كما قال القائل : يُصَرِّفُهُ الصَّبِيُّ بِكُلِّ وَجْه
وَيَحْبِسُهُ عَلَى الْخَسْفِ الْجَرِير
وَتَضْرِبُهُ الْوَلِيدَةُ بِالْهَرَاوَى
فَلاَ غِيَرٌ لَدَيْهِ وَلاَ نَكِيرُ
ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله : سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين . وقرىء : ( ركوبهم ) وركوبتهم . وهما ما يركب ، كالحلوب والحلوبة . وقيل : الركوبة جمع . وقرىء : ( ركوبهم ) أي ذو ركوبهم . أو فمن منافعها ركوبهم ) مَنَافِعُ ( من الجلود والأوبار والأصواف وغير ذلك ) مشارب ( من اللبن ، ذكرها مجملة ، وقد فصلها في قوله تعالى : ) سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الاْنْعَامِ بُيُوتًا ( ( النحل : 80 ) . . . الآية ، والمشارب : جمع مشرب وهو موضع الشرب ، أو الشرب .
) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ (
) مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ( مما تولينا نحن إحداثه ولم يقدر على توليه غيرنا ، وإنما قال ذلك لبائع الفطرة والحكمة فيها ، التي لا يصحّ أن يقدر عليها إلا هو . وعمل الأيدي : استعارة من عمل من يعملون بالأيدي ) فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ( أي خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم ، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك ، مختصون بالانتفاع فيها لا يزاحمون . أو فهم لها ضابطون قاهرون ، من قوله : أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السِّلاَحَ وَلا
أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إنْ نَفَرَا
أي لا أضبطه ، وهو من جملة النعم الظاهرة ، وإلا فمن كان يقدر عليها لولا تذليله وتسخيره لها ، كما قال القائل : يُصَرِّفُهُ الصَّبِيُّ بِكُلِّ وَجْه
وَيَحْبِسُهُ عَلَى الْخَسْفِ الْجَرِير
وَتَضْرِبُهُ الْوَلِيدَةُ بِالْهَرَاوَى
فَلاَ غِيَرٌ لَدَيْهِ وَلاَ نَكِيرُ
ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله : سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين . وقرىء : ( ركوبهم ) وركوبتهم . وهما ما يركب ، كالحلوب والحلوبة . وقيل : الركوبة جمع . وقرىء : ( ركوبهم ) أي ذو ركوبهم . أو فمن منافعها ركوبهم ) مَنَافِعُ ( من الجلود والأوبار والأصواف وغير ذلك ) مشارب ( من اللبن ، ذكرها مجملة ، وقد فصلها في قوله تعالى : ) سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الاْنْعَامِ بُيُوتًا ( ( النحل : 80 ) . . . الآية ، والمشارب : جمع مشرب وهو موضع الشرب ، أو الشرب .
) وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ

" صفحة رقم 31 "
مٌّ حْضَرُونَ فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (
يس : ( 74 ) واتخذوا من دون . . . . .
اتخذوا الآلهة طمعاً في أن يتقوّوا بهم ويتعضدوا بمكانهم ، والأمر على عكس ما قدّروا حيث هم جند لآلهتهم معدّون ) مُحْضَرُونَ ( يخدمونهم ويذبون عنهم ، ويغضبون لهم ؛ والآلهة لا استطاعة بهم ولا قدرة على النصر ، أو اتخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم ، والأمر على خلاف ما توهموا ، حيث هم يوم القيامة جند معدّون لهم محضرون لعذابهم ؛ لأنهم يجعلون وقوداً للنار . وقرىء : ( فلا يحزنك ) بفتح الياء وضمها ، من حزنه أحزنه . والمعنى : فلا يهمنك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم ، فإنا عالمون بما يسرون لك من عداوتهم ) وَمَا يُعْلِنُونَ ( وإنا مجاوزهم عليه ، فحقّ مثلك أن يتسلى بهذا الوعيد ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة حتى ينقشع عنه الهمّ ولا يرهقه الحزن . فإن قلت : ما تقول فيمن يقول : إن قرأ قارىء : ( أنا نعلم ) بالفتح : انتقضت صلاته ، وإن اعتقد ما يعطيه من المعنى : كفر ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون على حذف لام التعليل ، وهو كثير في القرآن وفي الشعر ، وفي كل كلام وقياس مطرد ، وهذا معناه ومعنى الكسر سواء . وعليه تلبية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 941 ) ( إنّ الحمد والنعمة لك ) ، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي ، وكلاهما تعليل . والثاني : أن يكون بدلاً من ) قَوْلُهُمْ ( كأنه قيل : فلا يحزنك ، إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون . وهذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة للقول ، فقد تبين أن تعلق الحزن بكون الله عالماً وعدم تعلقه لا يدوران على كسر إن وفتحها ، وأنما يدوران على تقديرك ، فتنفصل إن فتحت بأن تقدّر معنى التعليل ولا تقدّر البدل ، كما أن تفصل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدّر معنى المفعولية ، ثم إن قدّرته كاسراً أو فاتحاً على ما عظم فيه الخطب ذلك القائل ، فما فيه إلا نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحزن عن كون الله عالماً بسرهم وعلانيتهم ، وليس النهي عن ذلك مما يوجب شيئاً ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ) فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لّلْكَافِرِينَ ( ( القصص : 86 ) ، ) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( ( القصص : 87 ) ، ) وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءاخَرَ ( ( القصص : 88 ) .

" صفحة رقم 32 "
) أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّ بِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاٌّ خْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاٌّ رْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (
يس : ( 77 ) أو لم ير . . . . .
قبح الله عزّ وجلّ إنكارهم البعث تقبيحاً لا ترى أعجب منه وأبلغ ، ودلّ على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في جحود النعم وعقوق الأيادي ، وتوغله في الخسّة وتغلغله في القحة ، حيث قرره بأن عنصره الذي خلقه منه هو أخسّ شيء وأمهنه ، وهو النطفة المذرة الخارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة ، ثم عجب من حاله بأن يتصدّى مثله على مهانة أصله ودناءة أوّله لمخاصمة الجبار ، وشرر صفحته لمجادلته ، ويركب متن الباطل ويلج ، ويمحك ويقول : من يقدر على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه ، ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به ، وهو كونه منشأ من موات ، وهو ينكر إنشاءه من موات ، وهي المكابرة التي لا مطمح وراءها ، وروى :
( 942 ) أن جماعة من كفار قريش منهم أبيّ بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاصي بن وائل والوليد بن المغيرة تكلموا في ذلك ، فقال لهم أبيّ : ألا ترون إلى ما يقول محمد ، إنّ الله يبعث الأموات ، ثم قال : واللات والعزّى لأصيرنّ إليه ولأخصمنه ،

" صفحة رقم 33 "
وأخذ عظماً بالياً فجعل يفته بيده وهو يقول : يا محمد ، أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( نعم ويبعثك ويدخلك جهنم ) وقيل : معنى قوله : ) فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ( فإذا هو بعد ما كان ماء مهيناً رجل مميز منطبق قادر على الخصام ، مبين : معرب عما في نفسه فصيح ، كما قال تعالى : ) أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( ( الزخرف : 18 ) . فإن قلت : لم سمى قوله : ) مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ( مثلاً ؟ قلت : لما دلّ عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل ، وهي إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى . أو لما فيه من التشبيه ، لأن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله بالقدرة عليه ، بدليل النشأة الأولى ، فإذا قيل : من يحيي العظام على طريق الإنكار لأن يكون ذلك مما يوصف الله تعالى بكونه قادراً عليه ، كان تعجيزاً لله وتشبيهاً له بخلقه في أنهم غير موصوفين بالقدرة عليه . والرميم : اسم لما بلي من العظام غير صفة ، كالرمة والرفات ، فلا يقال : لم لم يؤنث وقد وقع خبر المؤنث ؟ ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول ، ولقد استشهد بهذه الآية من يثبت الحياة في العظام ويقول : إن عظام الميتة نجسة لأن الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها . وأما أصحاب أبي حنيفة فهي عندهم طاهرة ، وكذلك الشعب والعصب ، ويزعمون أنّ الحياة لا تحلها فلا يؤثر فيها الموت ، ويقولون : المراد بإحياء العظام في الآية ردّها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حيّ حساس ) وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( يعلم كيف يخلق ، لا يتعاظمه شيء من خلق المنشآت والمعادات ومن أجناسها وأنواعها وجلائلها ودقائقها . ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر ، مع مضادة النار الماء وانطفائها به وهي الزناد التي ترى بها الأعراض وأكثرها من المرخ والعفار ، وفي أمثالهم : في كل شجر نار . واستمجد المرخ والعفار ، يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان ، يفطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر ، على العفار وهي أنثى فتنقدح النار بإذن الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من شجرة إلا وفيها النار إلا العناب . قالوا : ولذلك تتخذ منه كذينقات القصارين . قرىء : ( الأخضر ) على اللفظ . وقرىء : ( الخضراء ) على المعنى : ونحو قوله تعالى : ) مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ( ( الواقعة : 54 ) . من قدر على خلق السماوات والأرض من عظم شأنهما فهو على خلق الأناسي أقدر ، وفي معناه قوله تعالى : ) لَخَلْقُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( ( غافر : 57 ) . وقرىء : ( يقدر )

" صفحة رقم 34 "
وقوله : ) أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( يحتمل معنيين : أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السماوات والأرض أو أن يعيدهم ؛ لأن المعاد مثل للمبتدأ وليس به ) وَهُوَ الْخَلَّاقُ ( الكثير المخلوقات ) الْعَلِيمُ ( الكثير المعلومات . وقرىء : ( الخالق ) ) إِنَّمَا أَمْرُهُ ( إنما شأنه ) إِذَا أَرَادَ شَيْئاً ( إذا دعاه داعي حكمة إلى تكوينه ولا صارف ) أَن يَقُولَ لَهُ كُن ( أن يكونه من غير توقف ) فَيَكُونُ ( فيحدث ، أي : فهو كائن موجود لا محالة . فإن قلت : ما حقيقة وقوله : ) أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ؟ قلت : هو مجاز من الكلام وتمثيل ، لأنه لا يمتنع عليه شيء من المكونات ، وأنه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع . فإن قلت : فما وجه القراءتين في فيكون ؟ قلت : أما الرفع فلأنها جملة من مبتدأ وخبر ؛ لأن تقديرها : فهو يكون ، معطوفة على مثلها ، وهي أمره أن يقول له كن . وأما النصب فللعطف على يقول ، والمعنى : أنه لا يجوز عليه شيء مما يجوز على الأجسام إذا فعلت شيئاً مما تقدر عليه ، من المباشرة بمحال القدرة ، واستعمال الآلات ، وما يتبع ذلك من المشقة والتعب واللغوب إنما أمره وهو القادر العالم لذاته أن يخلص داعيه إلى الفعل ، فيتكون فمثله كيف يعجز عن مقدور حتى يعجز عن الإعادة ؟ ) فَسُبْحَانَ ( تنزيه له مما وصفه به المشركون ، وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا : ) بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء ( هو مالك كل شيء والمتصرف فيه بمواجب مشيئته وقضايا حكمته . وقرىء : ( ملكة كل شيء ) وملك كل شيء . والمعنى واحد ) تُرْجَعُونَ ( بضم التاء وفتحها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كنت لا أعلم ما روي في فضائل يس وقراءتها كيف خصت ، بذلك ، فإذا أنه لهذه الآية .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 943 ) ( إنّ لكل شيء قلباً ، وإن قلب القرآن يس ، من قرأ يس يريد بها وجه الله ،

" صفحة رقم 35 "
غفر الله تعالى له ، وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة ، وأيما مسلم قرىء يس قرىء عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يصلون عليه ويشهدون دفنه ، وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يحييه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة يشربها وهو على فراشه ، فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان ، ويمكث في قبره وهو ريان ، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان . وقال عليه الصلاة والسلام :
( 944 ) ( إن في القرآن سورة يشفع قارئها ويغفر لمستمعها ألا وهي سورة يس ) .

" صفحة رقم 36 "
( سورة الصافات )
مكية ، وهي مائة وإحدى وثمانون آية ، وقيل : واثنتان وثمانون
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزَاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَاهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (
الصافات : ( 1 ) والصافات صفا
أقسم الله سبحانه بطوائف الملائكة أو بنفوسهم الصافات أقدامها في الصلاة ، من قوله تعالى : ) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( ( الصافات : 165 ) أو أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله ) فَالزجِراتِ ( السحاب سوقاً ) فَالتَّالِيَاتِ ( لكلام الله من الكتب المنزلة وغيرها . وقيل : ) الصافات ( : الطير ، من قوله تعالى : ) وَالاْرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ( ( النور : 41 ) والزاجرات : كل ما زجر عن معاصي الله . والتاليات : كل من تلا كتاب الله ، ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات فالزجرات بالمواعظ والنصائح فالتاليات آيات الله والدراسات شرائعه أو بنفوس قواد الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل للجهاد ، وتتلو الذكر مع ذلك لا تشغلها عنه تلك الشواغل ، كما يحكى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه . فإن

" صفحة رقم 37 "
قلت : ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات ؟ قلت : إما أن تدلّ على ترتب معانيها في الوجود ، كقوله : يَا لَهْفَ زيابة لِلْحَرْثِ الصَّابِحِ فَالغَانِمِ فَالآيِبِ ;
كأنه قيل : الذي صبح فغنم فآب . وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه ، كقولك : خذ الأفضل فالأكمل ، واعمل الأحسن فالأجمل . وإما على ترتيب موصوفاتها في ذلك ، كقوله : رحم الله المحلقين فالمقصرين ؛ فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات فإن قلت : فعلى أي هذه القوانين هي فيما أنت بصدده ؟ قلت : إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على أن ترتب الصفات في التفاضل ، وإن ثلثته ، فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه ، بيان ذلك : إنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة وجعلتهم جامعين لها ، وإما على العكس ، وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة . وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أخر ، فقد أفادت ترتب الموصوفات في الفضل ، أعني أن الطوائف الصافات ذوات فضل والزاجرات أفضل ، والتاليات أبهر فضلاً ، أو على العكس ، وكذلك إذا أردت بالصافات : الطير ، وبالزاجرات : كل ما يزجر عن معصية . وبالتاليات : كل نفس تتلو الذكر ؛ فإن الموصوفات مختلفة . وقرىء : بإدغام التاء في الصاد والزاي والذال ) رَّبُّ السَّمَاواتِ ( خبر بعد خبر . أو خبر مبتدأ محذوف . و ) الْمَشَارِقِ ( ثلثمائة وستون مشرقاً ، وكذلك المغارب : تشرق الشمس كل يوم في مشرق وتغرب في مغرب ، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين . فإن قلت : فماذا أراد بقوله : ) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( ( الرحمن : 17 ) ؟ قلت : أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما .
) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (
الصافات : ( 6 ) إنا زينا السماء . . . . .
) الدُّنْيَا ( القربى منكم . والزينة : مصدر كالنسبة ، واسم لما يزان به الشيء ، كالليقة اسم لما تلاق به الدواة ، ويحتملهما قوله : ) بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ( فإن أردت المصدر ، فعلى إضافته إلى الفاعل ، أي : بأن زانتها الكواكب ، وأصله : بزينة الكواكب : أو على إضافته إلى المفعول ، أي : بأن زان الله الكواكب وحسنها ، لأنها إنما زينت السماء لحسنها في أنفسها ، وأصله ) بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ( وهي قراءة أبي بكر والأعمش وابن وثاب ، وإن أردت الاسم فللإضافة وجهان : أن تقع الكواكب بياناً للزينة ، لأن الزينة مبهمة في الكواكب

" صفحة رقم 38 "
وغيرها مما يزان به ، وأن يراد ما زينت به الكواكب . وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : بزينة الكواكب : بضوء الكواكب : ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة ، كشكل الثريا وبنات نعش والجوزاء ، وغير ذلك ، ومطالعها ومسايرها . وقرىء : على هذا المعنى : ( بزينة الكواكب ) بتنوين زينة وجرّ الكواكب على الإبدال . ويجوز في نصب الكواكب : أن يكون بدلاً من محل بزينة ) وَحِفْظاً ( مما حمل على المعنى ؛ لأنّ المعنى : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً من الشياطين ، كما قال تعالى : ) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( ( الملك : 5 ) ويجوز أن يقدر الفعل المعلل كأنه قيل : وحفظاً ) مِن كُلّ شَيْطَانٍ ( زيناها بالكواكب ، وقيل : وحفظناها حفظاً . والمارد : الخارج من الطاعة المتلمس منها .
) لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الاٌّ عْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (
الصافات : ( 8 ) لا يسمعون إلى . . . . .
الضمير في ( لا يسمعون ) لكل شيطان ، لأنه في معنى الشياطين . وقرىء بالتخفيف والتشديد ، وأصله : يتسمعون . والتسميع : تطلب السماع . يقال : تسمع فسمع ، أو فلم يسمع . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هم يتسمعون ولا يسمعون ، وبهذا ينصر التخفيف على التشديد . فإن قلت : لا يسمعون كيف اتصل بما قبله ؟ قلت : لا يخلو من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لكل شيطان ، أو استئنافاً فلا تصحّ الصفة ؛ لأنّ

" صفحة رقم 39 "
الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا يتسمعون لا معنى له ، وكذلك الاستئناف ؛ لأنّ سائلاً لو سأل : لم تحفظ من الشياطين ؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون : لم يستقم ، فبقي أن يكون كلاماً منقطعاً مبتدأ اقتصاصاً ، لما عليه حال المسترقة للسمع ، وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة . أو يتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك ، إلا من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة ؛ فعندها تعاجله الهلكة بإتباع الشهاب الثاقب . فإن قلت : هل يصحّ قول من زعم أن أصله : لئلا يسمعوا فحذفت اللام كما حذفت في قولك : جئتك أن تكرمني ، فبقي أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها ، كما في قول القائل : أَلاَ أَيُّهَا ذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغى ;
قلت : كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده ، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات ، على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب . فإن قلت : أي فرق بين سمعت فلاناً يتحدّث ، وسمعت إليه يتحدّث ، وسمعت حديثه ، وإلى حديثه ؟ قلت : المعدى بنفسه يفيد الإدراك والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك والملأ الأعلى : الملائكة ؛ لأنهم يسكنون السماوات ، والإنس والجن : هم الملأ الأسفل ؛ لأنهم سكان الأرض . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هم الكتبة من الملائكة . وعنه : أشراف الملائكة ) مِن كُلّ جَانِبٍ ( من جميع جوانب السماء من أي جهة صعدوا للاستراق ) دُحُوراً ( مفعول له ، أي : ويقذفون للدحور وهو الطرد ، أو مدحورين على الحال ، أو لأنّ القذف والطرد متقاربان في المعنى ، فكأنه قيل : يدحرون أو قذفاً . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي بفتح الدال على : قذفاً دحوراً طروداً . أو على أنه قد جاء مجيء القبول والولوع . والواصب : الدائم ، وصب الأمر وصوباً ، يعني أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب ، وقد أعدّ لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع ) مَنْ ( في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون ، أي : لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي ) خَطِفَ

" صفحة رقم 40 "
الْخَطْفَةَ ( وقرىء : ( خطف ) بكسر الخاء والطاء وتشديدها ، وخطف بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها ، وأصلهما : اختطف . وقرىء : ( فأتبعه ) وفاتبعه .
) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ (
الصافات : ( 11 ) فاستفتهم أهم أشد . . . . .
الهمزة وإن خرجت إلى معنى التقرير فهي بمعنى الاستفهام في أصلها ، فلذلك قيل : ) فَاسْتَفْتِهِمْ ( أي استخبرهم ) أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ( ولم يقل : فقرّرهم والضمير لمشركي مكة . قيل : نزلت في أبي الأشد بن كلدة ، وكني بذلك لشدّة بطشه وقوّته ) أَم مَّنْ خَلَقْنَا ( يريد : ما ذكر من خلائقه : من الملائكة ، والسماوات والأرض ، والمشارق ، والكواكب ، والشهب الثواقب ، والشياطين المردة ، وغلب أولي العقل على غيرهم ، فقال : من خلقنا ، والدليل على قوله بعد عدّ هذه الأشياء : ) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا ( بالفاء المعقبة . وقوله : ) أَم مَّنْ خَلَقْنَا ( مطلقاً من غير تقييد بالبيان ، اكتفاء ببيان ما تقدّمه ، كأنه قال : خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق وبدائعه ، فاستفتهم أهم أشدّ خلقاً أم الذي خلقناه من ذلك ، ويقطع به قراءة من قرأ : ( أم من عددنا ) بالتخفيف والتشديد . وأشدّ خلقاً : يحتمل أقوى خلقاً من قولهم : شديد الخلق . وفي خلقه شدّة ، وأصعب خلقاً وأشقّه ، على معنى الردّ لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى ، وأنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون . وخلقهم ) مّن طِينٍ لاَّزِبٍ ( إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأنّ ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوّة ، أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب ، فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا : ائذا كنا تراباً . وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث . وقيل : من خلقنا من الأمم الماضية ، وليس هذا القول بملائم . وقرىء : ( لازب ) لاتب ، والمعنى واحد ، والثاقب : الشديد الإضاءة .
) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ ءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ (
الصافات : ( 12 ) بل عجبت ويسخرون
(بل عجبت ) من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة ( و ) هم ) يسخرون ( منك ومن تعجبك وما تريهم من آثار قدرة الله ، أو من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث وقرىء : بضم التاء ، أي : بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني عجبت منها ، فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون من آياتي أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله ، وهم يسخرون ممن يصف الله بالقدرة عليه . فإن قلت : كيف يجوز العجب على الله تعالى ، وإنما هو روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء ، والله تعالى لا يجوز عليه الروعة ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يجرد العجب لمعنى

" صفحة رقم 41 "
الاستعظام : والثاني : أن يتخيل العجب ويفرض . وقد جاء في الحديث :
( 945 ) ( عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم ) . وكان شريح يقرأ بالفتح ويقول : إنّ الله لا يعجب من شيء ، وإنما يعجب من لا يعلم ، فقال إبراهيم النخعي : إنّ شريحاً كان يعجبه علمه وعبد الله أعلم ، يريد عبد الله بن مسعود ، وكان يقرأ بالضم . وقيل : معناه : قل يا محمد بل عجبت . ) وَيَسْخُرُونَ وَإِذَا ذُكّرُواْ ( ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به ) وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً ( من آيات الله البينة كانشقاق القمر ونحوه ) يَسْتَسْخِرُونَ ( يبالغون في السخرية ، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها .
) وَقَالُواْ إِن هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءَابَآؤُنَا الاٌّ وَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (
الصافات : ( 15 - 19 ) وقالوا إن هذا . . . . .
) وَءابَاؤُنَا ( معطوف على محل ) إِن ( واسمها . أو على الضمير في مبعوثون ، والذي جوّز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام . والمعنى : أيبعث أيضاً آباؤنا على زيادة الاستبعاد ، يعنون أنهم أقدم ، فبعثهم أبعد وأبطل . وقرىء : ( أو آباؤنا ) ) قُلْ نَعَمْ ( وقرىء : ( نعم ) بكسر العين وهما لغتان . وقرىء : ( قال نعم ) أي : الله تعالى أو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) . والمعنى : نعم تبعثون ) وَأَنتُمْ داخِرُونَ ( صاغرون ) فَإِنَّمَا ( جواب شرط مقدّر تقديره : إذا كان ذلك فما ) هِىَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ( وهي لا ترجع إلى شيء ، إنما هي مبهمة موضحها خبرها . ويجوز : فإنما البعثة زجرة واحدة وهي النفخة الثانية . والزجرة : الصيحة ، من قولك : زجر الراعي الإبل أو الغنم : إذا صاح عليها فريعت لصوته . ومنه قوله : زَجْرَ أَبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إذَا
أَشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بِالغَنَمِ
يريد تصوينه بها ) فَإِذَا هُم ( أحياء بصراء ) يُنظَرُونَ ( .
) وَقَالُواْ ياوَيْلَنَا هَاذَا يَوْمُ الدِّينِ هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (
الصافات : ( 20 - 21 ) وقالوا يا ويلنا . . . . .
يحتمل أن يكون ) هَاذَا يَوْمُ الدّينِ ( إلى قوله : ) احْشُرُواْ ( من كلام الكفرة بعضهم

" صفحة رقم 42 "
مع بعض وأن يكون من كلام الملائكة لهم ، وأن يكون ) وَقَالُواْ ياوَيْلَنَا هَاذَا يَوْمُ الدّينِ ( كلام الكفرة . و ) هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ ( من كلام الملائكة جواباً لهم . ويوم الدين : اليوم الذي ندان فيه ، أي : نجازى بأعمالنا . ويوم الفصل : يوم القضاء ، والفرق بين فرق الهدى والضلالة .
) احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (
الصافات : ( 22 ) احشروا الذين ظلموا . . . . .
) احْشُرُواْ ( خطاب الله للملائكة ، أو خطاب بعضهم مع بعض ) وَأَزْواجُهُمْ ( وضرباءهم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : وهم نظراؤهم وأشباههم من العصاة : أهل الزنا مع أهل الزنا ، وأهل السرقة من أهل السرقة . وقيل : قرناؤهم من الشياطين . وقيل : نساؤهم اللاتي على دينهم ) فَاهْدُوهُمْ ( فعرّفوهم طريق النار حتى يسلكوها . هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجر عن التناصر بعد ما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين ) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ( قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله عن عجز ، فكلهم مستسلم غير منتصر . وقرىء : ( لا تتناصرون ) ولا تناصرون ، بالإدغام .
) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (
الصافات : ( 27 ) وأقبل بعضهم على . . . . .
اليمين لما كانت أشرف العضوين وأمتنهما وكانوا يتيمنون بها ، فيها يصافحون ويماسحون ويناولون ويتناولون ، ويزاولون أكثر الأمور ، ويتشاءمون بالشمال ، ولذلك سموها : الشؤمى ، كما سموا أختها اليمنى ، وتيمنوا بالسانح ، وتطيروا بالبارح ، وكان الأعسر معيباً عندهم ، وعضدت الشريعة ذلك ، فأمرت بمباشرة أفاضل الأمور باليمين ، وأراذلها بالشمال .
( 946 ) وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحب التيامن في كل شيء ، وجعلت اليمين لكاتب

" صفحة رقم 43 "
الحسنات والشمال لكاتب السيئات ؛ ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه ، والمسيء أن يؤتاه بشماله : استعيرت لجهة الخير وجانبه ، فقيل : أتاه عن اليمين ، أي : من قبل الخير وناحيته ، فصدّه عنه وأضلّه . وجاء في بعض التفاسير : من أتاه الشيطان من جهة اليمين : أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق . ومن أتاه من جهة الشمال : أتاه من قبل الشهوات . ومن أتاه من بين يديه : أتاه من قبل التكذيب بالقيامة وبالثواب والعقاب . ومن أتاه من خلفه : خوّفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده ؛ فلم يصل رحماً ولم يؤد زكاة . فإن قلت : قولهم : أتاه من جهة الخير وناحيته : مجاز في نفسه ، فكيف جعلت اليمين مجازاً عن المجاز ؟ قلت : من المجاز ما غلب في الاستعمال حتى الحق بالحقائق ، وهذا من ذاك ؛ ولك أن تجعلها مستعارة للقوّة والقهر ؛ لأنّ اليمين موصوفة بالقوة ، وبها يقع البطش . والمعنى : أنكم كنتم تأتوننا عن القوّة والقهر ، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه . وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم ، والغواة لشياطينهم ) بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه ، مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر . غير ملجئين إليه ) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ ( من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم ) بَلْ كُنتُمْ قَوْماً ( مختارين الطغيان ) فَحَقَّ عَلَيْنَا ( فلزمنا ) قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ( يعني : وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة ، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة ، ولو حكى الوعيد كما هو لقال : إنكم لذائقون ، لكنه عدل به إلى لفظ المتكلم ؛ لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم . ونحوه قول القائل : لَقَدْ زَعَمَتْ هَوَازِنُ قَلَّ مَالِي ;
ولو حكى قولها لقال : قل مالك . ومنه قول المحلف للحالف : احلف لأخرجنّ ، ولتخرجنّ : الهمزة لحكاية لفظ الحالف ، والتاء لإقبال المحلف على المحلف ) فَأَغْوَيْنَاكُمْ ( فدعونا إلى الغي دعوة محصلة للبغية ، لقبولكم لها واستجابتكم الغيّ على الرشد ) إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ( فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا ) فَإِنَّهُمْ ( فإن الأتباع والمتبوعين جميعاً ) يَوْمَئِذٍ ( يوم القيامة مشتركون في العذاب كما كانوا مشتركين في الغواية ) إِنَّا ( مثل ذلك الفعل ) نَفْعَلُ ( بكل مجرم ، يعني أنّ سبب العقوبة هو الإجرام ، فمن ارتكبه استوجبها ) إِنَّهُمْ

" صفحة رقم 44 "
كَانُواْ إِذَا ( سمعوا بكلمة التوحيد نفروا أو استكبروا عنها وأبوا إلا الشرك .
) وَيَقُولُونَ أَءِنَّا لَتَارِكُو ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو الْعَذَابَ الاٌّ لِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (
الصافات : ( 36 - 39 ) ويقولون أئنا لتاركوا . . . . .
) لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ( يعنو محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) بَلْ جَاء بِالْحَقّ ( رد على المشركين ) وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ( كقوله : ) مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ( ( البقرة : 97 ) وقرىء : ( لذائقوا العذاب ) ، بالنصب على تقدير النون ، كقوله : وَلاَ ذَاكِراً اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً ;
بتقدير التنوين . وقرىء : على الأصل ( لذائقون العذاب ) ) إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( إلا مثل ما عملتم جزاء سيئاً بعمل سيىء .
) إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَائِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (
الصافات : ( 40 - 49 ) إلا عباد الله . . . . .
) إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ ( ولكن عباد الله ، على الاستثناء المنقطع . فسر الرزق المعلوم بالفواكه : وهي كل ما يتلذذ به ولا يتقوّت لحفظ الصحة ، يعني أن رزقهم كله فواكه ، لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات ، بأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد ، فكل ما يأكلونه يأكلونه على سبيل التلذذ . ويجوز أن يراد : رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها : من طيب طعم ، ورائحة ، ولذة ، وحسن منظر . وقيل : معلوم الوقت ، كقوله : ) وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ( ( مريم : 62 ) وعن قتادة : الرزق المعلوم الجنة وقوله ) فِي جَنَّاتِ ( يأباه وقوله : ) وَهُم مُّكْرَمُونَ ( هو الذي يقوله وعن العلماء في حدّ الثواب على سبيل المدح والتعظيم ، وهو من أعظم ما يجب أن تتوق إليه نفوس ذوي الهمم ، كما أنّ من أعظم ما يجب أن تنفر عنه نفوسهم هوان أهل النار وصغارهم .
التقابل : أتم للسرور وآنس . وقيل : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض .
ويقال للزجاجة فيها الخمر : كأس ، وتسمى الخمر نفسها كأساً ، قال :
وَكَاسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ

" صفحة رقم 45 "
وعن الأخفش : كل كأس في القرآن فهي الخمر ، وكذا في تفسير ابن عباس ) مّن مَّعِينٍ ( من شراب معين . أو من نهر معين ، وهو الجاري على وجه الأرض ، الظاهر للعيون : وصف بما يوصف به الماء ، لأنه يجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء ، قال الله تعالى : ) وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ ( ( محمد : 15 ) ) بَيْضَاء ( صفة للكأس ) لَذَّةٍ ( إمّا أن توصف باللذة كأنها نفس اللذة وعينها : أو هي تأنيث اللذ ، يقال : لذ الشيء فهو لذ ولذيذ . ووزنه : فعل ، كقولك : رجل طب ، قال :
وَلَذٌ كَطَعْمِ الصَّرْخَدِيِّ تَرَكْتُه
بِأَرْضِ الْعِدَا مِنْ خَشْيَةِ الْحَدَثَانِ
يريد النوم . الغول : لمن غاله يغوله غولاً إذا أهلكه وأفسده . ومنه : الغول الذي في تكاذيب العرب . وفي أمثالهم : الغضب غول الحلم ، و ) يُنزَفُونَ ( على البناء للمفعول ، من نزف الشاربُ إذا ذهب عقله . ويقال للسكران : نزيف ومنزوف . ويقال للمطعون : نزف فَمات إذا خرج دمه كله . ونزحت الركية حتى نزفتها : إذا لم تترك فيها ماء . وفي أمثالهم : أجبن من المنزوف ضرطاً . وقرىء : ( ينزفون ) أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه . قال :
لَعَمْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُمُو أَوْ صَحَوْتُمُو
لَبِئْسَ النَّدَامَى كُنْتُمُو آلَ أَبجرَا
ومعناه : صار ذا نزف . ونظيره : أقشع السحاب ، وقشعته الريح ، وأكب الرجل وكببته ، وحقيقتهما : دخلا في القشع والكب . وفي قراءة طلحة بن مصرف : وينزفون : بضم الزاي ، من نزف ينزف كقرب يقرب ، إذا سكر . والمعنى : لا فيها فساد قط من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر من مغص أو صداع أو خمار أو عربدة أو لغو أو تأثيم أو غير ذلك ، ولا هم يسكرون ، وهو أعظم مفاسدها فأفرزه وأفرده بالذكر ) قَاصِراتُ الطَّرْفِ ( قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ ، لا يمددن طرفاً إلى غيرهم ، كقوله تعالى : ) عُرُباً ( ( الواقعة : 37 ) والعين : النجل العيون شبهنّ ببيض النعام المكنون في الأداحي ، وبها تشبه العرب النساء وتسميهنّ بيضات الخدور .
) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ

" صفحة رقم 46 "
الْمُصَدِّقِينَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (
الصافات : ( 50 ) فأقبل بعضهم على . . . . .
فإن قلت : علام عطف قوله : ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( ؟ قلت : على يطاف عليهم . والمعنى : يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب قال : وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إلا
أَحَادِيثُ الْكِرَامِ عَلَى الْمُدَامِ
فيقبل بعضهم على بعض ) يَتَسَاءلُونَ ( عما جرى لهم وعليهم في الدنيا ، إلا أنه جيء به ماضياً على عادة الله في أخباره . وقرىء : ( من المصدّقين ) من التصديق . ومن المصدَّقين مشدّد الصاد ، من التصدّق ، وقيل : نزلت في رجل تصدّق بماله لوجه الله ، فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه ؛ فقال : وأين مالك ؟ قال : تصدقت به ليعوضني الله به في الآخرة خيراً منه ، فقال : أئنك لمن المصدّقين بيوم الدين . أو من المتصدّقين لطلب الثواب . والله لا أعطيك شيئاً ) لَمَدِينُونَ ( لمجزيون ، من الدين وهو الجزاء . أو لمسوسون مربوبون . يقال : دانه ساسه . ومنه الحديث :
( 947 ) ( العاقل من دان نفسه ) . ) قَالَ ( يعني ذلك القائل : ) هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ ( إلى النار لأريكم ذلك القرين . قيل : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار . وقيل : القائل هو الله عزّ وجلّ . وقيل : بعض الملائكة يقول لأهل الجنة : هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار . وقرىء : ( مطلعون ) فاطلع . وفأطلع بالتشديد ، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب : ومطلعون فاطلع وفأطلع بالتحفيف على لفظ الماضي والمضارع والمنصوب يقال طلع علينا فلان ، واطلع واطلع بمعنى واحد ، والمعنى : هل أنتم مطلعون إلى القرين فأطلع أنا أيضاً . أو عرض عليه الاطلاع

" صفحة رقم 47 "
فاعترضوه ، فاطلع هو بعد ذلك . وإن جعلت الإطلاع من أطلعه غيره ، فالمعنى : أنه لما شرط في اطلاعه اطلاعهم ، وهو من آداب المجالسة . أن لا يستبد بشيء دون جلسائه ، فكأنهم مطلعوه . وقيل : الخطاب على هذا للملائكة . وقرىء : ( مطلعون ) بكسر النون ، أراد : مطلعون إياي ؛ فوضع المتصل موضع المنفصل ، كقوله : هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ ;
أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما ، كأنه قال : تطلعون ، وهو ضعيف لا يقع إلاّ في الشعر ) فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ ( في وسطها ، يقال : تعبت حتى أنقطع سوائي ، وعن أبي عبيدة : قال لي عيسى بن عمر : كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائي ( إن ) مخففة من الثقيلة ، وهي تدخل على ( كاد ) كما تدخل على ( كان ) ) إِن كَانَ لَيُضِلُّنَا ( واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، والإرداء : الإهلاك . وفي قراءة عبد الله : لتغوينّ ) نِعْمَةُ رَبّى ( هي العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإسلام ، والبراءة من قرين السوى . أو إنعام الله بالثواب وكونه من أهل الجنة ) مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك .
) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاٍّ ولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (
الصافات : ( 58 ) أفما نحن بميتين
الذي عطفت عليه الفاء محذوف ، معناه : أنحن مخلدون منعمون ، فما نحن بميتين لا معذبين . وقرىء : ( بمائتين ) والمعنى أنّ هذه حال المؤمنين وصفتهم وما قضى الله به لهم للعلم بأعمالهم أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى ، بخلاف الكفار ، فإنهم فيما يتمنون فيه الموت كل ساعة ، وقيل لبعض الحكماء : ما شرّ من الموت ؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت .
) إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (
الصافات : ( 60 ) إن هذا لهو . . . . .
يقوله المؤمن تحدثاً بنعمة الله واغتباطاً بحاله وبمسمع من قرينه ، ليكون توبيخاً له يزيد به تعذباً ، وليحكيه الله فيكون لنا لطفاً وزاجراً . ويجوز أن يكون قولهم جميعاً ، وكذلك قوله ) إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه . وقيل : هو من قول الله عزّ وجلّ تقريراً لقولهم وتصديقاً له . وقرىء : ( لهو الرزق العظيم )

" صفحة رقم 48 "
وهو ما رزوقوه من السعادة .
) أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لاّكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ فَهُمْ عَلَىءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (
الصافات : ( 62 ) أذلك خير نزلا . . . . .
تمت قصة المؤمن وقرينه ، ثم رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فقال : ) أَذالِكَ ( الرزق ) خَيْرٌ نُّزُلاً ( أي خير حاصلاً ) أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ( وأصل النزل : الفضل والريع في الطعام ، يقال : طعام كثير النزل ، فاستعير للحاصل من الشيء ، وحاصل الرزق المعلوم : اللذة والسرور ، وحاصل شجرة الزقوم : الألم والغمّ ، وانتصاب نزلاً على التمييز ، ولك أن تجعله حالاً ، كما تقول : أثمر النخلة خير بلحاً أم رطباً ؟ يعني أنّ الرزق المعلوم نزل أهل الجنة . وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم ، فأيهما خير في كونه نزلاً . والنزل : ما يقال للنازل بالمكان من الرزق . ومنه إنزال الجند لأرزاقهم ، كما يقال لما يقام لساكن الدار : السكن . ومعنى الأوّل : أَنّ للرزق المعلوم نزلاً ، ولشجر الزقوم نزلاً ، فأيهما خير نزلاً . ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم ، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى إلى الرزق المعلوم واختار الكافرون ما أدى إلى شجرة الزقوم قيل لهم ذلك توبيخاً على سوء اختيارهم ) فِتْنَةً لّلظَّالِمِينَ ( محنة وعذاباً لهم في الآخرة . أو ابتلاء لهم في الدنيا ، وذلك أنهم قالوا : كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر ، فكذبوا . وقرىء : ( نابتة ) ) فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ ( قيل : منبتها في قعر جهنم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها : والطلع للنخلة ، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها : إما استعارة لفظية ، أو معنوية ، وشبه برؤوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهية وقبح المنظر ؛ لأنّ الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس ، لاعتقادهم أنه شرّ محض لا يخلطه خير ، فيقولون في القبيح الصورة : كأنه وجه شيطان ، كأنه رأس شيطان ، وإذا صوّره المصورون : جاؤا بصورته على أقبح ما يقدر وأهوله ؛ كما أنهم اعتقدوا في ذلك أنه خير محض لا شرّ فيه ، فشبهوا به الصورة الحسنة . قال الله تعالى : ) مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( ( يوسف : 31 ) وهذا تشبيه تخييلي . وقيل : الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جداً . وقيل : إنّ شجراً يقال له الأستن خشناً منتناً مراً منكر الصورة ، يسمى ثمره : رؤوس الشياطين . وما سمت العرب هذا الثمر برؤوس الشياطين إلاّ قصداً إلى أحد التشبيهين ، ولكنه بعد التسمية بذلك رجع أصلاً ثالثاً يشبه به ) مِنْهَا ( من الشجرة ، أي من

" صفحة رقم 49 "
طلعها ) فَمَالِئُونَ ( بطونهم ، لما يغلبهم من الجوع الشديد ، أو يقسرون على أكلها وإن كرهوها ، ليكون باباً من العذاب ؛ فإذا شبعوا غلبهم العطش فيسقون شراباً من غساق أو صديد ، شوبه : أي مزاجه ) مِنْ حَمِيمٍ ( يشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم ، كما قال في صفة شراب أهل الجنة ) وَمِزَاجُهُ مِن ( ( المطففين : 27 ) وقرىء : ( لشوبا ) بالضم ، وهو اسم ما يشاب به ، والأوّل تسمية بالمصدر . فإن قلت : ما معنى حرف التراخي في قوله : ) الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً ( وفي قوله : ) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ ( ؟ قلت : في الأوّل وجهان ، أحدهما : أنهم يملؤن البطون من شجر الزقوم ، وهو حارّ يحرق بطونهم ويعطشهم ، فلا يسقون إلا بعد ما مليّ تعذيباً بذلك العطش ، ثم يقسون ما هو أحرّ وهو الشراب المشوب بالحميم . والثاني : أنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة ، ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع ، فجاء بثم للدلالة على تراخي حال الشراب عن حال الطعام ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه . ومعنى الثاني : أنهم يذهب بهم عن مقارّهم ومنازلهم في الجحيم ، وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم ، فيأكلون إلى أن يتملؤا ، ويسقون بعد ذلك ، ثم يرجعون إلى دركاتهم ، ومعنى التر اخي في ذلك بين : وقرىء : ( ثم إن منقلبهم ) ثم إن مصيرهم ، ثم إن منفذهم إلى الجحيم : علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين ، واتباعهم إياهم على الضلال ، وترك اتباع الدليل ، والإهراع : الإسراع الشديد ، كأنهم يحثون حثاً . وقيل : إسراع فيه شبه بالرعدة .
) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاٌّ وَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (
الصافات : ( 71 ) ولقد ضل قبلهم . . . . .
) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ ( قبل قومك قريش . ) مُّنذِرِينَ ( أنبياء حذروهم العواقب . ) الْمُنْذَرِينَ ( الذين أنذروا وحذروا ، أي أهلكوا جميعاً ) إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ ( ( الذين آمنوا منهم وأخلصوا دينهم لله ) أو أخلصهم الله لدينه على القراءتين .
) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاٌّ خِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاٌّ خَرِينَ (
الصافات : ( 75 ) ولقد نادانا نوح . . . . .
لما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذرين ، أتبع ذلك ذكر نوح ودعائه حين آيس من قومه ، واللام الداخلة على نعم جواب قسم محذوف ، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره : فوالله لنعم المجيبون نحن . والجمع دليل العظمة

" صفحة رقم 50 "
والكبرياء . والمعنى : إنا أجبناه أحسن الإجابة ، وأوصلها إلى مراده وبغيته من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون ) هُمُ الْبَاقِينَ ( هم الذين بقوا وحدهم وقد فني غيرهم ، فقد روى أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ولده . أو هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة . قال قتادة : الناس كلهم من ذرية نوح . وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد : سام ، وحام ، ويافث . فسام أبو العرب ، وفارس ، والروم ، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب ، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ ( من الأمم هذه الكلمة ، وهي : ) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ ( يعني يسلمون عليه تسليماً ، ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي ، كقولك : قرأت : ) سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا ( ( النور : 1 ) فإن قلت : فما معنى قوله : ) فِى الْعَالَمِينَ ( ؟ قلت : معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعاً ، وأن لا يخلو أحد منهم منها ، كأنه قيل : ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون العالمين عليه إلى آخرهم . علل مجازاة نوح عليه السلام بتلك التكرمة السنية من تبقية ذكره ، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر بأنه كان محسناً ، ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً ، ليريك جلالة محل الإيمان ، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم ، ويرغبك في تحصيله والازدياد منه .
) وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَءِفْكاً ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (
الصافات : ( 83 ) وإن من شيعته . . . . .
) مِن شِيعَتِهِ ( ممن شايعه على أصول الدين وإن اختلفت شرائعهما . أو شايعه على التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين . ويجوز أن يكون بين شريعتهما اتفاق في أكثر الأشياء . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من أهل دينه وعلى سنته ، وما كان بين نوح وإبراهيم إلاّ نبيان : هود وصالح ، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة . فإن قلت : بم تعلق الظرف ؟ قلت : بما في الشيعة من معنى المشايعة ، يعني : وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم ، أو بمحذوف وهو : اذكر ) بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( من جميع آفات القلوب . وقيل : من الشرك ، ولا معنى للتخصيص لأنه مطلق ، فليس بعض الآفات أولى من بعض فيتناولها كلها . فإن قلت : ما معنى المجيء بقلبه ربه ؟ قلت : معناه أنه أخلص الله قلبه ، وعرف ذلك منه فضرب المجيء مثلاً لذلك ) أَءِفْكاً ( مفعول له ، تقديره : أتريدون آلهة من دون الله إفكاً ، وإنما قدّم المفعول على الفعل للعناية ، وقدّم المفعول له على المفعول به ؛ لأنه كان الأهمّ عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم . ويجوز أن يكون إفكاً مفعولاً ، يعني : أتريدون به إفكاً .

" صفحة رقم 51 "
ثم فسر الإفك بقوله : ) الِهَةً مّنَ دُونِ اللَّهِ ( على أنها إفك في أنفسها . ويجوز أن يكون حالاً ، بمعنى : أتريدون آلهة من دون الله آفكين ) فَمَا ظَنُّكُم ( بمن هو الحقيق بالعبادة ، لأنّ من كان رباً للعالمين استحق عليهم أن يعبدوه ، حتى تركتم عبادته إلى عبادة الأصنام : والمعنى : أنه لا يقدر في وهم ولا ظنّ ما يصدّعن عن عبادته . أو فما ظنكم به أي شيء هو من الأشياء ، حتى جعلتم الأصنام له أنداداً . أو فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره ؟ .
) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ (
الصافات : ( 88 - 90 ) فنظر نظرة في . . . . .
) فِى النُّجُومِ ( في علم النجوم أو في كتابها أو في أحكامها ، وعن بعض الملوك أنه سئل عن مشتهاه فقال : حبيب أنظر إليه ومحتاج أنظر له ، وكتاب أنظر فيه . كان القوم نجامين ، فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم النجوم على أنه يسقم ) فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ ( إني مشارف للسقم وهو الطاعون ، وكان أغلب الأسقام عليهم ، وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه ، فهربوا منه إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد ، ففعل بالأصنام ما فعل . فإن قلت : كيف جاز له أن يكذب ؟ قلت : قد جوّزه بعض الناس في المكيدة في الحرب والتقية ، وإرضاء الزوج والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين . والصحيح : أن الكذب حرام إلاّ إذا عرّض وورّى ، والذي قاله إبراهيم عليه السلام : معراض من الكلام ، ولقد نوى به أن من في عنقه الموت سقيم . ومنه المثل : كفى بالسلامة داء . وقول لبيد : فَدَعَوْتُ رَبِّي بالسَّلاَمَةِ جَاهِدا
لِيُصِحَّنِي فَإذَا السَّلاَمَةُ دَاءُ
وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس وقالوا : مات وهو صحيح ، فقال أعرابي : أصحيح من الموت في عنقه . وقيل : أراد : إني سقيم النفس لكفركم .
) فَرَاغَ إِلَىءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (
الصافات : ( 91 ) فراغ إلى آلهتهم . . . . .
) فَرَاغَ إِلَىءالِهَتِهِمْ ( فذهب إليها في خفية ، من روغة الثعلب ، إلى آلهتهم : إلى أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة ، كقوله تعالى : أين شركائي ؟ ) أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ ( استهزاء بها وبانحطاطها عن حال عبدتها ) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ( فأقبل

" صفحة رقم 52 "
عليهم مستخفياً ، كأنه قال : فضربهم ) ضَرْباً ( لأن راغ عليهم بمعنى ضربهم . أو فراغ عليهم يضربهم ضرباً . أو فراغ عليهم ضرباً بمعنى ضارباً . وقرىء : ( صفقا ) وسفقا ، ومعناهما : الضرب . ومعنى ضرباً ) بِالْيَمِينِ ( ضرباً شديداً قوياً ؛ لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما . وقيل : بالقوّة والمتانة ، وقيل : بسبب الحلف ، وهو قوله : ) تَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ( .
) فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (
الصافات : ( 94 ) فأقبلوا إليه يزفون
) يَزِفُّونَ ( يسرعون ، من زفيف النعام . ويزفون : من أزفّ ، إذا دخل في الزفيف . أو من أزفه ، إذا حمله على الزفيف ، أي : يزفّ بعضهم بعضاً . ويزفون ، على البناء للمفعول ، أي : يحملون على الزفيف . ويزفون ، من وزف يزف إذا أسرع . ويزفون : من زفاه إذا حداه كأنّ بعضهم يزفو بعضاً لتسارعهم إليه ، فإن قلت : بين هذا وبين قوله تعالى : ) قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ( ( الأنبياء : 59 60 ) كالتناقض حيث ذكر ههنا أنهم أدبروا عنه خيفة العدوى ، فلما أبصروه يكسرهم أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويوقعوا به ، وذكر ثم أنهم سألوا عن الكاسر ، حتى قيل لهم : سمعنا إبراهيم يذمهم ، فلعله هو الكاسر ؛ ففي أحدهما أنهم شاهدوه يكسرها ، وفي الآخر : أنهم استدلوا بذمة على أنه الكاسر . قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفراً منهم دون جمهورهم وكبرائهم ، فلما رجع الجمهور والعلية من عيدهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة اشمأزوا من ذلك ، وسألوا : من فعل هذا بها ؟ ثم لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة ، ولكن على سبيل التورية التعريض بقولهم ( سمعنا فتى يذكرهم ) لبعض الصوارف . والثاني : أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد ، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر . وقولهم : قالوا : فأتوا به على أعين الناس .
) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (
الصافات : ( 95 - 96 ) قال أتعبدون ما . . . . .
) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ( يعني خلقاء وخلق ما تعملونه من الأصنام ،

" صفحة رقم 53 "
كقوله : ) بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الَّذِى فطَرَهُنَّ ( ( الأنبياء : 56 ) أي فطر الأصنام . فإن قلت : كيف يكون الشيء الواحد مخلوقاً لله معمولاً لهم ، حيث أوقع خلقه وعملهم عليها جميعاً ؟ قلت : هذا كما يقال : عمل النجار الباب والكرسي ، وعمل الصائغ السوار والخلخال ، والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها ، والأصنام جواهر وأشكال ، فخالق جواهرها الله ، وعاملوا أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها ، حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه . فإن قلت : فما أنكرت أن تكون ما مصدرية لا موصولة ، ويكون المعنى : والله خلقكم وعملكم ، كما تقول المجبرة ؟ قلت ؛ أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد بطلانه بحجج العقل والكتاب : أن معنى الآية يأباه إباء جلياً ، وينبو عنه نبوّاً ظاهراً ، وذلك أن الله عزّ وجلّ قد احتج عليهم بأنّ العابد والمعبود جميعاً

" صفحة رقم 54 "
خلق الله ، فكيف يعبد المخلوق المخلوق ، على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود وشكله ، ولولاه لما قدر أن يصوّر نفسه ويشكلها ، ولو قلت : والله خلقكم وخلق عملكم ، ولم يكن محتجاً عليهم ولا كان لكلامك طباق . وشيء آخر : وهو أن قوله : ) مَا تَعْمَلُونَ ( ترجمة عن قوله : ) مَا تَنْحِتُونَ ( و ( ما ) في ) مَا تَنْحِتُونَ ( موصولة لا مقال فيها فلا يعدل بها عن أختها إلاّ متعسف متعصب لمذهبه ، من غير نظر في علم البيان ، ولا تبصر لنظم القرآن . فإن قلت : اجعلها موصولة حتى لا يلزمني ما ألزمت ، وأريد : وما تعملونه من أعمالكم . قلت : بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلاّ الإذعان للحق ، وذلك أنك وإن جعلتها موصولة ، فإنك في إرادتك بها العمل غير محتج على المشركين ، كحالك وقد جعلتها مصدرية ، وأيضاً فأنك قاطع بذلك الوصلة بين ما تعملون وما تنحتون ، حتى تخالف بين المرادين بهما ؛ فتزيد بما تنحتون : الأعيان التي هي الأصنام ، ربما تعملون : المعاني التي هي الأعمال ؛ وفي ذلك فك النظم وتبتيره ؛ كما إذا جعلتها مصدرية .
) قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاٌّ سْفَلِينَ (
الصافات : ( 97 ) قالوا ابنوا له . . . . .
) الْجَحِيمِ ( النار الشديدة الوقود ، وقيل : كل نار على نار وجمر فوق جمر ، فهي جحيم . والمعنى : أن الله تعالى غلبه عليهم في المقامين جميعاً ، وأذلهم بين يديه : أرادوا أن يغلبوه بالحجة فلقنه الله وألهمه ما ألقمهم به الحجر ، وقهرهم فمالوا إلى المكر ، فأبطل الله مكرهم وجعلهم الأذلين الأسفلين لم يقدروا عليه .
) وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (
الصافات : ( 99 ) وقال إني ذاهب . . . . .
أراد بذهابه إلى ربه : مهاجرته إلى حيث أمره بالمهاجرة إليه من أرض الشام ؛ كما قال : إني مهاجر إلى ربي : ) سَيَهْدِينِ ( ؟ سيرشدني إلى ما فيه صلاحي في ديني ويعصمني ويوفقني ، كما قال موسى عليه السلام : ) كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ ( ( الشعراء : 62 ) كأن الله وعده وقال له : سأهديك ، فأجرى كلامه على سنن موعد ربه . أو بناء على عادة الله تعالى معه في هدايته وإرشاده . أو أظهر بذلك توكله وتوفيضه أمره إلى الله . ولو قصد الرجاء والطمع لقال ، كما قال موسى عليه السلام : ) عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السَّبِيلِ ( ( القصص : 22 ) . ) هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ ( هب لي بعض الصالحين ، يريد الولد ، لأنّ لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى : ) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ( ( مريم : 53 ) قال عزّ وجلّ : ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ( ( الأنعام : 84 ) ) وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى ( ( الأنبياء : 90 ) وقال علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهم حين هنأه بولده عليّ أبي الأملاك : شكرت الواهب ،

" صفحة رقم 55 "
وبورك لك في الموهوب . ولذلك وقعت التسمية بهبة الله ، وبموهوب ، ووهب وموهب ، وقد انطوت البشارة على ثلاث : على أن الولد غلام ذكر ، وأنه يبلغ أوان الحلم ، وأنه يكون حليماً ، وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح ، فقال : ستجدني إن شاء الله من الصابرين ، ثم استسلم لذلك . وقيل : ما نعت الله به إبراهيم في قوله : ) إِنَّ إِبْراهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ ( ( التوبة : 114 ) ، ) إِنَّ إِبْراهِيمَ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ( ( هود : 75 ) لأنّ الحادثة شهدت بحملهما جميعاً .
) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يابُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (
الصافات : ( 102 ) فلما بلغ معه . . . . .
فلما بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه . فإن قلت : ) مَعَهُ ( بم يتعلق ؟ قلت : لا يخلو إما أن يتعلق ببلغ ، أو بالسعي ، أو بمحذوف ، فلا يصح تعلقه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معاً حدّ السعي ، ولا بالسعي لأنّ صلة المصدر لا تتقدم عليه ، فبقي أن يكون بياناً ، كأنه لما قال : فلما بلغ السعي أي الحدّ الذي يقدر فيه على السعي قيل : مع من ؟ فقال مع أبيه . والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس به ، وأعطفهم عليه ، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله ، لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة . والمراد : أنه على غضاضة سنة وتقلبه في حدّ الطفولة ، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة بذلك الجواب الحكيم : أتي في المنام فقيل له : اذبح ابنك ، ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة ، فلهذا قال : ) إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ ( فذكر تأويل الرؤيا ، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة : رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة ، وقيل : رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إنّ الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح روى في ذلك من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحلم أو من الشيطان ؟ فمن ثم سمي يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، فمن ثم سمي يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهم بنحره فسمي اليوم يوم النحر . وقيل : إنّ الملائكة حين بشّرته بغلام حليم قال : هو إذن ذبيح الله . فلما ولد وبلغ حدّ السعي معه قيل له : أوف بنذرك ) فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ( من الرأي على وجه المشاورة . وقرىء : ( ماذا ترى ) =

8.  الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي

" صفحة رقم 56 "
أي : ماذا تبصر من رأيك وتبديه . وماذا ترى ، على البناء للمفعول : أي : ماذا تريك نفسك من الرأي ) افْعَلْ مَا تُؤمَرُ ( أي ما تؤمر به ، فحذف الجار كما حذف من قوله : أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ;
أوامرك على إضافة المصدر إلى المفعول ، وتسمية المأمور به أمراً . وقرىء : ( ما تؤمر به ) فأن قلت : لم شاوره في أمر هو حتم من الله ؟ قلت : لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته ، ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله ، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع ، ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم ، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطنها ويهون عليها ، ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به ، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله قبل نزوله : ولأنّ المغافصة بالذبح مما يستمسج وليكون سنة في المشاورة ، فقد قيل : لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك . فإن قلت : لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة ؟ قلت : كما أرى يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحي إلى أبيه ، وكما وعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ودخول المسجد الحرام في المنام ، وما سوى ذلك من منامات الأنبياء ، وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين ؛ لأنّ الحال إما حال يقظة أو حال منام ، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما .
) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاٌّ خِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (
الصافات : ( 103 ) فلما أسلما وتله . . . . .
يقال : ( سلم لأمر الله ) وأسلم ، واستسلم بمعنى واحد . وقد قرىء بهنّ جميعاً إذا انقاد له ، وخضع ، وأصلها من قولك : سلم هذا لفلان إذا خلص له . ومعناه : سلم من أن ينازع فيه ، وقولهم : سلم لأمر الله ، وأسلم له منقولان منه ، وحقيقة معناهما : أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة ، وكذلك معنى : استسلم : استخلص نفسه لله . وعن قتادة في ) أَسْلَمَا ( أسلم هذا ابنه وهذا نفسه ) وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( صرعه على شقه ، فوقع أحد جنبيه على الأرض تواضعاً على مباشرة الأمر بصبر وجلد ، ليرضيا الرحمن ويخزيا

" صفحة رقم 57 "
الشيطان . وروى أن ذلك كان عند الصخرة التي بمنى ، وعن الحسن : في الموضع المشرف على مسجد مني . وعن الضحاك : في المنحر الذي ينحر فيه اليوم . فإن قلت : أين جواب لما ؟ قلت : هو محذوف تقديره : فلما أسلما وتله للجبين ) وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ( كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما ، وحمدهما لله وشكرهما على ما أنعم به عليهما ، من دفع البلاء العظيم بعد حلوله ، وما اكتسبا في تضاعيفه بتوطين الأنفس عليه من الثواب والأعواض ورضوان الله الذي ليس وراءه مطلوب ، وقوله : ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ ( تعليل لتخويل ما خوّلهما من الفرج بعد الشدّة ، والظفر بالبغية بعد اليأس ) الْبَلاَء الْمُبِينُ ( الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم . أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها . الذبح : اسم ما يذبح . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو الكبش الذي قرّبه هابيل فقبل منه ، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل . وعن الحسن : فدى بوعل أهبط عليه من ثبير . وعن ابن عباس : لو تمت تلك الذبيحة لكانت سنة وذبح الناس أبناءهم ) عظِيمٌ ( ضخم الجثة سمين ، وهي السنة في الأضاحي . وقوله عليه السلام ( استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم ) وقيل : لأنه وقع وفداء عن ولد إبراهيم . وروى أنه هرب من إبراهيم عليه السلام عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه ، فبقيت سنة في الرمي ، وروى أنه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده : وروى أنه لما ذبحه قال جبريل : الله أكبر الله أكبر ، فقال الذبيح : لا إلاه إلاّ الله والله أكبر ، فقال إبراهيم عليه السلام : الله أكبر ولله الحمد ، فبقي سنة : وحكي في قصة الذبيح أنه حين أراد ذبحه وقال : يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب ، فلما توسط شعب ثبير أخبره بما أمر . فقال : اشدد رباطي لا أضطرب ، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن ، واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي حتى تجهز عليّ ، ليكون أهون فإنّ الموت شديد ، واقرأ على أمي سلامي ، وإن رأيت أن تردّ قميصي على أمي ، فافعل ، فإنه عسى أن يكون أسهل لها ، فقال إبراهيم عليه السلام : نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله ، ثم أقبل عليه يقلبه وقد ربطه ، وهما يبكيان ، ثم وضع السكين على حلقه فلم

" صفحة رقم 58 "
تعمل . لأنّ الله ضرب صفيحة من نحاس على حلقه ، فقال له : كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله ، ففعل ، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين ، ونودي : يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ، فنظر فإذا جبريل عليه السلام معه كبش أقرن أملح ، فكبر جبريل والكبش ، وإبراهيم وابنه ، وأتى المنحر من منى فذبحه . وقيل : لما وصل موضع السجود منه إلى الأرض جاء الفرج . وقد استشهد أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فيمن نذر ذبح ولده : أنه يلزمه ذبح شاة ، فإن قلت : من كان الذبيح من ولديه ؟ قلت : قد اختلف فيه ؛ فعن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وجماعة من التابعين : أنه إسماعيل . والحجة فيه :
( 948 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أنا ابن الذبيحين ) وقال له أعرابي :
( 949 ) : يا ابن الذبيحين ، فتبسم ، فسئل عن ذلك فقال : إنّ عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله : لئن سهل الله له أمرها ليذبحنّ أحد ولده ، فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل والثاني إسماعيل ، وعن محمد بن كعب القرظي قال : كان مجتهد بني إسرائيل يقول إذا دعا : اللهم إلاه إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل ، فقال موسى عليه السلام : يا رب ، ما لمجتهد بني إسرائيل إذا دعا قال : اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل ، وأنا بين أظهرهم فقد أسمعتني كلامك واصطفيتني برسالتك ؟ قال : يا موسى ، لم يحبني أحد حبّ إبراهيم قط ، ولا خير بيني وبين شيء قط إلا اختارني . وأمّا إسماعيل فإنه جاد بدم نفسه . وأمّا إسرائيل ، فإنه لم ييأس من روحي في شدّة نزلت به قط ، ويدل عليه أنّ الله تعالى لما أتمّ قصة الذبيح قال : ) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصَّالِحِينَ ( ( الصافات : 112 ) وعن محمد بن كعب أنه قال لعمر بن عبد العزيز : هو إسماعيل ، فقال عمر : إنّ هذا شيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت ، ثم أرسل إلى يهودي قد أسلم فسأله ، فقال : إن اليهود لتعلم أنه إسماعيل ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب ، ويدل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت . وعن الأصمعي قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ، ومتى كان إسحاق

" صفحة رقم 59 "
بمكة ، وأنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه ، والمنحر بمكة ، ومما يدلّ عليه أنّ الله تعالى وصفه بالصبر دون أخيه إسحاق في قوله : ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ ( ( الأنبياء : 85 ) وهو صبره على الذبح ، ووصفه بصدق الوعد في قوله : ) إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ( ( مريم : 54 ) لأنه وعد أباه الصبر من نفسه على الذبح فوفى به ، ولأنّ الله بشّره بإسحاق وولده يعقوب في قوله : ) فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ( ( هود : 71 ) فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفاً للموعد في يعقوب ، وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وجماعة من التابعين : إنه إسحاق . والحجة فيه أن الله تعالى أخبر عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولداً ، ثم أتبع ذلك البشارة بغلام حليم ، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به . ويدلّ عليه كتاب يعقوب إلى يوسف : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله . فإن قلت : قد أوحى إلى إبراهيم صلوات

" صفحة رقم 60 "
الله عليه في المنام بأن يذبح ولده ولم يذبح ، وقيل له : قد صدقت الرؤيا ، وإنما كان يصدقها لو صحّ منه الذبح ، ولم يصحّ قلت : قد بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح : من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه ، ولكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه ، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم عليه السلام ، ألا ترى أنه لا يسمى عاصياً ولا مفرطاً ، بل يسمى مطيعاً ومجتهداً ، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم ، وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل ، ولا قبل أوان الفعل في شيء ، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام فيه . فإن قلت : الله تعالى هو المفتدى منه : لأنه الآمر بالذبح ، فكيف يكون فادياً حتى قال : ) وَفَدَيْنَاهُ ( ؟ قلت : الفادي هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والله عزّ وجلّ وهب له الكبش ليفدى به وإنما قال : ) وَفَدَيْنَاهُ ( إسناداً للفداء إلى السبب الذي هو الممكن من الفداء بهبته . فإن قلت : فإذا كان ما أتى به إبراهيم من البطح وإمرار الشفرة في حكم الذبح . فما معنى الفداء ، والفداء إنما هو التخليص من الذبح ببدل ؟ قلت : قد علم بمنع الله أن حقيقة الذبح لم تحصل من فرى الأوداج وإنهار الدم ، فوهب الله له الكبش ليقيم ذبحه مقام تلك الحقيقة حتى لا تحصل تلك الحقيقة في نفس إسماعيل ، ولكن في نفس الكبش بدلاً منه . فإن قلت : فأي فائدة في تحصيل تلك الحقيقة ، وقد استغنى عنها بقيام ما وجد من إبراهيم مقام الذبح من غير نقصان ؟ قلت : الفائدة في ذلك أن يوجد ما منع منه في بدله حتى يكمل منه الوفاء بالمنذور وإيجاد المأمور به من كل وجه . فإن قلت : لم قيل ههنا ) كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ ( وفي غيرها من القصص : إنا كذلك ؟ قلت : قد سبقه في هذه القصة : إنا كذلك ، فكأنما استخف بطرحه اكتفاء بذكره مرة عن ذكره ثانية .
) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (
الصافات : ( 112 ) وبشرناه بإسحاق نبيا . . . . .
) نَبِيّاً ( حال مقدرة ، كقوله تعالى : ) فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( ( الزمر : 73 ) . فإن قلت : فرق بين هذا وبين قوله : ( فادخلوها خالدين ) وذلك أنّ المدخول موجود مع وجود الدخول ، والخلود غير موجود معهما ، فقدرت مقدرين الخلود فكان مستقيماً ، وليس كذلك المبشر به ، فإنه معدوم وقت وجود البشارة ، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لا محالة ؛ لأنّ الحال حلية ، والحلية لا تقوم إلا بالمحلى ، وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين وجد لم توجد النبوّة أيضاً بوجوده ، بل تراخت عنه مدّة متطاولة ، فكيف يجعل نبياً حالاً مقدّرة ، والحال صفة

" صفحة رقم 61 "
الفاعل أو المفعول عند وجود الفعل منه أو به ؛ فالخلود وإن يكن صفتهم عند دخول الجنة ، فتقديرها صفتهم ؛ لأنّ المعنى مقدّرين الخلود ، وليس كذلك النبوّة ؛ فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة أو مقدّرة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق . قلت : هذا سؤال دقيق السلك ضيق المسلك ، والذي يحل الإشكال : أنه لا بدّ من تقدير مضاف محذوف ، وذلك قولك : وبشرناه بوجود إسحاق نبياً ، أي بأن يوجد مقدّرة نبوّته ؛ فالعامل في الحال الوجود لا فعل البشارة ، وبذلك يرجع ، نظير قوله تعالى : ) فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( ( الزمر : 73 ) ) مّنَ الصَّالِحِينَ ( حال ثانية ، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ ؛ لأنّ كل نبي لا بدّ أن يكون من الصالحين . وعن قتادة : بشره الله بنبوّة إسحاق بعد ما امتحنه بذبحه ، وهذا جواب من يقول الذبيح إسحاق لصاحبه عن تعلقه لقوله : ) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ( قالوا : ولا يجوز أن يبشره الله بمولده ونبوّته معاً ؛ لأن الامتحان بذبحه لا يصحّ مع علمه بأنه سيكون نبياً ) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ( وقرىء : ( وبَرَّكْنا ) أي : أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا ، كقوله : ) وَءاتَيْنَا أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى لاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ( العنكبوت : 27 ) وقيل : باركنا على إبراهيم في أولاده ، وعلى إسحاق بأن أخرجنا أنبياء بني إسرائيل من صلبه . وقوله : ) وَظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( نظيره : ) قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( ( البقرة : 124 ) وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر ، فقد يلد البر الفاجر ، والفاجر البر . وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر ، وعلى أن الظلم في أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة ، وأنّ المرء يعاب بسوء فعله ويعاتب على ما اجترحت يداه ، لا على ما وجد من أصله أو فرعه .
) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الْغَالِبُونَ وَءَاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاٌّ خِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (
الصافات : ( 114 - 122 ) ولقد مننا على . . . . .
) مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( من الغرق . أو من سلطان فرعون وقومه وغشمهم ) وَنَصَرْنَاهُمْ ( الضمير لهما ولقومهما في قوله : ) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا ( . ) الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ( البيلغ في بيانه وهو التوراة ، كما قال : ) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( ( المائدة : 44 )

" صفحة رقم 62 "
وقال : ومن جوز أن تكون التوراة عربية أن تشتق من روى الزند ( فوعلة ) منه ، على أنّ التاء مبدلة من واو ) الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( صراط أهل الإسلام ، وهي صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآئِكُمُ الاٌّ وَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاٌّ خِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (
الصافات : ( 123 ) وإن إلياس لمن . . . . .
قرىء : ( إلياس ) بكسر الهمزة ، والياس : على لفظ الوصل . وقيل : هو إدريس النبي . وقرأ ابن مسعود : ( وإنّ إدريس ) ، في موضع إلياس . وقرىء : ( إدراس ) ، وقيل : هو إلياس بن ياسين ، من ولد هارون أخي موسى ) أَتَدْعُونَ بَعْلاً ( أتعبدون بعلاً ، وهو علم لصنم كان لهم كمناة وهبل . وقيل : كان من ذهب ، وكان طوله عشرين ذراعاً ، وله أربعة أوجه ، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن ، وجعلوهم أنبياءه ، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة ، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس ، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام ، وبه سميت مدينتهم بعلبك . وقيل : البعل : الرب ؛ بلغة اليمن ، يقال : من بعل هذه الدار ، أي : من ربها ؟ والمعنى : أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله ) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابَائِكُمُ ( قرىء : بالرفع على الابتداء ، وبالنصب على البدل ، وكان حمزة إذا وصل نصب ، وإذا وقف رفع : وقرىء : ( على الياسين ) وإدريسين . ادراسين . وإدراسين ، على أنها لغات في إلياس وإدريس . ولعل لزيادة الياء والنون في السريانية معنى . وقرىء : ( على الياسين ) بالوصل ، على أنه جمع يراد به إلياس وقومه ، كقولهم : الخبيبون والمهلبون . فإن قلت : فهلا حملت على هذا الياسين على القطع وأخواته ؟ قلت : لو كان جمعاً لعرف بالألف واللام . وأما من قرأ : ( على الياسين ) فعلى أنّ ياسين اسم أبي إلياس ، أضيف إليه الآل .
) وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاٌّ خَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (
الصافات : ( 133 ) وإن لوطا لمن . . . . .
) مُّصْبِحِينَ ( داخلين في الصباح ، يعني : تمرون على منازلهم في متاجركم إلى الشام ليلاً ونهاراً ، فما فيكم عقول تعتبرون بها .
) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ

" صفحة رقم 63 "
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَأامَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (
الصافات : ( 139 ) وإن يونس لمن . . . . .
قرىء : ( يونس ) بضم النون وكسرها . وسمي هربه في قومه بغير إذن ربه : إباقا على طريقة المجاز . والمساهمة : المقارعة . ويقال : استهم القوم ، إذا اقترعوا . والمدحض : المغلوب المقروع . وحقيقته : المزلق عن مقام الظفر والغلبة . روى : أنه حين ركب في السفينة وقفت ، فقالوا : ههنا عبد أبق من سيده ، وفيما يزعم البحارون أنّ السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر ، فاقترعوا ، فخرجت القرعة على يونس فقال : أنا الآبق ، وزجّ بنفسه في الماء ) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ( داخل في الملامة . يقال : رب لائم مليم ، أي يلوم غيره وهو أحقّ منه باللوم . وقرىء : ( مليم ) بفتح الميم ، من ليم فهو مليم ، كما جاء : مشيب في مشوب ، مبنياً على شيب . ونحوه : مدعي ، بناء على دعي ) مِنَ الْمُسَبّحِينَ ( من الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح والتقديس . وقيل : هو قوله في بطن الحوت ) لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( ( الأنبياء : 87 ) وقيل : من المصلين . وعن ابن عباس : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة . وعن قتادة : كان كثير الصلاة في الرخاء . قال : وكان يقال : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر ، وإذا صرع وجد متكأً . وهذا ترغيب من الله عزّ وجلّ في إكثار المؤمن من ذكره بما هو أهله ، وإقباله على عبادته ، وجمع همه لتقييد نعمته بالشكر في وقت المهلة والفسحة ، لينفعه ذلك عنده تعالى في المضايق والشدائد ) لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ ( الظاهر لبثه فيه حياً إلى يوم البعث . وعن قتادة : لكان بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة . وروي أنه حين ابتلعه أوحى الله إلى الحوت : إني جعلت بطنك له سجناً ، ولم أجعله لك طعاماً . واختلف في مقدار لبثه ، فعن الكلبي : أربعون يوماً ، وعن الضحاك : عشرون يوماً . وعن عطاء سبعة . وعن بعضهم : ثلاثة . وعن الحسن : لم يلبث إلاّ قليلاً ، ثم أخرج من بطنه بعيد الوقت الذي التقم فيه . وروي : أنّ الحوت سار مع السفينة رافعاً رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح ، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر ، فلفظه سالماً لم يتغير منه شيء ، فأسلموا : وروي أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل . والعراء : المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه ) وَهُوَ سَقِيمٌ ( اعتلّ مما حلّ به ، وروي : أنه عاد بدنه كبدن الصبيِّ حين يولد . واليقطين : كل ما ينسدح على وجه الأرض ولا يقوم على ساق كشجر البطيخ والقثاء والحنظل ، وهو ( يفعيل ) من قطن بالمكان إذا قام به . هو : الدباء . وفائدة الدباء : أن

" صفحة رقم 64 "
الذباب لا يجتمع عنده وقيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 950 ) : إنك لتحب القرع . قال : ( أجل هي شجرة أخي يونس ) وقيل : هي التين ، وقيل : شجرة الموز ، تغطى بورقها . واستظلّ بأغصانها ، وأفطر على ثمارها . وقيل : كان يستظلّ بالشجرة وكانت وعلة تختلف إليه ، فيشرب من لبنها . وروي : أنه مرّ زمان على الشجرة فيبست ، فبكى جزعاً ، فأوحى الله إليه : بكيت على شجرة ولا تبكي على مائة ألف في يد الكافر ، فإن قلت : ما معنى ) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً ( ؟ قلت : أنبتناها فوقه مظلة له ؛ كما يطنب البيت على الإنسان ) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ ( المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه وهم أهل نينوى . وقيل : هو إرسال ثان بعد ما جرى عليه إلى الأولين . أو إلى غيرهم . وقيل : أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى ، لأنّ النبيّ إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيماً فيهم ، وقال لهم : إن الله باعث إليكم نبياً ) أَوْ يَزِيدُونَ ( في مرأى الناظر ؛ أي : إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر ؛ والغرض : الوصف بالكثرة ) إِلَى حِينٍ ( إلى أجل مسمى وقرىء : ( ويزيدون ) بالواو . وحتى حين .
) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (
الصافات : ( 149 - 157 ) فاستفتهم ألربك البنات . . . . .
) فَاسْتَفْتِهِمْ ( معطوف على مثله في أوّل السورة ، وإن تباعدت بينهما المسافة : أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أوّلاً ، ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها ، حيث جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم : الملائكة بنات الله ، مع كراهتهم الشديدة لهنّ ، ووأدهم ،

" صفحة رقم 65 "
واستنكافهم من ذكرهنّ . ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر ، أحدها : التجسيم ، لأن الولادة مختصة بالأجسام والثاني : تفضيل أنفسهم على ربهم حين جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم ، كما قال : ) وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ( ( الزخرف : 17 ) ، ) أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( ( الزخرف : 18 ) والثالث : أنهم استهانوا بأكرم خلق الله عليه وأقربهم إليه ، حيث أنثوهم ولو قيل لأقلهم وأدناهم : فيك أنوثة ، أو شكلك شكل النساء ، للبس لقائله جلد النمر ، ولانقلبت حماليقه وذلك في أهاجيهم بين مكشوف ، فكرّر الله سبحانه الأنواع كلها في كتابه مرّات ودلّ على فظاعتها في آيات : ) وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ( ( مريم : 88 89 ) ، ) وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( ( الأنبياء : 26 ) ، ) وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( ( البقرة : 116 ) ، ) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ( ( الأنعام : 101 ) ، ) إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ ( ( الصافات : 151 152 ) ، ) وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا ( ( الزخرف : 15 ) ، ) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ بَنَاتٍ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ( ( النحل : 57 ) ، ) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( ( الطور : 39 ) ، ) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ( ( النحل : 62 ) ، ) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ( ( الصافات : 153 ) ، ) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ( ( الزخرف : 16 ) ، ) وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثاً ( ( الزخرف : 19 ) . ) أَمَّا خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ( . فإن قلت : لم قال : ) وَهُمْ شَاهِدُونَ ( فخصّ علم المشاهدة ؟ قلت : ما هو الاستهزاء بهم وتجهيل ، وكذلك قوله : ) أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ( ( الزخرف : 19 ) ونحوه قوله : ) مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ( ( الكهف : 51 ) وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة ، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم . ولا بإخبار صادق ، ولا بطريق استدلال ونظر . ويجوز أن يكون المعنى : أنهم يقولون ذلك ، كالقائل قولاً عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم ، كأنهم قد شاهدوا خلقهم . وقرىء : ( ولد الله ) أي الملائكة ولده . والولد ( فعل ) بمعنى مفعول ، يقع على الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث . تقول : هذه ولدي ، وهؤلاء ولدي . فإن قلت : ) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ ( بفتح الهمزة : استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد ، فكيف صحّت قراءة أبي جعفر بكسر الهمزة على الإثبات ؟ قلت : جعله من كلام الكفرة بدلاً عن قولهم : ) وَلَدَ اللَّهُ ( وقد قرإ بها حمزة والأعمش

" صفحة رقم 66 "
رضي الله عنهما . وهذه القراءة وإن كان هذا محملها فهي ضعيفة ، والذي أضعفها : أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها ، وذلك قوله : ) وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( . ) مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( ؟ فمن جعلها للإثبات ، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين . وقرىء : ( تذكرون ) من ذكر ) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ ( أي حجة نزلت عليكم من السماء وخبر بأن الملائكة بنات الله ) فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ ( الذي أنزل عليكم في ذلك ، كقوله تعالى : ) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ( ( الروم : 35 ) وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم ، وإنكار فظيع ، واستبعاد لأقاويلهم شديد ؛ وما الأساليب التي وردت عليها إلاّ ناطقة بتسفيه أحلام قريش ، وتجهيل نفوسها ، واستركاك عقولها ، مع استهزاء وتهكم وتعجيب ، من أن يخطر مخطر مثل ذلك على بالٍ ويحدّث به نفساً ؛ فضلاً أن يجعله معتقداً ويتظاهر به مذهباً .
) وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (
الصافات : ( 158 ) وجعلوا بينه وبين . . . . .
) وَجَعَلُواْ ( بين الله وبين الجنة وأراد الملائكة ) نَسَباً ( وهو زعمهم أنهم بناته ، والمعنى : جعلوا بما قالوا : نسبة بين الله وبينهم ، وأثبتوا له بذلك جنسية جامعة له وللملائكة . فإن قلت : لم سمي الملائكة جنة ؟ قلت : قالوا : الجنس واحد ، ولكن من خبث من الجن ومرد وكان شراً كله فهو شيطان ، ومن طهر منهم ونسك وكان خيراً كله فهو ملك ؛ فذكرهم في هذا الموضع باسم جنسهم ، وأنما ذكرهم بهذا الاسم وضعاً منهم وتقصيراً بهم . وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم . وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار ، وهو من صفات الأجرام لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك . ومثاله : أن تسوّي بين الملك وبين بعض خواصه ومقرّبيه ، فيقول لك : أتسوّى بيني وبين عبدي . وإذا ذكره في غير هذا المقام وقرّه وكناه . والضمير في ) إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( للكفرة . والمعنى : أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة ، وقد علم الملائكة أنهم في ذلك كاذبون مفترون ، وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون ، والمراد المبالغة في التكذيب . حيث أضيف إلى علم الذين ادّعوا لهم تلك النسبة . وقيل : قالوا إنّ الله صاهر الجن فخرجت الملائكة . وقيل : قالوا : إن الله والشيطان أخوان .
وعن الحسن : أشركوا الجن في طاعة الله . ويجوز إذا فسر الجنة بالشياطين : أن يكون الضمير في ) إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( لهم ، والمعنى أن الشياطين عالمون بأنّ الله يحضرهم النار ويعذّبهم ، ولو كانوا مناسبين له أو شركاء في وجوب الطاعة لما عذّبهم ) إِلاَّ عِبَادَ

" صفحة رقم 67 "
اللَّهِ الصَّالِحِينَ ( استثناء منقطع من المحضرين : معناه ولكن المخلصين ناجون . وسبحان الله : اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه . ويجوز أن يقع الاستثناء من الواو في يصفون ، أي : يصفه هؤلاء بذلك ، ولكن المخلصون برآء من أن يصفوه به .
) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (
الصافات : ( 161 ) فإنكم وما تعبدون
والضمير في ) عَلَيْهِ ( لله عزّ وجلّ ومعناه : فإنكم ومعبودكم ما أنتم وهم جميعاً بفاتنين على الله إلاّ أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم لسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها . فإن قلت : كيف يفتنونهم على الله ؟ قلت : يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهزائهم ، من قولك : فتن فلان على فلان امرأته ، كما تقول : أفسدها عليه وخيبها عليه . ويجوز أن يكون الواو في ) وَمَا تَعْبُدُونَ ( بمعنى مع ، مثلها في قولهم : كل رجل وضيعته ، فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته ، وأنّ كل رجل وضيعته ؛ جاز أن يسكت على قوله : ) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ( لأن قوله : ) وَمَا تَعْبُدُونَ ( سادّ مسدّ الخبر ؛ لأن معناه : فإنكم مع ما تعبدون . والمعنى : فإنكم مع آلهتكم ، أي : فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونها ، ثم قال : ما أنتم عليه ، أي : على ما تعبدون ) بِفَاتِنِينَ ( بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال ) إِلاَّ مَنْ هُوَ ( ضال مثلكم . أو يكون في أسلوب قوله : فَإنَّكَ وَالْكِتَابُ إلَى عَلِي
كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ
وقرأ الحسن ( صال الجحيم ) بضم اللام . وفيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون جمعاً وسقوط واوه لالتقاء الساكنين هي ولام التعريف . فإن قلت : كيف استقام الجمع مع قوله : ) مَنْ هُوَ ( ؟ قلت : من موحد اللفظ مجموع المعنى فحمل هو على لفظه والصالون على معناه كما حمل في مواضع من التنزيل على لفظ من ومعناه في آية واحدة . والثاني : أن يكون أصله صائل على القلب ، ثم يقال صال في صائل ، كقولهم شاك في شائك . والثالث : أن تحذف لام صال تخفيفاً ويجري الإعراب على عينه ، كما حذف من قولهم : ما باليت به بالة ، وأصلها بالية من بالي ، كعافية من عافى . ونظيره قراءة من قرأ : ) وَجَنَى جَنَّتَيْنِ دَانٍ ( ( الرحمن : 54 ) ، ) وَلَهُ الْجَوَارِ ( ( الرحمن : 24 ) بإجراء الإعراب على العين .

" صفحة رقم 68 "
) وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (
الصافات : ( 164 ) وما منا إلا . . . . .
) وَمَا مِنَّا ( أحد ) إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، كقوله : أَنَا ابْنُ جَلاَ وَطَلاَّعُ الثَّنَايَا
بِكَفَّيْ كَانَ مِنْ أَرْمَى الْبَشَرْ
مقام معلوم : مقام في العبادة ، والانتهاء إلى أمر الله مقصور عليه لا يتجاوزه ، كما روى : فمنهم راكع لا يقيم صلبه ، وساجد لا يرفع رأسه ) لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( نصف أقدامنا في الصلاة ، أو أجنحتنا في الهواء . منتظرين ما نؤمر . وقيل : نصف أجنحتنا حول العرش داعين للمؤمنين . وقيل : إنّ المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية . وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين ) الْمُسَبّحُونَ ( المنزهون أو المصلون . والوجه أن يكون هذا وما قبله من قوله : ) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( ( الصافات : 159 ) من كلام الملائكة حتى يتصل بذكرهم في قوله : ) وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ ( ( الصافات : 158 ) كأنه قيل : ولقد علم الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزّة وقالوا : سبحان الله ، فنزهوه عن ذلك ، واستثنوا عباد الله المخلصين وبرؤهم منه ، وقالوا للكفرة فإذا صحّ ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه وتضلّوه ، إلاّ من كان مثلكم ممن علم الله لكفرهم ، لا لتقديره وإرادته ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً أنهم من أهل النار ، وكيف نكون مناسبين لربّ العزّة ويجمعنا وإياه جنسية واحدة ؟ وما نحن إلاّ عبيد أذلاء بين يديه ، لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يزل عنه ظفراً ، خشوعاً لعظمته وتواضعاً لجلاله ، ونحن الصافون أقدامنا لعبادته وأجنحتنا ، مذعنين خاضعين مسبحين ممجدين ، وكما يجب على العباد لربهم . وقيل : هو من قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، يعني : وما من المسلمين أحد إلاّ له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله ، من قوله : ) عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ( ( الإسراء : 79 ) ثم ذكر أعمالهم وأنهم هم الذين يصطفون في الصلاة يسبحون

" صفحة رقم 69 "
الله وينزهونه مما يضيف إليه من لا يعرفه مما لا يجوز عليه .
) وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (
الصافات : ( 167 ) وإن كانوا ليقولون
هم مشركو قريش كانوا يقولون : ) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً ( أي كتاباً ) مِّنَ ( كتب ) الاْوَّلِينَ ( الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، لأخلصنا العبادة لله ، ولما كذبنا كما كذبوا ، ولما خالفنا كما خالفوا ، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار ، والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب ، فكفروا به . ونحوه ) فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ( ( فاطر : 42 ) فسوف يعلمون مغبة تكذيبهم وما يحل بهم من الانتقام . وإن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة . وفي ذلك أنهم كانوا يقولونه مؤكدين للقول جادّين فيه ، فكم بين أوّل أمرهم وآخره .
) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (
الصافات : ( 171 ) ولقد سبقت كلمتنا . . . . .
الكلمة : قوله : ) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( وإنما سماها كلمة وهي كلمات عدّة ، لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم مفردة . وقرىء : ( كلماتنا ) والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقاوم الحجاج وملاحم القتال في الدنيا ، وعلوهم عليهم في الآخرة ، كما قال : ) وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( ( البقرة : 212 ) ولا يلزم انهزامهم في بعض المشاهد ، وما جرى عليهم من القتل فإن الغلبة كانت لهم ولمن بعدهم في العاقبة ، وكفى بمشاهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والخلفاء الراشدين مثلاً يحتذى عليها وعبراً يعتبر بها . وعن الحسن رحمه الله : ما غلب نبيّ في حرب ولا قتل فيها ، ولأن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه : الظفر والنصرة وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة والحكم للغالب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة . وفي قراءة ابن مسعود : ( على عبادنا ) ، على تضمين سبقت معنى حقت .
) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (
الصافات : ( 174 ) فتول عنهم حتى . . . . .
) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( فأعرض عنهم وأغض على أذاهم ) حَتَّى حِينٍ ( إلى مدة يسيرة وهي مدّة الكف عن القتال . وعن السدي : إلى يوم بدر . وقيل : الموت . وقيل : إلى يوم

" صفحة رقم 70 "
القيامة ) وَأَبْصَارِهِمْ ( وما يقضي عليهم من الأسر والقتل والعذاب في الآخرة ، فسوف ينصرونك وما يقضي لك من النصرة والتأييد والثواب في العاقبة . والمراد بالأمر بإبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة : الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة ، وأنّ كينونتها قريبة كأنها قدام ناظريك . وفي ذلك تسلية له وتنفيس عنه . وقوله : ) فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( للوعيد كما سلف لا للتبعيد .
) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (
الصافات : ( 176 ) أفبعذابنا يستعجلون
مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قومه بعض نصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره ، ولا أخذوا أهبتهم ، ولا دبروا أمرهم تدبيراً ينجيهم ، حتى أناخ بفنائهم بغتة ، فشنّ عليهم الغارة وقطع دابرهم ، وكانت عادة مغاوريهم أن يغيروا صباحاً ، فسميت الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر ، وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك ، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل ، وقرأ ابن مسعود : فبئس صباح . وقرىء : ( نزل بساحتهم ) على إسناده إلى الجار والمجرور كقولك : ذهب يزيد ونزل ، على : ونزل العذاب . والمعنى : فساء صباح المنذرين صباحهم ، واللام في المنذرين مبهم في جنس من أنذروا ، لأنّ ساء وبئس يقتضيان ذلك . وقيل : هو نزول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الفتح بمكة . وعن أنس رضي الله عنه :
( 951 ) لما أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خيبر كانوا خاجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي قالوا : محمد والخميس ، ورجعوا إلى حصنهم . فقال عليه الصلاة والسلام : ( الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ) وإنما ثنى ) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ ( ليكون تسلية على تسلية . وتأكيداً لوقوع الميعاد إلى تأكيد . وفيه فائدة زائدة وهي إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول ، وأنه يبصروهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة . وقيل : أريد بأحدهما عذاب الدنيا ، وبالآخر عذاب الآخرة .

" صفحة رقم 71 "
) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (
الصافات : ( 180 ) سبحان ربك رب . . . . .
أضيف الرب إلى العزّة لاختصاصه بها كأنه قيل : ذو العزّة ، كما تقول : صاحب صدق لاختصاصه بالصدق . ويجوز أن يراد أنه ما من عزّة لأحد من الملوك وغيرهم إلاّ وهو ربها ومالكها ، كقوله تعالى : ) بِهَا مَن تَشَاء ( ( آل عمران : 26 ) : اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوا إليه ، مما هو منزه عنه ، وما عاناه المرسلون من جهتهم ، وما خوّلوه في العاقبة من النصرة عليهم ؛ فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون ، والتسليم على المرسلين ) وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( على ما قيض لهم من حسن العواقب ، والغرض تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يخلوا به ولا يغفلوا عن مضمنات كتابه الكريم ومودعات قرآنه المجيد . وعن عليّ رضي الله عنه :
( 952 ) ( من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه : سبحان ربك رب العزّة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ) .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 953 ) ( من قرأ والصافات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جنى وشيطان ، وتباعدت عنه مردة الشياطين وبرىء من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمناً بالمرسلين ) .

" صفحة رقم 72 "
( سورة ص )
مكية ، وهي ست وثمانون آية ، وقيل : ثمان وثمانون آية
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) ص وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (
ص : ( 1 - 2 ) ص والقرآن ذي . . . . .
) ص ( على الواقف وهي أكثر القراءة . وقرىء : بالكسر والفتح لالتقاء الساكنين ، ويجوز أن ينتصب بحذف حرف القسم وإيصال فعله ، كقولهم : الله لأفعلنّ ، كذا بالنصب ، أو بإضمار حرف القسم ، والفتح في موضع الجرّ ، كقولهم : الله لأفعلنّ ، بالجرّ وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث ، لأنها بمعنى السورة ، وقد صرفها من قرأ ) ص ( بالجرّ والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل ، وقيل : فيمن كسر هو من المصاداة وهي المعارضة والمعادلة . ومنها الصدى وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة ، ومعناه : ما عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه . فإن قلت : قوله : ) ص وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ( كلام ظاهره متنافر غير منتظم ، فما وجه انتظامه ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدّي والتنبيه على الإعجاز كما مرّ في أوّل الكتاب ، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدّي عليه ، كأنه قال : ) ص وَالْقُرْءانِ ذِى ( إنه لكلام معجز . والثاني : أن يكون ) ص ( خبر مبتدأ محذوف ، على أنها اسم للسورة ، كأنه قال : هذه ص ، يعني : هذه السورة التي أعجزت العرب ، والقرآن ذي الذكر ، كما تقول : هذا حاتم والله ، تريد : هذا هو المشهور بالسخاء والله ؛ وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال : أقسمت بص والقرآن ذي الذكر أنه لمعجز ثم قال : بل الذين كفروا في عزة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق وشقاق لله ورسوله ، وإذا جعلتها مقسماً بها وعطفت عليها ) ص وَالْقُرْءانِ ذِى ( جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله ، وأن تريد السورة بعينها . ومعناه : أقسم بالسورة الشريفة والقرآن ذي الذكر ، كما تقول : مررت بالرجل الكريم وبالنسمة المباركة ، ولا تريد بالنسمة غير الرجل . والذكر : الشرف والشهرة ، من قولك : فلان مذكور ، وإنه لذكر لك ولقومك ، أو

" صفحة رقم 73 "
الذكرى والموعظة ، أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع وغيرها ، كأقاصيص الأنبياء والوعد والوعيد . والتنكير في ) عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ( للدّلالة على شدّتهما وتفاقمهما . وقرىء : ( في غرّة ) أي : في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحقّ .
) كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ (
ص : ( 3 ) كم أهلكنا من . . . . .
) كَمْ أَهْلَكْنَا ( وعيد لذوي العزّة والشقاق ) فَنَادَوْاْ ( فدعوا واستغاثوا ، وعن الحسن . فنادوا بالتوبة ) وَّلاَتَ ( هي لا المشبهة بليس ، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب ، وثم للتوكيد ، وتغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا أحد مقتضيها : إمّا الاسم وإما الخبر ، وامتنع بروزهما جميعاً ، وهذا مذهب الخليل وسيبويه . وعند الأخفش : أنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء ، وخصّت بنفي الأحيان . و ) حِينَ مَنَاصٍ ( منصوب بها ، كأنك قلت : ولا حين مناص لهم . وعنه : أنّ ما ينتصب بعده بفعل مضمر ، أي : ولا أرى حين مناص أي : وليس حين مناص ويرتفع بالابتداء : أي ولا جن مناص كائن لهم وعندهما أن النصب على : ولات الحين حين مناص ، والرفع على ولات حين مناص حاصلاً لهم . وقرىء : ( حين مناص ) بالكسر ، ومثله قول أبي زبيد الطائي : طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلاَتَ أَوَان
فَأَجَبْنَا أَنْ لاَتَ حِينَ بَقَاءِ
فإن قلت : وما وجه الكسر في أوان ؟ قلت : شبه بإذ في قوله : وأنت إذ صحيح ، في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض التنوين : لأنّ الأصل : ولات أوان صلح . فإن قلت : فما تقول في حين مناص والمضاف إليه قائم ؟ قلت : نزل قطع المضاف إليه من مناص ؛ لأنّ أصله حين مناصهم منزلة قطعة من حين ، لاتخاذ المضاف والمضاف إليه ، وجعل تنوينه عوضاً من الضمير المحذوف ، ثم بنى الحين لكونه مضافاً إلى غير متمكن . وقرىء : ( ولات ) بكسر التاء على البناء ، كجير . فإن قلت : كيف يوقف على لات ؟ قلت : يوقف عليها بالتاء ، كما يوقف على الفعل الذي يتصل به تاء التأنيث . وأمّا الكسائي فيقف عليها بالهاء كما يقف على الأسماء المؤنثة . وأمّا قول أبي عبيد : إنّ التاء داخلة على حين فلا وجه له . واستشهاده بأنّ التاء ملتزقة بحين في الإمام لا متشبث به ، فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط . والمناص : المنجا والفوت .

" صفحة رقم 74 "
يقال : ناصه ينوصه إذا فاته . واستناص : طلب المناص . قال حارثة بن بدر : غَمْرُ الْجِرَاءِ إذَا قَصَرْتُ عِنَانَه
بِيَدي اسْتَنَاصَ وَرَامَ جَرْيَ المُسْحِلِ
) وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّ نذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الاٌّ لِهَةَ إِلَاهاً وَاحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ (
ص : ( 4 ) وعجبوا أن جاءهم . . . . .
) مُّنذِرٌ مّنْهُمْ ( رسول من أنفسهم ) وَقَالَ الْكَافِرُونَ ( ولم يقل : وقالوا : إظهاراً للغضب عليهم ، ودلالة على أنّ هذا القول لا يجسر عليه إلاّ الكافرون المتوغلون في الكفر المنهمكون في الغيّ الذين قال فيهم : ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً ( ( النساء : 151 ) وهل ترى كفراً أعظم وجهلاً أبلغ من أن يسموا من صدّقه الله بوحيه كاذباً ، ويتعجبوا من التوحيد ، وهو الحق الذي لا يصحّ غيره ، ولا يتعجبوا من الشرك وهو الباطل الذي لا وجه لصحته . روي :
( 954 ) أَنّ إسلام عمر رضي الله تعالى عنه فرح به المؤمنون فرحاً شديداً ، وشقّ على قريش وبلغ منهم ، فاجتمع خمسة وعشرون نفساً من صناديدهم ومشوا إلى أبي طالب وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ، يريدون : الذين دخلوا في الإسلام ، وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فاستحضر أبو طالب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : يا ابن أخي ، هؤلاء قومك يسألونك السَّواء فلا تمل كل الميل على قومك ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ماذا يسألونني ؟ ) قالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلاهك ، فقال عليه السلام : ( أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطيّ أنتم كلمة واحدة

" صفحة رقم 75 "
تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ؟ ) فقالوا : نعم وعشراً ، أي نعطيكها وعشر كلمات معها ، فقال : ( قولوا : لا إلاه إلاّ الله ) فقاموا وقالوا : ) أَجَعَلَ الاٌّ لِهَةَ إِلَاهاً وَاحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ ( أي : بليغ في العجب . وقرىء : ( عجاب ) بالتشديد ، كقوله تعالى : ) مَكْراً كُبَّاراً ( ( نوح : 22 ) وهو أبلغ من المخفف . ونظيره : كريم وكرام وكرام : وقوله : ) أَجَعَلَ الاٌّ لِهَةَ إِلَاهاً وَاحِداً ( مثل قوله : ) وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثاً ( ( الزخرف : 19 ) في أن معنى الجعل التصيير في القول على سبيل الدعوى والزعم ، كأنه قال : أجعل الجماعة واحداً في قوله ، لأنّ ذلك في الفعل محال .
) وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى الْمِلَّةِ الاٌّ خِرَةِ إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ (
ص : ( 6 ) وانطلق الملأ منهم . . . . .
) الْمَلاَ ( أشراف قريش ، يريد : وانطلقوا عن مجلس أبي طالب بعد ما بكتهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسلم بالجواب العتيد ، قائلين بعضهم لبعض ) امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ ( فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد ) إِنَّ هَذَا ( الأمر ) لَشَىْء يُرَادُ ( أي : يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه ، وما أراد الله كونه فلا مردّ له ولا ينفع فيه إلا الصبر ، أو أن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه : أو أن دينكم لشيء يراد ، أي : يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه . و ( أن ) بمعنى أي : لأنّ المنطلقين عن مجلس التقاول لا بدّ لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول : ويجوز أن يراد بالانطلاق : الاندفاع في القول ، وأنهم قالوا : امشوا ، أي : أكثروا واجتمعوا ، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها . ومنه : الماشية ، للتفاؤل ، كما قيل لها : الفاشية . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 955 ) ( ضموا فواشيكم ) ومعنى ) وَاْصْبِرُواْ عَلَىءالِهَتِكُمْ ( : واصبروا على عبادتها والتمسك بها حتى لا تزالوا عنها ، وقرىء : ( وانطلق الملأ منهم امشوا ) بغير ( أن ) على إضمار القول . وعن ابن مسعود : ( وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا ) ) فِى الْمِلَّةِ الاْخِرَةِ ( في ملة عيسى التي هي آخر الملل ؛ لأنّ النصارى بدعونها وهم مثلثة غير موحدة . أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا . أو ما سمعنا بهذا كائناً في الملة

" صفحة رقم 76 "
الآخرة ، على أن يجعل في الملة الآخرة حالاً من هذا ولا تعلقه بما سمعنا كما في الوجهين . والمعنى : أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا من الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله . ما ) هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ( أي : افتعال وكذب .
) أَءَنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُم مٌّ لْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاٌّ سْبَابِ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الاٌّ حَزَابِ (
ص : ( 8 ) أأنزل عليه الذكر . . . . .
أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤوسائهم وينزل عليه الكتاب من بينهم كما قالوا : ) لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( ( الزخرف : 31 ) وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد على ما أوتي من شرف النبوّة من بينهم ) بْل هُمْ فَى شَكّ ( من القرآن ، يقولون في أنفسهم : إما وإما . وقولهم : ) إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ( كلام مخالف لاعتقادهم فيه يقولونه على سبيل الحسد ) بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ( بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد حينئذ ، يعني : أنهم لا يصدقون به إلا أن يمسهم العذاب مضطرين إلى تصديقه ) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ ( يعني : ما هم بمالكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاؤوا ويصرفوها عمن شاؤوا ، ويتخيروا للنبوّة بعض صناديدهم ، ويترفعوا بها عن محمد عليه الصلاة والسلام . وإنما الذي يملك الرحمة وخزائنها : العزيز القاهر على خلقه ، الوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها ، الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته وعدله ، كما قال : ) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا ( ( الزخرف : 32 ) ثم رشح هذا المعنى فقال : ) أَمْ لَهُم مٌّ لْكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلاهية التي يختص بها ربّ العزّة والكبرياء ، ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال : وإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة

" صفحة رقم 77 "
الرحمة ، وكانت عندهم الحكمة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوّة دون من لا تحق له ) فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاْسْبَابُ ( فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش ، حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله ، وينزلوا الوحي إلى من يختارون ويستصوبون ، ثم خسأهم خساءة عن ذلك بقوله : ) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الاْحَزَابِ ( يريد : ما هم إلا جيش من الكفار المتحزبين على رسل الله ، مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بما يقولون ، ولا تكترث لما به يهزءون . و ( ما ) مزيدة ، وفيها معنى الاستعظام ، كما في قول امرىء القيس : وَحَدِيثٌ مَا عَلَى قِصَرِهْ ;
إلا أنه على سبيل الهزء و ) هُنَالِكَ ( إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم ، من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله : لست هنالك .
) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاٌّ وْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لأيْكَةِ أُوْلَائِكَ الاٌّ حْزَابُ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّ سُلَ فَحَقَّ عِقَابِ وَمَا يَنظُرُ هَاؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ (
ص : ( 12 - 15 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
) ذُو الاْوْتَادِ ( أصله من ثبات البيت المطنب بأوتاد ، قال :

" صفحة رقم 78 "
وَالْبَيْتُ لاَ يُبْتَنَى إلاَّ عَلَى عَمَد
وَلاَ عِمَادَ إذَا لَمْ تَرْسُ أَوْتَادُ
فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر ، كما قال الأسود :
فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ
وقيل : كان يشبح المعذب بين أربع سوار : كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد ، ويتركه حتى يموت . وقيل : كان يمدّه بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات . وقيل : كانت له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه ) أُوْلَئِكَ الاْحْزَابُ ( قصد بهذه الإشارة الإعلام بأنّ الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم ومنهم هم هم ، وأنهم هم الذين وجد منهم التكذيب . ولقد ذكر تكذيبهم أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه فيها : بأنّ كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل ، لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم فقد كذبوهم جميعاً . وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه ، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أوّلاً وبالاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص : أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشدّ العقاب أو أبلغه ، ثم قال : ) فَحَقَّ عِقَابِ ( أي : فوجب لذلك أن أعاقبهم حقّ عقابهم ) هَاؤُلآءِ ( أهل مكة . ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب لاستحضارهم بالذكر ، أو لأنهم كالحضور عند الله . والصيحة : النفخة ) مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ( وقرىء : بالضم : ما لها من توقف مقدار فواق ، وهو ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع . يعني : إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان ، كقوله تعالى : ) فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ( ( النحل : 61 ) وعن ابن عباس : ما لها من رجوع وتزداد ، من أفاق المريض إذا رجع إلى الصحة . وفواق الناقة : ساعة ترجع الدرّ إلى ضرعها ، يريد : أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد .

" صفحة رقم 79 "
) وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (
ص : ( 16 ) وقالوا ربنا عجل . . . . .
القط : القسط من الشيء ؛ لأنه قطعة منه ، من قطه إذا قطعه . ويقال : لصحيفة الجائزة : قط ، لأنها قطعة من القرطاس ، وقد فسر بهما قوله تعالى : ) عَجّل لَّنَا قِطَّنَا ( أي نصيبنا من العذاب الذي وعدته ، كقوله تعالى : ) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ الْعَذَابَ ( ( الحج : 47 ) وقيل : ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعد الله المؤمنين بالجنة ؛ فقالوا على سبيل الهزء : عجل لنا نصيبنا منها . أو عجل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها .
) اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الاٌّ يْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (
ص : ( 17 ) اصبر على ما . . . . .
فإن قلت : كيف تطابق قوله : ) اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ ( وقوله : ) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ( حتى عطف أحدهما على صاحبه ؟ قلت : كأنه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : اصبر على ما يقولون ، وعظم أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود ، وهو أنه نبيّ من أنبياء الله تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوّة والملك ، ولكرامته عليه وزلفته لديه ، ثم زلّ زلّة فبعث إليه الملائكة ووبخه عليها . على طريق التمثيل والتعريض ، حتى فطن لما وقع فيه فاستغفر وأناب ، ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم وغمّه الواصب ، ونقش جنايته في بطن كفه حتى لا يزال يجدد النظر إليها والندم عليها فما الظنّ بكم مع كفركم ومعاصيكم ؟ أو قال له ( صلى الله عليه وسلم ) : اصبر على ما يقولون ، وصن نفسك وحافظ عليها أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم ، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زلّ تلك الزلّة اليسيرة فلقي من توبيخ الله وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقي ) ذَا الاْيْدِ ( ذا القوّة في الدين المضطلع بمشاقه وتكاليفه ، كان على نهوضه بأعباء النبوّة والملك يصوم يوماً ويفطر يوماً وهو أشدّ الصوم ، ويقوم نصف الليل . يقال : فلان أيد ، وذو أيد ، وذو آد . وأياد كل شيء : ما يتقوّى به ) أَوَّابٌ ( توّاب رجاع إلى مرضاة الله . فإن قلت : ما دلك على أنّ الأيد القوّة في الدين ؟ قلت : قوله تعالى : ) إِنَّهُ أَوَّابٌ ( لأنه تعليل لذي الأيد ) وَالإشْرَاقِ ( وقت الإشراق ، وهو حين تشرق الشمس ، أي : تضيء ويصفوا شعاعها

" صفحة رقم 80 "
وهو وقت الضحى ، وأما شروقها فطلوعها ، يقال : شرقت الشمس ، ولما تشرق . وعن أمّ هانىء :
( 956 ) دخل علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال : ( يا أمّ هانىء هذه صلاة الإشراق ) . وعن طاووس ، عن ابن عباس قال : هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن ؟ قالوا : لا ، فقرأ : إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق وقال : كانت صلاة يصليها داود عليه السلام . وعنه : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية . وعنه : لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى طلبتها فوجدتها بهذه الآية ) يُسَبّحْنَ بِالْعَشِىّ وَالإشْرَاقِ ( وكان لا يصلي صلاة الضحى ، ثم صلاها بعد . وعن كعب أنه قال لابن عباس : إني لا أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس ، فقال : أنا أوجدك ذلك في كتاب الله تعالى ، يعني هذه الآية . ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في الشروق ، ومنه قوله تعالى : ) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ( ( الحجر : 73 ) وقول أهل الجاهلية : أشرق ثبير ، ويراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق . ويسبحن : في معنى ومسبحات على الحال . فإن قلت : هل من فرق بين يسبحن ومسبحات ؟ قلت : نعم ، وما اختير يسبحن على مسبحات إلا لذلك ، وهو

" صفحة رقم 81 "
الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال ، كأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح . ومثله قول الأعشى : إلَى ضَوْءِ نَارٍ فِي يَفَاعٍ تَحْرِقُ ;
ولو قال : محرقة ، لم يكن شيئاً . وقوله : ) مَحْشُورَةً ( في مقابلة : يسبحن ؛ إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئاً بعد شيء ، جيء به اسماً لا فعلاً . وذلك أنه لو قيل : وسخرنا الطير يحشرن على أنّ الحشر يوجد من حاشرها شيئاً شيء والحاشر هو الله عزّ وجلّ لكان خلفاً ، لأنّ حشرها جملة واحدة أدلّ على القدرة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح ، واجتمعا إليه الطير فسبحت ، فذلك حشرها . وقرىء : ( والطير محشورة ) ، بالرفع ) كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ( كل واحد من الجبال والطير لأجل داود ، أي : لأجل تسبيحه مسبح ، لأنها كانت تسبح بتسبيحه . ووضع الأوّاب موضع المسبح : إمّا لأنّها كانت ترجع التسبيح ، والمرجع رجاع ؛ لأنه يرجع إلى فعله رجوعاً بعد رجوع وإمّا لأن الأوّاب وهو التوّاب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته من عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه . وقيل : الضمير لله ، أي : كل من داود والجبال والطير لله أوّاب ، أي مسبح مرجح للتسبيح ) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ( قوّيناه ، قال تعالى : ) سَنَشُدُّ عَضُدَكَ ( ( القصص : 35 ) وقرىء : ( شددنا ) على المبالغة . قيل : كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم

" صفحة رقم 82 "
يحرسونه وقيل : الذي شدّ الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة : أنّ رجلاً ادّعى عنده على آخر بقرة ، وعجز عن إقامة البينة ، فأوحى الله تعالى إليه في المنام : أن اقتل المدّعى عليه ، فقال : هذا منام ، فأعيد الوحي في اليقظة ، فأعلم الرجل فقال : إنّ الله عزّ وجلّ لم يأخذني بهذا الذنب ، ولكن بأني قتلت أبا هذا غيلة ، فقتله ، فقال الناس : إن أذنب أحد ذنباً أظهره الله عليه ، فقتله ، فهابوه ) الْحِكْمَةَ ( الزبور وعلم الشرائع . وقيل : كل كلام وافق الحق فهو حكمة . الفصل : التميز بين الشيئين . وقيل للكلام البين : فصل ، بمعنى المفصول كضرب الأمير ، لأنهم قالوا : كلام ملتبس ، وفي كلامه لبس . والملتبس : المختلط ، فقيل في نقيضه : فصل ، أي : مفصول بعضه من بعض ، فمعنى فصل الخطاب البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبسن عليه ومن فصل الخطاب وملخصه : أن لا يخطىء صاحبه مظانّ الفصل والوصل ، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه ، ولا يتلو قوله : ) فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ( ( الماعون : 4 ) إلا موصولاً بما بعده ، ولا ( والله يعلم وأنتم ) حتى يصله بقوله : ) لاَ تَعْلَمُونَ ( ( البقرة : 232 ) ونحو ذلك ، وكذلك مظانّ العطف وتركه ، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار ، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل ، كالصوم والزور ، وأردت بفصل الخطاب : الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والصواب والخطأ ، وهو كلامه في القضايا والحكومات ، وتدابير الملك والمشورات . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وهو قوله : البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ، وهو من الفصل بين الحق والباطل ، ويدخل فيه قول بعضهم : هو قوله ( أمّا بعد ) لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه : فصل بينه وبين ذكر الله بقول : أمّا بعد . ويجوز أن يراد الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصاراً مخلّ ولا إشباع مملّ . ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فصل لا نذر ولا هذر .
) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ (
ص : ( 21 ) وهل أتاك نبأ . . . . .
كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته وكانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها . وقد روينا أن الأنصار كانوا

" صفحة رقم 83 "
يواسون المهاجرين بمثل ذلك ، فاتفق أنّ عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له أوريا ، فأحبّها فسأله النزول له عنها ، فاستحيا أن يردّه ففعل ، فتزوجها وهي أمّ سليمان ، فقيل له : إنك مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكبر شؤنك وكثرة نسائك : لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة النزول ، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر على ما امتحنت به . وقيل : خطبها أوريا ثم خطبها داود ، فآثره أهلها ، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن ، مع كثرة نسائه . وأمّا ما يذكر أنّ داود عليه السلام تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال : يا رب إنّ آبائي قد ذهبوا بالخير كله ، فأوحى إليه : إنهم ابتلوا ببلايا فصبروا عليها : قد ابتلي إبراهيم بنمروذ وذبح ولده ، وإسحاق بذبحه وذهاب بصره ، ويعقوب بالحزن على يوسف . فسأل الابتلاء فأوحى الله إليه : إنك لمبتلي في يوم كذا وكذا ، فاحترس ، فلما حان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور ، فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب ، فمدّ يده ليأخذها لابن له صغير ، فطارت ، فامتدّ إليها ، فطارت فوقعت في كوّة ، فتبعها ، فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطى بدنها ، وهي امرأة أوريا وهو من غزاة البلقاء ، فكتب إلى أيوب بن صوريا وهو صاحب بعث البلقاء . أن ابعث أوريا وقدمه على التابوت ، وكل من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد ، ففتح الله على يده وسلم ، فأمر بردّه مرة أخرى ، وثالثة ، حتى قتل ، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء ، وتزوج امرأته . فهذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين ؟ فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء . وعن سعيد بن المسيب والحرث الأعور : أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حدّ الفرية على الأنبياء . وروى أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق ، فكذب المحدث به وقال : إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس

" صفحة رقم 84 "
خلافها ، وأعظم بأن يقال غير ذلك وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه ، فقال عمر : لسماعي هذا الكلام أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس . والذي يدلّ عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلاّ طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب . فإن قلت : لم جاءت على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح ؟ قلت : لكونها أبلغ في التوبيخ ، من قبل أن التأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرض به ، كان أوقع في نفسه ، وأشدّ تمكناً من قلبه ، وأعظم أثراً فيه ، وأجلب لاحتشامه وحيائه ، وأدعى إلى التنبه على الخطأ فيه من أن يبادره به صريحاً ، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة . ألا ترى إلى الحكماء كيف أوصوا في سياسة الولد إذا وجدت منه هنة منكرة أن يعرض له بإنكار عليه ولا يصرح . وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية فاستمسج حال نفسه ، وذلك أزجر له لأنه ينصب ذلك مثالاً لحاله ومقياساً لشأنه ، فيتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة ، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة . فإن قلت : فلم كان ذلك على وجه التحاكم إليه ؟ قلت : ليحكم بما حكم به من قوله : ) لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ( ( ص : 24 ) حتى يكون محجوجاً بحكمه ومعترفاً على نفسه بظلمه ) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ ( ظاهره الاستفهام . ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد ، والتشويق إلى استماعه والخصم : الخصماء ، وهو يقع على الواحد والجمع ؛ كالضيف . قال الله تعالى : ) حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( ( الذاريات : 24 ) لأنه مصدر في أصله ، تقول : خصمه خصماً ؛ كما تقول : ضافه ضيفاً . فإن قلت : هذا جمع . وقوله : ( خصمان ) تثنية فكيف استقام ذلك ؟ قلت : معنى خصمان : فريقان خصمان ، والدليل عليه قراءة من قرأ : خصمان بغي بعضهم على بعض : ونحوه قوله تعالى : ) هَاذَا خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبّهِمْ ( ( الحج : 19 ) . فإن قلت : فما تصنع بقوله : ) إِنَّ هَذَا أَخِى ( ( ص : 23 ) وهو دليل على اثنين ؟ قلت : هذا قول البعض المراد بقوله بعضنا على بعض . فإن قلت : فقد جاء في الرواية أنه بعث إليه ملكان . قلت : معناه أن التحاكم كان بين ملكين ، ولا يمنع ذلك أن يصحبهما آخرون . فإن قلت : فإذا كان التحاكم بين اثنين كيف سماهم جميعاً خصماً في قوله : ) وَهَلْ أَتَاكَ ( و ) خَصْمَانِ ( ؟ قلت : لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به . فإن قلت : بم انتصب ( إذ ) ؟ قلت : لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك ، أو بالنبأ ، أو بمحذوف

" صفحة رقم 85 "
فلا يسوغ انتصابه بأتاك ؛ لأنّ إتيان النبأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود ، ولا بالنبأ ؛ لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصحّ إتيانه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وإن أردت بالنبأ : القصة في نفسها لم يكن ناصباً ، فبقي أن ينتصب بمحذوف ، وتقديره : وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم . ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل . وأما إذ الثانية فبدل من الأولى ) تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ ( تصعدوا سوره ونزلوا إليه . والسور : الحائط المرتفع ونظيره في الأبنية : تسنمه ، إذ علا سنامه ، وتذرّاه : إذا علا ذروته . روى : أنّ الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في يوم عبادته ، فمنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب ، فلم يشعر إلاّ وهما بين يديه جالسان ) فَفَزِعَ مِنْهُمْ ( قال ابن عباس : إنّ داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء : يوماً للعبادة ، ويوماً للقضاء ، ويوماً للاشتغال بخواص أموره ، ويوماً يجمع بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم ؛ فجاءوا في غير يوم القضاء ففزع منهم ، ولأنهم نزلوا عليه من فوق ، وفي يوم الاحتجاب ، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه ) خَصْمَانِ ( خبر مبتدأ محذوف ، أي : نحن خصمان ) وَلاَ تُشْطِطْ ( ولا تجر . وقرىء : ( ولا تشطط ) ، أي : ولا تبعد عن الحق . وقرىء : ( ولا تشطط ) ، ولا تشاطط ، وكلها من معنى الشطط : وهو مجاوزة الحدّ وتخطي الحق . و ) سَوَاء الصّراطِ ( وسطه ومحجته : ضربه مثلاً لعين الحق ومحضه .
) إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ (
ص : ( 23 ) إن هذا أخي . . . . .
) أَخِى ( بدل من هذا أو خبر لأنّ . والمراد أخوّة الدين ، أو أخوّة الصداقة والألفة ، أو أخوّة الشركة والخلطة ؛ لقوله تعالى : ) وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَاء ( ( ص : 24 ) كل واحدة من هذه الأخوات تدلي بحق مانع من الاعتداء والظلم . وقرىء : ( تسع وتسعون ) ، بفتح التاء . ونعجة ، بكسر النون وهذا من اختلاف اللغات ، نحو نطع ونطع ، ولَقْوَةٌ وَلِقْوَة ) أَكْفِلْنِيهَا ( ملكنيها . وحقيقته : أجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي ) وَعَزَّنِى ( وغلبني . يقال : عزّه يعزّه . قال : قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَكٌ فَبَاتَت
يُجَاذِبُهُ وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ

" صفحة رقم 86 "
يريد : جاءني بحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أردّه به . وأراد بالخطاب : مخاطبة المحاج المجادل : أو أراد : خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطاباً ، أي ؛ غالبني في الخطبة فغلبني ، حيث زوّجها دوني . وقرىء : ( وعازني ) من المعازة وهي المغالبة . وقرأ أبو حيوة : ( وعزني ) بتخفيف الزاي طلباً للخفة ، وهو تخفيف غريب ، وكأنه قاسه على نحو : ظلت ، ومست . فإن قلت : ما معنى ذكر النعاج ؟ قلت : كأن تحاكمهم في نفسه تمثيلاً وكلامهم تمثيلاً ؛ لأنّ التمثيل أبلغ في التوبيخ لما ذكرنا ، وللتنبيه على أمر يستحيا من كشفه ، فيكنى عنه كما يكنى عما يستمسج الإفصاح به ، وللستر على داود عليه السلام والاحتفاظ بحرمته . ووجه التمثيل فيه أن مثلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة فطمع في نعجة خليطه وأراده على الخروج من ملكها إليه ، وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده ، والدليل عليه قوله : ) وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَاء ( ( ص : 24 ) وإنما خصّ هذه القصة لما فيها من الرمز إلى الغرض بذكر النعجة . فإن قلت : إنما يستقيم طريقة التمثيل إذا فسرت الخطاب بالجدال ، فإن فسرته بالمفاعلة من الخطبة لم يستقم . قلت : الوجه مع هذا التفسير أن أجعل النعجة استعارة عن المرأة ، كما استعاروا لها الشاة في نحو قوله :
يَا شَاةُ مَا قَنَصٌ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ
فَرَمَيْتُ غَفْلَةَ عَيْنِهِ عَنْ شَاتِهِ
وشبهها بالنعجة من قال :
كَنِعَاجِ الْمَلاَ تَعَسَّفْنَ رَمْلاَ ;
لولا أنّ الخلطاء تأباه ، إلاّ أن يضرب داود الخلطاء ابتداء مثلاً لهم ولقصتهم .

" صفحة رقم 87 "
فإن قلت : الملائكة عليهم السلام كيف صحّ منهم أن يخبروا عن أنفسهم بما لم يلتبسوا منه بقليل ولا كثير ولا هو من شأنهم ؟ قلت : هو تصوير للمسألة وفرض لها ، فصوّروها في أنفسهم وكانوا في صورة الأناسي ، كما تقول في تصوير المسائل : زيد له أربعون شاة ، وعمر له أربعون ، وأنت تشير إليهما ، فخلطاها وحال عليه الحول ، كم يجب فيها ؟ وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد وتقول أيضاً في تصويرها : لي أربعون شاة وأربعون فخلطناها . ومالكما من الأربعين أربعة ولا ربعها . فإن قلت : ما وجه قراءة ابن مسعود : ( ولي نعجة أنثى ) ؟ قلت : يقال لك امرأة أنثى للحسناء الجميلة . والمعنى : وصفها بالعرافة في لين الأنوثة وفتورها ، وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها . ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال . وقوله : فَتُورُ الْقِيَامِ قَطِيعُ الكَلاَمِ ;
وقوله :

" صفحة رقم 88 "
تَمْشِي رُوَيْداً تَكَادُ تَنْغَرِفُ ;
) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَالِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَأابٍ (
ص : ( 24 ) قال لقد ظلمك . . . . .
) لَقَدْ ظَلَمَكَ ( جواب قسم محذوف . وفي ذلك استنكار لفعل خليطه وتهجين لطمعه . والسؤال : مصدر مضاف إلى المفعول ، كقوله تعالى : ) مِن دُعَاء الْخَيْرِ ( ( فصلت : 49 ) وقد ضمن معنى الإضافة فعدّى تعديتها ، كأنه قيل بإضافة ) نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ( على وجه السؤال والطلب . فإن قلت : كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه ؟ قلت : ما قال ذلك إلاّ بعد اعتراف صاحبه ، لكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم . ويروى أنه قال أنا أريد أن آخذها منه وأكمل نعاجي مائة ، فقال داود : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا ، وأشار إلى طرف الأنف والجبهة ، فقال : يا داود أنت أحقّ أن يضرب منك هذا وهذا ، وأنت فعلت كيت وكيت ، ثم نظر داود فلم ير أحداً ، فعرف ما وقع فيه ) الْخُلَطَاء ( الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، الواحد : خليط ، وهي الخلطة ، وقد غلبت في الماشية ؛ والشافعي رحمه الله يعتبرها ، فإذا كان الرجلان خليطين في ماشية بينهما غير مقسومة ، أو لكل واحد منهما ماشية على حدة إلاّ أنّ مراحهما ومساقهما وموضع حلبهما والراعي والكلب واحد والفحولة مختلطة : فهما يزكيان زكاة الواحد ؛ فإن كان لهما أربعون شاة فعليهما شاة . وإن كانوا ثلاثة ولهم مائة وعشرون لكل واحد وأربعون ، فعليهم واحدة كما لو كانت لواحد . وعند أبي حنيفة : لا تعتبر الخلطة ، والخليط والمنفرد عنده واحد ، ففي أربعين بين خليطين : لا شيء عنده ، وفي مائة وعشرين بين ثلاثة : ثلاث شياه . فإن قلت : فهذه الخلطة ما تقول فيها ؟ قلت : عليهما شاة واحدة ، فيجب على ذي النعجة أداء جزء من مائة جزء من الشاة عند الشافعي رحمه الله ، وعند أبي حنيفة لا شيء عليه ، فإن قلت : ماذا أراد بذكر حال

" صفحة رقم 89 "
الخلطاء في ذلك المقام ؟ قلت : قصد به الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذي حكم لهم بالقلة ، وأن يكرّه إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم ، مع التأسف على حالهم ، وأن يسلى المظلوم عما جرى عليه من خليطه ، وأنّ له في أكثر الخلطاء أسوة . وقرىء : ( ليبغي ) بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة ، وحذفها كقوله : اضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِقَهَا ;
وهو جواب قسم محذوف . وليبغ : بحذف الياء ، اكتفاء منها بالكسرة ، و ( ما ) في ) وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ( للإبهام . وفيه تعجب من قلتهم . وإن أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها ، من قول امرىء القيس :
وَحَدِيثٌ مَا عَلَى قِصَرِهْ ;
وانظر هل بقي له معنى قط ، لما كان الظنّ الغالب يداني العلم ، استعير له . ومعناه : وعلم داود وأيقن ) أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ( أنا ابتليناه لا محالة بامرأة أوريا ، هل يثبت أو يزل ؟ وقرىء : ( فتناه ) بالتشديد للمبالغة . وأفتناه ، من قوله :
لَئِنْ فَتَنَتْنِي لَهِيَ بِالأَمْسِ أَفْتَنَتْ ;
وفتناه وفتناه ، على أن الألف ضمير الملكين . وعبر بالراكع عن الساجد ، لأنه ينحني ويخضع كالساجد . وبه استشهد أبو حنيفة وأصحابه في سجدة التلاوة ، على أنّ الركوع يقوم مقام السجود . وعن الحسن : لأنه لا يكون ساجداً حتى يركع ، ويجوز أن يكون قد استغفر الله لذنبه وأحرم بركعتي الاستغفار والإنابة ، فيكون المعنى : وخرّ للسجود راكعاً أي : مصلياً ؛ لأنّ الركوع يجعل عبارة عن الصلاة ) وَأَنَابَ ( ورجع إلى الله تعالى بالتوبة والتنصل . وروى أنه بقي ساجداً أربعين يوماً وليلة لا يرفع رأسه إلاّ لصلاة مكتوبة أو ما لا بدّ منه ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب من دمعه إلى رأسه ، ولم يشرب ماء إلا وثلثاه دمع ، وجهد نفسه راغباً إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك ، واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له : إيشا على ملكه ودعا إلى

" صفحة رقم 90 "
نفسه ، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل ، فلما غفر له حاربه فهزمه . وروى أنه نقش خطيئته في كفه حتى لا ينساها . وقيل : إنّ الخصمين كانا من الإنس ، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما : إما كانا خليطين في الغنم ، وإما كان أحدهما موسراً وله نسوان كثيرة من المهائر والسراري ، والثاني : معسراً ماله إلا امرأة واحدة ، فاستنزله عنها إنما فزع لدخولهما عليه في غير وقت الحكومة أن يكونا مغتالين ، وما كان ذنب داود إلاّ أنه صدّق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته .
) يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الاٌّ رْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ (
ص : ( 26 ) يا داود إنا . . . . .
) خَلِيفَةً فِى الاْرْضِ ( أي : استخلفناك على الملك في الأرض ، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها . ومنه قولهم : خلفاء الله في أرضه . وجعلناك خليفة ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحقّ . وفيه دليل على أنّ حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير ) فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( أي بحكم الله تعالى إذ كنت خليفته ) وَلاَ تَتَّبِعِ ( هوى النفس في قضائك وغيره ، مما تتصرف فيه من أسباب الدين والدنيا ) فَيُضِلَّكَ ( الهوى فيكون سبباً لضلالك ) عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( عن دلائله التي نصبها في العقول ، وعن شرائعه التي شرعها وأوحى بها ، و ) يَوْمِ الْحِسَابِ ( متعلق بنسوا ، أي : بنسيانهم يوم الحساب ، أمر بقوله لهم ، أي : لهم عذاب يوم القيامة بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن سبيل الله . وعن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز أو

" صفحة رقم 91 "
للزهري : هل سمعت ما بلغنا ؟ قال : وما هو ؟ قال : بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا تكتب عليه معصية . فقال : يا أمير المؤمنين ، الخلفاء أفضل من الأنبياء ؟ ثم تلا هذه الآية .
) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ (
ص : ( 27 ) وما خلقنا السماء . . . . .
) بَاطِلاً ( خلقاً باطلاً ، لا لغرض صحيح وحكمة بالغة . أو مبطلين عابثين ، كقوله تعالى : ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( ( الدخان : 39 ) وتقديره : ذوي باطل أو عبثاً ، فوضع باطلاً موضعه ، كما وضعوا هنيئاً موضع المصدر ، وهو صفة ، أي : ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب ، ولكن للحق المبين ، وهو أن خلقناها نفوساً أودعناها العقل والتمييز ، ومنحناها التمكين ، وأزحنا عللها ثم عرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف ، وأعددنا لها عاقبة وجزاء على حسب أعمالهم . و ) ذَالِكَ ( إشارة إلى خلقها باطلاً ، والظنّ : بمعنى المظنون أي : خلقها للعبث لا للحكمة هو مظنون الذين كفروا . فإن قلت : إذا كانوا مقرّين بأن الله خالق السماوات والأرض وما بينهما بدليل قوله : ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( ( لقمان : 25 ) فبم جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة . قلت : لما كان إنكارهم للبعث والحساب والثواب والعقاب ، مؤدياً إلى أن خلقها عبث وباطل ، جعلوا كأنهم يظنون ذلك ، ويقولونه ، لأنّ الجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم من رأسها ، فمن جحده فقد جحد الحكمة من أصلها ، ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق ، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره ، فكان إقراره بكونه خالقاً كلا إقرار .
) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاٌّ رْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (
ص : ( 28 ) أم نجعل الذين . . . . .
) أَمْ ( منقطعة . ومعنى الاستفهام فيها الإنكار ، والمراد : أنه لو بطل الجزاء كما يقول الكافرون لاستوت عند الله أحوال من أصلح وأفسد ، واتقى وفجر ، ومن سوّى بينهم كان سفيهاً ولم يكن حكيماً .
) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاٌّ لْبَابِ (
ص : ( 29 ) كتاب أنزلناه إليك . . . . .
وقرىء : ( مباركاً ) وليتدبروا : على الأصل ، ولتدبروا : على الخطاب . وتدبر

" صفحة رقم 92 "
الآيات : التفكر فيها ، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة ، لأن من اقتنع بظاهر المتلو ، لم يحل منه بكثير طائل وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها ، ومهرة نثور لا يستولدها . وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله : حفظوا حروفه وضيعوا حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً ، وقد والله أسقطه كله ، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل ، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة ، لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء . اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين ، وأعدنا من القراء المتكبرين .
) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالاٌّ عْنَاقِ (
ص : ( 30 ) ووهبنا لداود سليمان . . . . .
وقرىء : ( نعم العبد ) على الأصل والمخصوص بالمدح محذوف . وعلل كونه ممدوحاً بكونه أوّاباً رجاعاً إليه بالتوبة . أو مسبحاً مؤوّباً للتسبيح مرجعاً له ، لأن كل مؤوّب أوّاب . والصافن : الذي في قوله : أَلِفَ الصّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّه
مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلاَثِ كَسِيراً
وقيل : الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل : هو المتخيم . وأما الصافن : فالذي يجمع بين يديه . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 957 ) ( من سره أن يقوم الناس له صفوناً فليتبوّأ مقعده من النار ) أي : واقفين

" صفحة رقم 93 "
كما خدم الجبابرة . فإن قلت : ما معنى وصفها بالصفون ؟ قلت : الصفون لا يكاد يكون في الهجن ، وإنما هو في العراب الخلص . وقيل : وصفها بالصفون والجودة ، ليجمع لها بين الوصفين المحمودين : واقفة وجارية ، يعني : إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها ، وإذا جرت كانت سراعاً خفافاً في جريها . وروى أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين ، فأصاب ألف فرس . وقيل : ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة . وقيل : خرجت من البحر لها أجنحة ، فقعد يوماً بعد ما صلى الأولى على كرسيه واستعرضها ، فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشي ، وتهيبوه فلم يعلموه ، فاغتم لما فاته ، فاستردها وعقرها مقرباً الله ، وبقي مائة ، فما بقي في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها ، وقيل : لما عقرها أبدله الله خيراً منها ، . وهي الريح تجري بأمره . فإن قلت : ما معنى : ) أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى ( ؟ قلت : أحببت : مضمن معنى فعل يتعدى بعن ، كأنه قيل : أنبت حب الخير عن ذكر ربي . أو جعلت حب الخير مجزياً أو مغنياً عن ذكر ربي . وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان : أن ( أحببت ) بمعنى : لزمت من قوله : مِثْلُ بَعِيرِ السُّوءِ إذْ أَحَبَّا ;
وليس بذاك . والخير : المال ، كقوله : ) إِن تَرَكَ خَيْرًا ( ( البقرة : 180 ) وقوله : ) وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( ( العاديات : 8 ) والمال : الخيل التي شغلته . أو سمي الخيل خيراً كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 958 ) ( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة ) وقال في زيد الخيل حي وفد عليه وأسلم :

" صفحة رقم 94 "
( 959 ) ( ما وُصف لي رجل فرأيته إلا كان دون ما بلغني إلا زيد الخيل ) وسماه زيد الخير . وسأل رجل بلالاً رضي الله عنه عن قوم يستبقون : من السابق ؟ فقال : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . فقال له الرجل : أردت الخيل . فقال : وأنا أردت الخير . والتواري بالحجاب : مجاز في غروب الشمس عن تواري الملك . أو المخبأة بحجابهما . والذي دلّ على أن الضمير للشمس مرور ذكر العشي ، ولا بد للمضمر من جري ذكر أو دليل ذكر . وقيل : الضمير للصافنات ، أي : حتى توارت بحجاب الليل يعني الظلام . ومن بدع التفاسير : أن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه ) فَطَفِقَ مَسْحاً ( فجعل يمسح مسحاً ، أي : يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها ، يعني : يقطعها . يقال : مسح علاوته ، إذا ضرب عنقه ، ومسح المسفر الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه . وعن الحسن : كسف عراقيبها وضرب أعناقها ، أراد بالكسف : القطع ، ومنه : الكسف في ألقاب الزحاف في العروض . ومن قال بالشين المعجمة فمصحف . وقيل : مسحها بيده استحساناً لها وإعجاباً بها . فإن قلت : بم اتصل قوله : ) رُدُّوهَا عَلَىَّ ( ؟ قلت : بمحذوف ، تقديره : قال ردّوها عليّ ، فأضمر وأضمر ما هو جواب له ، كأن قائلاً قال : فماذا قال سليمان ؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاءً ظاهراً ، وهو اشتغال نبيّ من أنبياء الله بأمر الدنيا ، حتى تفوّته الصلاة عن وقتها . وقرىء : ( بالسؤوق ) بهمز الواو لضمتها ، كما في أدؤر . ونظيره : الغؤر ، في مصدر غارت الشمس . وأما من قرأ بالسؤق فقد جعل الضمة في السين كأنها في الواو للتلاصق ، كما قيل : مؤسى : ونظير ساق وسوق : أسد وأسد . وقرىء : ( بالساق ) اكتفاء بالواحد عن الجمع ، لأمن الإلباس .

" صفحة رقم 95 "
) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (
ص : ( 34 ) ولقد فتنا سليمان . . . . .
قيل : فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة . وملك بعد الفتنة عشرين سنة . وكان من فتنته : أنه ولد له ابن ، فقالت الشياطين : إن عاش لم ننفك من السخرة ، فسبيلنا أن نقتله أو نخبله ، فعلم ذلك ، فكان يغدوه في السحابة فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتاً ، فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه ، فاستغفر ربه وتاب إليه . وروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 960 ) قال سليمان : ( لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل : إن شاء الله ، فطاف عليهنّ فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، والذي نفسي بيده ، لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون ) ، فلذلك قوله تعالى : ) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ( . وهذا ونحوه مما لا بأس به . وأما ما يروى من حديث الخاتم والشياطين وعبادة الوثن في بيت سليمان ، فالله أعلم بصحته . حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر ، وأنّ ملكاً عظيم الشأن لا يقوى عليه لتحصنه بالبحر ، فخرج إليه تحمله الريح حتى أناخ بها بجنوده من الجن والإنس ، فقتل ملكها وأصاب بنتاً له اسمها جرادة من أحسن الناس وجهاً ، فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها ، وكانت لا يرقأ دمعها حزناً على أبيها ، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها ، فكستها مثل كسوته ، وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن له كعادتهن في ملكه ، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ، ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش له الرماد ، فجلس عليه تائباً إلى الله متضرّعاً ، وكانت له أمّ ولد يقال لها أمينة ، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها ، وكان ملكه في خاتمه ، فوضعه عندها يوماً وأتاها الشيطان صاحب البحر وهو الذي دلّ سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس واسمه صخر على صورة سليمان فقال : يا أمينة خاتمي ، فتختم به وجلس على كرسي سليمان ، وعكفت عليه الطير والجنّ والإنس ، وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته ، فعرف أنّ

" صفحة رقم 96 "
الخطيئة قد أدركته ، فكان يدور على البيوت يتكفف ، فإذا قال : أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ، ثم عمدوا إلى السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كلّ يوم سمكتين ، فمكث على ذلك أربعين صباحاً عدد ما عبد الوثن في بيته ، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان ، وسأل آصف نساء سليمان فقلنا : ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة . وقيل : بل نفذ حكمه في كل شيء إلاّ فيهنّ ، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر ، فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان ، فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم ، فتختم به ووقع ساجداً ، ورجع إليه ملكه ، وجاب صخرة لصخر فجعله فيها ، وسدّ عليه بأخرى ثم أوثقهما بالحديد والرصاص وقذفه في البحر . وقيل : لما افتنن كان يسقط الخاتم في يده لا يتماسك فيها ، فقال له آصف : إنك لمفتون بذنبك والخاتم لا يقرّ في يدك ، فتب إلى الله عز وجل . ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله وقالوا : هذا من أباطيل اليهود ، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل . وتسليط الله إياهم على عبادة حتى يقعوا في تغيير الأحكام ، وعلى نساء الأنبياء حتى يفجروا بهنّ : قبيح ، وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع . ألا ترى إلى قوله ) مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ( ( سبأ : 13 ) وأما السجود للصورة فلا يظن بنبيّ الله أن يأذن فيه ، وإذا كان بغير علمه فلا عليه . وقوله : ) وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً ( نابٍ عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبوّاً ظاهراً .
) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاًّحَدٍ مِّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (
ص : ( 35 ) قال رب اغفر . . . . .
قَدَّم الاستغفار على استيهاب الملك جرياً على عادة الأنبياء والصالحين في تقديمهم أمر دينهم على أمور دنياهم ) لاَّ يَنبَغِى ( لا يتسهل ولا يكون . ومعنى ) مِن بَعْدِى ( دوني . فإن قلت : أما يشبه الحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة أن يستعطي الله ما لا يعطيه غيره ؟ قلت : كان سليمان عليه السلام ناشئاً في بيت الملك والنبوّة ووارثاً لهما ، فأراد أن يطلب من ربه معجزة ، فطلب على حسب ألفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حدّ الإعجاز ، ليكون ذلك دليلاً على نبوّته قاهراً للمبعوث إليهم ، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات ، فذلك معنى قوله : ) لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى ( وقيل :

" صفحة رقم 97 "
كان ملكاً عظيماً ، فخاف أن يعطي مثله أحد فلا يحافظ على حدود الله فيه ، كما قالت الملائكة : ) أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ أَحْلَلْنَا لَكَ ( ( البقرة : 30 ) وقيل : ملكاً لا أسلبه ولا يقوم غيري فيه مقامي ، كما سلبته مرّة وأقيم مقامي غيري . ويجوز أن يقال : علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين ، وعلم أنه لا يضطلع بأعبائه غيره ، وأوجبت الحكمة استهابه ، فأمره أن يستوهبه إياه ، فاستوهبه بأمر من الله على الصفة أنه لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده . أو أراد أن يقول ملكاً عظيماً فقال : ) لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى ( ، ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته ، كما تقول : لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال ، وربما كان للناس أمثال ذلك ، ولكنك تريد تعظيم ما عنده . وعن الحجاج أنه قيل له : إنك حسود ، فقال : أحسد مني من قال : ) هَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى ( وهذا من جرأته على الله وشيطنته ، كما حكى عنه : طاعتنا أوجب من طاعة الله ، لأنه شرط من طاعته فقال : ) فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( ( التغابن : 16 ) وأطلق طاعتنا فقال : ) وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ ( ( النساء : 59 ) .
) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاٌّ صْفَادِ هَاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَأابٍ (
ص : ( 36 ) فسخرنا له الريح . . . . .
قرىء : ( الريح ) والرياح ) رُخَاء ( لينة طيبة لا تزعزع . وقيل : طيعة له لا تمتنع عليه ) حَيْثُ أَصَابَ ( حيث قصد وأراد . حكى الأصمعي عن العرب : أصاب الصواب فأخطأ الجواب . وعن رؤبة أنّ رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذة الكلمة ، فخرج إليهما فقال : أيم تصيبان ؟ فقالا : هذه طلبتنا ورجعاً ، ويقال : أصاب الله بك خيراً ) وَالشَّيَاطِينَ ( عطف على الريح ) كُلَّ بَنَّاء ( بدل من الشياطين ) وَءاخَرِينَ ( عطف على كل داخل في حكم البدل ، وهو بدل الكل من الكل : كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية ، ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ ، وهو أوّل من استخرج الدرّ من البحر ، وكان يقرّن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد . وعن السدي : كان يجمع أيديهم إلى أعناقهم مغللين في الجوامع . والصفد القيد ، وسمي به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ، ومنه قول عليّ رضي الله عنه : من برّك فقد أسرك ، ومن جفاك فقد أطلقك . ومنه قول القائل : غلّ يداً مطلقها ، وأرقّ رقبة معتقها . وقال حبيب :

" صفحة رقم 98 "
إنّ العطاء إسار ؛ وتبعه من قال : وَمَنْ وَجَدَ الإحْسَانَ قَيْداً تَقَيَّدَا ;
وفرقوا بين الفعلين فقالوا : صفده قيده ، وأصفده أعطاه ، كوعده وأوعده ، أي : ) هَاذَا ( الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة ) عَطَاؤُنَا ( بغير حساب ، يعني : جماً كثيراً لا يكاد يقدر على حسبه وحصره ) فَامْنُنْ ( من المنة وهي العطاء ، أي : فأعط منه ما شئت ) أَوْ أَمْسِكْ ( مفوّضاً إليك التصرف فيه . وفي قراءة ابن مسعود : هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب ، أو هذا التسخير عطاؤنا ، فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق ، وأمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب ، أي لا حساب عليك في ذلك .
) وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (
ص : ( 41 ) واذكر عبدنا أيوب . . . . .
) أَيُّوبَ ( عطف بيان . و ) إِذْ ( بدل اشتمال منه ) أَنّى مَسَّنِىَ ( بأني مسني : حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه ، ولو لم يحك لقال بأنه مسّه : لأنه غائب . وقرىء : ( بنصب ) بضم النون وفتحها مع سكون الصاد ، وبفتحهما ، وضمهما ، فالنصب والنصب : كالرشد الرشد ، والنصب : على أصل المصدر ، والنصب : تثقيل نصب ، والمعنى واحد ، وهو التعب والمشقة . والعذاب : الألم ، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب . وقيل : الضرّ في البدن ، والعذاب في ذهاب الأهل والمال . فإن قلت : لم نسبه إلى الشيطان ، ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ليقضي من أتعابهم وتعذيبهم وطره ، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحاً إلا وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرّر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب ؟ قلت : لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه الله به من النصب والعذاب ، نسبه إليه ، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو . وقيل : أراد ما كان يوسوس به

" صفحة رقم 99 "
إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل . وروى أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ، فارتد أحدهم ، فسأل عنه فقيل : ألقى إليه الشيطان : إن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين ، وذكر في سبب بلائه أنّ رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه . وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر ، فداهنه ولم يغزه . وقيل : أعجب بكثرة ماله ) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ( حكاية ما أجيب به أيوب ، أي : اضرب برجلك الأرض . وعن قتادة : هي أرض الجابية فضربها ، فنبعت عين فقيل : ) هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ( أي : هذا ماء تغتسل به وتشرب منه ، فيبرأ باطنك وظاهرك ، وتنقلب ما بك قلبة . وقيل : نبعت له عينان ، فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى ، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله ، وقيل : ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ، ثم باليسرى فنبعت باردة فشرب منها ) رَحْمَةً مّنَّا وَذِكْرَى ( مفعول لهما . والمعنى : أنّ الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولى الألباب ، لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه لصبره ، رغبهم في الصبر على البلاء وعاقبة الصابرين وما يفعل الله بهم ) وَخُذْ ( معطوف على اركض . والضغث : الحزمة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك . وعن ابن عباس : قبضة من الشجر ، كان حلف في مرضه ليضربنّ امرأته مائة إذا برأ ، فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها ، وهذه الرخصة باقية . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 960 ) أنه أتى بمخدج ، وقد خبث بأمة ، فقال : ( خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة ) ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة ، إمّا أطرافها

" صفحة رقم 100 "
قائمة ، وإما أعراضها مبسوطة مع وجود صورة الضرب ، وكان السبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة فحرج صدره ، وقيل : باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب إذا قام . وقيل : قال لها الشيطان : اسجدي لي سجدة فأردّ عليكم مالكم وأولادكم ، فهمت بذلك فأدركتها العصمة ، فذكرت ذلك له ، فحلف . وقيل : أوهمها الشيطان أن أيوب إذا شرب الخمر برأ ، فعرضت له بذلك . وقيل : سألته أن يقرب للشيطان بعناق ) وَجَدْنَاهُ صَابِراً ( علمناه صابراً . فإن قلت : كيف وجده صابراً وقد شكا إليه ما به واسترحمه ؟ قلت : الشكوى إلى الله عزّ وعلا لا تسمى جزعاً ، ولقد قال يعقوب عليه السلام : ) إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ ( ( يوسف : 86 ) وكذلك شكوى العليل إلى الطبيب ، وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية وطلبها ، فإذا صحّ أن يسمى صابراً مع تمني العافية وطلب الشفاء ، فليسم صابراً مع اللجإ إلى الله تعالى ، والدعاء بكشف ما به ومع التعالج ومشاورة الأطباء ، على أن أيوب عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة ، حيث كان الشيطان يوسوس إليهم كما كان يوسوس إليه أنه لو كان نبياً لما ابتلي بمثل ما ابتلي به ، وإرادة القوة على الطاعة ، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلاّ القلب واللسان . ويروي : أنه قال في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي بصري ، ولم يهبني ما ملكت يميني ، ولم آكل إلاّ ومعي يتيم ، ولم أبت شبعان ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان ؛ فكشف الله عنه .
) وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الاٌّ يْدِى وَالاٌّ بْصَارِ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاٌّ خْيَارِ (
ص : ( 45 - 47 ) واذكر عبادنا إبراهيم . . . . .
) إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ( عطف بيان لعبادنا . ومن قرأ : ( عبدنا ) جعل إبراهيم وحده عطف بيان له ، ثم عطف ذريته على عبدنا ، وهي إسحاق ويعقوب ، كقراءة ابن عباس : وإله أبيك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق . ولما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت ، فقيل : في كل عمل هذا مما عملت أيديهم ، وإن كان عملاً لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدي ، أو كان العمال جذماً لا أيدي لهم ، وعلى ذلك ورد قوله عزّ وعلا : ) أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ ( يريد : أولي الأعمال والفكر ، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ،

" صفحة رقم 101 "
ولا يجاهدون في الله ، ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات ولا يستبصرون في حكم الزمني الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم . وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله ، ولا من المستبصرين في دين الله ، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما . وقرىء : ( أولى الأيادي ) على جمع الجمع . وفي قراءة ابن مسعود : ( أولي الأيد ) على طرح الياء والاكتفاء بالكسرة . وتفسيره بالأيد من التأييد فلق غير متمكن ( أخلصناهم ) جعلناهم خالصين ) بِخَالِصَةٍ ( بخصلة خالصة لا شوب فيها ، ثم فسرها بذكرى الدار بالخلوص والصفاء وانتفاء الكدورة عنها . وقرىء : على الإضافة . والمعنى : بما خلص من ذكرى الدار ، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهمّ آخر ، إنما همهم ذكرى الدار لا غير . ومعنى ) ذِكْرَى الدَّارِ ( : ذكراهم الآخرة دائباً ، ونسيانهم إليها ذكر الدنيا . أو تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها ، وتزهيدهم في الدنيا ؛ كما هو شأن الأنبياء وديدنهم . وقيل : ذكرى الدار . الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم . فإن قلت : ما معنى ) أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَةٍ ( ؟ قلت : معناه : أخلصناهم بسبب هذه الخصلة ، وبأنهم من أهلها . أو أخلصناهم بتوفيقهم لها ، واللطف بهم في اختيارها . وتعضد الأوّا قراءة من قرأ : ( بخالصتهم ) ) الْمُصْطَفَيْنَ ( المختارين من أبناء جنسهم . و ) الاْخْيَارِ ( جمع خير ، أو خير على التخفيف ؛ كالأموات في جمع ميت أو ميت .
) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الاٌّ خْيَارِ (
ص : ( 48 ) واذكر إسماعيل واليسع . . . . .
) وَالْيَسَعَ ( كأن حرف التعريف دخل على يسع . وقرىء : ( ولليسع ) ، كأن حرف التعريف دخل على ليسع ، فيعل من اللسع . والتنوين في ) وَكُلٌّ ( عوض من المضاف إليه ، ومعناه : وكلهم من الأخيار .
) هَاذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَأابٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الاٌّ بْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (
ص : ( 49 - 52 ) هذا ذكر وإن . . . . .
) هَاذَا ذِكْرُ ( أي : هذا نوع من الذكر وهو القرآن . لما أجري ذكر الأنبياء وأتمه ، وهو باب من أبو اب التنزيل ؛ ونوع من أنواعه ، وأراد أن يذكر على عقبه باباً آخر ، وهو ذكر الجنة وأهلها . قال : هذا ذكر ، ثم قال : ) وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ ( كما يقول الجاحظ

" صفحة رقم 102 "
في كتبه : فهذا باب ، ثم يشرع في باب آخر ، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر : هذا وقد كان كيت وكيت ؛ والدليل عليه : أنه لما أتمّ ذكر أهل الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار . قال : هذا وإن للطاغين . وقيل : معناه هذا شرف وذكر جميل ويذكرون به أبداً . وعن ابن عباس رضي الله عنه : هذا ذكر من مضي من الأنبياء ) جَنَّاتِ عَدْنٍ ( معرفة لقوله : ) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَانُ ( ( مريم : 61 ) وانتصابها على أنها عطف بيان لحسن مآب . و ) مُّفَتَّحَةً ( حال ، والعامل فيها ما في ( للمتقين ) من معنى الفعل . وفي ) مُّفَتَّحَةً ( ضمير الجنات ، والأبواب بدل من الضمير ، تقديره : مفتحة هي الأبواب ، كقولهم : ضرب زيد اليد والرجل ، وهو من بدل الاشتمال . وقرىء : ( جنات عدن مفتحة ) بالرفع ، على أن جنات عدن مبتدأ ، ومفتحة خبره . أو كلاهما خبر مبتدأ محذوف ، أي هو جنات عدن هي مفتحة لهم ؛ كأن اللدات سمين أتراباً ، لأن التراب مسهن في وقت واحد ، وإنما جعلن على سنّ واحدة ، لأنّ التحاب بين الأقران أثبت . وقيل : هنّ أتراب لأزواجهنّ ، أسنانهنّ كأسنانهم :
) هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ (
ص : ( 53 ) هذا ما توعدون . . . . .
قرىء : ( يوعدون ) بالتاء والياء ) لِيَوْمِ الْحِسَابِ ( لأجل يوم الحساب ، كما تقول : هذا ما تدخرونه ليوم الحساب ، أي : ليوم تجزى كل نفس ما عملت .
) هَاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَأابٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ (
ص : ( 55 - 61 ) هذا وإن للطاغين . . . . .
) هَاذَا ( أي الأمر هذا : أو هذا كما ذكر ) فَبِئْسَ الْمِهَادُ ( ، كقوله : ) لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( ( الأعراف : 41 ) شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم ، أي : هذا حميم فليذوقوه . أو العذاب هذا فليذوقوه ، ثم ابتدأ فقال : هو ) حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ( أو : هذا فليذوقوه بمنزلة ) وَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ ( ( البقرة : 40 ) أي ليذوقوا هذا فليذوقوه ، والغساق بالتخفيف والتشديد : ما يغسق من صديد أهل النار ، يقال : غسقت العين ، إذا سال دمعها . وقيل : الحميم يحرق بحرّه ، والغساق يحرق ببرده .

" صفحة رقم 103 "
وقيل : لو قطرت منه قطره في المشرق لنتنت أهل المغرب ، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق . وعن الحسن رضي الله عنه . الغساق : عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى إن الناس أخفقوا لله طاعة فأخفى لهم ثواباً في قوله : ) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ( ( السجدة : 17 ) وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة ) وَءَاخَرُ ( ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة ) أَزْواجٌ ( أجناس . وقرىء : ( وآخر ) أي : وعذاب آخر . أو مذوق آخر . وأزواج : صفة لآخر ، لأنه يجوز أن يكون ضروباً ، أو صفة للثلاثة وهي حميم وغساق وآخر من شكله . وقرىء : ( من شكله ) بالكسر وهي لغة . وأما الغنج فالبكسر لا غير ) هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ ( هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار ، أي : دخل النار في صحبتكم وقرانكم ، والاقتحام : ركوب الشدة والدخول فيها . والقحمة : الشدة . وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض ، أي : يقولون هذا . والمراد بالفوج : أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة ، فيقتحمون معهم العذاب ) لاَ مَرْحَباً بِهِمْ ( دعاء منهم على أتباعهم . تقول لم تدعو له : مرحباً ، أي : أتيت رحباً من البلاد لا ضيقاً : أو رحبت بلادك رحباً ، ثم تدخل عليه ( لا ) في دعاء السوء . و ) بِهِمْ ( بيان للمدعو عليهم ) إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ( تعليل لاستيجابهم للدعاء عليهم . ونحوه قوله تعالى : ) كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ( ( الأعراف : 38 ) وقيل : هذا فوج مقتحم معكم : كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم . و ) لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ( كلام الرؤوساء . وقيل : هذا كله كلام الخزنة ) قَالُواْ ( أي الأتباع ) بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ ( يريدون الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحقّ به ، وعللوا ذلك بقولهم : ) أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ( والضمير للعذاب أو لصلبهم . فإن قلت : ما معنى تقديمهم العذاب لهم ؟ قلت : المقدم هو عمل السوء . قال الله تعالى : ) ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ( ( الأنفال : 51 ) ولكن الرؤوساء لما كانوا السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه ، قيل : أنتم قدمتموه لنا ، فجعل الرؤوساء هم المقدمين وجعل الجزاء هو المقدّم ، فجمع بين مجازين ؛ لأن العاملين هم المقدمون في الحقيقة لا رؤوساؤهم ، والعمل هو المقدم لا جزاؤه . فإن قلت : فالذي جعل قوله : ) لاَ مَرْحَباً بِهِمْ ( من كلام الخزنة ما يصنع بقوله :

" صفحة رقم 104 "
) بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ ( والمخاطبون أعني رؤوسائهم لم يتكلموا بما يكون هذا جواباً لهم ؟ قلت : كأنه قيل : هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤوساء أحقّ به منا لإغوائكم أيانا وتسببكم فيما نحن فيه من العذاب ، وهذا صحيح كما لو زين قوم لقوم بعض المساوي فارتكبوه فقيل للمزينين : أخزى الله هؤلاء ما أسوأ فعلهم ؟ فقال المزين لهم للمزينين : بل أنتم أولى بالخزي منا ، فلولا أنتم لم نرتكب ذلك ) قَالُواْ ( هم الأتباع أيضاً ) فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً ( أي : مضاعفاً ، ومعناه : ذا ضعف : ونحوه قوله تعالى : ) رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا ( ( الأعراف : 38 ) وهو أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين ، كقوله عزّ وجلّ ) رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ( ( الأحزاب : 68 ) وجاء في التفسير ) عَذَاباً ضِعْفاً ( ( ص : 61 ) : حيات وأفاعي .
) وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الاٌّ شْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ (
ص : ( 62 ) وقالوا ما لنا . . . . .
) وَقَالُواْ ( الضمير للطاغين ) رِجَالاً ( يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه لهم ) مّنَ الاْشْرَارِ ( من الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى ، ولأنهم كانوا على خلاف دينهم ، فكانوا عندهم أشراراً ) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً ( قرىء : بلفظ الإخبار على أنه صفة لرجالاً ، مثل قوله : ) كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاْشْرَارِ ( وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستخسار منهم . وقوله : ) أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابْصَارُ ( له وجهان من الاتصال ، أحدهما : أن يتصل بقوله : ) مالنا ( أي : مالنا لا نراهم في النار ؟ كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت أبصارنا فلا نراهم وهم فيها : قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة ، وبين أن يكونوا من أهل النار . إلاّ أنه خفي عليهم مكانهم . والوجه الثاني : أن يتصل باتخذناهم سخرياً ، إما أن تكون أم متصلة على معنى : أي الفعلين فعلنا بهم الاستسخار منهم ، أم الازدراء بهم والتحقير ، وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم ، على معنى إنكار الأمرين جميعاً على أنفسهم ، وعن الحسن : كل ذلك قد فعلوا ، اتخذوهم سخرياً وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم . وإما أن تكون منقطعة بعد مضي

" صفحة رقم 105 "
اتخذناهم سخرياً على الخبر أو الاستفهام ، كقولك : إنها إبل أم شاء ، وأزيد عندك أم عندك عمرو : ولك أن تقدّر همزة الاستفهام محذوفة فيمن قرأ بغير همزته ، لأنّ ( أم ) تدلّ عليها ، فلا تفترق القراءتان : إثبات همزة الاستفهام وحذفها . وقيل : الضمير في ) يَصِدُّونَ وَقَالُواْ ( لصناديد قريش كأبي جهل والوليد وأضرابهما ، والرجال : عمار وصهيب وبلال وأشباههم . وقرىء : ( سخرياً ) بالضم والكسر .
) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (
ص : ( 64 ) إن ذلك لحق . . . . .
) إِنَّ ذالِكَ ( أي الذي حكينا عنهم ) لَحَقٌّ ( لا بد أن يتكلموا به ، ثم بين ما هو فقال هو ( تخاصم أهل النار ) . وقرىء : بالنصب على أنه صفة لذلك ، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس . فإن قلت : لم سمي ذلك تخاصماً ؟ قلت ؛ شبه تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك ولأنّ قول الرؤوساء : لا مرحباً بهم ، وقول أتباعهم : بل أنتم لا مرحباً بكم ، من باب الخصومة ، فسمي التقاول كله تخاصماً لأجل اشتماله على ذلك .
) قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (
ص : ( 65 ) قل إنما أنا . . . . .
) قُلْ ( يا محمد لمشركي مكة : ما أنا إلا رسول ) مُنذِرُ ( أنذركم عذاب الله للمشركين ، وأقول لكم : إنّ دين الحق ، وأن يعتقد أن لا إلاه إلا الله ) الْوَاحِدُ ( بلا ندّ ولا شريك ) الْقَهَّارُ ( لكل شيء ، وأنّ الملك والربوبية له في العالم كله وهو ) الْعَزِيزُ ( الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة ، وهو مع ذلك ) الْغَفَّارُ ( لذنوب من التجأ إليه . أو قل لهم ما أنا إلا منذر لكم ما أعلم ، وأنا أنذركم عقوبة من هذه صفته ، فإن مثله حقيق بأن يخاف عقابه كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه .

" صفحة رقم 106 "
) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الاٌّ عْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (
ص : ( 67 ) قل هو نبأ . . . . .
) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ( أي : هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولاً منذراً وأن الله واحد لا شريك له : نبأ عظيم لا يعرض عن مثله إلاّ غافل شديد الغفلة . ثم احتج لصحة نبوّته بأنّ ما ينبىء به على الملأ الأعلى واختصامهم أمر ما كان له به من علم قط ، ثم علمه ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا ، وهو الأخذ من أهل العلم وقراءة الكتب ، فعلم أنّ ذلك لم يحصل إلا بالوحي من الله ) إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ ( أي : لأنما أنا نذير . ومعناه : ما يوحى إليّ إلا للإنذار ، فحذف اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه . ويجوز أن يرتفع على معنى : ما يوحى إليّ إلاّ هذا ، وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك ، أي ما أومر إلاّ بهذا الأمر وحده ، وليس إليّ غير ذلك . وقرىء : ( إنما ) بالكسر على الحكاية ، أي : إلاّ هذا القول ، وهو أن أقول لكم : إنما أنا نذير مبين ولا أدعى شيئاً آخر . وقيل : النبأ العظيم : قصص آدم عليه السلام والإنباء به من غير سماع من أحد ، وعن ابن عباس : القرآن . وعن الحسن : يوم القيامة . فإن قلت : بم يتعلق ) إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( ؟ قلت : بمحذوف ؛ لأن المعنى : ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم ، و ) إِذْ قَالَ ( بدل من ) إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( . فإن قلت : ما المراد بالملأ الأعلى ؟ قلت : أصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس ، لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم : فإن قلت : ما كان التقاول بينهم إنما كان بين الله تعالى وبينهم ؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي قال لهم وقالوا له ، فأنت بين أمرين : إما أن تقول الملأ الأعلى هؤلاء ، وكان التقاول بينهم ولم يكن التفاؤل بينهم وإما أن تقول : التقاول كان بين الله وبينهم ، فقد جعلته من الملأ الأعلى . قلت : كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك ، فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط ، فصحّ أن التقاول كان بين الملائكة وآدم وإبليس ، وهم الملأ الأعلى . والمراد بالاختصام : التقاول على ما سبق .
) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (
ص : ( 71 ) إذ قال ربك . . . . .
فإن قلت : كيف صحّ أن يقول لهم ) إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا ( وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل ؟ قلت : وجهه أن يكون قد قال لهم : إني خالق خلقاً من صفته كيت وكيت ، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ( فإذا أتممت خلقه وعدلته ) وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( وأحييته وجعلته حساساً متنفساً ) فَقَعُواْ ( فخروا ، كل : للإحاطة .

" صفحة رقم 107 "
وأجمعون : للاجتماع ، فأفادا معاً أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجدوا أنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرّقين في أوقات . فإن قلت : كيف ساغ السجود لغير الله ؟ قلت : الذي لا يسوغ هو السجود لغير الله على وجه العبادة ، فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل ، إلاّ أن يعلم الله فيه مفسدة فينهى عنه ، فإن قلت : كيف استثنى إبليس من الملائكة وهو من الجنّ ؟ قلت : قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله : ) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ ( ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلاً ) وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( أريد : وجود كفره ذلك الوقت وإن لم يكن قبله كافراً ؛ لأن ( كان ) مطلق في جنس الأوقات الماضية ، فهو صالح لأيها شئت . ويجوز أن يراد : وكان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله .
) قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (
ص : ( 75 ) قال يا إبليس . . . . .
فإن قلت : ما وجه قوله : ) خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ( : قلت : قد سبق لنا أنّ ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه ، فغلبت العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما ، حتى قيل في عمر القلب : هو مما عملت يداك ، وحتى قيل لمن لا يدي له : يداك أوكتا وفوك نفخ ، وحتى لم يبق فرق بين قولك : هذا مما عملته ، وهذا مما عملته يداك . ومنه قوله

" صفحة رقم 108 "
تعالى : ) مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ( ( يس : 71 ) و ) لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ( . فإن قلت : فما معنى قوله : ) مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ( ( ص : 75 ) ؟ قلت : الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم ، واستنكف منه أنه سجود لمخلوق ، فذهب بنفسه ، وتكبر أن يكون سجوده لغير الخالق ، وانضم إلى ذلك أنّ آدم مخلوق من طين وهو مخلوق من نار . ورأى للنار فضلاً على الطين فاستعظم أن يسجد لمخلوق مع فضله عليه في المنصب ، وزلّ عنه أنّ الله سبحانه حين أمر به أعزَّ عباده عليه وأقربهم منه زلفى وهم الملائكة ، وهم أحقّ بأن يذهبوا بأنفسهم عن التواضع للبشر الضئيل ، ويستنكفوا من السجود له من غيرهم ، ثم لم يفعلوا وتبعوا أمر الله وجعلوه قدّام أعينهم ، ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له ، تعظيماً لأمر ربهم وإجلالاً لخطابه : كان هو مع انحطاطه عن مراتبهم حرى بأن يقتدي بهم ويقتفي أثرهم ، ويعلم أنهم في السجود لمن هو دونهم بأمر الله ، أوغل في عبادته منهم في السجود له ، لما فيه من طرح الكبرياء وخفض الجناح ، فقيل له : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ ، أي : ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي لا شكّ في كونه مخلوقاً امتثالاً لأمري وإعظاماً لخطابي كما فعلت الملائكة ، فذكر له ما تركه من السجود مع ذكر العلة التي تشبث بها في تركه ، وقيل له : لما تركته مع وجود هذه العلة ، وقد أمرك الله به ، يعني : كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة ، ومثاله : أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم

" صفحة رقم 109 "
فيمتنع اعتباراً لسقوطه ، فيقول له : ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى عليّ سقوطه ، يريد : هلا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت اعتبار سقوطه ، وفيه : أني خلقته بيدي ، فأنا أعلم بحاله ، ومع ذلك أمرت الملائكة بأن يسجدوا له لداعي حكمة دعاني إليه : من إنعام عليه بالتكرمة السنية وابتلاء للملائكة ، فمن أنت حتى يصرفك عن السجود له ، ما لم يصرفني عن الأمر بالسجود له . وقيل : معنى ) لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ( لما خلقت بغير واسطة . وقرىء : ( بيدي ) كما قرىء : ( بمصرخي ) . وقرىء : بيدي ) على التوحيد ) مِنَ الْعَالِينَ ( ممن علوت وفقت ، فأجاب بأنه من العالين حيث ) قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ ( وقيل : استكبرت الآن ، أم لم تزل مند كنت من المستكبرين . ومعنى الهمزة : التقرير . وقرىء : ( استكبرت ) بحذف حرف الاستفهام ؛ لأنّ أم تدلّ عليه . أو بمعنى الإخبار . هذا على سبيل الأولى ، أي : لو كان مخلوقاً من نار لما سجدت له ، لأنه مخلوق مثلي ، فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين والنار تغلب الطين وتأكله ، وقد جرت الجملة الثانية من الأولى وهي ) خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ ( مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والإيضاح .
) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (
ص : ( 77 ) قال فاخرج منها . . . . .
) مِنْهَا ( من الجنة . وقيل : من السماوات . وقيل : من الخلقة التي أنت فيها ؛ لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته فاسودّ بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسناً ، وأظلم بعد ما كان نورانياً . والرجيم : المرجوم . ومعناه : المطرود ، كما قيل له : المدحور والملعون ؛ لأنّ من طرد رمي بالحجارة على أثره . والرجم : الرمي بالحجارة . أو لأنّ الشياطين يرجمون بالشهب . فإن قلت : قوله : ) لَعْنَتِى يَوْمِ الدّينِ ( كأن لعنة إبليس غايتها يوم الدين ثم تنقطع ؟ قلت : كيف تنقطع وقد قال الله تعالى : ) فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( ( الأعراف : 44 ) ولكن المعنى : أن عليه اللعنة في الدنيا ، فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة ، فكأنها انقطعت .
) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (
ص : ( 79 ) قال رب فأنظرني . . . . .
فإن قلت : ما الوقت المعلوم الذي أضيف إليه اليوم ؟ قلت : الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى . ويومه : اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه . ومعنى المعلوم : أنه معلوم عند الله معين ، لا يستقدم ولا يستأخر .

" صفحة رقم 110 "
) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (
ص : ( 82 ) قال فبعزتك لأغوينهم . . . . .
) فَبِعِزَّتِكَ ( إقسام بعزّة الله تعالى وهي سلطانه وقهره .
) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (
ص : ( 84 ) قال فالحق والحق . . . . .
قرىء : ( فالحق والحق ) منصوبين على أن الأول مقسم به كان ( صلى الله عليه وسلم ) في :
إن عليك الله أن تبايعا
وجوابه ) لاَمْلاَنَّ ( والحق أقول : اعتراض بين المقسم به والمقسم عليه ، ومعناه : ولا أقول إلاّ الحق . والمراد بالحق : إمّا اسمه عزّ وعلا الذي في قوله : ) أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( ( النور : 25 ) أو الحق الذي هو نقيض الباطل : عظمه الله بإقسامه به . ومرفوعين على أنّ الأوّل مبتدأ محذوف الخبر ، كقوله : ( لعمرك ) أي : فالحق قسمي لأملأنّ . والحق أقول ، أي : أقوله كقوله كله لم أصنع ، ومجرورين : على أنّ الأوّل مقسم به قد أضمر حرق قسمه ، كقولك : الله لأفعلنّ . والحق أقول ، أي : ولا أقول إلاّ الحق على حكاية لفظ المقسم به . ومعناه : التوكيد والتشديد . وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع أيضاً . وهو وجه دقيق حسن . وقرىء : يرفع الأوّل وجرّه مع نصب الثاني ، وتخريجه على ما ذكرنا ) مِنكَ ( من جنسك وهم الشياطين ) وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ ( من ذرية آدم ، فإن قلت : ) أَجْمَعِينَ ( تأكيد لماذا ؟ قلت : لا يخلو أن يؤكد به الضمير في منهم ، أو الكاف في منك مع من تبعك . ومعناه : لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين ، لا أترك منهم أحداً . أو لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس ، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم .
) قُلْ مَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ (
ص : ( 86 ) قل ما أسألكم . . . . .
) عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( الضمير للقرآن أو للوحي ) وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ ( من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله ، وما عرفتموني قط متصنعاً ولا مدّعياً ما ليس عندي ، حتى أنتحل النبوّة وأتقوّل القرآن ) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ ( من الله ) لّلْعَالَمِينَ ( للثقلين . أوحى إليّ فأنا أبلغه . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 961 ) ( للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما

" صفحة رقم 111 "
لا يعلم ) ) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ ( أي : ما يأتيكم عند الموت ، أو يوم القيامة ، أو عند ظهور الإسلام وفشوه ، من صحة خبره ، وأنه الحق والصدق . وفيه تهديد .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 962 ) ( من قرأ سورة ص كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات وعصمه أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير ) .

" صفحة رقم 112 "
( سورة الزمر )
مكية ، إلاّ قوله : ) قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ ( . . . الآية وتسمى سور الغرف
وهي خمس وسبعون آية . وقيل : ثنتان وسبعون آية
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (
الزمر : ( 1 - 4 ) تنزيل الكتاب من . . . . .
) تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( قرىء : بالرفع على أنه مبتدأ أخبر عنه بالظرف . أو خبر مبتدأ محذوف والجار صلة التنزيل ، كما تقول : نزل من عند الله . أو غير صلة ، كقولك : هذا الكتاب من فلان إلى فلان ، فهو على هذا خبر بعد خبر . أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذا تنزيل الكتاب ، هذا من الله ، أو حال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة ، وبالنصب على إضمار فعل ، نحو : اقرأ ، والزم . فإن قلت : ما المراد بالكتاب ؟ قلت : الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن ، وعلى الثاني : أنه السورة ) مُخْلِصاً لَّهُ الدّينِ ( ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر . وقرىء : ( الدين ) بالرفع . وحق من رفعه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام كقوله تعالى : ) وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ (

" صفحة رقم 113 "
( النساء : 146 ) حتى يطابق قوله : ) أَلاَ لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ ( ( الزمر : 3 ) والخالص والمخلص : واحد ، إلاّ أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي . كقولهم : شعر شاعر ، وأما من جعل ) مُخْلِصاً ( حالاً من العابد ، و ) لَّهُ الدّينِ ( مبتدأ وخبراً ، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك : لله الدين ) أَلاَ لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ ( ( الزمر : 3 ) ، ( الشورى : 6 ) أي : هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة من كل شائبة كدر ، لاطلاعه على الغيوب والأسرار ، ولأنه الحقيق بذلك ، لخلوص نعمته عن استجرار المنفعة بها . وعن قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إلاه إلا الله . وعن الحسن : الإسلام ) وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ ( يحتمل المتخذين وهم الكفرة ، والمتخذين ، وهم الملائكة وعيسى واللات والعزّى : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فالضمير في ) اتَّخَذُواْ ( على الأوّل راجع إلى الذين ، وعلى الثاني إلى المشركين ، ولم يجر ذكرهم لكونه مفهوماً ، والراجع إلى الذين محذوف والمعنى : والذين اتخذهم المشركون أولياء ، ) وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ ( في موضع الرفع على الابتداء . فإن قلت : فالخبر ما هو ؟ قلت : هو على الأوّل إما ) إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ( أو ما أضمر من القول قبل قوله : ) مَا نَعْبُدُهُمْ ( . وعلى الثاني : أن الله يحكم بينهم . فإن قلت : فإذا كان ) إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ( الخبر ، فما موضع القول المضمر ؟ قلت : يجوز أن يكون في موضع الحال ، أي : قائلين ذلك . ويجوز أن يكون بدلاً من الصلة فلا يكون له محلّ ، كما أنّ المبدل منه كذلك . وقرأ ابن مسعود بإظهار القول : ( قالوا ما نعبدهم ) وفي قراءة أبيّ : ما نعبدكم إلا لتقربونا على الخطاب ، حكاية لما خاطبوا به آلهتهم . وقرىء : ( نعبدهم ) بضم النون اتباعاً للعين كما تتبعها الهمزة في الأمر ، والتنوين في ) عَذَابِ ارْكُضْ ( والضمير في ) بَيْنَهُمْ ( لهم ولأوليائهم . والمعنى : أن الله يحكم بينهم بأنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة ، ويدخلهم النار مع الحجارة التي نحتوها وعبدوها من دون الله يعذبهم بها حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم . واختلافهم : أن الذين يعبدون موحدون وهم مشركون ، وأولئك يعادونهم ويلعنونهم ، وهم يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله زلفى . وقيل : كان المسلمون إذا قالوا لهم : من خلق السماوات والأرض ، أقرّوا وقالوا : الله ، فإذا قالوا لهم : فما لكم تعبدون الأصنام ؟ قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ؛ فالضمير في ) بَيْنَهُمْ ( عائد إليهم وإلى المسلمين . والمعنى : أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين ، والمراد بمنع الهداية : منع

" صفحة رقم 114 "
اللطف تسجيلاً عليهم بأن لا لطف لهم ، وأنهم في علم الله من الهالكين . وقرىء : ( كذاب وكذوب ) وكذبهم : قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء : بنات الله ، ولذلك عقبه محتجاً عليهم بقوله : ) لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء ( يعني : لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصحّ ، لكونه محالاً ؛ ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصمهم ويقربهم ، كما يختص الرجل ولده ويقربه . وقد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم ، فزعمتم أنهم أولاده ، جهلاً منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض ، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه وهم الملائكة ، إلا أنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولاداً ، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعتلموهم بنات ، فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء على الله وملائكته ، غالبين في الكفر ، ثم قال : ) سُبْحَانَهُ ( فنزه ذاته عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء . ودلَّ على ذلك بما ينافيه ، وهو أنه واحد ، فلا يجوز أن يكون له صاحبة ؛ لأنه لو كانت له صاحبة لكانت من جنسه ولا جنس له ؛ وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة لم يتأت أن يكون له ولد ، وهو معنى قوله : ) أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ ( ( الأنعام : 101 ) . وقهار غلاب لكل شيء ، ومن الأشياء آلهتهم ، فهو يغلبهم ، فكيف يكونون له أولياء وشركاء ؟ .
) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاًّجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (
الزمر : ( 5 ) خلق السماوات والأرض . . . . .
ثم دلَّ بخلق السماوات والأرض ، وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر ، وتسخير النيرين ، وجريهما لأجل مسمى ، وبثّ الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة ، وخلق الأنعام على أنه واحد لا يشارك ، قهار لا يغالب . والتكوير : اللف والليّ ، يقال : كار العمامة على رأسه ، وكوّرها . وفيه أوجه منها : أن الليل والنهار خلفه يذهب هذا ويغشى مكانه هذا ، وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف اللباس على

" صفحة رقم 115 "
اللابس . ومنه قول ذي الرمة في وصف السراب : تَلْوِي الثَّنَايَا بِأَحْقَيْهَا حَوَاشِيَه
لَيَّ الْمَلاَءِ بِأَبْوَابِ التَّفَارِيجِ
ومنها أنّ كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار . ومنها : أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً . فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض ) إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ ( الغالب القادر على عقاب المصرين ) الْغَفَّارُ ( لذنوب التائبين أو الغالب الذي يقدر على أن يعالجهم بالعقوبة وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى ، فسمى الحلم عنهم : مغفرة .
) خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الاٌّ نْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (
الزمر : ( 6 ) خلقكم من نفس . . . . .
فإن قلت : ما وجه قوله : ) ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( وما يعطيه من معنى التراخي ؟ قلت : هما آيتان من جملة الآيات التي عدّدها دالاً على وحدانيته وقدرته : تشعيب هذا الخلق الفائت للحصر من نفس آدم ، وخلق حواء من قصيراه ؛ إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرّة ، والأخرى لم تجريها العادة ، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل ، فكانت أدخل في كونها آية ، وأجلب لعجب السامع ، فعطفها بثم على الآية الأولى ، للدلالة على مباينتها لها فضلاً ومزية ، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية ، فهو من التراخي في الحال والمنزلة ، لا من التراخي في الوجود . وقيل : ثم متعلق بمعنى واحدة ، كأنه قيل : خلقكم من نفس واحدة ، ثم شفعها الله بزوج . وقيل : أخرج ذرية

" صفحة رقم 116 "
آدم من ظهره كالذر ، ثم خلق بعد ذلك حواء ) وَأَنزَلَ لَكُمْ ( وقضى لكم وقسم ؛ لأنّ قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء ، حيث كتب في اللوح : كل كائن يكون . وقيل : لا تعيش الأنعام إلاّ بالنبات . والنبات لا يقوم إلاّ بالماء . وقد أنزل الماء ، فكأنه أنزلها . وقيل : خلقها في الجنة ، ثم أنزلها . ) ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ ( ذكراً وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز . والزوج : اسم لواحد معه آخر ، فإذا انفرد فهو فرد ووتر . قال الله تعالى : ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( ( القيامة : 39 ) . ) خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ ( حيواناً سوياً ، من بعد عظام مكسوة لحماً ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغ ، من بعد علق ، من بعد نطف . والظلمات الثلاث : البطن والرحم والمشيمة . وقيل : الصلب والرحم والبطن ) ذَلِكُمُ ( الذي هذه أفعاله هو ) اللَّهُ رَبُّكُمُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره ؟ .
) إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (
الزمر : ( 7 ) إن تكفروا فإن . . . . .
) فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ ( عن إيمانكم وإنكم المحتاجون إليه ، لاستئضراركم بالكفر واستنفاعكم بالإيمان ) وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ( رحمة لهم ؛ لأنه يوقعهم في الهلكة ) وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ ( أي يرض الشكر لكم ، لأنه سبب فوزكم وفلاحكم ؛ فإذاً ما كره كفركم ولا رضي شكركم إلاّ لكم ولصلاحكم ، لا لأنّ منفعة ترجع إليه ؛ لأنه الغني

" صفحة رقم 117 "
الذي لا يجوز عليه الحاجة . ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله تعالى ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر فقال : هذا من العام الذي أريد به الخاص ، وما أراد إلاّ عبادة الذين عناهم في قوله : ) إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( ( الإسراء : 65 ) يريد : المعصومين ، كقوله تعالى : ) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( ( الإنسان : 6 ) ، تعالى الله عما يقول الظالمون وقرىء : ( يرضهُ ) بضم الهاء بوصل وبغير وصل ، وبسكونها .
) وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( .
الزمر : ( 8 ) وإذا مس الإنسان . . . . .
) خَوَّلَهُ ( أعطاه . قال أبو النجم : أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّل
كُومَ الذَّرَى مِنْ خِوَلِ الْمُخَوِّلِ
وفي حقيقته وجهان ، أحدهما : جعله خائل مال ، من قولهم : هو خائل مال ، وخال مال : إذا كان متعهداً له حسن القيام به ، ومنه ما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 963 ) أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة ، والثاني : جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر ، وفي معناه قول العرب : إنَّ الْغَنِيَّ طَوِيلُ الذَّيْلِ مَيَّاسُ ;
) مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ ( أي نسي الضرّ الذي كان يدعو الله إلى كشفه . وقيل : نسي

" صفحة رقم 118 "
ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه ، وما بمعنى من ، كقوله تعالى : ) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( ( الليل : 3 ) وقرىء : ( ليضل ) بفتح الباء وضمها ، بمعنى أنّ نتيجة جعله لله أنداداً ضلالة عن سبيل الله أو إضلاله والنتيجة : قد تكون غرضاً في الفعل ، وقد تكون غير غرض . وقوله : ) تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ ( من باب الخذلان والتخلية ، كأنه قيل له : إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك ألا تؤمر به بعد ذلك ، وتؤمر بتركه : مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه . لأنه لا مبالغة في الخذلان ؛ لأنّ أشدّ من أن يبعث على عكس ما أمر به . ونظيره في المعنى قوله : ) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ( ( آل عمران : 197 ) .
) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاٌّ خِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاٌّ لْبَابِ (
الزمر : ( 9 ) أم من هو . . . . .
قرىء : ( أمن هو قانت ) بالتخفيف على إدخال همزة الاستفهام على من ، وبالتشديد على إدخال ( أم ) عليه . ومن مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : أمن هو قانت كغيره ، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه ، وهو جري ذكر الكافر قبله . وقوله بعده : ) قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( وقيل : معناه أمن هو قانت أفضل أمن هو كافر . أو أهذا أفضل أمن هو قانت على الاستفهام المتصل . والقانت : القائم بما يجب عليه من الطاعة . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 964 ) ( أفضل الصلاة طول القنوت ) ، وهو القيام فيها . ومنه القنوت في الوتر ؛ لأنه دعاء المصلي قائماً ) سَاجِداً ( حال . وقرىء : ( ساجد وقائم ) على أنه خبر بعد خبر ، والواو للجمع بين الصفتين . وقرىء : ( ويحذر عذاب الآخرة ) وأراد بالذين يعلمون : العاملين من علماء الديانة ، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم . وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ، ثم لا يقتنون ، ويفتنون ، ثم يفتنون بالدنيا ، فهم عند الله جهلة ، حيث جعل القانتين هم العلماء ، ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه ، أي : كما لا يستوي العالمون والجاهلون ، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون . وقيل : ونزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه وأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي . وعن الحسن أنه سئل

" صفحة رقم 119 "
عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو ، فقال : هذا تمنّ والرجاء قوله : وتلا هذه الآية . وقرىء : ( إنما ذكر ) بالإدغام .
) قُلْ ياعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (
الزمر : ( 10 ) قل يا عباد . . . . .
) فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا ( متعلق بأحسنوا لا بحسنة ، معناه : الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة . وهي دخول الجنة ، أي : حسنة غير مكتنهة بالوصف . وقد علقه السدي بحسنة ، ففسر بحسنة بالصحة والعافية . فإن قلت : إذا علق الظرف بأحسنوا فإعرابه ظاهر ، فما معنى تعليقه بحسنة ؟ ولا يصحّ أن يقع صفة لها لتقدمه . قلت : هو صفة لها إذا تأخر فإذا تقدم كان بياناً لمكانها فلم يخل التقدم بالتعلق ، وإن لم يكن التعلق وصفاً ومعنى ) وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ( أن لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة ؛ حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان ، وصرف الهمم إليه قيل لهم : فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة ، فلا تجتمعوا مع العجز ، وتحوّلوا إلى بلاد أخر ، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم . وقيل : هو للذين كانوا في بلد المشركين فأمروا بالمهاجرة عنه ، كقوله تعالى : ) أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ( ( النساء : 97 ) . وقيل : هي أرض الجنة . و ) الصَّابِرُونَ ( الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم ، وعلى غيرها . من تجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير ) بِغَيْرِ حِسَابٍ ( لا يحاسبون عليه . وقيل : بغير مكيال وغير ميزان يغرف لهم غرفاً ، وهو تمثيل للتكثير . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يهتدي إليه حساب الحساب ولا يعرف . وعن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 965 ) ( ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم

" صفحة رقم 120 "
بالموازين ، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين . ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صباً ، قال الله تعالى : ) إِنَّمَا يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل ) .
) قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لاًّنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (
الزمر : ( 11 ) قل إني أمرت . . . . .
) قُلْ إِنّى أُمِرْتُ ( بإخلاص الدين ) وَأُمِرْتُ ( بذلك لأجل ) أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ( أي مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة ، ولمعنى : أنّ الإخلاص له السبقة في الدين ، فمن أخلص كان سابقاً . فإن قلت : كيف عطف ) أُمِرْتُ ( على ) أُمِرْتُ ( وهما واحد ؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما ، وذلك أنّ الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء ، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء ، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل ،

" صفحة رقم 121 "
ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح ، كأنها زيدت عوضاً من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ، كما عوّض السين في اسطاع عوضاً من ترك الأصل الذي هو أطوع ، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله : ) وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ( يونس : 72 ) ، ) وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ( يونس : 104 ) ، ) وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ( ( الأنعام : 14 ) وفي معناه أوجه : أن أكون أوّل من أسلم في زماني ومن قومي ، لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها ، وأن أكون أوّل الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاماً . وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ، لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعاً ، ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون ، وأن أفعل ما أستحق به الأوّلية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب يعني : أن الله أمرني أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكلّ شوب ، بدليل العقل والوحي . فإن عصيت ربي بمخالفة الدليلين ، استوجبت عذابه فلا أعصيه ولا أتابع أمركم ، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه . فإن قلت : ما معنى التكرير في قوله : ) قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينَ ( وقوله : ) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى ( قلت : ليس بتكرير ؛ لأنّ الأوّل إخبار بأنه مأمور من جهة الله بإحداث العبادة والإخلاص . والثاني : إخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصاً له دينه ، ولدلالته على ذلك قدّم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأوّل فالكلام أوّلاً واقع في الفعل نفسه ، وإيجاده ، وثانياً فيمن يفعل الفعل لأجله ولذلك رتب عليه قوله : ) فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ ( والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير : المبالغة في الخذلان والتخلية ، على ما حققت فيه القول مرتين . قل إنّ الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه : هم ) الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ( لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها ( و ) خسروا ) أَهْلِيهِمْ ( لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده إليهم . وقيل : وخسروهم لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة ، يعني : وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم لو آمنوا ، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله : ) أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ( حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه ، ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر ، وعرف الخسران ونعته بالمبين .
) لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَالِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ياعِبَادِ فَاتَّقُونِ (7 )
الزمر : ( 16 ) لهم من فوقهم . . . . .

" صفحة رقم 122 "
(
) وَمِن تَحْتِهِمْ ( أطباق من النار هي ) ظُلَلٌ ( لآخرين ) ذَالِكَ ( العذاب هو الذي يتوعد الله ) بِهِ عِبَادَهُ ( ويخوفهم ، ليجتنبوا ما يوقعهم فيه ) قَلِيلاً وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ ( ولا تتعرّضوا لما يوجب سخطي ، وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة . وقرىء : ( يا عبادي ) .
) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَائِكَ هُمْ أُوْلُو الاٌّ لْبَابِ (
الزمر : ( 17 - 18 ) والذين اجتنبوا الطاغوت . . . . .
) الطَّاغُوتَ ( فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت ، إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين ، أطلقت على الشيطان أو الشياطين ، لكونها مصدراً وفيها مبالغات ، وهي التسمية بالمصدر ، كأن عين الشيطان طغيان ، وأنّ البناء بناء مبالغة ، فإنّ الرحموت : الرحمة الواسعة ، والملكوت : الملك المبسوط ، والقلب هو للاختصاص ، إذ لا تطلق على غير الشيطان ، والمراد بها ههنا الجمع . وقرىء : ( الطواغيت ) ) أَن يَعْبُدُوهَا ( بدل من الطاغوت بدل الاشتمال ) لَهُمُ الْبُشْرَى ( هي البشارة بالثواب ، كقوله تعالى : ) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَةِ ( ( يونس : 64 ) الله عزّ وجلّ يبشرهم بذلك في وحيه على ألسنة رسله ، وتتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين ، وحين يحشرون . قال الله تعالى : ) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ( ( الحديد : 12 ) وأراد بعباده ) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم ، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة ، فوضع الظاهر موضع الضمير ، وأراد أن يكونوا نقاداً في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل ، فإذا اعترضهم أمران : واجب وندب ، اختاروا الواجب ، وكذلك المباح والندب ، حرّاصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً ، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها عند السبر ، وأبينها دليلاً أو أمارة ، وأن لا تكون في مذهبك ، كما قال القائل : وَلاَ تَكُنْ مِثْلَ عَيْرٍ قِيدَ فَانْقَادَا ;
يريد المقلد ، وقيل : يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن . وقيل : يستمعون أوامر

" صفحة رقم 123 "
الله فيتبعون أحسنها ، ونحو القصاص والعفو ، والانتصار والإغضاء ، والإبداء والإخفاء لقوله تعالى : ) وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( ( البقرة : 237 ) ، ) وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ( ( البقرة : 271 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساو ، فيحدّث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه . ومن الوقفة من يقف على : فبشر عبادي ، ويبتدىء : الذين يستمعون ، يرفعه على الابتداء ، وخبره ) أُوْلَائِكَ ( .
) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ (
الزمر : ( 19 ) أفمن حق عليه . . . . .
أصل الكلام : أمّن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه ، جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء ، ثم دخلت الفاء التي في أوّلها للعطف على محذوف يدلّ عليه الخطاب ، تقديره : أأنت مالك أمرهم ، فمن حقّ عليه العذاب فأنت تنقذه ، والهمزة الثانية هي الأولى ، كرّرت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع ) مَن فِى النَّارِ ( موضع الضمير ، فالآية على هذا جملة واحدة . ووجه آخر : وهو أن تكون الآية جملتين : أفمن حق عليه العذاب فأنت تخلصه ؟ أفأنت تنقد من النار ؟ وإنما جاز حذف : فأنت تخلصه ؛ لأن ) أَفَأَنتَ تُنقِذُ ( يدل عليه : نزل استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار ، حتى نزل اجتهاد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكدّه نفسه في دعائهم إلى الإيمان : منزلة إنقاذهم من النار . وقوله : ) أَفَأَنتَ تُنقِذُ ( يفيد أنّ الله تعالى هو الذي يقدر على الإنقاذ من النار وحده ، لا يقدر على ذلك أحد غيره ، فكما لا تقدر أنت أن تنقد الداخل في النار من النار ، لا تقدر أن تخلصه مما هو فيه من استحقاق العذاب بتحصيل الإيمان فيه .
) لَاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (
الزمر : ( 20 ) لكن الذين اتقوا . . . . .
) غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ ( علالي بعضها فوق بعض . فإن قلت : ما معنى قوله : ) مَّبْنِيَّةٌ ( ؟ قلت : معناه والله أعلم : أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوّيت تسويتها ) تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( كما تجري تحت المنازل ، من غير تفاوت بين العلوّ والسفل ) وَعَدَ اللَّهُ ( مصدر مؤكد ؛ لأنّ قوله لهم غرف في معنى ؛ وعدهم الله ذلك .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الاٌّ رْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ (
الزمر : ( 21 ) ألم تر أن . . . . .
) أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَآء ( هو المطر . وقيل : كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل

" صفحة رقم 124 "
منها إلى الصخرة ، ثم يقسمه الله ، ) فَسَلَكَهُ ( فأدخله ونظمه ) يَنَابِيعَ فِى الاْرْضِ ( عيوناً ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد ) مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ( هيئاته من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك ، وأصنافه من برّ وشعير وسمسم وغيرها ) يَهِيجُ ( يتمّ جفافه ، عن الأصمعي ؛ لأنه إذا تمّ جفافه حان له أن يثور عن منابته ويذهب ) حُطَاماً ( فتاتاً ودريناً ) إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى ( لتذكيراً وتنبيهاً ، على أنه لا بدّ من صانع حكيم ، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير ، لا عن تعطيل وإهمال . ويجوز أن يكون مثلاً للدنيا ، كقوله تعالى : ) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( ( يونس : 24 ) ، ) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( ( الكهف : 45 ) . وقرىء : ( مصفارّاً ) .
) أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ (
الزمر : ( 22 ) أفمن شرح الله . . . . .
) أَفَمَنِ ( عرف الله أنه من أهل اللطف فلطف به حتى انشرح صدره للإسرم ورغب فيه وقبله كمن لا لطف له فهو حرج الصدر قاسي القلب ، ونور الله : هو لطفه .
( 966 ) وقرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية فقيل : يا رسول الله ، كيف انشراح الصدر ؟ قال : ( إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ) ، فقيل : يا رسول الله ، فما علامة ذلك ؟ قال : ( الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والتأهب للموت قبل نزول

" صفحة رقم 125 "
الموت ، وهو نظير قوله : ) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ( ( الزمر : 9 ) في حذف الخبر ) مّن ذِكْرِ اللَّهِ ( من أجل ذكره ، أي : إذا ذكر الله عندهم أو آياته اشمؤزوا وازدادت قلوبهم قساوة ، كقوله تعالى : ) فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( ( التوبة : 125 ) . وقرىء : ( عن ذكر الله ) فإن قلت : ما الفرق بين من وعن في هذا ؟ قلت : إذا قلت : قسا قلبه من ذكر الله ، فالمعنى ما ذكرت ، من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه ، وإذا قلت : عن ذكر الله ، فالمعنى : غلظ عن قبول الذكر وجفا عنه . ونظيره : سقاه من العيمة ، أي من أجل عطشه ، وسقاه عن العيمة : إذا أرواه حتى أبعده عن العطش .
) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (
الزمر : ( 23 ) الله نزل أحسن . . . . .
عن ابن مسعود رضي الله عنه : أنّ أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ملوا ملة ، فقالوا له : حدثنا فنزلت ، وإيقاع اسم الله مبتدأ وبناء ) نَزَّلَ ( عليه : فيه تفخيم لأحسن الحديث ، ورفع منه ، واستشهاد على حسنه ، وتأكيد لاستناده إلى الله وأنه من عنده ، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلاّ عنه ، وتنبيه على أنه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث . و ) كِتَاباً ( بدل من أحسن الحديث . ويحتمل أن يكون حالاً منه ) مُّتَشَابِهاً ( مطلق في مشابهة بعضه بعضاً ، فكان متناولاً لتشابه معانيه في الصحة والإحكام ، والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق ، وتناسب ألفاظه وتناصفها في التخير والإصابة ، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت ، ويجوز أن يكون ) مَّثَانِيَ ( بياناً لكونه متشابهاً ؛ لأن القصص المكررة لا تكون إلاّ متشابهة . والمثاني : جمع مثنى بمعنى مردّد مكرّر ، ولما ثنى من قصصه وأنبائه ، وأحكامه ، وأوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده ، ومواعظه . وقيل : لأنه يثني في التلاوة ، فلا يمل كما جاء في وصفه لا يتفه ولا يتشان ولا يخلق على كثرة الرّد . ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل ، من التثنية بمعنى التكرير ، والإعادة كما كان قوله تعالى : ) ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ( ( الملك : 4 ) بمعنى كرّة بعد كرّة ، وكذلك : لبيك

" صفحة رقم 126 "
سعديك ، وحنانيك . فإن قلت : كيف وصف الواحد بالجمع ؟ قلت : إنما صحّ ذلك لأنّ الكتاب جملة ذات تفاصيل ، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ، ألا تراك تقول : القرآن أسباع وأخماس ، وسور وآيات ، وكذلك تقول : أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات ، ونظيره قولك : الإنسان عظام وعروق وأعصاب ، ألا أنك تركت الموصوف إلى الصفة ؛ وأصله : كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني . ويجوز أن يكون كقولك : برمة أعشار ، وثوب أخلاق . ويجوز أن لا يكون مثاني صفة ، ويكون منتصباً على التمييز من متشابهاً ، كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل ، والمعنى : متشابهة مثانية . فإن قلت : ما فائدة التثنية والتكرير ؟ قلت : النفوس أنفر شيء من حديث الوعظ والنصيحة ، فما لم يكرر عليها عوداً عن بدء ، لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله ، ومن ثم كانت عادة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكرر عليهم ما كان يغط به وينصح ثلاث مرات وسبعاً ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم . اقشعر الجلد : إذا تقبّض تقبضاً شديداً ، وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس ، مضموماً إليها حرف رابع وهو الراء ، ليكون رباعياً ودالاً على معنى زائد . يقال : اقشعر جلده من الخوف وقف شعره ، وهو مثل في شدّة الخوف ، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل ، تصويراً لإفراط خشيتهم ، وأن يريد التحقيق . والمعنى : أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده : أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم ، ثم إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة : لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة . فإن قلت : ما وجه تعديه ( لان ) بإلى ؟ قلت : ضمن معنى فعل متعدّ بإلى ، كأنه قيل : سكنت . أو اطمأنت إلى ذلك الله لينة غير متقبضة ، راجية غير خاشية . فإن قلت : لم اقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة ؟ قلت : لأنّ أصل أمره الرحمة والرأفة ، ورحمته هي سابقة غضبه فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كل شيء من صفاته إلا كونه رؤوفاً رحيماً . فإن قلت : لم ذكرت الجلود وحدها أوّلاً ، ثم قرنت بها القلوب ؟ ثانياً ؟ قلت : إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب ، فقد ذكرت القلوب ، فكأنه قيل : تقشعر جلودهم من آيات الوعيد ، وتخشى قلوبهم في أوّل وهلة ، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة : استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم ، وبالقشعريرة ليناً في جلودهم ) ذَلِكَ ( إشارة إلى الكتاب ، وهو ) هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ ( يوفق به من يشاء يعني : عباده المتقين ،

" صفحة رقم 127 "
حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء ، كما قال : هدى للمتقين ) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ ( ومن يخذله من الفساق والفجرة ) فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدي الله ، أي : أثر هداه وهو لطفه ، فسماه هدي لأنه حاصل بالهدي ، ) يَهْدِى بِهِ ( بهذا الأثر من يشاء من عباده ، يعني : من صحب أولئك ورآهم خاشين راجين ، فكان ذلك مرغباً لهم في الاقتداء بسيرتهم وسلوك طريقتهم ) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ ( : ومن لم يؤثر فيه ألطافه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره ، ) فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( من مؤثر فيه بشىء قط .
) أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (
الزمر : ( 24 ) أفمن يتقي بوجهه . . . . .
يقال : اتقاه بدرقته : استقبله بها فوقي بها نفسه إياه واتقاه بيده . وتقديره : ) أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء الْعَذَابِ ( كمن أمن العذاب ، فحذف كما حذف في نظائره و ) سُوء الْعَذَابِ ( : شدّته . ومعناه : أن الإنسان إذا لقي مخوفاً من المخاوف استقبله بيده ، وطلب أن يقي بها وجهه ، لأنه أعزّ أعضائه عليه والذي يلقى في النار يلقى : مغلولة يداه إلى عنقه ، فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلاّ بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره ، وقاية له ومحاماة عليه . وقيل : المراد بالوجه الجملة ، وقيل : نزلت في أبي جهل . وقال لهم خزنة النار ) ذُوقُواْ ( وبال ) مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ( من الجهة التي لا يحتسبون ، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها ، بينا هم آمنون رافهون إذ فوجئوا من مأمنهم . والخزي : الذلّ والصغار ، كالمسح والخسف والقتل والجلاء ، وما أشبه ذلك من نكال الله .
) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (
الزمر : ( 27 ) ولقد ضربنا للناس . . . . .
) قُرْءاناً عَرَبِيّاً ( حال مؤكدة كقولك : جاءني زيد رجلاً صالحاً وإنساناً عاقلاً ، ويجوز أن ينتصب على المدح ) غَيْرَ ذِى عِوَجٍ ( مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف .

" صفحة رقم 128 "
فإن قلت : فهلا قيل : مستقيماً : أو غير معوج ؟ قلت : فيه فائدتان ، إحداهما : نفي أن يكون فيه عوج قط ، كما قال : ) وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ( ( الكهف : 1 ) والثانية : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان ، وقيل : المراد بالعوج : الشكّ واللبس . وأنشد : وَقَدْ أَتَاكَ يَقِينٌ غَيْرُ ذِي عِوَج
مِنَ الإلاهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ
) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ (
الزمر : ( 29 ) ضرب الله مثلا . . . . .
واضرب لقومك مثلاً ، وقل لهم : ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع : كل واحد منهم يدعي أنه عبده ، فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى ومشاده ، وإذا عنت له حاجة تدافعوه ، فهو متحير في أمره سادر قد تشعبت الهموم قلبه وتوزعت أفكاره ، لا يدري أيهم يرضى بخدمته ؟ وعلى أيهم يعتمد في حاجاته . وفي آخر : قد سلم لمالك واحد وخلص له ، فهو معتنق لما لزمه من خدمته ، معتمد عليه فيما يصلحه ، فهمه واحد وقلبه مجتمع ، أيُّ هذين العبدين أحسن حالاً وأجمل شأناً ؟ والمراد : تمثيل حال من يثبت آلهة شتى ، وما يلزمه على قضية مذهبه من أن يدعي كل واحد منهم عبوديته ، ويتشاكسوا في ذلك ويتغالبوا ، كما قال تعالى : ) وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( ( المؤمنون : 91 ) ويبقى هو متحيراً ضائعاً لا يدري أيهم يعبد ؟ وعلى ربوبية أيهم يعتمد ؟ وممن يطلب رزقه ؟ وممن يلتمس رفقه ؟ فهمه شعاع وقلبه أو زاع ، وحال من لم يثبت إلا إلاهاً واحداً ، فهو قائم بما كلفه ، عارف بما أرضاه وما أسخطه ، متفضل عليه في عاجله ، مؤمل للثواب من أجله . و ) فِيهِ ( صلة شركاء ، كما تقول : اشتركوا فيه . والتشاكس والتشاخس : الاختلاف ، تقول : تشاكست أحواله ، وتشاخست أسنانه سالماً لرجل خالصاً . وقرىء : ( سلماً ) بفتح الفاء والعين ، وفتح الفاء وكسرها مع سكون العين ، وهي مصادر سلم . والمعنى : ذا سلامة لرجل ، أي : ذا خلوص له من الشركة ، من قولهم : سلمت له الضيعة . وقرىء بالرفع على الابتداء ، أي : وهناك رجل سالم لرجل ، وإنما جعله رجلاً ليكون أفطن لما شقي به أو سعد ، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك ) هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ( هل يستويان : صفة على التمييز ، والمعنى : هل

" صفحة رقم 129 "
يستوي صفتاهما وحالاهما ، وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس . وقرىء : ( مثلين ) كقوله تعالى : ) وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلَادًا ( ( التوبة : 69 ) مع قوله : ) أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ( ويجوز فيمن قرأ : مثلين ، أن يكون الضمير في ) ( للمثلين ، لأن التقدير : مثل رجل ومثل رجل . والمعنى : هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية ، كما تقول : كفى بهما رجلين ) الْحَمْدُ للَّهِ ( الواحد الذي لا شريك له دون كل معبود سواه ، أي : يجب أن يكون الحمد متوجهاً إليه وحده والعبادة ، فقد ثبت أنه لا إلاه إلاّ هو ) بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( فيشركون به غيره . 7 ) إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ( 7 )
الزمر : ( 30 ) إنك ميت وإنهم . . . . .
والمعنى في قوله : ) إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ( إنك وإياهم ، وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى ؛ لأنّ ما هو كائن فكأن قد كان
) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (
الزمر : ( 31 ) ثم إنكم يوم . . . . .
كانوا يتربصون برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) موته ، فأخبر أن الموت يعمهم ، فلا معنى للتربص ، وشماتة الباقي بالفاني . وعن قتادة : نعى إلى نبيه نفسه ، ونعى إليكم أنفسكم . وقرىء : ( مائت ومائتون ) والفرق بين الميت والمائت : أنّ الميت صفة لازمة كالسيد . وأما المائت ، فصفة حادثة تقول : زيد مائت غداً ، كما تقول : سائد غداً ، أي سيموت وسيسود . وإذا قلت : زيد ميت ، فكما تقول : حي في نقيضه ، فيما يرجع إلى اللزوم والثبوت . ) ثُمَّ إِنَّكُمْ ( ثم إنك وإياهم ، فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب ) تَخْتَصِمُونَ ( فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا ، فاجتهدت في الدعوة فلجوا في العناد ، ويعتذرون بما لا طائل تحته ، تقول الأتباع : أطعنا سادتنا وكبراءنا ، وتقول السادات : أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون ؛ وقد حمل على اختصام الجميع وأنّ الكفار يخاصم بعضهم بعضاً ، حتى يقال لهم : ) لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ ( ( ق : 28 ) والمؤمنون الكافرين يبكتونهم بالحجج ، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام . قال عبد الله بن عمر :

" صفحة رقم 130 "
( 967 ) لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى أنّ هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتاب ؟ قلنا : كيف تختصم ونبينا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد ؟ حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف ، فعرفت أنها أنزلت فينا . وقال أبو سعيد الخدري : كنا نقول : ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد ، فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم صفّين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف ، قلنا : نعم هو هذا . وعن إبراهيم النخعي قالت الصحابة : ما خصومتنا وتحن إخوان ؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا : هذه خصومتنا . وعن أبي العالية : نزلت في أهل القبلة . والوجه الذي يدلّ عليه كلام الله هو ما قدمت أولاً . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) مِنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ ( وقوله تعالى : ) وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ( ( الزمر : 33 ) وما هو إلا بيان وتفسير للذين يكون بينهم الخصومة ) كَذَبَ علَى اللَّهِ ( افترى عليه بإضافة الولد والشريك إليه ) وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ ( بالأمر الذي هو الصدق بعينه ، وهو ماء جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إِذْ جَاءهُ ( فاجأه بالتكذيب لما سمع به من غير وقفة ، لإعمال روية واهتمام بتمييز بين حق وباطل ، كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون ) مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ ( أي : لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق ، واللام في ) لِلْكَافِرِينَ ( إشارة إليهم .
) وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ (
الزمر : ( 33 - 35 ) والذي جاء بالصدق . . . . .
) وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ( هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : جاء بالصدق وآمن به ، وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله : ) وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( ( المؤمنون : 49 ) فلذلك قال : ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( إلا أنّ هذا في الصفة وذاك في الاسم . ويجوز أن يريد : والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به ، وهم الرسول الذي جاءنا بالصدق ، وصحابته الذي صدقوا به . وفي قراءة ابن مسعود : ( والذين جاؤوا بالصدق وصدقوا به ) وقرىء : ( وصدق به ) بالتخفيف ، أي : صدق به الناس ولم يكذبهم به ، يعني : أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف . وقيل : صار صادقاً به ،

" صفحة رقم 131 "
أي : بسببه ؛ لأنّ القرآن معجزة ، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يده ، ولا يجوز أن يصدق إلاّ الصادق ، فيصير لذلك صادقاً بالمعجزة ، وقرىء : ( وصدّق به ) فإن قلت : ما معنى إضافة الأسوأ والأحسن إلى الذي عملوا ، وما معنى التفضيل فيهما ؟ قلت : أما الإضافة فما هي من إضافة أفعل إلى الجملة التي يفضل عليها ، ولكن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل ، كقولك : الأشج أعدل بني مروان . وأما التفضيل فإيذان بأن السيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلاّت المكفرة ، هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية ، والحسن الذي يعلمونه هو عند الله الأحسن ، لحسن إخلاصهم فيه ؛ فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ وحسنهم بالأحسن . وقرىء : ( أسواء ) الذي عملوا جمع سوء .
) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ (
الزمر : ( 36 - 37 ) أليس الله بكاف . . . . .
) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ( أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي ، فأفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها . وقرىء : ( بكاف عبده ) وهو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : و ( بكاف عباده ) وهم الأنبياء ؛ وذلك :
( 968 ) أنّ قريشاً قالت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا ، وإنا نخشى عليك معرتها لعيبك إياها . ويروى :
( 969 ) أنه بعث خالداً إلى العزّى ليكسرها ، فقال له سادنها : أحذركها يا خالد ، إنّ لها لشدّة لا يقوم لها شيء ، فعمد خالد إليها فهشم أنفها . فقال الله عزّ وجلّ : أليس الله بكاف نبيه أن يعصمه من كل سوى ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف . وفي هذا تهكم بهم ؛ لأنّهم خوّفوه ما لا يقدر على نفع ولا ضرّ . أو أليس الله بكاف أنبياءه ولقد قالت أممهم نحو ذلك ، فكفاهم الله وذلك قول قوم هود : ) إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء ( ( هود : 54 ) ويجوز أن يريد : العبد والعباد على الإطلاق ، لأنه كافيهم في

" صفحة رقم 132 "
الشدائد وكافل مصالحهم . وقرىء : ( بكافي عباده ) على الإضافة . ويكافي عباده . ويكافي : يحتمل أن يكون غير مهموز مفاعله من الكفاية ، كقولك : يجازي في يجزى ، وهو أبلغ من كفى ، لبنائه على لفظ المبالغة . والمباراة : أن يكون مهموزاً ، من المكافأة وهي المجازاة ، لما تقدم من قوله : ( ويجزيهم أجرهم ) ، ) بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ( أراد : الأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه ) بِعَزِيزٍ ( بغالب منيع ) ذِى انتِقَامٍ ( ينتقم من أعدائه ، وفيه وعيد لقريش ووعد للمؤمنين بأنه ينتقم لهم منهم ، وينصرهم عليهم .
) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (
الزمر : ( 38 ) ولئن سألتهم من . . . . .
قرىء : ( كاشفاتٌ ضرَّه ) وممسكاتٌ رحمتَه بالتنوين على الأصل ، وبالإضافة للتخفيف . فإن قلت : لم فرض المسألة في نفسه دونهم ؟ قلت : لأنهم خوّفوه معرّة الأوثان وتخبيلها ، فأمر بأن يقرّرهم أوّلاً بأن خالق العالم هو الله وحده . ثم يقول لهم بعد التقرير : فإذا أرادني خالق العالم الذي أقررتم به بضرّ من مرض أو فقر أو غير ذلك من النوازل . أو برحمته من صحة أو غنى أو نحوهما . هل هؤلاء اللاتي خوّفتموني إياهن كاشفات عني ضرّه أو ممسكات رحمته ، حتى إذا ألقمهم الحجر وقطعهم حتى لا يحيروا ببنت شفه قال : ) حَسْبِىَ اللَّهُ ( كافياً لمعرّة أوثانكم ) عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكّلُونَ ( وفيه تهكم . ويروى أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) سألهم فسكتوا ، فنزل ) قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ ( فإن قلت : لم قيل : كاشفات ، وممسكات ، على التأنيث بعد قوله تعالى : ( ويخوفونك بالذين من دونه ) ؟ قلت : أنثهن وكن إناثاً وهن اللات والعزّى ومناة ، قال الله تعالى : ) أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( ( النجم : 19 21 ) ليضعفها ويعجزها زيادة تضعيف وتعجيز عما طالبهم به من كشف الضرّ وإمساك الرحمة ؛ لأنّ الأنوثة من باب اللين والرخاوة ، كما أنّ الذكورة من باب الشدّة والصلابة ، كأنه قال : الأناث اللاتي هن اللاّت والعزّى ومناة أضعف مما تدعون لهنّ وأعجز . وفيه تهكم أيضاً .
) قُلْ ياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (
الزمر : ( 39 ) قل يا قوم . . . . .
) عَلَى مَكَانَتِكُمْ ( على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها . والمكانة بمعنى المكان . فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا . وحيث للزمان ، وهما للمكان . فإن قلت : حق الكلام : فإني عامل على مكانتي ، فلم حذف ؟

" صفحة رقم 133 "
قلت : للاختصار ، ولما فيه من زيادة الوعيد ، والإيذان بأنّ حاله لا تقف ، وتزداد كل يوم قوّة وشدّة ، لأنّ الله ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله . ألا ترى إلى قوله : ) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ ( كيف توعدهم بكونه منصوراً عليهم غالياً عليهم في الدنيا والآخرة ، لأنهم إذا أتاهم الخزي والعذاب فذاك عزّه وغلبته ، من حيث أن الغلبة تتم له بعز عزيز من أوليائه ، وبذل ذليل من أعدائه ) يُخْزِيهِ ( مثل مقيم في وقوعه صفة للعذاب ، أي : عذاب مخزٍ له ، وهو بدر ، وعذاب دائم وهو عذاب النار . وقرىء : ( مكاناتكم ) .
) إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَق فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (
الزمر : ( 41 ) إنا أنزلنا عليك . . . . .
) لِلنَّاسِ ( لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه ؛ ليبشروا وينذروا ، فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية . ولا حاجة إلى ذلك فأنا الغني ، فمن اختار الهدي فقد نفع نفسه ، ومن اختار الضلالة فقد ضرّها . وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى ، فإنّ التكليف مبني على الاختيار دون الإجبار .
) اللَّهُ يَتَوَفَّى الاٌّ نفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاٍّ خْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (
الزمر : ( 42 ) الله يتوفى الأنفس . . . . .
) الأنفُسُ ( الجمل كما هي . وتوفيها : إماتتها ، وهو أن يسلب ما هي به حية حساسة درّاكة : من صحة أجزائها وسلامتها ؛ لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت ) وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا ( يريد ويتوفي الأنفس التي لم تمت في منامها ، أي : يتوفاها حين تنام ، تشبيهاً للنائمين بالموتى . ومنه قوله تعالى : ) وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ ( ( الأنعام : 6 ) حيث لا يميزون ولا يتصرفون ، كما أنّ الموتى كذلك ) فَيُمْسِكُ ( الأنفس ) الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ( الحقيقي ، أي : لا يردّها في وقتها حية ) وَيُرْسِلُ الاْخْرَى ( النائمة إلى أجل مسمى إلى وقت ضربه لموتها . وقيل : يتوفى الأنفس يستوفيها ويقضيها ، وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة ، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، وهي أنفس التمييز . قالوا : فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة ؛ لأنّ نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس ، والنائم يتنفس . ورووا عن ابن عباس رضي الله عنهما في ابن آدم : نفس وروح بينهما شعاع الشمس ، فالنفس التي بها العقل والتمييز والروح التي بها النفس والتحرك ، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه

" صفحة رقم 134 "
والصحيح ما ذكرت أوّلاً ، لأنّ الله عزّ وعلا علق التوفي والموت والمنام جميعاً بالأنفس ، وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم ، وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام ) إِنَّ فِى ذَلِكَ ( إنّ في توفي الأنفس مائتة ونائمة وإمساكها وإرسالها إلى أجل لآيات على قدرة الله وعلمه ، لقوم يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون . وقرىء : ( قُضِيَ عليها الموتُ ) على البناء للمفعول .
) أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (
الزمر : ( 43 - 44 ) أم اتخذوا من . . . . .
) أَمِ اتَّخَذُواْ ( بل اتخذ قريش ، والهمزة للإنكار ) مِن دُونِ اللَّهِ ( من دون إذنه ) شُفَعَاء ( حين قالوا : ) هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( ( يونس : 18 ) ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه . ألا ترى إلى قوله تعالى ) قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ( أي : هو مالكها ، فلا يستطيع أحد شفاعة إلاّ بشرطين : أن يكون المشفوع له مرتضى ، وأن يكون الشفيع مأذوناً له . وههنا الشرطان مفقودان جميعاً ) أَوْ لَّوْ كَانُواْ ( معناه : أيشفعون ولو كانوا ) لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ ( أي : ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئاً قطّ ، حتى يملكوا الشفاعة ولا عقل لهم ) لَّهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( تقرير لقوله تعالى : ) لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ( لأنه إذا كان له الملك كله والشفاعة من الملك ، كان مالكاً لها . فإن قلت : بم يتصل قوله : ) ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ؟ قلت : بما يليه ، معناه : له ملك السماوات والأرض اليوم ثم إليه ترجعون يوم القيامة ، فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلاّ له . فله ملك الدنيا والآخرة .
) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (
الزمر : ( 45 ) وإذا ذكر الله . . . . .
مدار المعنى على قوله وحده ، أي : إذا أفرد الله بالذكر ولم يذكر معه آلهتهم اشمأزوا ، أي : نفروا وانقبضوا ) وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ( وهم آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكروا استبشروا ، لافتتانهم بها ونسيانهم حق الله إلى هواهم فيها . وقيل : إذا قيل لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له نفروا ؛ لأنّ فيه نفياً لآلهتهم . وقيل : أراد استبشارهم بما سبق إليه لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من ذكر آلهتهم حين قرأ ( والنجم ) عند باب الكعبة ، فسجدوا معه لفرحهم ، ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز ؛ إذ كل واحد منهما غاية في بابه ؛ لأنّ الاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلّل . والاشمئزاز : أن يمتلىء غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه . فإن قلت : ما

" صفحة رقم 135 "
العامل في ) إِذَا ذُكِرَ ( ؟ قلت : العامل في إذا المفاجأة ، تقديره وقت ذكر الذين من دونه ، فاجأوا وقت الاستبشار .
) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (
الزمر : ( 46 ) قل اللهم فاطر . . . . .
بُعِل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بهم ، وبشدة شكيمتهم في الكفر والعناد ، فقيل له : ادع الله بأسمائه العظمى ، وقل : أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم ، ولا حيلة لغيرك فيهم . وفيه وصف لحالهم وإعذار لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتسلية له ووعيد لهم . وعن الربيع بن خثيم وكان قليل الكلام . أنه أخبر بقتل الحسين رضي الله عنه ، وسخط على قاتله وقالوا : الآن يتكلم ، فما زاد على أن قال : آه أو قد فعلوا ؟ وقرأ هذه الآية . وروى أنه قال على أثره : قتل من كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه .
) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الاٌّ رْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (
الزمر : ( 47 - 48 ) ولو أن للذين . . . . .
) وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ ( وعيد لهم لا كنه لفظاعته وشدّته ، وهو نظير قوله تعالى في الوعد : ) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مِنْ أُخْفِىَ لَهُم ( ( السجدة : 17 ) والمعنى : وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قط في حسابهم ولم يحدثوا به نفوسهم . وقيل : عملوا أعمالاً حسبوها حسنات ، فإذا هي سيئات . وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال : ويل لأهل الرياء ، ويل لأهل الرياء . وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له ، فقال : أخشى آية من كتاب الله ، وتلاها ، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه ) وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ ( أي سيئات أعمالهم التي كسبوها . أو سيئات كسبهم ، حين تعرض صحائفهم ، وكانت خافية عليهم ، كقوله تعالى : ) أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ( ( المجادلة : 6 ) وأراد بالسيئات : أنواع العذاب التي يجازون بها على ما كسبوا ، فسماها سيئات ، كما قال : ) وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ( ( الشورى : 40 ) ) وَحَاقَ بِهِم ( ونزل بهم وأحاط جزاء هزئهم .
) فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِىَ

" صفحة رقم 136 "
فِتْنَةٌ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (
الزمر : ( 49 ) فإذا مس الإنسان . . . . .
التخويل : مختص بالتفضل . ويقال : خولني ، إذا أعطاك على غير جزاء ) عَلَى عِلْمٍ ( أي على علم مني أني سأعطاه ، لما فيّ من فضل واستحقاق . أو على علم من الله بي وباستحقاقي أو على علم مني بوجوه الكسب ، كما قال قارون : ( على علم عندي ) . فإن قلت : لم ذكر الضمير في ) أُوتِيتُهُ ( وهو للنعمة ؟ قلت : ذهاباً به إلى المعنى ؛ لأنّ قوله : ) نِعْمَةً مّنَّا ( شيئاً من النعم وقسماً منها . ويحتمل أن تكون ( ما ) في إنما موصولة لا كافة ، فيرجع إليها المضير . على معنى : أن الذي أوتيته على علم ) بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ ( إنكار لقوله كأنه قال : ما خوّلناك من خولناك من النعمة لما تقول ، بل هي فتنة ، أي : ابتلاء وامتحان لك ، أتشكر أم تكفر ؟ فإن قلت : كيف ذكر الضمير ثم أنثه ؟ قلت : حملاً على المعنى أوّلاً ، وعلى اللفظ آخراً ؛ ولأنّ الخبر لما كان مؤنثاً أعني ) فِتْنَةً ( : ساغ تأنيث المبتدأ لأجله لأنه في معناه ، مقولهم : ما جاءت حاجتك . وقرىء : ( بل هو فتنة ) وفق ) إِنَّمَا أُوتِيتُهُ ( . فإن قلت : ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أوّل السورة بالواو ؟ قلت : السبب في ذلك أنّ هذه وقعت مسببة عن قوله : ) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ ( ( الزمر : 45 ) على معنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مسّ أحدهم ضرّ دعا من اشمأزّ من ذكره ، دون من استبشر بذكره ، وما بينهما من الآي اعتراض . فإن قلت : حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه . قلت : ما في الاعتراض من دعاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ربه بأمر منه وقوله : ) أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ ( ( الزمر : 46 ) ثم ما عقبه من الوعيد العظيم : تأكيد لإنكار

" صفحة رقم 137 "
اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم ، كأنه قيل : قل رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترؤن عليك مثل هذه الجراءة ، ويرتكبون مثل هذا المنكر إلا أنت . وقوله : ) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( ( الزمر : 47 ) متناول لهم ولكل ظالم إن جعل مطلقاً ، وإياهم خاصة إن عنيتهم به ، كأنه قيل : ولو أنّ لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به . حين أحكم عليهم بسوء العذاب ، وهذه الأسرار والنكت لا يبرزها إلا علم النظم ، وإلا بقيت محتجبة في أكمامها . وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة وما هي إلاّ جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو ، كقولك : قام زيد وقعد عمرو . فإن قلت : من أي وجه وقعت مسببة ؟ والاشمئزاز عن ذكر الله ليس بمقتض لالتجائهم إليه ، بل هو مقتض لصدوفهم عنه . قلت : في هذه التسبيب لطف ، وبيانه أن تقول : زيد مؤمن بالله ، فإذا مسّه ضرّ التجأ إليه ، فهذا تسبيب ظاهر لا لبس فيه ، ثم تقول : زيد كافر بالله ، فإذا مسّه ضرّ التجأ إليه ، فتجيء بالفاء مجيئك به ثمة ، كأنّ الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه ، مقيم كفره مقام الإيمان ، ومجريه مجراه في جعله سبباً في الالتجاء ، فأنت تحكي ما عكس فيه الكافر . ألا ترى أنك تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله . ؟
) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَاؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (
الزمر : ( 50 ) قد قالها الذين . . . . .
الضمير في ) قَالَهَا ( راجع إلى قوله : ) إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ( ( القصص : 78 ) ، ( الزمر : 49 ) لأنها كلمة أو جملة من القول . وقرىء : ( قد قاله ) على معنى القول والكلام ، وذلك والذين من قبلهم : هم قارون وقومه ، حيث قال : إنما أوتيته على علم عندي وقومه راضون بها ، فكأنهم قالوها . ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها ) فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( من متاع الدنيا ويجمعون منه ) مِنْ هَؤُلاَء ( من مشركي قومك ) سَيُصِيبُهُمْ ( مثل ما أصاب أولئك ، فقتل صناديدهم ببدر ، وحبس عنهم الرزق ، فقحطوا سبع سنين ، ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين ، فقيل لهم : ) أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ ( أنه لا قابض ولا باسط إلاّ الله عزّ وجلّ .
) قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ

" صفحة رقم 138 "
جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (
الزمر : ( 53 ) قل يا عبادي . . . . .
) أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلوّ فيها ) لاَ تَقْنَطُواْ ( قرىء : بفتح النون وكسرها وضمها ) إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( يعني بشرط التوبة ، وقد تكرّر ذكر هذا الشرط في القرآن ، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه ؛ لأنّ القرآن في حكم كلام واحد ، ولا يجوز فيه التناقض . وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود : ( يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء ) . والمراد بمن يشاء : من تاب ؛ لأنّ مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله ، لا لملكه وجبروته . وقيل : في قراءة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وفاطمة رضي الله عنها : ( يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي ) ونظير نفي المبالاة نفي الخوف في قوله تعالى : ) وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ( ( الشمس : 15 ) وقيل : قال أهل مكة : يزعم محمد أنّ من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف لك نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرّم الله فنزلت . وروى أنه أسلم عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما ، ثم فتنوا وعذبوا ، فافتتنوا ، فكن نقول : لا يقبل الله لهم صرفاً ولا عدلاً أبداً ، فنزلت . فكتب بها عمر رضي الله عنه إليهم ، فأسلموا وهاجروا ، وقيل : نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 970 ) ( ما أحب أنّ لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ) فقال رجل : يا رسول الله ، ومن أشرك ؟ فسكت ساعة ثم قال : ( ألا ومن أشرك ) ثلاث مرّات .
) وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى

" صفحة رقم 139 "
كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (
الزمر : ( 54 ) وأنيبوا إلى ربكم . . . . .
) وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ ( وتوبوا إليه ) وَأَسْلِمُواْ لَهُ ( وأخلصوا له العمل ، إنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة ، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه ) وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ ( مثل قوله : ) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( ( الزمر : 18 ) . ) وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ( أي يفجؤكم وأنتم غافلون ، كأنكم لا تخشون شيئاً لفرط غفلتكم وسهوكم ) أَن تَقُولَ نَفْسٌ ( كراهة أن تقول . فإن قلت : لم نكرت ؟ قلت : لأنّ المراد بها بعض الأنفس ، وهي نفس الكافر . ويجوز أن يراد : نفس متميزة من الأنفس : إما بلجاج في الكفر شديد . أو بعذاب عظيم . ويجوز أن يراد التكسير ، كما قال الأعشى : وَرَبَّ بَقِيعٍ لَوْ هَتَفْتُ بِحَوِّه
أَتَانِي كَرِيمٌ يَنْفُضُ الرَّأْسَ مُغْضَبَا
وهو يريد : أفواجاً من الكرام ينصرونه ، لا كريماً واحداً . ونظيره : ربّ بلد قطعت ، ورب بطل قارعت . وقد اختلس الطعنة ولا يقصد إلاّ التكسير . وقرىء : ( يا حسرتي ) على الأصل . ويا حسرتاي ، على الجمع بين العوض والمعوّض منه . والجنب : الجانب ، يقال : أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته ، وفلان لين الجنب والجانب ، ثم قالوا : فرّط في جنبه وفي جانبه ، يريدون في حقه . قال سابق البربري : أَمَا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي جَنْبِ وَامِق
لَهُ كَبِدٌ حَرَّى عَلَيْكَ تَقَطَّعُ
وهذا من باب الكناية ؛ لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه ، فقد أثبته فيه . ألا ترى إلى قوله : إنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَة وَالنَّدَى
فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ
ومنه قول الناس : لمكانك فعلت كذا ، يريدون : لأجلك . وفي الحديث :
( 971 ) ( من الشرك الخفيّ أن يصلي الرجل لمكان الرجل ) وكذلك : فعلت هذا

" صفحة رقم 140 "
من جهتك . فمن حيث لم يبق فرق فيما يرجع إلى أداء الغرض بين ذكر المكان وتركه ، قيل : ) فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ( على معنى : فرطت في ذات الله . فإن قلت : فمرجع كلامك إلى أن ذكر الجنب كلا ذكر سوى ما يعطى من حسن الكناية وبلاغتها ، فكأنه قيل : فرطت في الله . فما معنى فرطت في الله ؟ قلت : لا بدّ من تقدير مضاف محذوف ، سواء ذكر الجنب أو لم يذكر . والمعنى : فرطت في طاعة الله وعبادة الله ، وما أشبه ذلك . وفي حرف عبد الله وحفصة : في ذكر الله . وما في ما فرطت مصدرية مثلها في ) بِمَا رَحُبَتْ ( ( التوبة : 25 ) ، ( التوبة : 118 ) ، ) وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ( قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها ، ومحل ) وَإِن كُنتُ ( على النصب على الحال ، كأنه قال : فرطت وأنا ساخر ، أي : فرطت في حال سخريتي . وروى : أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق . وأتاه إبليس وقال له : تمتع من الدنيا ثم تب ، فأطاعه ، وكان له مال فأنفقه في الفجوز ، فأتاه ملك الموت في ألذّ ما كان فقال : يا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله ، ذهب عمري في طاعة الشيطان ، وأسخطت ربي فندم حين لم ينفعه الندم ، فأنزل الله خبره في القرآن ) لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى ( لا يخلو : إما أن يريد الهداية بالإلجاء أو بالإلطاف أو بالوحي ، فالإلجاء خارج عن الحكمة ، ولم يكن من أهل الإلطاف فليلطف به . وأما الوحي فقد كان ، ولكنه أعرض ولن يتبعه حتى يهتدي ، وإنما يقول هذا تحير في أمره وتعلالاً بما لا يجدي عليه ، كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤوساء والشياطين ونحو ذلك ونحوه ) لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ( ( إبراهيم : 21 ) وقوله : ) بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى ( ردّ من الله عليه ، معناه : بلى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قبوله ، وآثرت الكفر على الإيمان ، والضلالة على الهدى . وقرىء : بكسر التاء على مخاطبة النفس . فإن قلت : هلا قرن الجواب بما هو جواب له ، وهو قوله : ) لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى ( ولم يفصل بينهما بآية ؟ قلت : لأنه لا يخلو : إما أن يقدّم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن . وأما أن تؤخر القرينة الوسطى ، فلم يحسن

" صفحة رقم 141 "
الأوّل لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن . وأما الثاني : فلما فيه من نقص الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ، ثم التعلل بفقد الهداية ، ثم تمني الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه ، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب . فإن قلت : كيف صحّ أن تقع بلى جواباً بالغير منفي ؟ قلت : ) لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى ( فيه معنى : ما هُديت .
) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (
الزمر : ( 60 ) ويوم القيامة ترى . . . . .
) كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ ( وصفوه بما لا يجوز عليه تعالى ، وهو متعال عنه ،

" صفحة رقم 142 "
فأضافوا إليه الولد والشريك ، وقالوا : هؤلاء شفعاؤنا ، وقالوا : ) لَوْ شَاء الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ( ، وقالوا : ) وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ( ( الأعراف : 28 ) ولا يبعد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح ، وتجويز أن يخلق خلقاً لا لغرض ، ويؤلم لا لعوض ، ويظلمونه بتكليف يطاق ، ويجسمونه بكونه مرئياً معايناً مدركاً بالحاسة ، ويثبتون له يداً وقدماً وجنباً متسترين بالبلكفة ، ويجعلون له أنداداً بإثباتهم معه قدماء ) وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ( جملة في موضع الحال إن كان ترى من رؤية البصر ، ومفعول ثانٍ إن كان من رؤية القلب .
) وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (
الزمر : ( 61 ) وينجي الله الذين . . . . .
قرىء : ( ينجي ) وينجي ) بِمَفَازَتِهِمْ ( بفلاحهم ، يقال : فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه . وتفسير المفازة قوله : ) لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( كأنه قيل : ما مفازتهم ؟ فقيل : لا يمسهم السوء ، أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم . أو بسبب منجاتهم ، من قوله تعالى : ) فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ ( ( آل عمران : 188 ) أي بمنجاة منه ؛ لأنّ النجاة من أعظم الفلاح ، وسبب منجاتهم العمل الصالح ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة ، ويجوز : بسبب فلاحهم ؛ لأنّ العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة . ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه : مفازة ؛ لأنه سببها . وقرىء : ( بمفازاتهم ) على أن لكل متّق مفازة . فإن قلت : ) لاَ يَمَسُّهُمُ ( ما محله من الإعراب على التفسيرين ؟ قلت : أما على التفسير الأوّل فلا محل له ؛ لأنه كلام مستأنف . وأما على الثاني فمحله النصب على الحال .
) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَى كُل شَىْءٍ وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ

" صفحة رقم 143 "
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (
الزمر : ( 62 - 63 ) الله خالق كل . . . . .
) لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( أي هو مالك أمرها وحافظها ، وهو من باب الكناية ؛ لأنّ حافظ الخزائن مدبر أمرها هو الذي الذي يملك مقاليدها ، ومنه قولهم : فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي مفاتيح ، ولا واحد لها من لفظها . وقيل : مقليد . ويقال : إقليد وأقاليد ، والكلمة أصلها فارسية . فإن قلت : ما للكتاب العربي المبين بالفارسية ؟ قلت : التعريب أحالها عربية ، كما أخرج الاستعمال المهمل من كونه مهملاً . فإن قلت : بما اتصل قوله : ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( قلت : بقوله : ) وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ ( ( الزمر : 61 ) أي ينجي الله المتقين بمفازتهم ، والذين كفروا هم الخاسرون . واعتراض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها . وهو مهيمن عليها فلا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يستحقون عليها من الجزاء ، وقد جعل متصلاً بما يليه على أن كل شيء في السماوات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك أولئك هم الخاسرون وقيل :
( 972 ) سأل عثمان رضي الله عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن تفسير قوله تعالى : ) لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( ، فقال : ( يا عثمان ، ما سألني عنها أحد قبلك ، تفسيرها : لا إلاه إلاّ والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ) وتأويله على هذا ؛ أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض :

" صفحة رقم 144 "
من تكلم بها من المتقين أصابه ، والذين كفروا بآيات الله وكلمات توحيده وتمجيده ، أولئك هم الخاسرون .
) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (
الزمر : ( 64 ) قل أفغير الله . . . . .
) أَفَغَيْرَ اللَّهِ ( منصوب بأعبد . و ) تَأْمُرُونّى ( اعتراض . ومعناه : أفغير الله أعبد بأمركم ، وذلك حين قال له المشركون : استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلاهك . أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله : ) تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ ( لأنه في معنى تعبدونني وتقولون لي : اعبد ، والأصل : تأمرونني أن أعبد ، فحذف ( أن ) ورفع الفعل ، كما في قوله :
أَلاَ أَيُّهاذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى
ألا تراك تقول : أفغير الله تقولون لي أعبده ، وأفغير الله تقولون لي أعبد ، فكذلك أفغير الله تأمرونني أن أعبده . وأفغير الله تأمرونني أن أعبد ، والدليل على صحة هذا الوجه : قراءة من قرأ ( أعبد ) بالنصب . وقرىء : ( تأمرونني ) على الأصل . وتأمروني ، على إدغام النون أو حذفها .
) وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (
الزمر : ( 65 ) ولقد أوحي إليك . . . . .
قرىء : ( ليحبطن عملك ) وليحبطنّ : على البناء للمفعول . ولنحبطنّ ، بالنون والياء ، أي : ليحبطنّ الله . أو الشرك . فإن قلت : الموحى إليهم جماعة ، فكيف قال : ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ ( على التوحيد ؟ قلت : معناه أوحى إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ، وإلى الذين من قبلك مثله ، أو أوحى إليك وإلى كل واحد منهم : لئن أشركت كما تقول كسانا حلة ، أي : كل واحد منها : فإن قلت : ما الفرق بين اللامين ؟ قلت : الأولى موطئة للقسم المحذوف ، والثاني لام الجواب ، وهذاالجواب سادّ مسدّ الجوابين ، أعني : جوابي القسم والشرط ، فإن قلت : كيف صحّ هذا الكلام مع علم الله أنّ رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم ؟ قلت : هو على سبيل الفرض ، والمحالات يصحّ فرضها لأغراض ، فكيف بما ليس بمحال . ألا ترى إلى قوله : ) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ( ( يونس : 99 ) يعني على سبيل الإلجاء ، ولن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه ووجود الصارف عنه . فإن قلت : ما معنى قوله : ) وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( ؟ قلت : يحتمل ولتكونن

" صفحة رقم 145 "
من الخاسرين بسبب حبوط العمل . ويحتمل : ولتكونن في الآخرة من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم إن مت على الردة . ويجوز أن يكون غضب الله على الرسول أشدّ ، فلا يمهله بعد الردة : ألا ترى إلى قوله تعالى : ) إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ( ( الإسراء : 75 ) ، ) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ ( رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم ، كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته ، بل إن كنت عاقلاً فاعبد الله ، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضاً منه ) وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ ( على ما أنعم به عليك ، من أن جعلك سيد ولد آدم . وجوّز الفراء نصبه بفعل مضمر هذا فمعطوف عليه ، تقديره : بل الله أعبد فاعبد .
) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاٌّ رْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (
الزمر : ( 67 ) وما قدروا الله . . . . .
لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حقّ تقديره وعظمه حق تعظيمه قبل ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( وقرىء : بالتشديد على معنى : وما عظموه كنه تعظيمه ، ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل فقال : ) وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا

" صفحة رقم 146 "
غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز ، وكذلك حكم ما يروى :
( 973 ) أن جبريل جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : يا أبا القاسم ، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع الثرى على الأصبع وسائر الخلق على أصبع ، ثم يهزهن فيقول أنا الملك فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تعجباً مما قال ثم قرأ تصديقاً له ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( . . . الآية ، وإنما ضحك : أفصح العرب ( صلى الله عليه وسلم ) وتعجب لأنه لم يفهم منه إلاّ ما يفهمه علماء البيان من غير تصوّر إمساك ولا أصبع ولا هزّ ولا شيء من ذلك ، ولكن فهمه وقع أوّل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة ، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هواناً لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه ، إلا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل ، ولا ترى باباً في علم البيان أدقّ ولا أرقّ ولا ألطف من هذا الباب ، ولا أنفع وأعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء ، فإنّ أكثره وعليته تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديماً ، وما أوتي الزالون إلاّ من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير ، حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علماً لو قدره حق قدره ، لما خفي عليهم أنّ العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه ، إذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكربة إلا هو ، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول ، وقد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة ، والوجوه الرثة ، لأنّ من تأول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير ، ولا يعرف قبيلاً منه من دبير والمراد والأرض : الأرضون السبع ، يشهد لذلك شاهدان ، قوله : ) جَمِيعاً ( وقوله : ) وَالسَّمَاواتِ ( ولأنّ الموضع موضع

" صفحة رقم 147 "
تفخيم وتعظيم ، فهو مقتض للمبالغة ، ومع القصد إلى الجمع وتأكيده بالجميع اتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء الخبر ، ليعلم أوّل الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ، ولكن عن الأراضي كلهن . والقبضة : المرة من القبض ) فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ( ( طه : 96 ) والقبضة بالضم : المقدار المقبوض بالكف ، ويقال أيضاً : أعطني قبضة من كذا : تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر ، كما روى :
( 974 ) أنه نهى عن خطفة السبع ، وكلا المعنيين محتمل . والمعنى : الأرضون جميعاً قبضته ، أي : ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة ، يعني أنّ الأرضين مع عظمهن وبسطتهن لا يبلغهن إلاّ قبضة واحدة من قبضاته ، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة ، كما تقول : الجزور أكلة لقمان ، والقلة جرعته ، أي : ذات أكلته وذات جرعته ؛ تريد : أنهما لا يفيان إلا بأكلة فذة من أكلاته ، وجرعة فردة من جرعاته . وإذا أريد معنى القبضة فظاهر ، لأنّ المعنى : أنّ الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة . فإن قلت : ما وجه قراءة من قرأ ( قبضته ) بالنصب ؟ قلت : جعلها ظرفاً مشبهاً للمؤقت بالمبهم : ) مَطْوِيَّاتٌ ( من الطي الذي هو ضدّ النشر ، كما قال تعالى : ) يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء كَطَىّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ ( ( الأنبياء : 104 ) وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه ، وقيل : قبضته : ملكه بلا مدافع ولا منازع ، وبيمينه : بقدرته . وقيل : مطويات بيمينه مفنيات بقسمه ؛ لأنه أقسم أن يفنيها ، ومن اشتم رائحة من علمنا هذا فليعرض عليه هذا التأويل ليتلهى بالتعجب منه ومن قائله ، ثم يبكي حميه لكلام الله المعجز بفصاحته ، وما مني به من أمثاله ؛ وأثقل منه على الروح ، وأصدع للكبد تدوين العلماء قوله ، واستحسانهم له ، وحكايته على فروع المنابر ، واستجلاب الاهتزاز به من السامعين . وقرىء : ( مطويات ) على نظم السماوات في حكم

" صفحة رقم 148 "
الأرض ، ودخولها تحت القبضة ، ونصب مطويات على الحال ( سبحانه وتعالى ) ما أبعد من هذه قدرته وعظمته ، وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء .
) وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاٌّ رْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (
الزمر : ( 68 ) ونفخ في الصور . . . . .
فإن قلت : ) أُخْرَى ( ما محلها من الإعراب ؟ قلت : يحتمل الرفع والنصب : أما الرفع فعلى قوله : ) فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ( ( الحاقة : 13 ) وأما النصب فعلى قراءة من قرأ : ) نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ( ( الحاقة : 13 ) والمعنى : ونفخ في الصور نفخة واحدة ، ثم نفخ فيه أخرى . وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان . وقرىء : ( قياماً ينظرون ) : يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب . وقيل : ينظرون ماذا يفعل بهم . ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لتحيرهم .
) وَأَشْرَقَتِ الاٌّ رْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِىءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (
الزمر : ( 69 ) وأشرقت الأرض بنور . . . . .
قد استعار الله عزّ وجلّ النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل ، وهذا من ذاك . والمعنى : ) وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ ( بما يقيمه فيها من الحق والعدل ، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات ، وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه ؛ لأنه هو الحق العدل . وإضافة اسمه إلى الأرض ؛ لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله ، وينصب فيها موازين قسطه ، ويحكم بالحق بين أهلها ، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ، ولا أعمر لها منه . وفي هذه الإضافة أن ربها وخالقها هو الذي يعدل فيها ، وإنما يجوز فيها غير ربها ، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق وهو النور المذكور . وترى الناس يقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك ، وأضاءت الدنيا بقسطك ، كما تقول : أظلمت البلاد بجور فلان . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 975 ) ( الظلم ظلمات يوم القيامة ) وكما فتح الآية بإثبات العدل ، ختمها بنفي

" صفحة رقم 149 "
الظلم . وقرىء : ( وأشرقت ) على البناء للمفعول ، من شرقت بالضوء تشرق : إذا امتلأت به واغتصت . وأشرقها الله ، كما تقول : ملأ الأرض عدلاً وطبقها عدلاً و ) الْكِتَابِ ( صحائف الأعمال ، ولكنه أكتفى باسم الجنس ، وقيل : اللوح المحفوظ ) الشُّهَدَاء ( الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار . وقيل : المستشهدون في سبيل الله .
) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (
الزمر : ( 71 ) وسيق الذين كفروا . . . . .
الزمر : الأفواج المتفرقة بعضها في أثر بعض ، وقد تزمروا ، قال : حَتَى احْزَأَلَّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ ;
وقيل في زمر الذين اتقوا : هي الطبقات المختلفة : الشهداء ، والزهاد ، والعلماء ، والقرّاء وغيرهم . وقرىء : ( نذر منكم ) فإن قلت : لم أضيف إليهم اليوم ؟ قلت : أرادوا لقاء وقتكم هذا ، وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة . وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضاً في أوقات الشدّة ) قَالُواْ بَلَى ( أتونا وتلوا علينا ، ولكن وجبت علينا كلمة الله لأملأنّ جهنم ، لسوء أعمالنا ، كما قالوا : غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين . فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب وهو الكفر والضلال . واللام في المتكبرين للجنس ؛ لأنّ ) مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ ( فاعل بئس ، وبئس فاعلها : اسم معرف بلام الجنس . أو مضاف إلى مثله ، والمخصوص بالذم محذوف ، تقديره : فبئس مثوى المتكبرين جهنم .
) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاٌّ رْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (
الزمر : ( 73 ) وسيق الذين اتقوا . . . . .
) حَتَّى ( هي التي تحكى بعدها الجمل والجملة المحكية بعدها هي الشرطية ، إلاّ

" صفحة رقم 150 "
أنّ جزاءها محذوف ، وإنما حذف لأنه صفة ثواب أهل الجنة ، فدلّ بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف ، وحق موقعه ما بعد خالدين . وقيل : حتى إذا جاؤوها ، جاؤوها وفتحت أبوابها ، أي : مع فتح أبوابها . وقيل : أبواب جهنم لا تفتح إلاّ عند دخول أهلها فيها . وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها ، بدليل قوله : ) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الاْبْوَابُ ( ( ص : 50 ) فلذلك جيء بالواو ، كأنه قيل : حتى إذا جاؤوها وقد فتحت أبوابها . فإن قلت : كبف عبر عن الذهاب بالفريقين جميعاً بلفظ السوق ؟ قلت : المراد بسوق أهل النار : طردهم إليها بالهوان والعنف ، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل . والمراد بسوق أهل الجنة : سوق مراكبهم ، لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين ، وحثها إسراعاً بهم إلى دار الكرامة والرضوان ، كما يفعل بمن يشرف ويكرّم من الوافدين على بعض الملوك ، فشتان ما بين السوقين ) طِبْتُمْ ( من دنس المعاصي . وطهرتم من خبث الخطايا ) فَادْخُلُوهَا ( جعل دخول الجنة مسبباً عن الطيب والطهارة ، فما هي إلاّ دار الطيبين ومثوى الطاهرين ؛ لأنها دار طهرها الله من كل دنس ، وطيبها من كل قذر ، فلا يدخلها إلاّ مناسب لها موصوف بصفتها ، فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة ، وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة ، إلاّ أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحاً ، تقي أنفسنا من درن الذنوب ، وتميط وضر هذه القلوب ) خَالِدِينَ ( مقدرين الخلود ) الاْرْضِ ( عبارة عن المكان الذي أقاموا فيها كما يشاؤون ، تشبهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه ، وذهابه في إنفاقه طولاً وعرضاً . فإن قلت : ما معنى قوله : ) حَيْثُ نَشَاء ( وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره ؟ قلت : يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة ، فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج إلى جنة غيره .
) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (
الزمر : ( 75 ) وترى الملائكة حافين . . . . .
) حَافّينَ ( محدقين من حوله ) يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ( يقولون : سبحان الله والحمد لله ، متلذذين لا متعبدين . فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : ) بَيْنَهُمْ ( ؟ قلت : يجوز أن يرجع إلى العباد كلهم ، وأن إدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون إلاّ قضاء بينهم بالحق والعدل ، وأن يرجع إلى الملائكة ، على أن ثوابهم وإن كانوا معصومين جميعاً لا يكون على سنن واحد ، ولكن يفاضل بين مراتبهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم ، فهو القضاء بينهم بالحق . فإن قلت : قوله : ) وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ( من القائل ذلك ؟ قلت : المقضي بينهم إما جميع العباد وإما الملائكة ، كأنه قيل : وقضى

" صفحة رقم 151 "
بينهم بالحق ، وقالوا : الحمد لله على قضائه بيننا بالحق ، وإنزال كل منا منزلته التي هي حقه .
عن عائشة رضي الله عنها :
( 976 ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر .

" صفحة رقم 152 "
( سورة المؤمن )
مكية . قال الحسن : إلاّ قوله وسبح بحمد ربك ؛ لأن الصلوات نزلت بالمدينة
وقد قيل في الحواميم كلها أنها مكيات عن ابن عباس وابن الحنفية
وهي خمس وثمانون آية ، وقيل : ثنتان وثمانون
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (
غافر : ( 1 ) حم
قرىء بإمالة ألف ( حا ) وتفخيمها ، وبتسكين الميم وفتحها . ووجه الفتح : التحريك لالتقاء الساكنين ، وإيثار أخف الحركات ، ونحو أين وكيف أو النصب بإضمار اقرأ ومنع الصرف للتأنيث والتعريف أو للتعريف وأنها على زنة أعجمي نحو قابيل وهابيل . والتوب والثوب والأوب : أخوات في معنى الرجوع والطول والفضل والزياد . يقال : لفلان على فلان طول ، والإفضال . يقال : طال عليه وتطوّل ، إذا تفضل . فإن قلت : كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً ، والموصوف معرفة يقتضي أن يكون مثله معارف ؟ قلت : أمّا غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان ؛ لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين ، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن . أو غداً حتى يكونا في تقدير الانفصال ، فتكون إضافتهما غير حقيقية ؛ وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه ، فكان حكمهما حكم إلاه الخلق ورب العرش . وأما شديد العقاب فأمره مشكل ، لأنه في تقدير : شديد عقابه لا ينفك من هذا التقدير ،

" صفحة رقم 153 "
وقد جعله الزجاج بدلاً . وفي كونه بدلاً وحده بين الصفات نبوّ ظاهر ، والوجه أن يقال : لما صودف بين هؤلاء المعارف هذه النكرة الواحدة ، فقد آذنت بأنّ كلها أبدال غير أوصاف ، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن ، فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز ، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل ولقائل أن يقول : هي صفات ، وإنما محذوف الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظاً ، فقد غيروا كثيراً من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج ، حتى قالوا : ما يعرف سحادليه ، من عنادليه ، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع ؛ على أنّ الخليل قال في قولهم ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك ، وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل أنه على نية الألف واللام كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام ، ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف . ويجوز أن يقال : قد تعمد تنكيره ، وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار . ويجوز أن يقال : هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال . فإن قلت : ما بال الواو في قوله : ( وقابل التوب ) ؟ قلت : فيها نكتة جليلة ، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات . وأن يجعلها محاءة للذنوب ، كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول . وروى أنّ عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام ، فقيل له : تتابع في هذا الشراب ، فقال عمر لكاتبه : اكتب ، من عمر إلى فلان : سلام عليك ، وأنا أحمد إليك الله الذي لا إلاه إلاّ هو : بسم الله الرحمن الرحيم : حم إلى قوله إليه المصير . وختم الكتاب وقال لرسوله : لا

" صفحة رقم 154 "
تدفعه إليه حتى تجده صاحياً ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة . فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لي ، وحذرني عقابه ، فلم يبرح يردّدها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته ، فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخاكم قد زلّ فسدّدوه ووقفوه ، وادعوا له الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه .
) مَا يُجَادِلُ فِىءَايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلاَدِ (
غافر : ( 4 ) ما يجادل في . . . . .
سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر : والمراد : الجدال بالباطل ، من الطعن فيها ، والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله ، وقد دلَّ على ذلك ) وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ ( ( غافر : 5 ) أما الجدال فيها لإيضاح ملتبساً وحلّ مشكلها ، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ بها وعنها ، فأعظم جهاد في سبيل الله ، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 977 ) ( إنّ جدالاً في القرآن كفر ) وإيراده منكراً ، وإن لم يقل : إنّ الجدال ، تمييز منه بين جدال وجدال . فإن قلت : من أين تسبب لقوله : ) فَلاَ يَغْرُرْكَ ( ما قبله ؟ قلت : من حيث إنهم لما كانوا مشهوداً عليهم من قبل الله بالكفر ، والكافر لا أحد أشقى منه عند الله : وجب على من تحقق ذلك أن لا ترجح أحوالهم في عينه ، ولا يغره إقبالهم في دنياهم وتقلبهم في البلاد بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة ، وكانت قريش كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن ، ولهم الأموال يتجرون فيها ويتربحون ، فإنّ مصير ذلك وعاقبته إلى الزوال ، ووراءه شقاوة الأبد . ثم ضرب لتكذيبهم وعداوتهم للرسل وجدالهم بالباطل وما ادّخر لهم من سوء العاقبة مثلاً : ما كان من نحو ذلك من الأمم ، وما أخذهم به من عقابه وأحله بساحتهم من انتقامه . وقرىء : ( فلا يغرّك ) .
) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالاٌّ حْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ

" صفحة رقم 155 "
وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (
غافر : ( 5 ) كذبت قبلهم قوم . . . . .
) الاْحَزَابِ ( الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم وهم عاد وثمود وفرعون وغيرهم ) وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ ( من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب ) بِرَسُولِهِمْ ( وقرىء : ( برسولها ) ) لِيَأْخُذُوهُ ( ليتمكنوا منه ، ومن الإيقاع به وإصابته بما أرادوا من تعذيب أو قتل . ويقال للأسير : أخيذ ) فَأَخَذَتْهُمُ ( يعني أنهم قصدوا أخذه ، فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم ) فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ( فإنكم تمرون على بلادهم ومساكنهم فتعاينون أثر ذلك . وهذا تقرير فيه معنى التعجيب .
) وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (
غافر : ( 6 ) وكذلك حقت كلمة . . . . .
) مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( في محل الرفع بدل من ) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ ( أي : مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار . ومعناه : كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل ، كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة ، أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل . والذين كفروا : قريش ، ومعناه ، كما وجب إهلاك أولئك الأمم ، كذلك وجب إهلاك هؤلاء ؛ لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار . وقرىء : ( كلمات ) .
) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (
غافر : ( 7 ) الذين يحملون العرش . . . . .
روي : أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 978 ) ( لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة ) فإن

" صفحة رقم 156 "
خلقاً من الملائكة يقال له إسرافيل : زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى ، وقد مرق رأسه من سبع سماوات ، وأنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع . وفي الحديث :
( 979 ) ( أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة ) . وقيل : خلق الله العرش من جوهرة خضراء ، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام . وقيل : حول العرش سبعون ألف صنف من الملائكة ، يطوفون به مهللين مكبرين ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام ، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر . وقرأ ابن عباس : ( العرش ) بضم العين . فإن قلت : ما فائدة قوله : ) وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ( ولا يخفى على أحد أنّ حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمد ربهم مؤمنون ؟ قلت : فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله ، والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك ، وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى : ) ثُمَّ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( ( البلد : 17 ) فأبان بذلك فضل الإيمان . وفائدة أخرى : وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة ، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين ، ولما وصفوا بالإيمان ؛ لأنه إنما يوصف بالإيمان : الغائب

" صفحة رقم 157 "
فلما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم ، علم أنّ إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء : في أنّ إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير ، وأنه لا طريق إلى معرفته إلاّ هذا ، وهو منزه عن صفات الإجرام . وقد روعي التناسب في قوله : ) وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ( ، ) وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ( كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم . وفيه تنبيه على أنّ الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة ، وأبعثه على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن . فإنه لا تجالس بين ملك وإنسان ، ولا بين سماوي وأرضي قط ، ثم لما جاء الإيمان جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي ، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض . قال الله تعالى : ) وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ ( ( الشورى : 5 ) . أي : يقولون : ) رَبَّنَا ( وهذا المضمر يحتمل أن يكون بياناً ليستغفرون مرفوع مثله ، وأن يكون حالاً . فإن قلت : تعالى الله عن المكان ، فكيف صحّ أن يقال : وسع كل شيء ؟ قلت : الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى . ولأصل : وسع كل شيء رحمتك وعلمك ، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم ، وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم ، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء . فإن قلت : قد ذكر الرحمة والعلم فوجب أن يكون ما بعد الفاء مشتملاً على حديثهما جميعاً ، وما ذكر إلاّ الغفران وحده ؟ قلت : معناه فاغفر للذين

" صفحة رقم 158 "
علمت منهم التوبة واتباع سبيلك . وسبيل الله : سبيل الحق التي نهجها لعباده ودعا إليها ) إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( أي : الملك الذي لا يغلب : وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئاً إلاّ بداعي الحكمة وموجب حكمتك أن تفي بوعدك ) وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ ( أي : العقوبات . أو جزاء السيئات . فحذف المضاف على أن السيئات هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها . والوقاية منها : التكفير أو قبول التوبة . فإن قلت : ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون موعودون المغفرة والله لا يخلف الميعاد ؟ قلت : هذا بمنزلة الشفاعة ، وفائدته زيادة الكرامة والثواب . وقرىء : ( جنة عدن ) وصلح ، بضم اللام ، والفتح أفصح . يقال : صلح فهو صالح ، وصلح فهو صليح ، وذريتهم .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ (
غافر : ( 10 ) إن الذين كفروا . . . . .
أي : ينادون يوم القيامة ، فيقال لهم : ) لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ ( والتقدير : لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم ، فاستغنى بذكرها مرة . و ) إِذْ تَدْعُونَ ( منصوب بالمقت الأوّل . والمعنى : أنه يقال لهم يوم القيامة : كأن الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر ، حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان ، فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشدّ مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار إذا أوقعتكم فيها باتباعكم هواهنّ . وعن الحسن : لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم ، فنودوا لمقت الله . وقيل : معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ، كقوله تعالى : ) يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( ( العنكبوت : 25 ) و ) إِذْ تَدْعُونَ ( : تعليل والمقت : أشدّ البغض ، فوضع في موضع أبلغ الإنكار وأشدّه ) اثْنَتَيْنِ ( إماتتين وإحياءتين . أو موتتين وحياتين . وأراد بالإماتتين : خلقهم أمواتاً أوّلاً ، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم ، وبالإحياءة الإحياءة الأولى وإحياءه البعث . وناهيك تفسيراً لذلك قوله تعالى : ) وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( ( البقرة : 28 ) وكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما . فإن قلت : كيف صحّ

" صفحة رقم 159 "
أن يسمى خلقهم أمواتاً : إماتة ؟ قلت : كما صحّ أن تقول : سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيلا وقولك للحفار : ضيق فم الركية ووسع أسفلها ، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر ولا من صغر إلى كبر ، ولا من ضيق إلى سعة ، ولا من سعة إلى ضيق ، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات ، والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائز معاً على المصنوع الواحد ، من غير ترجح لأحدهما ، وكذلك الضيق والسعة . فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه ، ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر لزمه ثلاث إحياءات ، وهو خلاف ما في القرآن ، إلاّ أن يتمحل فيجعل إحداها غير معتدّ بها ، أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور ، وتستمرّ بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها ، ويعدّهم في المستثنيين من الصعقة في قوله تعالى ) إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( ( النمل : 78 ) . فإن قلت : كيف تسبب هذا لقوله تعالى : ) فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ( ؟ قلت : قد أنكروا البعث فكفروا ، وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى ؛ لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي ، فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّرا عليهم ، علموا بأن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم ) فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ ( أي : إلى نوع من الخروج سريع أو بطىء ) مّن

" صفحة رقم 160 "
سَبِيلٍ ( قط ، أم اليأس واقع دون ذلك ، فلا خروج ولا سبيل إليه . وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط ، وإنما يقولون ذلك تعللاً وتحيراً ؛ ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك ، وهو قوله : ) ذَلِكُم ( أي ؛ ذلكم الذي أنتم فيه ، وأن لا سبيل لكم إُى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك به ) فَالْحُكْمُ للَّهِ ( حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد : وقوله : ) الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ ( دلالة على الكبرياء والعظمة ، وعلى أن عقاب مثله لا يكون إلاّ كذلك ، وهو الذي يطابق كبرياءه ويناسب جبروته . وقيل : كأن الحرورية أخذوا قولهم : لا حكم إلاّ لله ، من هذا .
) هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (
غافر : ( 13 - 16 ) هو الذي يريكم . . . . .
) يُرِيكُمْ ءايَاتِهِ ( من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها . والرزق : المطر ، لأنه سببه ) وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ ( وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلاّ من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله ، فإن المعاند لا سبيل إلى تذكره واتعاظه ، ثم قال للنبيين ) فَادْعُواْ اللَّهَ ( أي : اعبدوه ) مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( من الشرك ، وأن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم . ) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ ( ثلاثة أخبار ، لقوله : ( هو ) مترتبة على قوله : ) الَّذِى يُرِيكُمُ ( ( الرعد : 12 ) أو أخبار مبتدأ محذوف ، وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً . وقرىء : ( رفيع الدرجات ) بالنصب على المدح . ورفيع الدرجات ، كقوله تعالى : ) ذِي الْمَعَارِجِ ( ( المعارج : 3 ) وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش ، وهي دليل على عزّته وملكوته . وعن ابن جبير : سماء فوق سماء . والعرش فوقهن . ويجوز أن يكون عبارة عن رفعة شأنه وعلوّ سلطانه ، كما أنّ ذا العرش عبارة عن ملكه . وقيل : هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه في الجنة ) الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ ( الذي هو سبب الحياة من أمره ، يريد : الوحي الذي هو أمر بالخير وبعث عليه ، فاستعار له الروح ، كما قال تعالى : ) أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( ( الأنعام : 122 ) ) لّيُنذِرَ ( الله . أو الملقى عليه : وهو الرسول أو الروح . وقرىء : ( لتنذر ) أي : لتنذر الروح لأنها تؤنث ، أو على خطاب الرسول . وقرىء : ( لينذر يوم التلاق ) على البناء للمفعول ) يَوْمَ التَّلاَقِ ( يوم القيامة ، لأن

" صفحة رقم 161 "
الخلائق تلتقي فيه . وقيل : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض . وقيل : المعبود والعابد ) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ( ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء ، لأنّ الأرض بارزة قاع صفصف ، ولا عليهم ثياب ، إنما هم عراة مكشوفون ، كما جاء في الحديث :
( 980 ) ( يحشرون عراة حفاة غرلاً ) ) لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْء ( . أي : أن أعمالهم وأحوالهم . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : لا يخفى عليه منهم شيء . فإن قلت : قوله : ) لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْء ( : بيان وتقرير لبروزهم ، والله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء برزوا أو لم يبرزوا ، فما معناه ؟ قلت : معناه أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب : أنّ الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم ، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه . قال الله تعالى : ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون . وقال تعالى : ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ ( ( النساء : 108 ) وذلك لعلمهم أنّ الناس يبصرونهم ؛ وظنهم أنّ الله لا يبصرهم ، وهو معنى قوله : ) وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( ( إبراهيم : 48 ) ، ) لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ( حكاية لما يسئل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به . ومعناه : أنه ينادي مناد فيقول : لمن الملك اليوم ؟ فيجيبه أهل المحشر : لله الواحد القهار . وقيل : يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط ( فأوّل ما يتكلم به أن ينادي منادٍ : ( لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار . اليوم تجزي كل نفس . . . ) الآية . فهذا يقتضي أن يكون المنادي هو المجيب .
) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (
غافر : ( 17 ) اليوم تجزى كل . . . . .
لما قرّر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدّد نتائج ذلك ، وهي أنّ كل نفس تجزي ما كسبت وأن الظلم مأمون ، لأن الله ليس بظلام للعبيد ، وأن الحساب لا يبطىء ، لأن الله لا يشغله حساب على حساب ، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلاّ فيها ولا أهل النار إلاّ فيها .

" صفحة رقم 162 "
) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاٌّ زِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ (
غافر : ( 18 ) وأنذرهم يوم الآزفة . . . . .
الآزفة : القيامة ، سميت بذلك لأزوفها ، أي : لقربها . ويجوز أن يريد بيوم الآزفة : وقت الخطة الآزفة ، وهي مشارفتهم دخول النار ، فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم ، فلا هي تخرج فيموتوا ، ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروّحوا ، ولكنها معترضة كالشجا ، كما قال تعالى : ) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ( الملك : 27 ) . فإن قلت : ) كَاظِمِينَ ( بما انتصب ؟ قلت : هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى ، لأن المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها . ويجوز أن يكون حالاً عن القلوب ، وأن القلوب كاظمة على غمّ وكرب فيها مع بلوغها الحناجر ، وإنما جمع الكاظم جمع السلامة ، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء ، كما قال تعالى : ) رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( ( يوسف : 4 ) وقال : ) فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( ( الشعراء : 4 ) وتعضده قراءة من قرأ : ( كاظمون ) ويجوز أن يكون حالاً عن قوله : وأنذرهم ، أي : وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم ، كقوله تعالى : ) فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( ( الزمر : 73 ) الحميم : المحب المشفق . والمطاع : مجاز في المشفع ، لأنّ حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلاّ لمن فوقك . فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : ) وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( ؟ قلت : يحتمل أن يتناول النفي الشفاعة والطاعة معاً ، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة ، كما تقول : ما عندي كتاب يباع ، فهو محتمل نفي البيع وحده ، وأن عندك كتاباً إلا أنك لا تبيعه ، ونفيهما جميعاً ، وأن لا كتاب عندك ، ولا كونه مبيعاً . ونحوه : وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْحَجِرُ ;
يريد : نفي الضب وانجحاره . فإن قلت : فعل أي الاحتمالين يجب حمله ؟ قلت : على نفي الأمرين جميعاً ، من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله ، وأولياء الله لا يحبون ولا

" صفحة رقم 163 "
يرضون إلاّ من أحبه الله ورضيه ، وأنّ الله لا يحبّ الظالمين ، فلا يحبونهم ، وإذا لم يحبوهم لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم . قال الله تعالى : ) وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ( البقرة : 270 ) وقال : ) وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( ( الأنبياء : 28 ) ولأن الشفاعة لا تكون إلاّ في زيادة التفضل ، وأهل التفضل وزيادته إنما هم أهل الثواب ، بدليل قوله تعالى : ) وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ ( ( النساء : 174 ) وعن الحسن رضي الله عنه : والله ما يكون لهم شفيع البتة ، فإن قلت : الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه ، فما الفائدة في ذكر هذه الصفة ونفيها ؟ قلت : في ذكرها فائدة جليلة ، وهي أنها ضمت إليه ، ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة ، لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها ، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف ، بيانه : أنك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت : ما لي فرس أركبه ، ولا معي سلاح أحارب به ، فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علة مانعة من الركوب والمحاربة ، كأنك تقول : كيف يتأتى مني الركوب والمحاربة ولا فرس لي ولا سلاح معي ، فكذلك قوله : ) وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( معناه : كيف يتأتى التشفيع ولا شفيع ، فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع : وضعاً لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه .
) يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الاٌّ عْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ (
غافر : ( 19 ) يعلم خائنة الأعين . . . . .
الخائنة : صفة للنظرة . أو مصدر بمعنى الخيانة ، كالعافية بمعنى المعافاة ، والمراد : استراق النظر إلى ما لا يحل ، كما يفعل أهل الريب ، ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين ، لأن قوله : ) وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ ( لا يساد عليه . فإن قلت : بم اتصل قوله : ) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ ( ؟ قلت : هو خبر من أخبار هو في قوله : ) هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ ( ( الرعد : 12 ) مثل ) يُلْقِى الرُّوحَ ( ( غافر : 15 ) ولكن ) يُلْقِى الرُّوحَ ( ( غافر : 15 ) قد علل بقوله : ) لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ ( ( غافر : 15 ) ثم استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله : ) وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( ( غافر : 18 ) فبعد لذلك عن أخواته .
) وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَىْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (
غافر : ( 20 ) والله يقضي بالحق . . . . .
) وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقّ ( يعني : والذي هذه صفاته وأحواله لا يقضي إلاّ بالحق

" صفحة رقم 164 "
والعدل . لاستغنائه عن الظلم . وآلهتكم لا يقضون بشيء . وهذا تهكم بهم ، لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه : يقضي ، أو لا يقضي ) إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( تقرير لقوله : ) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ ( ( غافر : 19 ) ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون ، وأنه يعاقبهم عليه وتعريض بما يدعون من دون الله ، وأنها لا تسمع ولا تبصر ، وقرىء : ( يدعون ) بالتاء والياء .
) أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِى الاٌّ رْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِى الاٌّ رْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (
غافر : ( 21 ) أولم يسيروا في . . . . .
(هم ) في ) كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ ( فصل . فإن قلت : من حق الفصل أن لا يقع إلاّ بين معرفتين فما باله واقعاً بين معرفة وغير معرفة ؟ وهو أشدّ منهم . قلت : قد ضارع المعرفة في أنه لا تدخله الألف واللام ، فأجرى مجراها . وقرىء : ( منكم ) وهي في مصاحف أهل الشام ) وَءاثَاراً ( يريد حصونهم وقصورهم وعددهم ، وما يوصف بالشدّة من آثارهم . أو أرادوا : أكثر آثاراً ، كقوله : مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً ;
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأايَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَشرُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُواْ أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ (
غافر : ( 23 - 25 ) ولقد أرسلنا موسى . . . . .
) وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( وحجة ظاهرة وهي المعجزات ، فقالوا : هو ساحر كذاب ، فسموا السلطان المبين سحراً وكذاباً ) فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقّ ( بالنبوّة ، فإن قلت : أما كان قتل الأبناء واستحياء النساء من قبل خيفة أو يولد المولود الذي أنذرته الكهنة بظهوره وزوال ملكه على يده ؟ قلت : قد كان ذلك القتل حينئذ ، وهذا قتل آخر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : ) قَالُواْ اقْتُلُواْ ( أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولاً ، يريد : أن هذا قتل غير القتل الأول ) فِى ضَلَالٍ ( في ضياع وذهاب ، باطلاً لم يجد عليهم ، يعني : أنهم باشروا قتلهم أولاً فما أغنى عنهم ، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه ، فما يغني عنهم هذا

" صفحة رقم 165 "
القتل الثاني ، وكان فرعون قد كفّ عن قتل الولدان ، فلما بعث موسى وأحسّ بأنه قد وقع : أعاده عليهم غيظاً وحنقاً ، وظناً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى ، وما علم أنّ كيده ضائع في الكرتين جميعاً .
) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاٌّ رْضِ الْفَسَادَ (
غافر : ( 26 ) وقال فرعون ذروني . . . . .
) ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى ( كانوا إذا هم بقتله كفوه بقولهم : ليس بالذي تخافه ، وهو أقل من ذلك وأضعف ، وما هو إلا بعض السحرة ، ومثله لا يقاوم إلاّ ساحراً مثله ، ويقولون : إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس ، واعتقدوا أنك قد عجزت عن معارضته بالحجة ، والظاهر أنّ فرعون لعنة الله كان قد استيقن أنه نبيّ ، وأن ما جاء به وما هو بسحر ، ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة ، وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء ، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه ، ولكنه كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك . وقوله : ) وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ( شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه ، وكان قوله : ) ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى ( تمويهاً على قومه ، وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه ، وما كان يكفه إلاّ ما في نفسه من هول الفزع ) أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ ( أن يغير ما أنتم عليه ، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام ، بدليل قوله : ) وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ ( ( الأعراف : 127 ) والفساد في الأرض : التفاتن والتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش ، ويهلك الناس قتلاً وضياعاً ، كأنه قال : إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه . أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه . وفي مصاحف أهل الحجاز وأن يظهر بالواو ، ومعناه . إني أخاف فساد دينكم ودنياكم معاً .

" صفحة رقم 166 "
وقرىء : ( يُظْهِرُ ( من أظهر ، والفساد منصوب : أي : يظهر موسى الفساد . وقرىء : ( يَظَّهَّر ) بتشديد الظاء والهاء ، من تظهر بمعنى تظاهر ، أي : تتابع وتعاون .
) وَقَالَ مُوسَى إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (
غافر : ( 27 ) وقال موسى إني . . . . .
لما سمع موسى عليه السلام بما أجراه فرعون من حديث قتله : قال لقومه ) إِنّى عُذْتُ ( بالله الذي هو ربي وربكم ، وقوله : ) وَرَبّكُمْ ( فيه بعث لهم على أن يقتدوا به ، فيعوذوا بالله عياذه ، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه ، وقال : ) مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ ( لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة ، وليكون على طريقة التعريض ؛ فيكون أبلغ ، وأراد بالتكبر : الاستكبار عن الإذعان للحق ، وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة صاحبه ومهانة نفسه ، وعلى فرط ظلمه وعسفه ، وقال : ) لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ( لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة ، فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعباده ، ولم يترك عظيمة إلاّ ارتكبها : وعذت ولذت : أخوان . وقرىء : ( عت ) بالإدغام .
) وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (
غافر : ( 28 ) وقال رجل مؤمن . . . . .
) رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ ( وقرىء : ( رجل ) بسكون الجيم كما يقال : عضد ، في عضد وكان قبطيا ابن عم لفرعون : آمن بموسى سراً وقيل : كان إسرائيلياً و ) مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ ( صفة لرجل . أو صلة ليكتم ، أي : يكتم إيمانه من آل فرعون ، واسمه سمعان أو حبيب وقيل حزبيل أو حزبيل والظاهر أنه كان من آل فرعون فإنّ المؤمنين من بني إسرائيل لم يقلوا

" صفحة رقم 167 "
ولم يعزوا . والدليل عليه قول فرعون : ) فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقّ مِنْ ( ( غافر : 25 ) . وقول المؤمن : ) فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءنَا ( ( غافر : 29 ) دليل ظاهر على أنه ينتصح لقومه ) أَن يَقُولَ ( لأن يقول ، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت شديد ، كأنه قال : أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة ، وما لكم علة قط في ارتكابها إلاّ كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله : ) رَبّىَ اللَّهُ ( مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله بينة واحدة ، ولكن بينات عدّة من عند من نسب إليه الربوبية ، وهو ربكم لا ربه وحده ، وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به ، وليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم ، ولك أن تقدر مضافاً محذوفاً ، أي : وقت أن تقول . والمعنى : أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذاالقول من غير روية ولا فكر في أمره . وقوله : ) بِالْبَيِّنَاتِ ( يريد : بالبينات العظيمة التي عهدتموها وشهدتموها ، ثم أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال : لا يخلو من أن يكون كاذباً أو صادقاً ، ) وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ( أي : يعود عليه كذبه ولا يتخطاه ضرره ، ) وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ( ما يعدكم إن تعرّضتم له . فإن قلت : لم قال : بعض ) الَّذِى يَعِدُكُمْ ( وهو نبيّ صادق ، لا بد لما بعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه قلت : لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى ومنا كريه إلى أن يلاوصهم ويداريهم ، ويسلك معهم طريق الأنصاف في القول ، ويأتيهم من وجهة المناصحة ، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله ، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه ، فقال : ) وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ ( وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه ، ليسمعوا منه ولا يردّوا عليه ، وذلك أنه حين فرضه صادقاً فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد ، ولكنه أردفه ) يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ ( ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام ، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً ، فضلاً أن يتعصب له ، أو يرمي بالحصا من ورائه ، وتقديم الكاذب على الصادق أيضاً من هذا القبيل ، وكذلك قوله : ) إِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( . فإن قلت : فعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل ، وأنشد بيت لبيد : تَرَّاكُ امْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا
أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضُ النُّفُوسِ حِمَامَهَا

" صفحة رقم 168 "
قلت : إن صحت الرواية عنه ، فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقي : كان أجفى من أن يفقه ما أقول له : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ ( يحتمل أن يكون مسرفاً كذاباً خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر ، فيتخلصون منه ، وأنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله للنبوّة ، ولما عضده بالبينات . وقيل : ما تولى أبو بكر من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان أشدّ من ذلك :
( 9811 ) طاف ( صلى الله عليه وسلم ) بالبيت ، فلقوه حين فرغ ، فأخذوا بمجامع ردائه فقالوا له : أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا ، فقال : أنا ذاك ، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فالتزمه من ورائه وقال : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ، رافعاً صوته بذلك ، وعيناه تسفحان ، حتى أرسلوه . وعن جعفر الصادق : أنّ مؤمن آل فرعون قال ذلك سراً ، وأبو بكر قاله ظاهراً .
) ياقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِى الاٌّ رْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (
غافر : ( 29 ) يا قوم لكم . . . . .
) ظَاهِرِينَ فِى الاْرْضِ ( في أرض مصر عالين فيها على بني إسرائيل ، يعني : أنّ لكم ملك مصر ، وقد علوتم الناس ، وقهرتموهم ، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ، ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه ، فإنه لا قبل لكم به إن جاءكم ، ولا يمنعكم منه أحد . وقال : ) يَنصُرُنَا ( وجاءنا ؛ لأنه منهم في القرابة ، وليعلمهم بأنّ الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه ) مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى ( أي : ما أشير عليكم برأي إلاّ بما أرى من قتله ، يعني : لا أستصوب إلاّ قتله ، وهذا الذي تقولونه غير صواب ) وَمَا أَهْدِيكُمْ ( بهذا الرأي ) إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( يريد : سبيل الصواب والصلاح . أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ، ولا أدّخر منه شيئاً ، ولا أسرّ عنكم خلاف ما أظهر يعني أنّ لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول ، وقد كذب ؛ فقد كان مستشعراً للخوف الشديد من جهة موسى ، ولكنه كان يتجلد ، ولولا استشعاره لم يستشر أحداً ولم يقف الأمر على الإشارة . وقرىء : ( الرشاد ) فعال من رشد بالكسر ، كعلام . أو من رشد بالفتح كعباد ، وقيل : هو من أرشد كجبار من أجبر ،

" صفحة رقم 169 "
وليس بذلك ؛ لأنّ فعالاً من أفعل لم يجيء إلاّ في عدّة أحرف ، نحو : درّاك وسارّ وقصار وحبار ، ولا يصحّ القياس على القليل . ويجوز أن يكون نسبة إلى الرشد ، كعوّاج وبتات ، غير منظور فيه إلى فعل .
) وَقَالَ الَّذِىءَامَنَ ياقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الاٌّ حْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ (
غافر : ( 30 - 31 ) وقال الذي آمن . . . . .
) مّثْلَ يَوْمِ الاْحْزَابِ ( مثل أيامهم ، لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود ، ولم يلبس أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دمار ، اقتصر على الواحد من الجمع ؛ لأنّ المضاف إليه أغنى عن ذلك كقوله : كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُو تَعِفُّوا ;
وقال الزجاج : مثل يوم حزب حزب ، ودأب هؤلاء : دؤبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي ، وكون ذلك دائباً دائماً منهم لا يفترون عنه ، ولا بدَّ من حذف مضاف ، يريد : مثل جزاء دأبهم . فإن قلت : بم انتصب مثل الثاني ؟ قلت : بأنه عطف بيان لمثل الأوّل ؛ لأنّ آخر ما تناوله الإضافة قوم نوح ، ولو قلت أهلك الله الأحزاب : قوم نوح وعاد وثمود ، لم يكن إلاّ عطف بيان لإضافة قوم إلى أعلام ، فسرى ذلك الحكم إلى أوّل ما تناولته الإضافة ) وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ ( يعني : أن تدميرهم كان عدلاً وقسطاً ، لأنهم استوجبوه بأعمالهم ، وهو أبلغ من قوله تعالى : ) وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( حيث جعل المنفى إرادة الظلم ؛ لأنّ من كان عن أرادة الظلم بعيداً ، كان عن الظلم أبعد . وحيث نكر الظلم ، كأنه نفى أن يريد ظلماً ما لعباده . ويجوز أن يكون

" صفحة رقم 170 "
معناه كمعنى قوله تعالى : ) وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ( ( الزمر : 7 ) أي : لا يريد لهم أن يظلموا ؛ يعني أنه دمّرهم لأنهم كانوا ظالمين .
) وَياقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (
غافر : ( 32 ) ويا قوم إني . . . . .
(التنادي ) ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف من قوله : ) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ ( ( الأعراف : 44 ) ) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ( ( الأعراف : 50 ) ويجوز أن يكون تصايحهم بالويل والثبور . وقرىء بالتشديد : وهو أن يندّ بعضهم من بعض ؛ كقوله تعالى : ) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ ( ( عبس : 34 ) وعن الضحاك : إذا سمعوا زفير النار ندّوا هرباً ، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلاّ وجدوا ملائكة صفوفاً ، فبيناهم يموج بعضهم في بعض : إذا سمعوا منادياً : أقبلوا إلى الحساب ) تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ ( عن قتادة منصرفين عن موقف الحساب إلى النار . وعن مجاهد : فارّين عن النار غير معجزين .
) وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِىءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (
غافر : ( 34 ) ولقد جاءكم يوسف . . . . .
هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام . وقيل : هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب : أقام فيهم نبياً عشرين سنة . وقيل : إن فرعون موسى هو فرعون يوسف ، عمر إلى زمنه ، وقيل : هو فرعون آخر . وبخهم بأن يوسف أتاكم بالمعجزات فشككتم فيها ولم تزالوا شاكين كافرين ) حَتَّى إِذَا ( قبض ) قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً ( حكماً من عند أنفسكم من غير برهان وتقدمة عزم منكم على تكذيب الرسل ، فإذا جاءكم رسول جحدتم وكذبتم بناء على حكمكم الباطل الذي أستسموه ، وليس قولهم : ) لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً ( بتصديق لرسالة يوسف ، وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها ، وإنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته . وقرىء : ( ألن يبعث الله ) على إدخال همزة الاستفهام على حرف النفي ، كأن بعضهم يقرّر بعضاً بنفي البعث . ثم قال : ) كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ ( أي مثل هذا الخذلان المبين يخذل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه ) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ( بدل من ) مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ ( فإن

" صفحة رقم 171 "
قلت : كيف جاز إبداله منه وهو جمع وذاك موحد ؟ قلت : لأنه لا يريد مسرفاً واحداً ، فكأنه قال : كل مسرف . فإن قلت : فما فاعل ) كَبُرَ ( ؟ قلت : ضمير من هو مسرف . فإن قلت : أما قلت هو جمع ، ولهذا أبدلت منه الذين يجادلون ؟ قلت : بلى هو جمع في المعنى . وأما اللفظ فموحد ، فحمل البدل على أن معناه ، والضمير الراجع إليه على لفظه ، وليس ببدع أن يحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى ، وله نظائر ، ويجوز أن يرفع الذين يجادلون على الابتداء ، ولا بدّ في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في كبر ، تقديره : جدال الذين يجادلون كبر مقتاً ، ويحتمل أن يكون ) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ( مبتدأ ؛ و ) بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ( خبراً ، وفاعل كبر قوله : ) كَذالِكَ ( أي كبر مقتاً مثل ذلك الجدال ، و ) يَطْبَعُ اللَّهُ ( كلام مستأنف ، ومن قال : كبر مقتاً عند الله جدالهم ، فقد حذف الفاعل والفاعل لا يصحّ حذفه . وفي ) كَبُرَ مَقْتاً ( : ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم ، والشهادة على خروجه من حدِّ إشكاله من الكبائر . وقرىء : ( سلطان ) بضم اللام . وقرىء : ( قلب ) بالتنوين ، ووصف القلب بالتكبر والتجبر ، لأنه مركزهما ومنبعهما ، كما تقول : رأت العين ، وسمعت الأذن . ونحوه قوله عزّ وجل ) وَإِن كُنتُمْ عَلَى ( ( البقرة : 283 ) وإن كان الآثم هو الجملة . ويجوز أن يكون على حذف المضاف ، أي : على كل ذي قلب متكبر ، تجعل الصفة لصاحب القلب .
) وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلِّى أَبْلُغُ الاٌّ سْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنِّى لاّظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَالِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ ( 7 )
غافر : ( 36 - 37 ) وقال فرعون يا . . . . .

" صفحة رقم 172 "
قيل : الصرح : البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد ، اشتقوه من صرح الشيء إذا ظهر ، و ) أَسْبَابَ السَّمَاواتِ ( طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها ، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه ، كالرشاء ونحره ، فإن قلت : ما فائدة هذا التكرير ؟ ولو قيل : لعلي أبلغ أسباب السماوات لأجزأ ؟ قلت : إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه ، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السماوات أبهمها ثم أوضحها ، ولأنه لما كان بلوغها أمراً عجيباً أراد أن يورده على نفس متشوقة إليه ، ليعطيه السامع حقه من التعجب ، فأبهمه ليشوف إليه نفس هامان ، ثم أوضحه . وقرىء : ( فأطلع ) بالنصب على جواب الترجي ، تشبهاً للترجي بالتمني . ومثل ذلك التزيين وذلك الصدّ ) زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ( والمزين : إما الشيطان بوسوسته ، كقوله تعالى : ) وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ( ( النمل : 34 ) أو الله تعالى على وجه التسبيب ، لأنه مكن الشيطان وأمهله . ومثله : ) زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ( ( النمل : 4 ) . وقرىء : ( وزين لهم سوء عمله ) على البناء للفاعل والفعل لله عزّ وجلّ ، دلّ عليه قوله : ) إِلَى إِلَاهِ مُوسَى ( وصدّ ، بفتح الصاد وضمها وكسرها ، على نقل حركة العين إلى الفاء ، كما قيل : قيل . والتباب : الخسران والهلاك . وصدّ : مصدر معطوف على سوء عمله وصدّوا هو وقومه .
) وَقَالَ الَّذِىءَامَنَ ياقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ياقَوْمِ إِنَّمَا هَاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الاٌّ خِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ (
غافر : ( 38 - 39 ) وقال الذي آمن . . . . .
قال : ) أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( فأجمل لهم ، ثم فسر فافتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها ؛ لأنّ الإخلاد إليها هو أصل الشرّ كله ، ومنه يتشعب جميع ما يؤدي إلى سخط الله ويجلب الشقاوة في العاقبة . وثنى بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها ، وأنها هي الوطن والمستقرّ . وذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما ، ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف ، ثم وازن بين الدعوتين : دعوة إلى دين الله الذي ثمرته النجاة ، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار ، وحذر ، وأنذر ، واجتهد في ذلك واحتشد ، لا جرم أن الله استثناه من آل فرعون ، وجعله حجة عليهم وعبرة للمعتبرين ، وهو قوله تعالى : ) فَوقَاهُ اللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوء الْعَذَابِ ( وفي هذا أيضاً دليل بيّن على أن الرجل كان من آل فرعون . والرشاد نقيض الغي . وفيه تعريض شبيه بالتصريح أنّ ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي .

" صفحة رقم 173 "
) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (
غافر : ( 40 ) من عمل سيئة . . . . .
) فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ( لأنّ الزيادة على مقدار جزاء السيئة قبيحة ، لأنها ظلم . وأما الزيادة على مقدار جزاء الحسنة فحسنة ؛ لأنها فضل . وقرىء : ( يدخلون ) ويدخلون ) بِغَيْرِ حِسَابٍ ( واقع في مقابلة إلاّ مثلها ، يعني : أن جزاء السيئة لها حساب وتقدير ، لئلا يزيد على الاستحقاق ، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب ، بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة .
) وَياقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِى لاّكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (
غافر : ( 41 ) ويا قوم ما . . . . .
فإن قلت : لم كرر نداء قومه ؟ ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني ؟ قلت : أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ عن سنة الغفلة . وفيه : أنهم قومه وعشيرته وهم فيما يوبقهم ، وهو يعلم وجه خلاصهم ، ونصيحتهم عليه واجبة ، فهو يتحزن لهم ويتلطف بهم ، ويستدعي بذلك ، أن لا يتهموه ، فإنّ سرورهم سروره ، وغمهم غمه ، وينزلوا على تنصيحه لهم ، كما كرر إبراهيم عليه السلام في نصيحة أبيه : يا أبت . وأما المجيء بالواو العاطفة ، فلأن الثاني داخل على كلام وهو بيان للمجمل وتفسير له ، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو ، وأما الثالث : فداخل على كلام ليس بتلك المثابة . يقال : دعاه إلى كذا ودعاه له ، كما تقول : هداه إلى الطريق وهداه له ) مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ ( أي : بربوبيته ، والمراد بنفي العلم : نفي المعلوم ، كأنه قال : وأشرك به ما ليس بإلاه ، وما ليس بإلاه كيف يصحّ أن يعلم إلاهاً .
) لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الاٌّ خِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد ( 7 )
غافر : ( 43 ) لا جرم أنما . . . . .

" صفحة رقم 174 "
) لاَ جَرَمَ ( سياقه على مذهب البصريين : أن يجعل ( لا ) ردّاً لما دعاه إليه قومه . وجرم : فعل بمعنى حق ، وأنّ مع ما في حيزه فاعله ، أي : حق ووجب بطلان دعوته . أو بمعنى : كسب ، من قوله تعالى : ) وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ( ( المائدة : 2 ) أي : كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته ، على معنى أنه ما حصل من ذلك إلاّ ظهور بطلان دعوته . ويجوز أن يقال : أن لا جرم ، نظير : لا بدّ ، فعل من ا لجرم ، وهو القطع ، كما أن بدّاً فعل من التبديد وهو التفريق ، فكما أن معنى : لا بد أنك تفعل كذا ، بمعنى : لا بعد لك من فعله ، فكذلك لا جرم أن لهم النار ، أي : لا قطع لذلك ، بمعنى أنهم أبداً يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم ولا قطع ، لبطلان دعوة الأصنام ، أي : لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقاً . وروي عن العرب : لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء ، بزنة بد ، وفعل وفعل : أخوان . كرشد ورشد ، وعدم وعدم ) لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ ( معناه : أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط ، أي : من حق المعبود بالحق أن يدعو إلى طاعته ، ثم يدعو العباد إليها إظهاراً لدعوة ربهم وما تدعون إليه وإلى عبادته ، لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدّعي الربوبية ، ولو كان حيواناً ناطقاً لضجّ من دعائكم . وقوله : ) فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الاْخِرَةِ ( يعني أنه في الدنيا جماد لا يستطيع شيئاً من دعاء غيره ، وفي الآخرة : إذا أنشأه الله حيواناً ، تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته . وقيل : معناه ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا ولا في الآخرة . أو دعوة مستجابة ، جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة فيها كلا دعوة . أو سميت الاستجابة باسم الدعوة ، كما سمى الفعل المجازي عليه باسم الجزاء في قولهم : كما تدين تدان . قال الله تعالى : ) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء ( ( الرعد : 14 ) . ) الْمُسْرِفِينَ ( عن قتادة : المشركين . وعن مجاهد : السفاكين للدماء بغير حلها . وقيل : الذين غلب شرهم خيرهم هم المسرفون . وقرىء : ( فستذكرون ) . أي : فسيذكر بعضكم بعضاً ) وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ ( لأنهم توعدوه .
) فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِأالِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (
غافر : ( 45 - 46 ) فوقاه الله سيئات . . . . .
) فَوقَاهُ اللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ ( شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم . وقيل : نجا مع موسى ) وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ ( ما هموا به من تعذيب المسلمين ، ورجع عليهم كيدهم ) النَّارِ ( بدل من سوء العذاب . أو خبر مبتدأ محذوف ، كأن قائلاً قال : ما سوى العذاب ؟ فقيل : هو النار . أو مبتدأ خبره ) يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ( وفي

" صفحة رقم 175 "
هذا الوجه تعظيم للنار وتهويل من عذابها ، وعرضهم عليها : إحراقهم بها . يقال : عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به ، وقرىء : ( النار ) بالنصب ، وهي تعضد الوجه الأخير . وتقديره : يدخلون النار يعرضون عليها ، ويجوز أن ينتصب على الاختصاص ) غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( في هذين الوقتين يعذبون بالنار ، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم ، فأمّا أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب ، أو ينفس عنهم . ويجوز أن يكون ) غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( : عبارة عن الدوام ، هذا ما دامت الدنيا ، فإذا قامت الساعة قيل لهم : ) أَدْخِلُواْ ( يا ) فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( عذاب جهنم . وقرىء : ( أدخلوا آل فرعون ) أي : يقال لخزنة جهنم : أدخلوهم . فإن قلت : قوله : ( وحاق بآل فرعون سوء العذاب ) معناه : أنه رجع عليهم ما هموا به من المكر بالمسلمين ، كقول العرب : من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً ، فإذا فسر سوء العذاب بنار جهنم : لم يكن مكرهم راجعاً عليهم ، لأنهم لا يعذبون بجهنم . قلت : يجوز أن يهم الإنسان بأن يغرق قوماً فيحرق بالنار ، ويسمى ذلك حيقاً ؛ لأنه همّ بسوء فأصابه ما يقع عليه اسم السوء . ولا يشترط في الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه ، ويجوز أن يهمّ فرعون لما سمع إنذار المسلمين بالنار ، وقول المؤمن : ) وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ( ( غافر : 43 ) فيفعل نحو ما فعل نمرود ويعذبهم بالنار ، فحاق به مثل ما أضمرة بفعله . ويستدلّ بهذه الآية على إثبات عذاب القبر .
) وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ (
غافر : ( 47 ) وإذ يتحاجون في . . . . .
واذكر وقت يتحاجون ) تَبَعًا ( تباعاً ، كخدم في جمع خادم . أو ذوي تبع ، أي : أتباع ، أو وصفاً بالمصدر .
) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (
غافر : ( 48 ) قال الذين استكبروا . . . . .
وقرىء : ( كلا ) على التأكيد لاسم إن ، وهو معرفة ، والتنوين عوض من المضاف إليه ، يريد : إنا كلنا ، أو كلنا فيها . فإن قلت : هل يجوز أن يكون ( كلا ) حالاً قد عمل ( فيها ) فيها ؟ قلت : لا لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمة كما يعمل في الظرف متقدماً تقول كل يوم لك ثوب ولا تقول قائماً في الدار زيد ) قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ( قضى بينهم وفصل بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار .
) وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى

" صفحة رقم 176 "
ضَلَالٍ (
غافر : ( 49 ) وقال الذين في . . . . .
) لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ( للقوّام بتعذيب أهلها . فإن قلت : هلا قيل : الذين في النار لخزنتها ؟ قلت : لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعراً ، من قولهم : بئر جهنام بعيدة القعر ، وقولهم في النابغة : جهنام ، تسمية بها ، لزعمهم أنه يلقي الشعر على لسان المنتسب إليه ، فهو بعيد الغور في علمه بالشعر ، كما قال أبو نواس في خلف الأحمر : قُلَيْذَمٌ مِنَ الْعَيَالِيمِ الْخُسُفْ ;
وفيها أعنى الكفار وأطغاهم ، فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله تعالى ، فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم ) أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ ( إلزام للحجة وتوبيخ ، وأنهم خلفوا وراءهم أوقات الدعاء والتضرع ، وعطلوا الأسباب التي يستجيب الله لها الدعوات ) قَالُواْ فَادْعُواْ ( أنتم ، فإنا لا نجترىء على ذلك ولا نشفع إلاّ بشرطين : كون المشفوع له غير ظالم ، والإذن في الشفاعة مع مراعاة وقتها ، وذلك قبل الحكم الفاصل بين الفريقين ، وليس قولهم ) فَادْعُواْ ( لرجاء المنفعة ، ولكن للدلالة على الخيبة ؛ فإن الملك المقرّب إذا لم يسمع دعاؤه ، فكيف يسمع دعاء الكافر .
) إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاٌّ شْهَادُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (
غافر : ( 51 - 52 ) إنا لننصر رسلنا . . . . .
) في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ( أي : في الدنيا والآخرة ، يعني : أنه يغلبهم في الدارين جميعاً بالحجة والظفر على مخالفيهم ، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين

" صفحة رقم 177 "
امتحاناً من الله ، فالعاقبة لهم ، ويتيح الله من يقتص من أعدائهم ولو بعد حين . والأشهاد : جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، يريد : الحفظة من الملائكة والأنبياء والمؤمنين من أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( ( البقرة : 143 ) . واليوم الثاني بدل من الأوّل ، يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة ، وأنهم لو جاؤوا بمعذرة لم تكن مقبولة لقوله تعالى : ) وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( ( المرسلات : 36 ) ، ) وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ ( البعد من رحمة الله ) وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ ( أي : سوء دار الآخرة وهو عذابها . وقرىء : ( تقوم ) ، و ( لا تنفع ) بالتاء والياء .
) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ (
غافر : ( 53 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
يريد بالهدى : جميع ما آتاه في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع ) وَأَوْرَثَنَا ( وتركنا على بني إسرائيل من بعد ) الْكِتَابِ ( أي : التوراة ) هُدًى وَذِكْرَى ( إرشاداً وتذكرة ، وانتصابهما على المفعول له أو على الحال . وأولوا الألباب : المؤمنون به العاملون بما فيه .
) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالابْكَارِ (
غافر : ( 55 ) فاصبر إن وعد . . . . .
) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ( يعني أن نصرة الرسل في ضمان الله ؛ وضمان الله لا يخلف ، واستشهد بموسى وما آتاه من أسباب الهدى والنصرة على فرعون وجنوده ، وإبقاء آثار هداه في بني إسرائيل ، والله ناصرك كما نصرهم ، ومظهرك على الدين كله ، ومبلغ ملك أمّتك مشارق الأرض ومغاربها ، فاصبر على ما يجرّعك قومك من الغصص ، فإن العاقبة لك وما سبق به وعدي من نصرتك وإعلاء كلمتك حق ، وأقبل على التقوى واستدرك الفرطات بالاستغفار ؛ ودم على عبادة ربك والثناء عليه ) بِالْعَشِىّ وَالإبْكَارِ ( وقيل : هما صلاتا العصر والفجر .

" صفحة رقم 178 "
) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِىءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (
غافر : ( 56 ) إن الذين يجادلون . . . . .
) إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ( إلا تكبر وتعظم ، وهو إرادة التقدّم والرياسة ، وأن لا يكون أحد فوقهم ، ولذلك عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدّمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك ، لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة . أو إرادة أن تكون لهم النبوّة دونك حسداً وبغياً . ويدلّ عليه قوله تعالى : ) لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( ( الأحقاف : 11 ) أو إرادة دفع الآيات بالجدال ) مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ( أي : ببالغي موجب الكبر ومقتضيه ، وهو متعلق إرادتهم من الرياسة أو النبوّة أو دفع الآيات . وقيل : المجادلون هم اليهود ، وكانوا يقولون : يخرج صاحبنا المسيح بن داود ، يريدون الدّجال ، ويبلغ سلطانه البر والبحر ، وتسير معه الأنهار ، وهو آية من آيات الله فيرجع إلينا الملك ، فسمى الله تمنيهم ذلك كبراً ، ونفى أن يبلغوا متمناهم ) أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ ( فالتجيء إليه من كيد من يحسدك ويبغي عليك ) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ( لما تقول ويقولون : ) البَصِيرُ ( بما تعمل ويعملون ، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرّهم .
) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (
غافر : ( 57 ) لخلق السماوات والأرض . . . . .
فإن قلت : كيف اتصل قوله : ) لَخَلْقُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( بما قبله ؟ قلت : إن

" صفحة رقم 179 "
مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث ، وهو أصل المجادلة ومدارها ، فحجوا بخلق السماوات والأرض لأنهم كانوا مقرّين بأن الله خالقها وبأنها خلق عظيم لا يقادر قدره ، وخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين ، فمن قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر ، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله ، ) لاَّ يَعْلَمُونَ ( لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم .
) وَمَا يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِىءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ (
غافر : ( 58 ) وما يستوي الأعمى . . . . .
ضرب الأعمى والبصير مثلاً للمحسن والمسيىء . وقرىء : ( يتذكرون ) بالياء والتاء ، والتاء أعم .
) إِنَّ السَّاعَةَ لاّتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (
غافر : ( 59 ) إن الساعة لآتية . . . . .
) لاَ رَيْبَ فِيهَا ( لا بد من مجيئها ولا محالة ، وليس بمرتاب فيها ، لأنه لا بد من جزاء ) لاَ يُؤْمِنُونَ ( لا يصدقون بها .
) وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (
غافر : ( 60 ) وقال ربكم ادعوني . . . . .
) ادْعُونِى ( اعبدوني ، والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ) إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى ( والاستجابة : الإثابة ؛ وفي تفسير مجاهد : اعبدوني أثبكم . وعن الحسن وقد سئل عنها : اعملوا وأبشروا ، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله . وعن الثوري أنه قيل له : ادع الله ، فقال : إن ترك الذنوب هو الدعاء . وفي الحديث :
( 982 ) ( إذا شغل عبدي طاعتي عن الدعاء ، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين )

" صفحة رقم 180 "
وروى النعمان بن بشير رضي الله عنه ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الدعاء هو العبادة ) وقرأ هذه الآية . ويجوز أن يريد الدعاء والاستجابة على ظاهرهما ، ويريد بعبادتي : دعائي ، لأن الدعاء باب من العبادة ومن أفضل أبوابها ، يصدقه قول ابن عباس رضي الله عنهما : أفضل العبادة الدعاء . وعن كعب : أعطى الله هذه الأمة ثلاث خلال لم يعطهن إلاّ نبياً مرسلاً : كان يقول لكل نبيّ أنت شاهدي على خلقي وقال لهذه الأمة : ) لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( ( البقرة : 143 ) ؛ وكان يقول : ما عليك من حرج ، وقال لنا : ) مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ ( ( المائدة : 6 ) وكان يقول : أدعني أستجب لك ؛ وقال لنا : ) ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( . وعن ابن عباس : وحدوني أغفر لكن ، وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ، ثم للعبادة بالتوحيد ) داخِرِينَ ( صاغرين .
) اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (
غافر : ( 61 ) الله الذي جعل . . . . .
) مُبْصِراً ( من الإسناد المجازي ، لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار . فإن قلت : لم قرن الليل بالمفعول له . والنهار بالحال ؟ وهلا كانا حالين أو مفعولاً لهما فيراعي حق المقابلة ؟ قلت : هما متقابلان من حيث المعنى ، لأن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر ، لأنه لو قيل : لتبصروا فيه ، فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازي ، ولو قيل : ساكناً والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة ، ألا ترى إلى قولهم : ليل

" صفحة رقم 181 "
ساج ، وساكن لا ريح فيه لم تتميز الحقيقة من المجاز . فإن قلت : فهلا قيل : لمفضل ، أو لمتفضل ؟ قلت : لأن الغرض تنكير الفضل ، وأن يجعل فضلاً لا يوازيه فضل ، وذلك إنما يستوي بالإضافة . فإن قلت : فلو قيل : ولكن أكثرهم ، فلا يتكرر ذكر الناس ؟ قلت : في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم ، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه ، كقوله : ) إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ( ( الزخرف : 15 ) ) إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ ( ( العاديات : 6 ) ، ) إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( ( إبراهيم : 34 ) .
) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (
غافر : ( 62 ) ذلكم الله ربكم . . . . .
) ذَلِكُمُ ( المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو ) اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلّ شَىْء لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ ( أخبار مترادفة ، أي : هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلاهية والربوبية وخلق كل شيء ، وإنشائه لا يمتنع عليه شيء ، والوحدانية : لا ثاني له ) فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( فكيف ومن أي : وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان . ثم ذكر أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همه طلب الحق وخشية العاقبة : أفك كما أفكوا . وقرىء : ( خالق كل شيء ) نصباً على الاختصاص . وتؤفكون : بالتاء والياء .
) اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ رْضَ قَرَاراً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَىُّ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (
غافر : ( 64 ) الله الذي جعل . . . . .
هذه أيضاً دلالة أخرى على تمييزه بأفعال خاصة ، وهي أنه جعل الأرض مستقراً ) وَالسَّمَاء بِنَاء ( أي : قبة . ومنه : أبنية العرب لمضاربهم ؛ لأن السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض ) فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ( وقرىء : بكسر الصاد والمعنى واحد . قيل : لم يخلق حيواناً أحسن صورة من الإنسان . وقيل : لم يخلقهم منكوسين كالبهائم ، كقوله تعالى : ) فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( ( التين : 4 ) ) فَادْعُوهُ ( فاعبدوه ) مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( أي : الطاعة من الشرك والرياء ، قائلين : ) الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قال : لا إلاه إلاّ الله ، فليقل على أثرها : الحمد لله رب العالمين .
) قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَآءَنِى الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّى وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 7 )
غافر : ( 66 ) قل إني نهيت . . . . .

" صفحة رقم 182 "
82
فإن قلت : أما نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن عبادة الأوثان بأدلة العقل حتى جاءته البينات من ربه ؟ قلت : بلى ولكن البينات لما كانت مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومضمنة ذكرها نحو قوله تعالى : ) أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ( ( الصافات : 95 96 ) وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل كان ذكر البينات ذكراً لأدلة العقل والسمع جميعاً ، وإنما ذكر ما يدلّ على الأمرين جميعاً ؛ لأن ذكر تناصر الأدلة العقل وأدلة السمع أقوى في إبطال مذهبهم وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية .
) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (
غافر : ( 67 ) هو الذي خلقكم . . . . .
) لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ( متعلق بفعل محذوف تقديره : ثم يبقيكم لتبلغوا . وكذلك لتكونوا . وأما ) وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى ( فمعناه : ونفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى ، وهو وقت الموت . وقيل : يوم القيامة . وقرىء : ( شيوخاً ) بكسر الشين . وشيخاً ، على التوحيد ، كقوله : ) طِفْلاً ( ( الحج : 5 ) والمعنى : كل واحد منكم . أو اقتصر على الواحد ؛ لأنّ الغرض بيان الجنس ) مِن قَبْلُ ( من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا ) وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ما في ذلك في العبر والحجج .
) هُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ (
غافر : ( 68 ) هو الذي يحيي . . . . .
) فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا ( يكوّنه من غير كلفة ولا معاناة . جعل هذا نتيجة من قدرته

" صفحة رقم 183 "
على الإحياء والإماتة ، وسائر ما ذكر من أفعاله الدالة على أنّ مقدوراً لا يمتنع عليه ، كأنه قال : فلذلك من الاقتدار إذا قضى أمراً كان أهون شيء وأسرعه .
) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِىءَايَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاٌّ غْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الاٌّ رْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (
غافر : ( 69 - 76 ) ألم تر إلى . . . . .
) بِالْكِتَابِ ( بالقرآن ) وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ( من الكتب . فإن قلت : وهل قوله : ) فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ ( إلى مثل قولك : سوف أصوم أمس ؟ قلت : المعنى على إذا : إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوعاً بها : عبر عنها بلفظ ما كان ووجد ، والمعنى على الاستقبال . وعن ابن عباس : والسلاسل يسحبون بالنصب وفتح الياء ، على عطف الجملة الفعلية على الإسمية . وعنه : والسلاسل يسحبون بحر السلاسل . ووجهه أنه لو قيل : إذا أعناقهم في الأغلال مكان قوله : ) إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ ( لكان صحيحاً مستقيماً ، فلما كانتا عبارتين معتقبتين : حمل قوله : ) والسَّلَاسِلُ ( على العبارة الأخرى . ونظيره : مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَة
وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
كأنه قيل : بمصلحين . وقرىء : ( وبالسلاسل يسحبون ) ) فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ ( من سجر التنور إذا ملأه بالوقود . ومنه : السجير ، كأنه سجر بالحب ، أي : ملىء . ومعناه : أنهم في النار فهي محيطة بهم ، وهم مسجورون بالنار مملوؤة بها أجوافهم . ومنه قوله تعالى : ) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاْفْئِدَةِ ( ( الهمزة : 7 ) اللهم أجرنا من نارك فإنا عائذون بجوارك ) ضَلُّواْ عَنَّا ( غابوا عن عيوننا ، فلا نراهم ولا ننتفع بهم . فإن قلت : أما ذكرت في تفسير قوله تعالى : ) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( ( الأنبياء : 98 ) : أنهم مقرونون بآلهتهم ، فكيف يكونون معهم وقد ضلوا عنهم ؟ قلت : يجوز أن يضلوا عنهم إذا وبخوا وقيل لهم : أينما كنتم تشركون من دون الله فيغيثوكم

" صفحة رقم 184 "
ويشفعوا لكم ، وأن يكونوا معهم في سائر الأوقات ، وأن يكونوا معهم في جميع أوقاتهم ؛ إلا أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم ضالون عنهم ) بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً ( أي : تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئاً ، وما كان نعبد بعبادتهم شيئاً كما تقول : حسبت أنّ فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيراً ) كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ( مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم . ، حتى لو طلبوا الآلهة وأو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا ) مِن ( الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح ) بِغَيْرِ الْحَقّ ( وهو الشرك وعبادة الأوثان ) ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ ( السبعة المقسومة لكم . قال الله تعالى : ) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ ( ( الحجر : 44 ) . ) خَالِدِينَ ( مقدّرين لخلود ) فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ ( عن الحق المستخفين به مثواكم أو جهنم . فإن قلت : أليس قياس النظم أن يقال : فبئس مدخل المتكبرين ، كما تقول : زر بيت الله فنعم المزار ، وصل في المسجد الحرام فنعم المصلى ؟ قلت : الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء .
) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (
غافر : ( 77 ) فاصبر إن وعد . . . . .
) فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ ( أصله : فإن نرك . و ( ما ) مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، ولذلك ألحقت النون بالفعل ألا تراك لا تقول : إن تكرمني أكرمك ، ولكن : إما تكرمني أكرمك . فإن قلت : لا يخلو إما أن تعطف ) أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ( على نرينك وتشركهما في جزاء واحد وهو قوله تعالى : ) فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( فقولك : فإمّانرينك بعض الذي نعدهم فإلينا يرجعون : غير صحيح ، وإن جعلت ) فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( مختصاً بالمعطوف الذي هو نتوفينك ، في المعطوف عليه بغير جزاء . قلت : ) فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( متعلق بنتوفينك ،

" صفحة رقم 185 "
وجزاء ) نُرِيَنَّكَ ( محذوف ، تقديره : فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل والأسر يوم بدر فذاك . أو أن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم منهم أشدّ الانتقام ونحوه قوله تعالى : ) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْتَّهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ ( ( الزخرف : 41 42 ) .
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِأايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِىَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (
غافر : ( 78 ) ولقد أرسلنا رسلا . . . . .
) وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ( قيل : بعث الله ثمانية آلاف نبيّ : أربعة آلاف من بني إسرائيل ، وأربعة آلاف من سائر الناس . وعن عليّ رضي الله عنه : أنّ الله تعالى بعث نبياً أسود ، فهو ممن لم يقصص عليه . وهذا في اقتراحهم الآيات على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عناداً ، يعني : إنا قد أرسلنا كثيراً من الرسل وما كان لواحد منهم ) وَيَجْعَلُ ( فمن لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إلاّ إن يشاء الله ويأذن في الإتيان بها ) فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ ( وعيد وردّ عقيب اقتراح الآيات . وأمر الله : القيامة ) الْمُبْطِلُونَ ( هم المعاندون الذين اقترحوا الآيات وقد اتتهم الآيات فأنكروها وسموها سحراً .
) اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ نْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَأَىَّ ءَايَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ (
غافر : ( 79 ) الله الذي جعل . . . . .
الأنعام : الإبل خاصة . فإن قلت : لم قال : ) لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا ( ولتبلغوا عليها ،

" صفحة رقم 186 "
ولم يقل ، لتأكلوا منها ، ولتصلوا إلى منافع ؟ أو هلا قال : منها تركبون ومنها تأكلون وتبلغون عليها حاجة في صدوركم ؟ قلت : في الركوب : الركوب في الحج والغزو ، وفي بلوغ الحاجة : الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم ، وهذه أغراض دينية إمّا واجبة أو مندوب إليها مما يتعلق به إرادة الحكيم . وأما الأكل وإصابة المنافع : فمن جنس المباح الذي لا يتعلق به إرادته ، ومعنى قوله : ) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( وعلى الأنعام وحدها لا تحملون ، ولكن عليها وعلى الفلك في البر والبحر . فإن قلت : هلا قيل : وفي الفلك ، كما قال : ) قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ( ؟ ( هود : 40 ) قلت : معنى الإيعاء ومعنى الاستعلاء : كلاهما مستقيم ؛ لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها ، فلما صحّ المعنيان صحت العبارتان . وأيضاً فليطابق قوله : ( وعليها ) ويزاوجه ) وَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ فَأَىَّ ( جاءت على اللغة المستفيضة . وقولك : فأية آيات الله قليل ، لأنّ التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب . وهي في ( أي ) أغرب لإبهامه .
) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِى الاٌّ رْضِ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (
غافر : ( 82 ) أفلم يسيروا في . . . . .
) وَءاثَاراً ( قصورهم ومصانعهم . وقيل : مشيهم بأرجلهم لعظم أجرامهم ) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ( ما نافية أو مضمنة معنى الاستفهام ، ومحلها النصب ، والثانية : موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع ، يعني أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم ) فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ الْعِلْمِ ( فيه وجوه : منها أنه أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى : ) بَلِ ادرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاْخِرَةِ ( ( النمل : 66 ) : وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون : لا

" صفحة رقم 187 "
نبعث ولا نعذب ، ) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( ( فصلت : 50 ) ، ) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً ( ( الكهف : 36 ) وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء ، كما قال عزّ وجلّ : ) كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( ( الروم : 32 ) ومنها : أن يريد علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان ، وكانوا إذ سمعوا بوحي الله : دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم . وعن سقراط : أنه سمع بموسى صلوات الله عليه وسلامه ، وقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا . ومنها : أن يوضع قوله ) فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ الْعِلْمِ ( ( غافر : 83 ) ولا علم عندهم البتة ، موضع قوله : يفرحوا بما جاءهم من العلم ، مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة ، مع تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلماء . ومنها أن يراد : فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به ، كأنه قال : استهزؤوا بالبينات وبما جاؤوا به من علم الوحي فرحين مرحين . ويدلّ عليه قوله تعالى : ) وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ ( ومنها : أن يجعل الفرح للرسل . ومعناه : أن الرسل لما رأوا جهلهم المتمادي واستهزائهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم : فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه . وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم . ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم : علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال تعالى : ) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاْخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ( ( الروم : 7 ) ، ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ ( ( النجم : 30 ) فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به .
) فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (
غافر : ( 84 ) فلما رأوا بأسنا . . . . .
البأس : شدّة العذاب . ومنه قوله تعالى : ) بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ( ( الأعراف : 165 ) . فإن قلت : أي فرق بين قوله تعالى : ) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ ( وبينه لو قيل : فلم ينفعهم

" صفحة رقم 188 "
إيمانهم ؟ قلت : هو من كان في نحو قوله : ) مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( ( مريم : 35 ) والمعنى : فلم يصحّ ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم . فإن قلت : كيف ترادفت هذه الفاءات ؟ قلت : أما قوله تعالى : ) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ( ( غافر : 82 ) فهو نتيجة قوله : ) كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ ( ( غافر : 82 ) وأما قوله : ) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ ( ( غافر : 83 ) فجار مجرى البيان والتفسير ، لقوله تعالى : ) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ( ( غافر : 82 ) كقولك : رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء . وقوله : ) لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( تابع لقوله : ) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ( ( غافر : 83 ) كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا ، وكذلك : ) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ ( تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله ) سُنَّةَ اللَّهِ ( بمنزلة ) وَعَدَ اللَّهُ ( ( النساء : 95 ) وما أشبهه من المصادر المؤكدة . و ) هُنَالِكَ ( مكان مستعار للزمان ، أي : وخسروا وقت رؤية البأس ، وكذلك قوله : ) وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ( ( غافر : 78 ) بعد قوله : ) فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِىَ بِالْحَقّ ( ( غافر : 78 ) أي : وخسروا وقت مجيء أمر الله ، أو وقت القضاء بالحق .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 984 ) ( من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلاّ صلّى عليه واستغفر له ) .

" صفحة رقم 189 "
( سورة فصلت )
، وتسمى السجدة
مكية ، وآياتها 54 ، وقيل : 53 آية
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (
فصلت : ( 1 ) حم
إن جعلت ) حم ( اسماً للسورة كانت في موضع المبتدأ . و ) تَنزِيلَ ( خبره . وإن جعلتها تعديداً للحروف وكان ) تَنزِيلَ ( خبراً لمبتدأ محذوف و ) كِتَابٌ ( بدل من تنزيل . أو خبر بعد خبر . أو خبر مبتدأ محذوف ، وجوّز الزجاج أن يكون ) تَنزِيلَ ( مبتدأ ، و ) كِتَابٌ ( خبره . ووجهه أن تنزيلاً تخصص بالصفة فساغ وقوعه مبتدأ ) فُصّلَتْ ءايَاتُهُ ( ميزت تفاصيل في معان مختلفة : من أحكام وأمثال ومواعظ ، ووعد ووعيد ، وغير ذلك ، وقرىء : ( فصلت ) ، أي : فرقت بين الحق والباطل . أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها ، من قولك : فصل من البلد ) قُرْءاناً عَرَبِيّاً ( نصب على الاختصاص والمدح ، أي : أريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت . وقيل : هو نصب على الحال ، أي : فصلت آياته في حال كونه قرآناً عربياً ) لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( أي : لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي المبين ، لا يلتبس عليهم شيء منه . فإن قلت : بم يتعلق قوله : ) لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ؟ قلت : يجوز أن يتعلق بتنزيل أو بفصلت ، أي : تنزيل من الله لأجلهم . أو فصلت آياته لهم . والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده ، أي قرآناً عربياً كائناً لقوم عرب ، لئلا يفرق بين الصلاة والصفات . وقرىء : ( بشير ونذير ) صفة للكتاب . أو خبر مبتدأ محذوف ) فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( لا يقبلون ولا يطيعون ، ومن قولك : تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي ، ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه ، فكأنه لم يسمعه .
) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِىءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ

" صفحة رقم 190 "
إِنَّنَا عَامِلُونَ (
فصلت : ( 5 ) وقالوا قلوبنا في . . . . .
والأكنة : جمع كنان . وهو الغطاء ( الوقر ) بالفتح الثقل . وقرىء : بالكسر . وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده ، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها ، كقوله تعالى : ) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ( ( البقرة : 88 ) ومج أسماعهم له كأن بها صمماً عنه ، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وما هم عليه ، وبين رسول الله وما هو عليه : حجاباً ساتراً وحاجزاً منيعاً من جبل أو نحوه ، فلا تلاقي ولا ترائي ) فَاعْمَلْ ( على دينك ) إِنَّنَا عَامِلُونَ ( على ديننا ، أو فاعمل في إبطال أمرنا ، إننا عاملون في إبطال أمرك . وقرىء : ( إنا عاملون ) فإن قلت : هل لزيادة ( من ) في قوله : ) وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فائدة ؟ قلت : نعم ، لأنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب : لكان المعنى : أن حجاباً حاصل

" صفحة رقم 191 "
وسط الجهتين ، وأما بزيادة ( من ) فالمعنى : أن حجاباً ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها . فإن قلت : هلا قيل : على قلوبنا أكنة ، كما قيل : وفي آذاننا وقر ؛ ليكون الكلام على نمط واحد ؟ قلت : هو على نمط واحد ؛ لأنه لا فرق في المعنى بين قولك : قلوبنا في أكنة . وعلى قلوبنا أكنة . والدليل عليه قوله تعالى : ) إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ( ولو قيل : إنا جعلنا قلوبهم في أكنة : لم يختلف المعنى ، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلاّ في المعاني .
) قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُمْ بِالاٌّ خِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (
فصلت : ( 6 ) قل إنما أنا . . . . .
فإن قلت : من أين كان قوله : ) إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ ( جواباً لقولهم : ) قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ ( ؟ قلت : من حيث أنه قال لهم : إني لست بملك ، وإنما أنا بشر مثلكم ، وقد أوحي إليَّ دونكم فصحت بالوحي إليّ وأنا بشر نبوّتي ، وإذا صحت نبوّتي : وجب عليكم اتباعي ، وفيما يوحى إليَّ : أن إلاهكم إلاه واحد ) فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ ( فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يميناً وشمالاً ، ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء ، وتوبوا إليه مما سبق لكم من الشرك ) وَاسْتَغْفِرُوهُ ( . وقرىء : ( قال إنما أنا بشر ) . فإن قلت : لم خصّ من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة ، قلت : لأن أحبّ شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه ، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته . ألا ترى إلى قوله عزّ وجلّ : ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتَ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ ( ( البقرة : 265 ) أي : يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال ، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا فقرّت عصبيتهم ولانت شكيمتهم وأهل الردّة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما تظاهروا إلاّ بمنع الزكاة ، فنصبت لهم

" صفحة رقم 192 "
الحرب ، وجوهدوا . وفيه بعث المؤمنين على أداء الزكاة ، وتخويف شديد من منعها ، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين ، وقرن بالكفر بالآخرة . وقيل : كانت قريش يطمعون الحاج ، ويحرمون من آمن منهم برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وقيل : لا يفعلون ما يكونون به أزكياء ، وهو الإيمان .
) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (
فصلت : ( 8 ) إن الذين آمنوا . . . . .
الممنون : المقطوع . وقيل : لا يمنّ عليهم لأنه إنما يمن التفضل . فأما الأجر فحقّ أداؤه . وقيل : نزلت في المرضى والزمنى والهرمى : إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر ، كأصحّ ما كانوا يعملون .
) قُلْ أَءِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاٌّ رْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاٌّ رْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (
فصلت : ( 9 ) قل أئنكم لتكفرون . . . . .
) أَئِنَّكُمْ ( بهمزتين : الثانية بين بين . و ( ءائنكم ) بألف وبين همزتين ) ذَلِكَ ( الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين . وهو ) رَبُّ الْعَالَمِينَ ( . . . ( جبالاً ثوابت . فإن قلت : ما معنى قوله : ) ( جبالاً ثوابت . فإن قلت : ما معنى قوله : ) مّن فَوْقِهَا ( وهل اختصر على قوله : ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ ( كقوله تعالى : ) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ ( ( المرسلات : 27 ) ، ) وَجَعَلْنَا فِى الاْرْضِ رَوَاسِىَ ( ( الأنبياء : 31 ) ، ) وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ ( ( النمل : 61 ) ؟ قلت : لو كانت تحتها كالأساطين لها تستقر عليها ، أو مركوزة فيها كالمسامير : لمنعت من الميدان أيضاً ، وإنما اختار إرساءها فوق الأرض ، لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها ، حاضرة لمحصليها ، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال ، كلها مفتقرة إلى ممسك لا بد لها منه ، وهو ممسكها عزّ وعلا بقدرته ) وَبَارَكَ فِيهَا ( وأكثر خيرها وأنماه ) وَقَدَّرَ فِيهَا

" صفحة رقم 193 "
أَقْواتَهَا ( أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم . وفي قراءة ابن مسعود . وقسم فيها أقواتها ) فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء ( فذلكة لمدة خلق الله الأرض وما فيها ، كأنه قال : كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان . قيل : خلق الله الأرض في يوم الأحد ويوم الإثنين ، وما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء . وقال الزجاج : في أربعة أيام في تتمة أربعة أيام ، يريد بالتتمة اليومين . وقرىء : ( سواء ) بالحركات الثلاث : الجر على الوصف والنصب على : استوت سواء ، أي : استواء : الرفع على : هي سواء . فإن قلت : بم تعلق قوله ) لّلسَّائِلِينَ ( ؟ قلت : بمحذوف ، كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها ؟ أو يقدر : أي : قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين . وهذا الوجه الأخير لا يستقيم إلا على تفسير الزجاج . فإن قلت : هلا قيل في يومين ؟ وأي فائدة في هذه الفذلكة ؟ قلت : إذا قال في أربعة أيام وقد ذكر أن الأرض خلقت في يومين ، علم أن ما فيها خلق في يومين ، فبقيت المخايرة بين أن تقول في يومين وأن تقول في أربعة أيام سواء ، فكانت في أربعة أيام سواء فائدة ليست في يومين ، وهي الدلالة على أنها كانت أياماً كاملة بغير زيادة ولا نقصان . ولو قال : في يومين وقد يطلق اليومان على أكثرهما لكان يجوز أن يريد باليومين الأولين والآخرين أكثرهما ) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ( من قولك : استوى إلى مكان كذا ، إذا توجه إليه توجهاً لا يلوي على شيء ، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ، ونحوه قولهم : استقام إليه

" صفحة رقم 194 "
وامتد إليه . ومنه قوله تعالى : ) فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ ( ( فصلت : 6 ) والمعنى : ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك . قيل : كان عرشه قبل خلق السماوات والأرض على الماء ، فأخرج من الماء دخاناً ، فارتفع فوق الماء وعلا عليه ، فأيبس الماء فجعله أرضاً واحدة ، ثم فتقها فجعلها أرضين ، ثم خلق السماء من الدخان المرتفع . ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما : أنه أراد تكوينهما فلما يمتنعا عليه ، ووجدتا كما أرادهما ، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الأمر المطاع ، وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل . ويجوز أن يكون تخييلاً ويبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما : ائتيا شئتما ذلك أو أبيتماه ، فقالتا : أتينا على الطوع لا على الكره . والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير ؛ من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب . ونحوه قول القائل : قال الجدار للوتد : لم تشقني ؟ قال الوتد : اسأل من يدقني ، فلم يتركني ، ورائي الحجر الذي ورائي . فإن قلت : لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان ، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين ؟ قلت : قد خلق جرم الأرض أو لا غير مدحوّة ، ثم دحاها بعد خلق السماء ، كما قال تعالى : ) وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ( ( النازعات : 30 ) فالمعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف : ائتي يا أرض مدحوّة قراراً ومهاداً لأهلك ، وائتي يا سماء مقببة سقفاً لهم . ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع ، كما تقول : أتى عمله مرضياً ، وجاء مقبولاً . ويجوز أن يكون المعنى : لتأت كل واحدة منكما صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة والتدبير : من كون الأرض قراراً للسماء ، وكون السماء سقفاً للأرض . وتنصره قراءة من قرأ : ( آتيا ) وآتينا : من المؤاتاة وهي الموافقة : أي : لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها . قالتا : واقفنا وساعدنا . ويحتمل وافقاً أمري ومشيئتي ولا تمتنعا . فإن قلت : ما معنى طوعاً أو كرهاً ؟ قلت : هو مثل للزوم وتأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال ؛ كما يقول الجبار لمن تحت

" صفحة رقم 195 "
يده : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً . وانتصابهما على الحال ، بمعنى : طائعتين أو مكرهتين . فإن قلت : هلا قيل : طائعتين على اللفظ ؟ أو طائعات على المعنى ؟ لأنها سماوات وأرضون . قلت : لما جعلن مخاطبات ومجيبات ، ووصفن بالطوع والكره قيل : طائعين ، في موضع : طائعات . نحو قوله : ( ساجدين ) . ) فَقَضَاهُنَّ ( يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى السماء على المعنى كما قال : ) طَائِعِينَ ( ونحوه : ) أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( ( الحاقة : 7 ) ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بسبع سموات ، والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال ، والثاني : على التمييز ، قيل : خلق الله

" صفحة رقم 196 "
السماوات وما فيها في يومين : في يوم الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة . وفي هذا دليل على ما ذكرت ، من أنه لو قيل : في يومين في موضع أربعة أيام سواء ، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو ناقصان . فإن قلت : فلو قيل : خلق الأرض في يومين كاملين وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين . أو قيل : بعد ذكر اليومين : تلك أربعة سواء ؟ قلت : الذي أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقاً لما عليه التنزيل من مغاصاة القرائح ومصاك الركب ، ليتميز الفاضل من الناقص ، والمتقدم من الناكص ، وترتفع الدرجات ، ويتضاعف الثواب ، ) أَمْرِهَا ( ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك . أو شأنها وما يصلحها ) وَحِفْظاً ( وحفظناها حفظاً ، يعني من المسترقة بالثواقب . ويجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى ، كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة وحفظاً .
) فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لاّنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (
فصلت : ( 13 ) فإن أعرضوا فقل . . . . .
) فَإِنْ أَعْرَضُواْ ( بعد ما تتلو عليهم من هذه الحجج على وحدانيته وقدرته ، فحذرهم أن تصيبهم صاعقة ، أي : عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة . وقرىء : ( صعقة ) ( مثل ) صعقة عاد وثمود : وهي المرة من الصعق أو الصعق . يقال : صعقته الصاعقة صعقاً فصعق صعقاً ، وهو من باب : فعلته ففعل ) مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ( أي : أتوهم من كل جانب ، واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلاّ العتوّ والإعراض ، كما حكى الله تعالى عن الشيطان : ) لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ( ( الأعراف : 17 ) يعني لآتينهم من كل جهة ، ولأعملن فيهم كل حيلة ، وتقول : استدرت بفلان من كل جانب ، فلم يكن لي فيه حيلة . وعن الحسن أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة ؛ لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار ، ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم . وقيل : معناه إذا جاءتهم الرسل من قبلهم ومن بعدهم . فإن قلت : الرسل الذين من قبلهم ومن بعدهم كيف يوصفون بأنهم جاؤهم ، وكيف يخاطبونهم بقولهم : ( إنا بما أرسلتم به كافرون ) ؟ قلت : قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم ،

" صفحة رقم 197 "
أي : من قبلهم وممن يجيء من خلفهم ، أي : من بعدهم ؛ فكان الرسل جميعاً قد جاؤهم . وقولهم : ( إنا بما أرسلتم به كافرون ) خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم . أن في ) أَلاَّ تَعْبُدُواْ ( بمعنى أي ، أو مخففة من الثقيلة ، أصله : بأنه لا تعبدوا ، أي : بأنّ الشأن والحديث قولنا لكم : لا تعبدوا ، ومفعول شاء محذوف أي : ) لَوْ شَاء رَبُّنَا ( إرسال الرسل ) لاَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( معناه : فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة ، فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به ، وقولهم : ) أُرْسِلْتُمْ بِهِ ( ليس بإقرار بالإرسال ، وإنما هو على كلام الرسل ، وفيه تهكم ، كما قال فرعون : ) إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( ( الشعراء : 27 ) . روى أنّ أبا جهل قال في ملأ من قريش : قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علماً ، وما يخفى عليّ ، فأتاه فقال : أنت يا محمد خير أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ فبم تشتم آلهتنا وتضلّلنا ، فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا ، وإن تك بك الباءة زوّجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت ، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ساكت ؛ فلما فرغ قال : بسم الله الرحمن الرحيم ) حم ( إلى قوله : ) صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ( ( فصلت : 13 ) فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عتبة إلاّ قد صبأ ، فانطلقوا إليه وقالوا : يا عتبة ما حبسك عنا إلاّ أنك قد صبأت ، فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً ثم قال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء من الله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، ولما بلغ صاعقة عاد وثمود : أمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب .

" صفحة رقم 198 "
) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاٌّ رْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِأايَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ (
فصلت : ( 15 - 16 ) فأما عاد فاستكبروا . . . . .
) فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاْرْضِ ( أي : تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم وهو القوّة وعظم الإجرام . أو استعلوا في الأرض واستولوا على أهلها بغير استحقاق للولاية ) مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ( كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم ، وبلغ من قوّتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل فيقتلعها بيده . فإن قلت : القوّة هي الشدّة والصلابة في البنية ، وهي نقيضة الضعف . وأما القدرة فما لأجله يصحّ الفعل من الفاعل من تميز بذات أو بصحة بنيه وهي نقيضة العجز والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالقوّة إلاّ على معنى القدرة ، فكيف صحّ قوله : ) هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ( وإنما يصحّ إذا أريد بالقوّة في الموضعين شيء واحد ؟ قلت : القدرة في الإنسان هي صحة البنية والاعتدال والقوّة والشدّة والصلابة في البنية ، وحقيقتها : زيادة القدرة ، فكما صحّ أن يقال : الله أقدر منهم ، جاز أن يقال : أقوى منهم ، على معنى : أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرهم ) يَجْحَدُونَ ( كانوا يعرفون أنها حق ، ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع

" صفحة رقم 199 "
الوديعة ، وهو معطوف على فاستكبروا ، أي : كانوا كفرة فسقة . الصرصر : العاصفة التي تصرصر ، أي : تضوّت في هبوبها . وقيل : الباردة التي تحرق بشدّة بردها ، تكرير لبناء الصر وهو البرد الذي يصر أي : يجمع ويقبض ( نحسات ) قرىء بكسر الحاء وسكونها . ونحس نحساً : نقيض سعد سعداً ، وهو نحس . وأما نحس ، فإمّا مخفف نحس ، أو صفة على فعل ، كالضخم وشبهه . أو وصف بمصدر . وقرىء : ( لنذيقهم ) على أنّ الإذاقة للريح أو للأيام النحسات . وأضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل والاستكانة على أنه وصف للعذاب ، كأنه قال : عذاب خزي ، كما تقول : فعل السوء ، تريد : الفعل السيىء ، والدليل عليه قوله تعالى : ) وَلَعَذَابُ الاْخِرَةِ أَخْزَى ( وهو من الإسناد المجازي ، ووصف العذاب بالخزي : أبلغ من وصفهم به . ألا ترى إلى البون بين قوليك : هو شاعر ، وله شعر شاعر .
) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ (
فصلت : ( 17 ) وأما ثمود فهديناهم . . . . .
وقرىء : ( ثمود ) بالرفع والنصب منوّناً وغير متنون ، والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء . وقرىء بضم الثاء ) فَهَدَيْنَاهُمْ ( فدللناهم على طريقي الضلالة والرشد ، كقوله تعالى : ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( ( البلد : 10 ) . ) فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ( فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد . فإن قلت : أليس معنى هديته : حصلت فيه

" صفحة رقم 200 "
الهدى ، والدليل عليه قولك : هديته فاهتدى ، بمعنى : تحصيل البغية وحصولها ، كما تقول : ردعته فارتدع ، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجرّدة ؟ قلت : للدلالة على أنه مكنهم وأزاح عللهم ولم يُبق له عذراً ولا علة ، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها ) صَاعِقَةُ الْعَذَابِ ( داهية العذاب وقارعة العذاب . و ) الْهُونِ ( الهوان ، وصف به العذاب مبالغة ، أو أبدله منه ، ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها ( صلى الله عليه وسلم ) وكفى به شاهداً إلاّ هذه الآية ، لكفى بها حجة .
) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (
فصلت : ( 19 ) ويوم يحشر أعداء . . . . .
قرىء : ( يحشر ) على البناء للمفعول . ونحشر بالنون وضم الشين وكسرها ، ويحشر : على البناء للفاعل ، أيّ : يحشر الله عزّ وجلّ ) أَعْدَاء اللَّهِ ( الكفار من الأوّلين والآخرين ) يُوزَعُونَ ( أي : يحبس أوّلهم على آخرهم ، أي : يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم ، وهي عبارة عن كثرة أهل النار ، نسأل الله أن يجيرنا منها بسعة رحمته ؛ فإن قلت : ( ما ) في قوله : ) حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا ( ما هي ؟ قلت : مزيدة للتأكيد ، ومعنى التأكيد فيها : أنّ وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ، ولا وجه لأن يخلو منها . ومثله قوله تعالى : ) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ ( ( يونس : 51 ) أي : لا بدّ لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به شهادة الجلود بالملامسة للحرام ، وما أشبه ذلك مما يفضي إليها من المحرّمات . فإن قلت : كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق ؟ قلت : الله عزّ وجلّ ينطقها كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاماً . وقيل : المراد بالجلود :

" صفحة رقم 201 "
الجوارح . وقيل : هي كناية عن الفروج ، أراد بكل شيء : كل شيء ، من الحيوان ، كما أراد به في قوله تعالى : ) وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ( ( البقرة : 284 ) كل شيء من المقدورات ، والمعنى : أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان ، وعلى خلقكم وإنشائكم اوّل مرّة ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه إنما قالوا لهم : ) لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ( لما تعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم .
) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِينَ (
فصلت : ( 22 ) وما كنتم تستترون . . . . .
والمعنى : أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش ، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم ؛ لأنكم كنتم غير عاملين بشهادتها عليكم ، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلاً ، ولكنكم إنما استترتم لظنكم ) أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا ( كنتم ) تَعْمَلُونَ ( وهو الخفيات من أعمالكم ، وذلك الظنّ هو الذي أهلككم . وفي هذا تنبيه على أن من حق المؤمن أن لا يذهب عنه ، ولا يزل عن ذهنه أن عليه من الله عيناً كالئة ورقيباً مهيمناً ، حتى يكون في أوقات خلواته من ربه أهيب وأحسن احتشاماً وأوفر تحفظاً وتصوناً منه مع الملأ ، ولا يتبسط في سره مراقبة من التشبه بهؤلاء الظانين . وقرىء : ( ولكن زعمتم ) ) وَذَلِكُمْ ( رفع بالابتداء ، و ) ظَنُّكُمُ ( و ) أَرْدَاكُمْ ( خبران ، ويجوز أن يكون ) ظَنُّكُمُ ( بدلاً من ) وَذَلِكُمْ ( و ) أرادكم ( الخبر .
) فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ (
فصلت : ( 24 ) فإن يصبروا فالنار . . . . .
) فَإِن يَصْبِرُواْ ( لم ينفعهم الصبر ، ولم ينفكوا به من الثواء في النار ، ) وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ ( وإن يسألوا العتبى وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعاً مما هم فيه : لم يعتبوا : لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها ، ونحوه قوله عزّ وعلا : ) أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ( ( إبراهيم : 21 ) وقرىء : ( وإن يستعتبوا ) فما هم من المعتبين ) أي : إن

" صفحة رقم 202 "
سئلوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون ، أي : لا سبيل لهم إلى ذلك ) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ ( وقدّرنا لهم ، يعني لمشركي مكة : يقال : هذان ثوبان قيضان : إذا كانا متكافئين . والمقايضة : المعاوضة ) قُرَنَاء ( أخداناً من الشياطين جمع قرين ، كقوله تعالى : ) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( ( الزخرف : 36 ) فإن قلت : كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم ؟ قلت : معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر ، فلم يبق لهم قرناء سوء الشياطين . والدليل عليه ( ومن يعش ) ) نُقَيّضْ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ( ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليها . أو بين أيديهم من أمر الدنيا واتباع الشهوات ، وما خلفهم : من أمر العاقبة ، وأن لا بعث ولا حساب ) وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ( يعني كلمة العذاب ) فِى أُمَمٍ ( في جملة أمم . ومثل في هذه ما في قوله : إنّ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ مَأْ
فُوكاً فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا
يريد : فأنت في جملة آخرين ، وأنت في عداد آخرين لست في ذلك بأوحد . فإن قلت : ) فِى أُمَمٍ ( ما محله ؟ قلت : محله النصب على الحال من الضمير في عليهم القول كائنين في جملة أمم ) إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ ( تعليل لاستحقاقهم العذاب . والضمير لهم وللأمم .
) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا

" صفحة رقم 203 "
دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِأاياتِنَا يَجْحَدُون (
فصلت : ( 26 ) وقال الذين كفروا . . . . .
قرىء : ( والغوا فيه ) بفتح الغين وضمها . ويقال : لغى يلغى ، ولغا يلغو : الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته . قال : من اللغا ورفث التكلم . والمعنى : لا تسمعوا له إذا قرىء ، وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والهذيان والزمل ، وما أشبه ذلك ، حتى تخلطوا على القارىء وتشوشوا عليه وتغلبوه على قراءته . كانت قريش يوصي بذلك بعضهم بعضاً ) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( يجوز أن يريد بالذين كفروا : هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة ، وأن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم . قد ذكرنا إضافة أسوأ بما أغنى عن إعادته . وعن ابن عباس ) عَذَاباً شَدِيداً ( يوم بدر . و ) أَسْوَأَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( في الآخرة ) ذَلِكَ ( إشارة إلى الأسوأ ، ويجب أن يكون التقدير : أسؤ جزاء الذين كانوا يعملون ، حتى تستقيم هذه الإشارة . و ) النَّارِ ( عطف بيان للجزاء . أو خبر مبتدأ محذوف . فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : ) لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ ( ؟ قلت : معناه أن النار في نفسها دار الخلد ، كقوله تعالى : ) لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( ( الأحزاب : 21 ) والمعنى : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسوة حسنة ، وتقول لك في هذه الدار دار السرور . أنت تعنى الدار بعينها ) جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ ( أي : جزاء بما كانوا يلغون فيها ، فذكر الجحود الذي سبب اللغو .
) وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الاٌّ سْفَلِينَ (
فصلت : ( 29 ) وقال الذين كفروا . . . . .
) الَّذِينَ أَضَلَّانَا ( أي : الشيطانين اللذين أضلانا ) مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ ( لأنّ الشيطان على ضربين : جني وإنسي . قال الله تعالى : ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ ( ( الأنعام : 112 ) وقال تعالى : ) الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( ( الناس : 5 ) وقيل : هما إبليس وقابيل ؛ لأنهما سنا الكفر والقتل بغير حق . وقرىء : ( أرنا ) بسكون الراء لثقل الكسرة ، كما قالوا في فخذ : فخذ . وقيل : معناه أعطنا للذين أضلانا . وحكوا عن الخليل : أنك إذا قلت : أرني ثوبك بالكسر ، فالمعنى : بصرنيه . وإذا قلته بالسكون ، فهو استعطاء ، معناه : أعطني ثوبك : ونظيره : اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء . وأصله : الإحضار .

" صفحة رقم 204 "
) إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاٌّ خِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (
فصلت : ( 30 ) إن الذين قالوا . . . . .
) ثُمَّ ( لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة . وفضلها عليه : لأنّ الاستقامة لها الشأن كله . ونحوه قوله تعالى : ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ ( ( الحجرات : 15 ) والمعنى : ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته . وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه : استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً . وعنه : أنه تلاها ثم قال : ما تقولون فيها ؟ قالوا : لم يذنبوا . قال حملتم الأمر على أشدّه . قالوا : فما تقول ؟ قال : لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان . وعن عمر رضي الله عنه : استقاموا على الطريقة لم يروغوا روغان الثعالب . وعن عثمان رضي الله عنه : أخلصوا العمل . وعن علي رضي الله عنه : أدّوا الفرائض . وقال سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه :
( 986 ) قلت : يا رسول الله ، أخبرني بأمر أعتصم به . قال : ( قل ربّي الله ، ثم استقم ) قال فقلت : ما أخوف ما تخاف عليّ ؟ فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بلسان نفسه فقال : ( هذا ) ) تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةُ ( عند الموت بالبشرى . وقيل : البشرى في ثلاثة مواطن : عند الموت ، وفي القبر ، وإذا قاموا من قبورهم ) أَلاَّ تَخَافُواْ ( أن بمعنى أي . أو مخففة من الثقيلة . وأصله : بأنه لا تخافوا ، والهاء ضمير الشأن . وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : لا تخافوا ، أي : يقولون : لا تخافوا ؛ والخوف : غمّ يلحق لتوقع المكروه ، والحزن : غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضارّ . والمعنى : أنّ الله كتب لكم الأمن من كل غمّ ، فلن تذوقوه أبداً . وقيل : لا تخافوا ما تقدمون عليه ، ولا تحزنوا على ما خلفتم . كما أنّ الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم ، فكذلك الملائكة أولياء المتقين

" صفحة رقم 205 "
وأحباؤهم في الدارين ) تَدْعُونَ ( تتمنون : والنزل : رزق التنزيل وهو الضيف ، وانتصابه على الحال .
) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ (
فصلت : ( 33 ) ومن أحسن قولا . . . . .
) مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ( عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دعا إلى الإسلام ) وَعَمِلَ صَالِحَاً ( فيما بينه وبين ربه ، وجعل الإسلام نحلة له . وعنه : أنهم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وعن عائشة رضي الله عنها : ما كنا نشك أنّ هذه الآية نزلت في المؤذنين ، وهي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث : أن يكون موحداً معتقداً لدين الإسلام ، عاملاً بالخير داعياً إليه ؛ وما هم إلاّ طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد ، الدعاة إلى دين الله وقوله : ) وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ليس الغرض أنه تكلم بهذا الكلام ، ولكن جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده ، كما تقول : هذا قول أبي حنيفة ، تريد مذهبه .
) وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ (
فصلت : ( 34 ) ولا تستوي الحسنة . . . . .
يعني : أنّ الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ الحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك . ومثال ذلك : رجل أساء إليك إساءة ، فالحسنة : أن تعفو عنه ، والتي هي أحسن : أن تحسن إليه مكان إساءته إليك ، مثل أن يذمك فتمدحه ويقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه ، فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاقّ مثل الولي الحميم مصافاة لك . ثم قال : وما يلقى هذه الخليقة أو السجية التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلاّ أهل الصبر ، وإلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير . فإن قلت : فهلا قيل : فادفع بالتي هي أحسن ؟ قلت : هو على تقدير قائل قال : فكيف أصنع ؟ فقيل : ادفع بالتي هي أحسن . وقيل : ( لا ) مزيدة . والمعنى : ولا تستوي الحسنة والسيئة . فإن قلت : فكان القياس على هذا التفسير أن يقال : ادفع بالتي هي حسنة ، قال : أجل ، ولكن وضع التي هي أحسن موضع الحسنة ، ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة ؛ لأنّ من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ) بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ( الصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، وفسر الحظ بالثواب . وعن الحسن رحمه الله : واللهما عظم

" صفحة رقم 206 "
حظ دون الجنة ، وقيل : نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان عدواً مؤذياً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فصار ولياً مصافياً .
) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (
فصلت : ( 36 ) وإما ينزغنك من . . . . .
النزغ والنسغ بمعنى : وهو شبه النخس . والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي . وجعل النزغ نازغاً ، كما قيل : جد جدّه . أو أريد : وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر . أو لتسويله . والمعنى : وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن ) فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ( من شرّه ، وامض على شأنك ولا تطعه .
) وَمِنْ ءَايَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأمُونَ (
فصلت : ( 37 - 38 ) ومن آياته الليل . . . . .
الضمير في ) خَلَقَهُنَّ ( الليل والنهار والشمس والقمر ؛ لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث . يقال : الأقلام بريتها وبريتهنّ : أو لما قال ) وَمِنْ ءايَاتِهِ ( كن في معنى الآيات ، فقيل : خلقهنّ . فإن قلت : أين موضع السجدة ؟ قلت : عند الشافعي رحمه الله تعالى : ) تَعْبُدُونَ ( وهي رواية مسروق عن عبد الله لذكر لفظ السجدة قبلها . وعند أبي حنيفة رحمه الله : يسأمون ؛ لأنها تمام المعنى ، وهي عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب : لعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله ، فنهوا عن هذه الواسطة ، وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصاً ، وإن كانوا إياه يعبدون وكانوا موحدين غير مشركين ) فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ ( ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة فدعهم وشأنهم فإن الله عز سلطانه لا يعدم عابداً ولا ساجداً بالإخلاص وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار عن الأنداد ، وقوله : ) عِندَ رَبّكَ ( عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة . وقرىء : ( لا يسأمون ) بكسر الياء .
) وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاٌّ رْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ (
فصلت : ( 39 ) ومن آياته أنك . . . . .
الخشوع : التذلل والتقاصر ، فاستغير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها ، كما وصفها بالهمود في قوله تعالى : ) وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَةً ( ( الحج : 5 ) وهو

" صفحة رقم 207 "
خلاف وصفها بالاهتزاز والربوّ وهو الانتفاخ : إذا أخصبت وتزخرفت بالنبات كأنها بمنزلة المختال في زيه ، وهي قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة . وقرىء ( وربأت ) أي ارتفعت لأن النبت إذا همّ أن يظهر : ارتفعت له الأرض .
) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىءَايَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِىءَامِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (
فصلت : ( 40 ) إن الذين يلحدون . . . . .
يقال : ألحد الحافر ولحد ، إذا مال عن الاستقامة ، فحفر في شق ، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة ، وقرىء ( يلحدون ويلحدون ) على اللغتين . وقوله : ) لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ( وعيد لهم على التحريف .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (
فصلت : ( 41 ) إن الذين كفروا . . . . .
فإن قلت : بم اتصل قوله : ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ ( ؟ قلت : هو بدل من قوله : ) الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىءايَاتِنَا ( ( فصلت : 40 ) والذكر : القرآن ، لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرّفوا تأويله ) وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( أي منيع محمى بحماية الله تعالى ) لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ( مثل كأن الباطل لا يتطرّق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات حتى يصل إليه ويتعلق به . فإن قلت : أما طعن فيه الطاعنون ، وتأوّله المبطلون ؟ قلت : بلى ، ولكن الله قد تقدّم في حمايته عن تعلق الباطل به : بأن قيض قوماً عارضوهم بإبطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم ، فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقاً ، ولا قول مبطل إلا مضمحلاً . ونحوه قوله تعالى : ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( ( الحجر : 9 ) .
) مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (
فصلت : ( 43 ) ما يقال لك . . . . .
ما يقال لك أي : ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة ) إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ ( ورحمة لأنبيائه ) وَذُو عِقَابٍ ( لأعدائهم . ويجوز أن يكون : ما يقول لك الله إلا مثل ما قال للرسل من قبلك ، والمقول : هو قوله تعالى : ) إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ( فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته ، والغرض : تخويف العصاة .
) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ

" صفحة رقم 208 "
هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِىءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَائِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (
فصلت : ( 44 ) ولو جعلناه قرآنا . . . . .
كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم ( فقيل : لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت وقالوا : ) لَوْلاَ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ ( أي بينت ولخصت بلسان تفقهه ) ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ ( الهمزة همزة الإنكار ، يعني : لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجمي ورسول عربي ، أو مرسل إليه عربي ، وقرىء ( أعجمي ) والأعجمي : الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه من أي جنس كان ، والعجمي : منسوب إلى أمّة العجم . وفي قراءة الحسن ( أعجمي ) بغير همزة الاستفهام على الإخبار بأن القرآن أعجمي ، والمرسل أو المرسل إليه عربي . والمعنى : أنّ آيات الله على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتاً ؛ لأنّ القوم غير طالبين للحق وإنما يتبعون أهواءهم . ويجوز في قراءة الحسن : هلا فصلت آياته تفصيلاً ، فجعل بعضها بياناً للعجم ، وبعضها بياناً للعرب . فإن قلت : كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمّة العرب ؟ قلت : هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتاباً أعجمياً كتب إلى قوم من العرب يقول : كتاب أعجمي ومكتوب إليه عربي ، وذلك لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه ، لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة ، فوجب أن يجرّد لما سيق إليه من الغرض ، ولا يوصل به ما يخل غرضاً آخر . ألا تراك تقول وقد رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة : اللباس طويل واللابس قصير . ولو قلت : واللابسة قصيرة ، جئت بما هو لكئة وفضول قول ، لأنّ الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته ، إنما وقع في غرض وراءه ما ) هُوَ ( أي القرآن ) هُدًى وَشِفَاء ( إرشاد إلى الحق وشفاء ) لِمَا فِى الصُّدُورِ ( من الظن والشك . فإن قلت : ) وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِىءاذَانِهِمْ وَقْرٌ ( منقطع عن ذكر القرآن ، فما وجه اتصاله به ؟ قلت : لا يخلو إما أن يكون ( الذين لا يؤمنون ) في موضع الجر معطوفاً على قوله تعالى : ( للذين آمنوا ) على معنى قولك : هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ؛ إلا أنّ فيه عطفاً على عاملين وإن كان الأخفش يجيزه . وإمّا أن يكون مرفوعاً على تقدير : والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر على حذف المتبدأ . أو في آذانهم منه وقر . وقرىء ( وهو عليهم عم ) وعمى ، كقوله تعالى : ) فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ ( ( هود : 28 ) ) يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ( يعني : أنهم لا يقبلونه ولا يرعونه أسماعهم ، فمثلهم في ذلك مثل من يصيح به من مسافة شاطة لا يسمع من مثلها الصوت فلا يسمع النداء .

" صفحة رقم 209 "
) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (
فصلت : ( 45 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
) فَاخْتُلِفَ فِيهِ ( فقال بعضهم : هو حق ، وقال بعضهم : هو باطل . والكلمة السابقة : هي العدة بالقيامة ، وأنّ الخصومات تفصل في ذلك اليوم ، ولولا ذلك لقضى بينهم في الدنيا . قال الله تعالى : ) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ( ( القمر : 46 ) ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى .
) مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (
)
فصلت : ( 46 ) من عمل صالحا . . . . .
فَلِنَفْسِهِ ( فنفسه نفع ) فَعَلَيْهَا ( فنفسه ضرّ ) وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ ( فيعذب غير المسيء .
) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِى قَالُواْ ءَاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ (
فصلت : ( 47 - 48 ) إليه يرد علم . . . . .
) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ( أي إذا سئل عنها قيل : الله يعلم . أو لا يعلمها إلا الله . وقرىء ( من ثمرات من أكمامهن ) . والكم بكسر الكاف وعاء الثمرة ، كجف الطلعة ، أي : وما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به . يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله : من الخداج والتمام ، والذكورة والأنوثة ، والحسن والقبح وغير ذلك ) أَيْنَ شُرَكَائِىَ ( أضافهم إليه تعالى على زعمهم ، وبيانه في قوله تعالى : ) أَيْنَ شُرَكَائِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( ( القصص : 62 ) وفيه تهكم وتقريع ) ءاذَنَّاكَ ( أعلمناك ) مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ( أي ما منا أحد اليوم وقد أبصرنا وسمعنا يشهد بأنهم شركاؤك ، أي : ما منا إلا من هو موحدلك : أو ما منا من أحد يشاهدهم ، لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم ، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ وقيل : هو كلام الشركاء ، أي : ما منا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة . ومعنى ضلالهم عنهم على هذا التفسير : أنهم لا ينفعونهم ، فكأنهم ضلوا عنهم ) وَظَنُّواْ ( وأيقنوا . والمحيص : المهرب . فإن قلت : ) ءاذَنَّاكَ ( إخبار بإيذان كان منهم ، فإذ قد آذنوا فلم سئلوا ؟ قلت : يجوز أن يعاد عليهم ( أين شركائي ) ؟ إعادة للتوبيخ ، وإعادته في

" صفحة رقم 210 "
القرآن على سبيل الحكاية : دليل على إعادة المحكى . ويجوز أن يكون المعنى : أنك علمت من قلوبنا وعقائدنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة ، لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه . ويجوز أن يكون إنشاء للإيذان ولا يكون إخباراً بإيذان قد كان ، كما تقول : أعلم الملك أنه كان من الأمر كيت وكيت .
) لاَّ يَسْأمُ الانْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَاذَا لِى وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (
فصلت : ( 49 - 50 ) لا يسأم الإنسان . . . . .
) مِن دُعَاء الْخَيْرِ ( من طلب السعة في المال والنعمة . وقرأ ابن مسعود : من دعاء بالخير ) وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ ( أي الضيقة والفقر ) فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ( بولغ فيه من طريقين : من طريق بناء فعول ، ومن طريق التكرير والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر ، أي : يقطع الرجاء من فضل الله وروحه ، وهذه صفة الكافر بدليل قوله تعالى : ) يبَنِىَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن ( ( يوسف : 87 ) وإذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق قال : ) هَاذَا لِى ( أي هذا حق وصل إلي ؛ لأني استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال برّ . أو هذا لي لا يزول عني ، ونحوه قوله تعالى : ) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ ( ( الأعراف : 131 ) ونحوه قوله تعالى : ) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ( ) إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( ( الجاثية : 32 ) يريد : وما أظنها تكون ، فإن كانت على طريق التوهم ) أَنَّ لِى ( عند الله الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة ، قائساً أمر الآخرة على أمر الدنيا . وعن بعضهم : للكافر أمنيتان ، يقول في الدنيا : ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى . ويقول في الآخرة : يا ليتني كنت تراباً . وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة . فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب . ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها أنهم يستوجبون عليها كرامة وقربة عند الله ) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( ( الفرقان : 23 ) وذلك أنهم كانوا ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلباً للافتخار والاستكبار لا غير ، وكانوا يحسبون أنّ ما هم عليه سبب الغنى والصحة ، وأنهم محقوقون بذلك .
) وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ (
فصلت : ( 51 ) وإذا أنعمنا على . . . . .
هذا أيضاً ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة ، وكأنه لم يلق بؤساً قط فنسى المنعم وأعرض عن شكرة ) وَنَأَى بِجَانِبِهِ ( أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم . وإن مسه الضرّ والفقر : أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع . وقد

" صفحة رقم 211 "
استعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الأجرام ويستعار له الطويل أيضاً كما استعير الغلظ بشدّة العذاب . وقرىء ( ونأى بجانبه ) بإمالة الألف وكسر النون للإتباع . وناء على القلب ، كما قالوا : راء في رأي . فإن قلت : حقق لي معنى قوله تعالى : ) وَنَأَى بِجَانِبِهِ ( قلت : فيه وجهان : أن يوضع جانبه موضع نفسه كما ذكرنا في قوله تعالى : ) عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ( ( الزمر : 56 ) أن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة الشيء نفسه ، ومنه قوله : . . . . . . . . . وَتَقَيْتُ عَنْه
مَقَامَ الذِّئْبِ . . . . . . . . .
يريد : ونفيت عنه الذئب . ومنه : ولمن خاف مقام ربه . ومنه قول الكتاب : حضرت فلان ومجلسه ، وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز ، يريدون نفسه وذاته ، فكأنه قال : ونأى بنفسه ، كقولهم في المتكبر : ذهب بنفسه ، وذهبت به الخيلاء كل مذهب ، وعصفت به الخيلاء ؛ وأن يراد بجانبه : عطفه ، ويكون عبارة عن الانحراف والازورار ؛ كما قالوا : ثنى عطفه ، وتولى بركنه .
) قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ (
فصلت : ( 52 ) قل أرأيتم إن . . . . .
) أَرَءيْتُمْ ( أخبروني ) إِن كَانَ ( القرآن ) مِنْ عِندِ اللَّهِ ( يعني أن ما أنتم عليه من إنكار القرآن وتكذيبه ليس بأمر صادر عن حجة قاطعة حصلتم منها على اليقين وثلج الصدور ، وإنما هو قبل النظر واتباع الدليل أمر متحمل ، يجوز أن يكون من عند الله وأن لا يكون من عنده ، وأنتم لم تنظروا ولم تفحصوا ، فما أنكرتم أن يكون حقاً وقد كفرتم به . فأخبروني من أضلّ منكم وأنتم أبعدتم الشوط في مشاقته ومناصبته ولعله حق فأهلكتم أنفسكم ؟ وقوله تعالى : ) مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( موضوع منكم ، بياناً لحالهم وصفتهم .
) سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الاٌّ فَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ (
فصلت : ( 53 - 54 ) سنريهم آياتنا في . . . . .
) سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( يعني ما يسر الله عز وجل لرسوله ( صلى الله عليه وسلم )

" صفحة رقم 212 "
وللخلفاء من بعده ونصار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عموماً وفي باحة العرب خصوصاً : من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم ، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة ، وتغليب قليلهم على كثيرهم ، وتسليط ضعافهم على أقويائهم ، وإجرائه على أيديهم أموراً خارجة من المعهود خارقة للعادات ؛ ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة ، وبسط دولته في أقاصيها ، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدوّنة في مشاهد أهله وأيامهم : على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علما من أعلام الله وآية من آياته ، يقوى معها اليقين ، ويزداد بها الإيمان ، ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر حسه مغالط نفسه ؛ وما الثبات والاستقامة إلا صفة الحق والصدق ، كما أن الاضراب والتزلزل صفة الفرية والزور ؛ وأن للباطل ريحاً تخفق ثم تسكن ، ودولة تظهر ثم تضمحل ) بِرَبّكَ ( في موضع الرفع على أنه فاعل كفى . و ) أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ ( بدل منه ، تقديره . أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد . ومعناه : أن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه ، فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كل شيء شهيد ، أي : مطلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته ، فيكفيهم ذلك دليلاً على أنه حق وأنه من عنده ، ولو لم يكن كذلك لما قوى هذه القوة ولما نصر حاملوه هذه النصرة . وقرىء ( في مرية ) بالضم وهي الشك ) مُحِيطٌ ( عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها ، فلا تخفى عليه خافية منهم ، وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 987 ) ( من قرأ سورة السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات ) .

" صفحة رقم 213 "
( سورة الشورى )
مكية ( إلا الآيات 23 و 24 و 25 و 27 فمدنية )
وآياتها 53 ( نزلت بعد سورة فصلت )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) حم عسق كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعَلِىُّ العَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاٌّ رْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (
الشورى : ( 1 ) حم
قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما ( حم سق ) ) كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ ( أي مثل ذلك الوحي . أو مثل ذلك الكتاب يوحي إليك وإلى الرسل ) مِن قَبْلِكَ اللَّهُ ( يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور ، وأوحاه من قبلك إلى رسله ، على معنى : أن الله تعالى كرر هذه المعاني في القرآن في جميع الكتب السماوية ، لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده من الأوّلين والآخرين ، ولم يقل : أوحي إليك ؛ ولكن على لفظ المضارع ، ليدل على أن إيحاء مثله عادته . وقرىء ( يوحى إليك ) على البناء للمفعول . فإن قلت : فما رافع اسم الله على هذه القراءة ؟ قلت : ما دلّ عليه يوحي ، كأن قائلاً قال : من الموحى ؟ فقيل : الله ، كقراءة السلمى : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم على البناء للمفعول ورفع شركائهم ، على معنى : زينه لهم شركاؤهم . فإن قلت : فما رافعه فيمن قرأ نوحى بالنون ؟ قلت : يرتفع بالابتداء . والعزيز وما بعده : أخبار ، أو العزيز الحكيم : صفتان ؛ والظرف خبر . قرىء ( تكاد ) بالتاء والياء . وينفطرن ، ويتفطرن . وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة ( تتفطرن ) بتاءين مع النون ، ونظيرها حرف نادر ، روى في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تشممن . ومعناه : يكدن ينفطرن من علو شأن الله وعظمته ، يدل عليه مجيئه بعد العلي العظيم . وقيل : من دعائهم له ولداً ، كقوله تعالى : ) تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ( ( مريم : 90 ) . فإن قلت : لم قال : ) مِن فَوْقِهِنَّ ( ؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة : فوق السماوات ، وهي : العرش ، والكرسي ، وصفوف

" صفحة رقم 214 "
الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال : ) يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ( أي يبتدىء الانفطار من جهتهنّ الفوقانية . أو : لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السماوات ، فكان القياس أن يقال : ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ في ذلك ، فجعلت مؤثرة في جهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهنّ ، ونظيره في المبالغة قوله عزّ وعلا ) يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ ( ( الحج : 19 20 ) فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة . وقيل : من فوقهنّ : من فوق الأرضين . فإن قلت : كيف صح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار أعداء الله ؟ وقد قال الله تعالى : ) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلئِكَةِ ( ( البقرة : 161 ) فكيف يكونون لاعنين مستغفرين لهم ؟ قلت : قوله : ) لِمَن فِى الاْرْضِ ( يدل على جنس أهل الأرض ، وهذه الجنسية قائمة في كلهم وفي بعضهم ؛ فيجوز أن يراد به هذا وهذا . وقد دل الدليل على أن الملائكة لا يستغفرون إلا لأولياء الله وهم المؤمنون ، فما أراد الله إلا إياهم . ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة المؤمن : ) وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ( ( غافر : 7 ) وحكايته عنهم ) فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( ( غافر : 7 ) كيف وصفوا المستغفر لهم بما يستوجب به الاستغفار فما تركوا للذين لم يتوبوا من المصدقين طمعاً في استغفارهم ، فكيف للكفرة . ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار : طلب الحلم والغفران في قوله تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ ( ( فاطر : 41 ) إلى أن قال : ) إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( ( الإسراء : 44 ) وقوله تعالى : ) إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ( ( الرعد : 6 ) والمراد : الحلم عنهم وأن لا يعالجهم بالانتقام فيكون عاماً . فإن قلت : قد فسرت قوله تعالى : ) تَكَادُ السَّمَاواتُ يَتَفَطَّرْنَ ( بتفسيرين . فما وجه طباق ما بعده لهما ؟ قلت : أما على أحدهما فكأنه قيل : تكاد السماوات ينفطرن هيبة من جلاله واحتشاماً من كبريائه ، والملائكة الذين هم ملء السبع الطباق وحافون حول العرش صفوفاً بعد صفوف يداومون خضوعاً لعظمته على عبادته وتسبيحه وتحميده ، ويستغفرن لمن في الأرض خوفاً عليهم من سطواته . وأما على الثاني فكأنه قيل : يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء ، والملائكة يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات التي يضيفها إليه الجاهلون به ، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه التي علم أنهم عندها يستعصمون ، مختارين غير ملجئين ، ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض الذين تبرؤوا من تلك الكلمة ومن أهلها . أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب مع وجود ذلك فيهم ، لما عرفوا في ذلك من المصالح ، وحرصاً

" صفحة رقم 215 "
على نجاة الخلق ، وطمعاً في توبة الكفار والفساق منهم .
) وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (
الشورى : ( 6 ) والذين اتخذوا من . . . . .
) وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ( جعلوا له شركاء وأنداداً ) اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ( رقيب عليهم إلا هو وحده ) وَمَا أَنتَ ( يا محمد بموكل بهم ولا مفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان . إنما أنت منذر فحسب .
) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ (
الشورى : ( 7 ) وكذلك أوحينا إليك . . . . .
ومثل ذلك ) أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( وذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها : من أنّ الله تعالى هو الرقيب عليهم ، وما أنت برقيب عليهم ، ولكن نذير لهم ؛ لأنّ هذا المعنى كرره الله في كتابه في مواضع جمة ، والكاف مفعول به لأوحينا . و ) قُرْءاناً عَرَبِيّاً ( حال من المفعول به ، أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي بين ، لا لبس فيه عليك ، لتفهم ما يقال لك ، ولا تتجاوز حدّ الإنذار . ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا ، أي : ومثل ذلك الإيحاء البين المفهم أوحينا إليك قرآناً عربياً بلسانك ) لّتُنذِرَ ( يقال : أنذرته كذا وأنذرته بكذا . وقد عدى الأوّل ، أعني : لتنذر أمّ القرى ، إلى المفعول الأول والثاني وهو قوله وتنذر يوم الجمع إلى المفعول الثاني أم القرى ( أهل أم القرى كقوله تعالى : ) ( أهل أم القرى كقوله تعالى : ) وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ ( ( يوسف : 82 ) . ) وَمَنْ حَوْلَهَا ( من العرب . وقرىء ( لينذر ) بالياء والفعل للقرآن ) يَوْمَ الْجَمْعِ ( يوم القيامة ، لأنّ الخلائق تجمع فيه . قال الله تعالى : ) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ( ( التغابن : 9 ) وقيل : يجمع بين الأرواح والأجساد . وقيل : يجمع بين كل عامل وعمله . و ) لاَ رَيْبَ فِيهِ ( اعتراض لا محل له . قرىء ( فريق ) وفريق ؛ بالرفع والنصب ، فالرفع على : منهم فريق ، ومنهم فريق . والضمير للمجموعين ؛ لأن المعنى : يوم جمع الخلائق . والنصب على الحال منهم ، أي : متفرّقين ، كقوله تعالى : ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ( ( الروم : 14 ) . فإن قلت : كيف يكونون مجموعين متفرّقين في حالة واحدة ؟ قلت : هم مجموعون في ذلك اليوم مع افتراقهم في داري البؤس والنعيم ، كما يجتمع الناس يوم الجمعة متفرّقين في مسجدين . وإن أريد بالجمع : جمعهم في الموقف ، فالتفرّق على معنى مشارفتهم للتفرّق .

" صفحة رقم 216 "
) وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (
الشورى : ( 8 ) ولو شاء الله . . . . .
) لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً ( أي مؤمنين كلهم على القسر والإكراه ، كقوله تعالى : ) وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ( ( السجدة : 13 ) وقوله تعالى : ) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ( ( يونس : 99 ) والدليل على أنّ المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان . قوله : ) أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( ( يونس : 99 ) وقوله تعالى : ) أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ( ( يونس : 99 ) بإدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله . دليل على أنّ الله وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره . والمعنى : ولو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعاً على الإيمان ، ولكنه شاء مشيئة حكمة ، فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ، ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بمن يشاء . ألا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين ويترك الظالمين بغير ولي ولا نصير في عذابه .
) أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ (
الشورى : ( 9 ) أم اتخذوا من . . . . .
معنى الهمزة في ) أَمِ ( الإنكار ) فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ ( هو الذي يجب أن يتولى وحده ويعتقد أنه المولى والسيد ، فالفاء في قوله : ) فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ ( جواب شرط مقدّر ، كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه : إن أرادوا ولياً بحق ، فالله هو الولي بالحق ، لا وليّ سواه ) وَهُوَ يُحْىِ ( أي : ومن شأن هذا الولي أنه يحيى ) الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ( فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء .
) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (
الشورى : ( 10 ) وما اختلفتم فيه . . . . .
) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء ( حكاية قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للمؤمنين . أي : ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين ، فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين ، فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إلى الله تعالى ، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين ) ذالِكُمْ ( الحاكم بينكم هو ) اللَّهُ رَبّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ( في ردّ كيد أعداء الدين ) وَإِلَيْهِ ( أرجع في كفاية شرهم . وقيل : وما اختلفتم فيه وتنازعتم من شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره ، كقوله تعالى : ) فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ( ( النساء : 59 ) وقيل : وما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله والظاهر من سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكلفيكم ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : الله أعلم ، كمعرفة الروح . قال الله

" صفحة رقم 217 "
تعالى : ) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( ( الإسراء : 85 ) : فإن قلت : هل يجوز حمله على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة ؟ قلت : لا ، لأنّ الاجتهاد لا يجوز بحضرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الاٌّ نْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (
الشورى : ( 11 ) فاطر السماوات والأرض . . . . .
) فَاطِرَ السَّمَاواتِ ( قرىء بالرفع والجر ، فالرفع على أنه أحد أخبار ذلكم . أو خبر مبتدأ محذوف ، والجرّ على : فحكمه إلى الله فاطر السماوات ، و ) ذالِكُمْ ( ( الشورى : 10 ) إلى ) أُنِيبُ ( ( الشورى : 10 ) اعتراض بين الصفة والموصوف ) جَعَلَ لَكُمُ ( خلق لكم ) مّنْ أَنفُسِكُمْ ( من جنسكم من الناس ) أَزْواجاً وَمِنَ الاْنْعَامِ أَزْواجاً ( أي : خلق من الأنعام أزواجاً . ومعناه : وخلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً ) يَذْرَؤُكُمْ ( يكثركم ، يقال : ذرأ الله الخلق : بثهم وكثرهم . والذر ، والذرو ، والذرء : أخوات ) فِيهِ ( في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل . والضمير في ) يَذْرَؤُكُمْ ( يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل ، وهي من الأحكام ذات العلتين ، فإن قلت : ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير ؟ وهلا قيل : يذرؤكم به ؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير ؛ ألا تراك تقول : للحيوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : ) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ ( ( البقرة : 179 ) قالوا : مثلك لا يبخل ، فنفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية ، لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخص أوصافه ، فقد نفوه عنه . ونظيره قولك للعربي : العرب لا تخفر الذمم ، كان أبلغ من قولك : أنت لا تخفر . ومنه قولهم : قد أيفعت لداته وبلغت أترابه ، يريدون : إيفاعه وبلوغه . وفي حديث رقيقة بنت

" صفحة رقم 218 "
صيفي في سقيا عبد المطلب : ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته والقصد إلى طهارته وطيبه ، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله : ليس كالله شيء ، وبين قوله : ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء ( إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها ، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد : وهو نفي المماثلة عن ذاته ، ونحوه قوله عز وجل : ) بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ( ( المائدة : 64 ) فإن معناه : بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها : لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئاً آخر ، حتى أنهم استعملوها فيمن لا يد له ، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له ، ولك أن تزعم أنّ كلمة التشبيه كرّرت للتأكيد ، كما كرّرها من قال : وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤْثَفَيْن

" صفحة رقم 219 "
;
ومن قال : فَأَصْبَحَتْ مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ ;
) لَهُ مَقَلِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (
الشورى : ( 12 ) له مقاليد السماوات . . . . .
وقرىء ( ويقدّر ) ) إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ ( فإذا علم أنّ الغني خير للعبد أغناه ، وإلا أفقره .
) شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (
الشورى : ( 13 ) شرع لكم من . . . . .
) شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ ( دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء ، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله : ) أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ( والمراد : إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه ، وبيوم الجزاء ، وسار ما يكون الرجل بإقامته مسلماً ، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها ، فإنها مختلفة متفاوتة . قال الله تعالى : ) لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ( ( المائدة : 48 ) ومحل ) أَنْ أَقِيمُواْ ( إما نصب بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه ، وإما رفع على الاستئناف ، كأنه قيل : وما ذلك المشروع ؟ فقيل : هو إقامة الدين ، ونحوه قوله تعالى : ) إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ( ( الأنبياء : 92 ) ) كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ( عظم عليهم وشق عليهم ) مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ( من إقامة دين الله والتوحيد ) يَجْتَبِى إِلَيْهِ ( يجتلب إليه ويجمع . والضمير للدين بالتوفيق والتسديد ) مَن يَشَآء ( من ينفع فيهم توفيقه ويجرى عليهم لطفاً .
) وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (
الشورى : ( 14 ) وما تفرقوا إلا . . . . .
) وَمَا تَفَرَّقُواْ ( يعني أهل الكتاب بعد أنبيائهم ) إِلاَّ مِن بَعْدِ ( أن علموا أنّ الفرقة ضلال وفساد ، وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء ) وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ ( وهي عدة التأخير إلى يوم القيامة ) لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ ( حين افترقوا لعظم ما اقترفوا ) وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ ( وهم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لَفِى شَكّ ( من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان . وقيل : كان الناس أمّة واحدة مؤمنين بعد أن أهلك الله أهل الأرض أجمعين بالطوفان ، فلما مات الآباء اختلف الأبناء فيما بينهم ، وذلك حين

" صفحة رقم 220 "
بعث الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهم العلم . وإنما اختلفوا للبغي بينهم . وقيل : وما تفرّق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، كقوله تعالى : ) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَةُ ( ( البينة : 4 ) وإنّ الذين ( أورثوا ) الكتاب من بعدهم هم المشركون : أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل . وقرىء ( ورّثوا ) وورثوا .
) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لاًّعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (
الشورى : ( 15 ) فلذلك فادع واستقم . . . . .
) فَلِذَلِكَ ( فلأجل التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعباً ) فَادْعُ ( إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القديمة ) وَاسْتَقِمْ ( عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله ) وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ( المختلفة الباطنة بما أنزل الله من كتاب ، أيّ كتاب صحّ أنّ الله أنزله ، يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة ؛ لأنّ المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، كقوله تعالى : ) وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ( ( النساء : 150 ) إلى قوله : ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً ( ( النساء : 151 ) ) لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ ( في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ ) لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ( أي لا خصومة : لأنّ الحق قد ظهر وصرتم محجوبين به فلا حاجة إلى المحاجة . ومعناه : لا إيراد حجة بيننا ؛ لأنّ المتحاجين : يورد هذا حجته وهذا حجته ) اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ( يوم القيامة فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم ؛ وهذه محاجزة ومتاركة بعد ظهور الحق وقيام الحجة والإلزام . فإن قلت : كيف حوجزوا وقد فعل بهم بعد ذلك ما فعل من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء ؟ قلت : المراد محاجزتهم في مواقف المقاولة لا المقاتلة .
) وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (
الشورى : ( 16 ) والذين يحاجون في . . . . .
) يُحَاجُّونَ فِى اللَّهِ ( يخاصمون في دينه ) مِن بَعْدِ ( ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام ، ليردّوهم إلى دين الجاهلية ، كقوله تعالى : ) وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ( ( البقرة : 109 ) كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم وأولى بالحق . وقيل : من بعد ما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر وأظهر دين الإسلام ) دَاحِضَةٌ ( باطلة زالة .

" صفحة رقم 221 "
) اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَى السَّاعَةِ لَفِى ضَلَالَ بَعِيدٍ (
الشورى : ( 17 - 18 ) الله الذي أنزل . . . . .
) أَنزَلَ الْكِتَابَ ( أي جنس الكتاب ) وَالْمِيزَانَ ( والعدل والتسوية . ومعنى إنزال العدل : أنه أنزله في كتبه المنزلة . وقيل : الذي يوزن به . بالحق : ملتبساً بالحق ، مقترناً به ، بعيداً من الباطل أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة . أو بالواجب من التحليل والتحريم وغير ذلك ) السَّاعَةَ ( في تأويل البعث ، فلذلك قيل : ) قَرِيبٌ ( أو لعل مجيء الساعة قريب . فإن قلت : كيف يوفق ذكر اقتراب الساعة مع إنزال الكتاب والميزان ؟ قلت : لأنّ الساعة يوم الحساب ووضع الموازين للقسط ، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم ، ويوفي لمن أوفى ويطفف لمن طفف . المماراة : الملاجة لأنّ كل واحد منهما يمرى ما عند صاحبه ) لَفِى ضَلَالَ بَعِيدٍ ( من الحق : لأنّ قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله ، ولدلالة الكتاب المعجز على أنها آتية لا ريب فيها ، ولشهادة العقول على أنه لا بدّ من دار الجزاء .
) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ (
الشورى : ( 19 ) الله لطيف بعباده . . . . .
) لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ( برّ بليغ البرّ بهم ، قد توصل برّه إلى جميعهم ، وتوصل من كل واحد منهم إلى حيث لا يبلغه ، وهم أحد من كلياته وجزئياته . فإن قلت : فما معنى قوله : ) يَرْزُقُ مَن يَشَاء ( بعد توصل برّه إلى جميعهم ؟ قلت : كلهم مبرورون لا يخلو أحد من برّه ، إلا أنّ البرّ أصناف ، وله أوصاف . والقسمة بين العباد تتفاوت على حسب تفاوت قضايا الحكمة والتدبير ، فيطير لبعض لعباد صنف من البر لم يطر مثله لآخر ، ويصيب هذا حظ له وصف ليس ذلك الوصف لحظ صاحبه ، فمن قسم له منهم ما لا يقسم للآخر فقد رزقه ، وهو الذي أراد بقوله : ) يَرْزُقُ مَن يَشَاء ( ( البقرة : 212 ) كما يرزق أحد الأخوين ولداً دون الآخر ، على أنه أصابه بنعمة أخرى لم يرزقها صاحب الولد ) وَهُوَ الْقَوِىُّ ( الباهر القدرة ، الغالب على كل شيء ) الْعَزِيزُ ( المنيع الذي لا يغلب .
) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاٌّ خِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الاٌّ خِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ( 7 )
الشورى : ( 20 ) من كان يريد . . . . .

" صفحة رقم 222 "
22
سمى ما يعمله العامل مما يبغى به الفائدة والزكاء حرثاً على المجاز . وفرق بين عملي العاملين : بأن من عمل للآخرة وفق في عمله وضوعفت حسناته ، ومن كان عمله للدنيا أعطى شيئاً منها لا ما يريده ويبتغيه . وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه وماله نصيب قط في الآخرة ، ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب ، على أن رزقه المقسوم له واصل إليه لا محالة ، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب .
) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (
الشورى : ( 21 ) أم لهم شركاء . . . . .
معنى الهمزة في ) أَمْ ( التقرير والتقريع . وشركاؤهم : شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا ؛ لأنهم لا يعلمون غيرها وهو الدين الذي شرعت لهم الشياطين ، وتعالى الله عن الإذن فيه والأمر به وقيل شركاؤهم : أوثانهم . وإنما أضيفت إليهم لأنهم متخذوها شركاء لله ، فتارة تضاف إليهم لهذه الملابسة . وتارة إلى الله ؛ ولما كانت سبباً لضلالتهم وافتتانهم : جعلت شارعة لدين الكفر ، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه : ) إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( . ) وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ ( أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء . أي : ولولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة ) لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ( أي بين الكافرين والمؤمنين . أو بين المشركين وشركائهم . وقرأ مسلم بن جندب ( وأنّ الظالمين ) بالفتح عطفاً له على كلمة الفصل ، يعني : ولولا كلمة الفصل وتقدير تعذيب الظالمين في الآخرة . لقضي بينهم في الدنيا .
) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذَلِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (
الشورى : ( 22 - 23 ) ترى الظالمين مشفقين . . . . .
) تَرَى الظَّالِمِينَ ( في الآخرة ) مُشْفِقِينَ ( خائفين خوفاً شديداً أرق قلوبهم ) مِمَّا كَسَبُواْ ( من السيئات ) وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ( يريد : ووباله واقع بهم وواصل إليهم لا بدّ لهم منه ، أشفقوا أو لم يشفقوا . كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها ) عِندَ رَبّهِمْ ( منصوب بالظرف لا بيشاؤون قرىء ( يبشر ) من بشره . ويبشر من أبشره . ويبشر ، من بشره . والأصل : ذلك الثواب الذي يبشر الله به عباده ، فحذف الجار ، كقوله تعالى :

" صفحة رقم 223 "
) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( ( الأعراف : 155 ) ثم حذف الراجع إلى الموصول ، كقوله تعالى : ) أَهَاذَا الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( ( الفرقان : 41 ) أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده . روي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض : أترون محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً ؟ فنزلت الآية : ) إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى ( يجوز أن يكون استثناء متصلاً ، أي : لا أسألكم أجراً إلا هذا ، وهو أن تودوا أهل قرابتي ؛ ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة ؛ لأنّ قرابته قرابتهم ، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة . ويجوز أن يكون منقطعاً ، أي : لا أسألكم أجراً قط ولكنني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم . فإن قلت : هلا قيل : إلا مودّة القربى : أو إلا المودة للقربى . وما معنى قوله : ) إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى ( ( الشورى : 23 ) ؟ قلت : جلعوا مكاناً للمودة ؟ ومقراً لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة . ولي فيهم هوى وحب شديد ، تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله ، وليست ( في ) بصلة للمودَّة ، كاللام إذا قلت : إلا المودّة للقربى . إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس . وتقديره : إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها . والقربى : مصدر كالزلفى والبشرى ، بمعنى : قرابة . والمراد في أهل القربى . وروى أنها لما نزلت قيل :
( 988 ) يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال : ( عليّ

" صفحة رقم 224 "
وفاطمة وابناهما ) ويدل عليه ما روى عن علي رضي الله عنه :
( 989 ) شكوت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حسد الناس لي . فقال : ( أما ترضى أن تكون رابع أربعة : أوّل من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين ، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا ، وذريتنا خلف أزواجنا ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 990 ) ( حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي . ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة ) وروي : أنّ الأنصار قالوا :
( 991 ) فعلنا وفعلنا ، كأنهم افتخروا ، فقال عباس أو ابن عباس رضي الله عنهما : لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأتاهم في مجالسهم فقال : ( يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي ) ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : ( ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ) ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : ( أفلا تجيبونني ) ؟ قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال : ( ألا تقولون : ألم يخرجك قومك فآويناك ، أو لم يكذبوك فصدقناك ، أو لم يخذلوك فنصرناك ) قال : فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله . فنزلت الآية . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )

" صفحة رقم 225 "
:
( 992 ) ( من مات على حب آل محمد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة ) وقيل : لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبينهم قربى ، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت . والمعنى : إلا أن تودوني في القربى ، أي : في حق القربى أو من أجلها ، كما تقول : الحب في الله والبغض في الله ، بمعنى : في حقه ومن أجله ، يعني : أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني ، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا عليّ . وقيل :
( 993 ) أتت الأنصار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمال جمعوه وقالوا : يا رسول الله ، قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينوبك ، فنزلت وردّه . وقيل ) الْقُرْبَى ( : التقرب إلى الله تعالى ، أي : إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح . وقرىء : ( إلا مودّة في القربى ) ) مِنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ( على السدّي أنها المودّة في آل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومودّته فيهم . والظاهر : العموم في أي حسنة كانت ؛ إلا أنها لما ذكرت

" صفحة رقم 226 "
عقيب ذكر المودّة في القربى : دل ذلك على أنها تناولت المودّة تناولاً أوّلياً ، كأنّ سائر الحسنات لها توابع . وقرىء ( يزد ) أي : يزد الله . وزيادة حسنها من جهة الله مضاعفتها ، كقوله تعالى : ) مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ( ( البقرة : 245 ) وقرىء ( حسنى ) وهي مصدر كالبشرى ، الشكور في صفة الله : مجاز للاعتداد بالطاعة ، وتوفيه ثوابها ، والتفضل على المثاب .
) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (
الشورى : ( 24 ) أم يقولون افترى . . . . .
) أَمْ ( منقطعة . ومعنى الهمزة فيه التوبيخ ، كأنه قيل : أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء ، ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها ) فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ( فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم ، حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم ، وهذا الأسلوب مؤدّاه استبعاد الافتراء من مثله ، وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم . ومثال هذا : أن يخوّن بعض الأمناء فيقول لعل الله خذلني ، لعل الله أعمى قلبي ، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب . وإنما يريد استبعاد أن يخوّن مثله ، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم ، ثم قال : ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق ) بِكَلِمَاتِهِ ( بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى : ) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ( ( الأنبياء : 18 ) يعني : لو كان مفترياً كما تزعمون لكشف الله افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه . ويجوز أن يكون عدة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ، يثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مردّ له من نصرتك عليهم ، إنّ الله عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك . وعن قتادة ) يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ( : ينسك القرآن ويقطع عنك الوحي ، يعني : لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك ، وقيل ) يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ( : يربط عليه بالصبر ، حتى لا يشق عليك أذاهم . فإن قلت : إن كان قوله : ) وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ( كلاماً مبتدأ غير معطوف على يختم ، فما بال الواو ساقطة في الخط ؟ قلت : كما سقطت في قوله تعالى : ) وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرّ ( ( الإسراء : 11 ) وقوله تعالى : ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ( ( العلق : 18 ) على أنها مثبتة على في بعض المصاحف .

" صفحة رقم 227 "
) وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (
الشورى : ( 25 ) وهو الذي يقبل . . . . .
يقال : قبلت منه الشيء ، وقبلته عنه . فمعنى قبلته منه : أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي ومنشأه . ومعنى : قبلته عنه : عزلته عنه وأبنته عنه . والتوبة : أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعاود ؛ لأنّ المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب . وإن كان فيه لعبد حق : لم يكن بد من التفصي على طريقه ، وروى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : اللَّهم إني أستغفرك وأتوب إليك ، وكبر ، فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله عنه : يا هذا ، إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، وتوبتك تحتاج إلى التوبة . فقال : يا أمير المؤمنين ، وما التوبة ؟ قال : اسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، وردّ المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته ) وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ ( عن الكبائر إذا تيب عنها ، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر ( ويعلم ما تفعلون ) . قرىء بالتاء والياء : أي : يعلمه فيثيب على حسناته ، ويعاقب على سيئاته .
) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (
الشورى : ( 26 ) ويستجيب الذين آمنوا . . . . .
) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( أي يستجيب لهم ، فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى : ) وَإِذَا كَالُوهُمْ ( ( المطففين : 3 ) أي يثيبهم على طاعتهم ويزيدهم على الثواب تفضلاً ، أو إذا دعوه استجاب دعاءهم وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم . وقيل : الاستجابة : فعلهم ، أي يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها ) وَيَزِيدُهُمْ ( هو ) مِن فَضْلِهِ ( على ثوابهم . وعن سعيد بن جبير : هذا من فعلهم : يجيبونه إذا دعاهم . وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له : ما بالنا ندعو فلا نجاب ؟ قال : لأنه دعاكم فلم تجيبوه ، ثم قرأ : ) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ ( ( يونس : 25 ) ، ( ويستجيب الذين آمنوا ) .
) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاٌّ رْضِ وَلَاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ (
الشورى : ( 27 ) ولو بسط الله . . . . .
) لَبَغَوْاْ ( من البغي وهو الظلم ، أي : لبغى هذا على ذاك ، وذاك على هذا ، لأنّ الغني مبطرة مأشرة ، وكفى بحال قارون عبرة . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :

" صفحة رقم 228 "
( 994 ) ( أخوف ما أخاف على أمّتي زهرة الدنيا وكثرتها ) ولبعض العرب : وَقَدْ جَعَلَ الْوَسْمِيَّ يَنْبُتُ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ بني رُومَانَ نَبْعاً وَشَوْحَطَا
يعني : أنهم أحيوا فحدّثوا أنفسهم بالبغي والتفانن . أو من البغي وهو البذخ والكبر ، أي : لتكبروا في الأرض ، وفعلوا ما يتبع الكبر من الغلو فيها والفساد . وقيل : نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى . قال خباب ابن الأرت : فينا نزلت ، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتميناها ) بِقَدَرٍ ( بتقدير . يقال قدره قدراً وقدرا . ) خَبِيرُ بَصِيرٌ ( يعرف ما يؤول إليه أحوالهم ، فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم وأقرب إلى جمع شملهم ، ويغنى ، ويمنع ويعطي ، ويقبض ويبسط كما توجبه الحكمة الربانية . ولو أغناهم جميعاً لبغوا ، ولو أفقرهم لهلكوا . فإن قلت : قد نرى الناس يبغي بعضهم على بعض ، ومنهم مبسوط لهم ، ومنهم مقبوض عنهم ؛ فإن كان المبسوط لم يبغون ، فلم بسط لهم : وإن كان المقبوض عنهم يبغون فقد يكون البغي بدون البسط ، فلم شرطه ؟ قلت : لا شبهة في أنّ البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب ، وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه ، فلو عم البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن .
) وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ (
الشورى : ( 28 ) وهو الذي ينزل . . . . .
قرىء : ( قنطوا ) بفتح النون وكسرها ) وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ( أي : بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب . وعن عمر رضي الله عنه أنه قيل له : اشتدّ القحط وقنط الناس فقال : مطروا إذاً أراد هذه الآية . ويجوز أن يريد رحمته في كل شيء ، كأنه قال : ينزل الرحمة التي هي الغيث ، وينشر غيرها من رحمته الواسعة ) الْوَلِىُّ ( الذي يتولى عباده بإحسانه ) الْحَمِيدِ ( المحمود على ذلك يحمده أهل طاعته .
) وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ

" صفحة رقم 229 "
قَدِيرٌ (
الشورى : ( 29 ) ومن آياته خلق . . . . .
) وَمَا بَثَّ ( يجوز أن يكون مرفوعاً ومجروراً يحمل على المضاف إليه أو المضاف . فإن قلت : لم جاز ) فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ( والدواب في الأرض وحدها ؟ قلت : يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان ملتبساً ببغضه ، كما يقال : بنو تميم فيهم شاعر مجيد أو شجاع بطل ، وإنما هو في فخذ من أفخاذهم أو فصيلة من فصائلهم ، وبنو فلان فعلوا كذا ، وإنما فعلوا نويس منهم . ومنه قوله تعالى : ) يَخْرُجُ مِنْهَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( ( الرحمن : 22 ) وإنما يخرج من الملح ، ويجوز أن يكون للملائكة عليهم السلام مشي مع الطيران . فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الأناسي . ولا يبعد أن يخلق في السماوات حيواناً يمشي فيها مشي الأناسي على الأرض ، سبحان الذي خلق ما نعلم وما لا نعلم من أصناف الخلق . ) إِذَا ( ومنه يدخل على المضارع كما يدخل على الماضي قال الله تعالى : ) وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( ( الليل : 1 ) ) إِذَا يَشَاء ( وقال الشاعر : وَإِذَا مَا أَشَاءُ أَبْعَثُ مِنْهَا
آخِرَ اللَّيْلِ نَاشِطاً مَذْعُورَا
) وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاٌّ رْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (
الشورى : ( 30 ) وما أصابكم من . . . . .
في مصاحف أهل العراق ) فَبِمَا كَسَبَتْ ( بإثبات الفاء على تضمين ( ما ) معنى الشرط . وفي مصاحف أهل المدينة ) بِمَا كَسَبَتْ ( بغير فاء ، على أنّ ( ما ) مبتدأة ، وبما كسبت : خبرها من غير تضمين معنى الشرط . والآية مخصوصة بالمجرمين ولا يمتنع

" صفحة رقم 230 "
أن يستوفي الله بعض عقاب المجرم ويعفو عن بعض . فأمّا من لا جرم له كالأنبياء والأطفال والمجانين ، فهؤلاء إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره فللعوض الموفى والمصلحة . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 995 ) ( ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ، ولما يعفو الله عنه أكثر ) وعن بعضهم : من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه . وأنّ ما عفا عنه مولاه أكثر : كان قليل النظر في إحسان ربه إليه . وعن آخر : العبد ملازم للجنايات في كل أوان ؛ وجناياته في طاعاته أكثر من جناياته في معاصيه ، لأنّ جناية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه ، والله يطهر عبده من جناياته بأنواع من المصائب ليخفف عنه أثقاله في القيامة ، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أوّل خطوة ، وعن علي رضي الله عنه وقد رفعه :
( 996 ) ( من عفي عنه في الدنيا عفي عنه في الآخرة ومن عوقب في الدنيا لم تثن

" صفحة رقم 231 "
عليه العقوبة في الآخرة ) وعنه رضي الله عنه : هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن ) بِمُعْجِزِينَ ( بفائتين ما قضي عليكم من المصائب ) مِن وَلِىّ ( من متول بالرحمة .
) وَمِنْ ءَايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاٌّ عْلَامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (
الشورى : ( 32 ) ومن آياته الجوار . . . . .
) الْجَوَارِ ( السفن . وقرىء ( الجوار ) ) كَالاْعْلَامِ ( كالجبال . قالت الخنساء : كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِهِ نَارُ ;
وقرىء ( الرياح فيظللن ) بفتح اللام وكسرها ؛ من ظل ويظل ، نحو : ضل يضل ويضل ) رَوَاكِدَ ( ثوابت لا تجري ) عَلَى ظَهْرِهِ ( على ظهر البحر ) لّكُلّ صَبَّارٍ ( على بلاء الله ) شَكُورٍ ( لنعمائه ، وهما صفتا المؤمن المخلص ، فجعلهما كناية عنه ، وهو الذي وكل همته بالنظر في آيات الله ، فهو يستملي منها العبر ) يُوبِقْهُنَّ ( يهلكهن . والمعنى : أنه إن يشأ يبتلي المسافرين في البحر بإحدى بليتين : إما أن يسكن الريح فيركد الجواري على متن البحر ويمنعهن من الجري ، وإما أن يرسل الريح عاصفة فيهلكهن إغراقاً بسبب ما كسبوا من الذنوب ) وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ( منها ، فإن قلت : علام عطف يوبقهن ؟ قلت : على

" صفحة رقم 232 "
يسكن ، لأنّ المعنى : إن يشأ يسكن الريح فيركدن . أو يعصفها فيغرقن بعصفها . فإن قلت : فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جزم جزمه ؟ قلت : معناه : أو إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم . فإن قلت : فمن قرأ ( ويعفو ) ؟ قلت : قد استأنف الكلام .
) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِىءَايَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ (
الشورى : ( 35 ) ويعلم الذين يجادلون . . . . .
فإن قلت : فما وجوه القراءات الثلاث في ) وَيَعْلَمَ ( ؟ قلت : أما الجزم فعلى ظاهر العطف وأما الرفع فعلى الاستئناف . وأما النصب فللعطف على تعليل محذوف تقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ، ومنه قوله تعالى : ) وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ ( ( مريم : 21 ) وقوله تعالى : ) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( ( الجاثية : 22 ) ، وأما قول الزجاج : النصب على إضمار أن ، لأنّ قبلها جزاء ، تقول : ما تصنع أصنع مثله وأكرمك وإن شئت وأكرمك ، على : وأنا أكرمك . وإن شئت وأكرمك جزماً ، ففيه نظر لما أورده سيبويه في كتابه . قال : واعلم أنّ النصب بالفاء والواو في قوله : إن تأتني آتك وأعطيك : ضعيف ، وهو نحو من قوله : وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا ;
فهذا يجوز ، وليس بحدّ الكلام ولا وجهه ، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً ؛ لأنه ليس بواجب أنه يفعل ، إلا أن يكون من الأوّل فعل ، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه : أجازوا فيه هذا على ضعفه ا ه . ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحدّ الكلام ولا وجهه ، ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه ، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة . فإن قلت : فكيف يصح المعنى على جزم ) وَيَعْلَمَ ( ؟ قلت : كأنه قال : أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور : هلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين ) مِن مَّحِيصٍ ( من محيد عن عقابه .
) فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَىْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (
الشورى : ( 36 ) فما أوتيتم من . . . . .
) فَمَآ ( الأولى ضمنت معنى الشرط ، فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية . عن علي رضي الله عنه : اجتمع لأبي بكر رضي الله عنه مال فتصدق به كله في سبيل الله

" صفحة رقم 233 "
والخير ، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون ، فنزلت .
) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ (
الشورى : ( 37 ) والذين يجتنبون كبائر . . . . .
) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ( عطف على الذين آمنوا ، وكذلك ما بعده . ومعنى ) كَبَائِرَ الإثْمِ ( الكبائر من هذا الجنس . وقرىء ( كبير الإثم ) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه : كبير الإثم هو الشرك ) هُمْ يَغْفِرُونَ ( أي هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب ، لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول حلوم الناس ، والمجيء بهم وإيقاعه مبتدأ ، وإسناد ) يَغْفِرُونَ ( إليه لهذه الفائدة ، ومثله : ) هُمْ يَنتَصِرُونَ ( ( الشورى : 39 ) .
) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلواةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (
الشورى : ( 38 ) والذين استجابوا لربهم . . . . .
) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ ( نزلت في الأنصار : دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته ، فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه ) وَأَقَامُواْ الصَّلواةَ ( وأتموا الصلوات الخمس . وكانوا قبل الإسلام وقبل مقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة : إذا كان بهم أمر اجتمعوا وتشاوروا ، فأثنى الله عليهم ، أي : لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه . وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم والشورى : مصدر كالفتيا ، بمعنى التشاور . ومعنى قوله : ) وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ( أي ذو شورى ، وكذلك قولهم : ترك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة شورى .
) وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (
الشورى : ( 39 ) والذين إذا أصابهم . . . . .
هو أن يقتصروا في الانتصار على ما جعله الله لهم ولا يعتدوا . وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق . فإن قلت : أهم محمودون على الانتصار ؟ قلت : نعم ؛ لأنّ من أخذ حقه غير متعد حدّ الله وما أمر به فلم يسرف في القتل إن كان ولي دم أورد على سفيه ، محاماة على عرضه وردعا له ، فهو مطيع . وكل مطيع محمود .
) وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (
الشورى : ( 40 ) وجزاء سيئة سيئة . . . . .
كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة ، لأنها تسوء من تنزل به . قال الله تعالى : ) وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ ( ( النساء : 78 ) : يريد ما يسوءهم من المصائب

" صفحة رقم 234 "
والبلايا . والمعنى : أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة ، فإذا قال أخزاك الله قال : أخزاك الله ) فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ ( بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء . كما قال تعالى : ) فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ ( ( فصلت : 34 ) ، ) فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ( عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم . وقوله : ) إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( دلالة على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء خصوصاً في حال الحرد والتهاب الحمية فربما كان المجازي من الظالمين وهو لا يشعر . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 997 ) ( وإذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان له على الله أجر فليقم . قال : فيقوم خلق ، فيقال لهم : ما أجركم على الله ؟ فيقولون : نحن الذين عفونا عمن ظلمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة بإذن الله ) .
) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَائِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الاٌّ رْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (
الشورى : ( 41 ) ولمن انتصر بعد . . . . .
) بَعْدَ ظُلْمِهِ ( من إضافة المصدر إلى المفعول ، وتفسره قراءة من قرأ ( بعد ما ظلم ) ) فَأُوْلَائِكَ ( إشارة إلى معنى ( من ) دون لفظه ) مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ ( للمعاقب ولا للعاتب والعائب ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ( يبتدئون بالظلم ) وَيَبْغُونَ فِى الاْرْضِ ( يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون .
) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاٍّ مُور ( 7 )
الشورى : ( 43 ) ولمن صبر وغفر . . . . .

" صفحة رقم 235 "
ِ
) وَلَمَن صَبَرَ ( على الظلم والأذى ) وَغَفَرَ ( ولم ينتصر وفوّض أمره إلى الله ) إِنَّ ذالِكَ ( منه ) لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ( وحذف الراجع لأنه مفهوم ، كما حذف من قولهم : السمن منوان بدرهم . ويحكى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن رحمه الله ، فكان المسبوب يكظم ، ويعرق فيمسح العرق ، ثم قام فتلا هذه الآية ، فقال الحسن : عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون . وقالوا : العفو مندوب إليه ، ثم الأمر قد ينعكس في بعض الأحوال ، فيرجع ترك العفو مندوباً إليه ، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي ، وقطع مادة الأذى . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يدل عليه وهو :
( 998 ) أن زينب أسمعت عائشة بحضرته ، وكان ينهاها فلا تنتهي ، فقال لعائشة : ( دونك فانتصري ) .
) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ (
الشورى : ( 44 ) ومن يضلل الله . . . . .
) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ ( ومن يخذل الله ) فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ ( فليس له من ناصر يتولاه من بعد خذلانه .
) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ (
الشورى : ( 45 - 46 ) وتراهم يعرضون عليها . . . . .
) خاشِعِينَ ( متضائلين متقاصرين مما يلحقهم ) مَّنَ الذُّلّ ( وقد يعلق من الذل ينظرون ، ويوقف على خاشعين ) يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ ( أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة ، كما ترى المصبور ينظر إلى السيف . وهكذا نظر الناظر إلى المكاره : لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها ، كما يفعل في نظره إلى المحاب . وقيل : يحشرون عمياً فلا ينظرون إلا بقلوبهم . وذلك نظر من طرف خفي . وفيه تعسف ) يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( إما أن يتعلق بخسروا ، ويكون قول المؤمنين واقعاً في

" صفحة رقم 236 "
الدنيا ، وإما أن يتعلق بقال ، أي : يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة .
) اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ (
الشورى : ( 47 ) استجيبوا لربكم من . . . . .
) مِنَ اللَّهِ ( من صلة لا مردّ ، أي : لا يرده الله بعدما حكم به . أو من صلة يأتي ، أي : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على ردّه . والنكير : الإنكار ، أي : ما لكم من مخلص من العذاب ولا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه ودوّن في صحائف أعمالكم .
) فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ (
الشورى : ( 48 ) فإن أعرضوا فما . . . . .
أراد بالإنسان الجمع لا الواحد . لقوله : ( وإن تصبهم سيئة ) ولم يرد إلا المجرمين ؛ لأن إصابة السيئة بما قدّمت أيديهم إنما تستقيم فيهم . والرحمة : النعمة من الصحة والغني والأمن . والسيئة : البلاء من المرض والفقر والمخاوف . والكفور : البليغ الكفران ، ولم يقل : فإن كفور ؛ ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم ، كما قال : ) إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( ( إبراهيم : 34 ) ، ) إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ ( ( العاديات : 6 ) والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها .
) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (
الشورى : ( 49 ) لله ملك السماوات . . . . .
لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدّها : أتبع ذلك أنّ له الملك وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد ، ويهب لعباده من الأولاد ما تقتضيه مشيئته ، فيخص بعضاً بالإناث وبعضاً بالذكور ، وبعضاً بالصنفين جميعاً ، ويعقم آخرين فلا يهب لهم ولداً قط . فإن قلت : لم قدّم الإناث أوّلاً على الذكور مع تقدّمهم عليهنّ ، ثم رجع فقدّمهم ،

" صفحة رقم 237 "
ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث ؟ قلت : لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده ، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد ، فقدم الإناث لأنّ سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم ، والأهم واجب التقديم ، وليلى الجنس الذي كانت العرب تعدّه بلاء ذكر البلاء ، وأخر الذكور فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيرهم ، وهم أحقاء بالتقديم بتعريفهم ؛ لأن التعريف تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير ، وعرّف أن تقديمهنّ لم يكن لتقدمهنّ ، ولكن لمقتض آخر فقال : ) ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ( كما قال : ) إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( ( الحجرات : 13 ) ، ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( ( القيامة : 39 ) وقيل : نزلت في الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، حيث وهب لشعيب ولوط إناثاً ، ولإبراهيم ذكوراً ، ولمحمد ذكوراً وإناثاً ، وجعل يحيى وعيسى عقيمين ) إِنَّهُ عَلِيمٌ ( بمصالح العباد ) قَدِيرٌ ( على تكوين ما يصلحهم .
) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ (
الشورى : ( 51 ) وما كان لبشر . . . . .
) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ ( وما صح لأحد من البشر ) أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ ( على ثلاثة أوجه : إما على طريق الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام ، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده . وعن مجاهد : أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره . قال عبيد بن الأبرص : وَأَوْحَى إِليَّ اللَّهُ أَنْ قَدْ تَأَمَّرُوا
بِإِبْلِ أَبِي أَوْفَى فَقُمْتُ عَلَى رِجْلِ
أي : ألهمني وقذف في قلبي . وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام ، من غير أن يبصر السامع من يكلمه ، لأنه في ذاته غير مرئي . وقوله : ) مِن وَرَاء حِجَابٍ ( مثل أي ، كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه وهو من وراء الحجاب ، فيسمع صوته ولا يرى شخصه ، وذلك كما كلم موسى ويكلم الملائكة . وإما على أن يرسل إليه رسولاً من الملائكة فيوحى الملك إليه كما كلم الأنبياء غير موسى . وقيل :

" صفحة رقم 238 "
وحيا كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملائكة ) أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ( أي نبيناً كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم . ووحيا ، وأن يرسل : مصدران واقعان موقع الحال ؛ لأنّ أن يرسل ، في معنى إرسالاً . ومن وراء حجاب : ظرف واقع موقع الحال أيضاً ، كقوله تعالى : ) وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( ( آل عمران : 191 ) والتقدير : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً ، أو مسمعاً من وراء حجاب ، أو مرسلاً . ويجوز أن يكون : وحياً ، موضوعاً موضع : كلاماً ؛ لأنّ الوحي كلام خفي في سرعة ، كما تقول : لا أكلمه إلا جهراً وإلا خفانا ؛ لأنّ الجهر والخفات ضربان من الكلام ، قلت لفلان كذا ، وإنما قاله وكيلك أو رسولك . وقوله : ) أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ( معناه : أو إسماعاً من وراء حجاب ؛ ومن جعل ( وحيا ) في معنى : أن يوحي ، وعطف يرسل عليه ، على معنى ) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً ( أي : إلا بأن يوحي . أو بأن يرسل ، فعليه أن يقدر قوله : ) أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ( تقديراً يطابقهما عليه ، نحو : أو أن يسمع من وراء حجاب . وقرىء ( أو يرسل رسولاً فيوحى ) بالرفع ، على : أو هو يرسل . أو بمعنى مرسلاً عطفاً على وحيا في معنى موحياً . وروى أنّ اليهود قالت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 999 ) ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه ، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك ، فقال : لم ينظر موسى إلى الله ، فنزلت . وعن عائشة رضي الله عنها :
( 1000 ) من زعم أنّ محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، ثم قالت : أو لم تسمعوا ربكم يقول : فتلت هذه الآية : ) إِنَّهُ عَلِىٌّ ( عن صفات المخلوقين ) حَكِيمٌ ( يجري أفعاله على موجب الحكمة ، فيكلم تارة بواسطة ، وأخرى بغير واسطة : إما إلهاماً ، وإما خطاباً .
) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاٍّ مُورُ (
الشورى : ( 52 ) وكذلك أوحينا إليك . . . . .
) رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( يريد : ما أوحي إليه ، لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيى

" صفحة رقم 239 "
الجسد بالروح . فإن قلت : قد علم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما كان يدري ما القرآن قبل نزوله عليه ؛ فما معنى قوله : ) وَلاَ الإِيمَانُ ( والأنبياء لا يجوز عليهم إذا عقلوا وتمكنوا من النظر والاستدلال أن يخطئهم الإيمان بالله وتوحيده ، ويجب أن يكونوا معصومين من ارتكاب الكبائر ومن الصغائر التي فيها تنفير قبل المبعث وبعده ، فكيف لا يعصمون من الكفر ؟ قلت : الإيمان اسم يتناول أشياء : بعضها الطريق إليه العقل ، وبعضها الطريق إليه السمع ، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل ؛ وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي . ألا ترى أنه قد فسر الإيمان في قوله تعالى : ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( ( البقرة : 143 ) بالصلاة ؛ لأنها بعض ما يتناوله الإيمان ) مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ( من له لطف ومن لا لطف له ، فلا هداية تجدي عليه ) صِراطِ اللَّهِ ( بدل . وقرىء ( لتهدى ) أي : يهديك الله . وقرىء ( لتدعو ) .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1001 ) ( من قرأ حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له ) .

" صفحة رقم 240 "
( سورة الزخرف )
مكية ، وقال مقاتل : إلا قوله ) وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا (
وهي تسع وثمانون آية ( نزلت بعد الشورى )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ (
الزخرف : ( 1 ) حم
أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن وجعل قوله : ) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً ( جواباً للقسم وهو من الأيمان الحسنة البديعة ، لتناسب القسم والمقسم عليه ، وكونهما من واد واحد . ونظيره قول أبي تمام : وَثَنَايَاكِ إِنَّهَا إِغْرِيضُ ;
) الْمُبِينُ ( البين للذين أنزل عليهم ؛ لأنه بلغتهم وأساليهم . وقيل : الواضع للمتدبرين . وقيل : ( المبين ) الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة ، وأبان ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة ) جَعَلْنَاهُ ( بمعنى صيرناه معدّى إلى مفعولين . أو بمعنى خلقناه معدّى إلى واحد ، كقوله تعالى : ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( ( الأنعام : 1 ) . و ) قُرْءاناً

" صفحة رقم 241 "
عَرَبِيّاً ( حال . ولعل : مستعار لمعنى الإرادة ؛ لتلاحظ معناها ومعنى الترجي ، أي : خلقناه عربياً غير عجمي : إرادة أن تعقله العرب ، ولئلا يقولوا لولا فصلت آياته ، وقرىء ( أمّ الكتاب ) بالكسر وهو اللوح ، كقوله تعالى : ) بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( ( البروج : 21 22 ) سمي بأم الكتاب ؛ لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب منه تنقل وتنتسخ . على رفيع الشأن في الكتب ؛ لكونه معجزاً من بينها ) حَكِيمٌ ( ذو حكمة بالغة ، أي : منزلته عندنا منزلة كتاب هما صفتاه ، وهو مثبت في أم الكتاب هكذا .
) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ (
الزخرف : ( 5 ) أفنضرب عنكم الذكر . . . . .
) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحاً ( بمعنى : أفننحي عنكم الذكر ونذوده عنكم على سبيل المجاز ، من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض . ومنه قول الحجاج : ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل . وقال طرفة : اضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِفَهَا
ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الْفَرَسِ
والفاء للعطف على محذوف ، تقديره : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر ، إنكاراً لأن يكون الأمر على خلاف ما قدّم على إنزاله الكتاب . وخلقه قرآناً عربياً ؛ ليعقلوه ويعملوا بمواجبه . وصفحاً على وجهين . إما مصدر من صفح عنه : إذا أعرض ، منتصب على أنه مفعول له ، على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم . وإمّا بمعنى الجانب من قولهم : نظر إليه بصفح وجهه وصفح وجهه ، على معنى : أفننحيه عنكم جانباً ، فينتصب على الظرف كما تقول : ضعه جانباً ، وامش جانباً . وتعضده قراءة من قرأ ( صفحاً ) بالضم . وفي هذه القراءة وجه آخر : وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح ، وينتصب على الحال ، أي : صافحين معرضين ) إِن كُنتُمْ ( أي : لأن كنتم . وقرىء ( إن كنتم ) وإذ كنتم . فإن قلت : كيف استقام معنى إن الشرطية ، وقد كانوا مسرفين على البتّ ؟ قلت : هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل بصحة الأمر ، المتحقق لثبوته ، كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي ، وهو عالم بذلك ؛ ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق : فعل من له شك في الاستحقاق ، مع وضوحه استجهالاً له .

" صفحة رقم 242 "
) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاٌّ وَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِىٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الاٌّ وَّلِينَ (
الزخرف : ( 6 ) وكم أرسلنا من . . . . .
) وَمَا يَأْتِيهِم ( حكاية حال ماضية مستمرة ، أي : كانوا على ذلك . وهذه تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن استهزاء قومه . الضمير في ) أَشَدُّ مِنْهُم ( للقوم المسرفين ، لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخبره عنهم ) وَمَضَى مَثَلُ الاْوَّلِينَ ( أي سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل ، وهذا وعد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ووعيد لهم .
) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ رْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (
الزخرف : ( 9 ) ولئن سألتهم من . . . . .
فإن قلت : قوله : ) لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( وما سرد من الأوصاف عقيبه إن كان من قولهم ، فما تصنع بقوله : ) فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( وإن كان من قول الله ، فما وجهه ؟ قلت : هو من قول الله لا من قولهم . ومعنى قوله : ) لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( الذي من صفته كيت وكيت ، لينسبنّ خلقها إلى الذي هذه أوصافه وليسندنه إليه . ) بِقَدَرٍ ( بمقدار يسلم معه البلاد والعباد ، ولم يكن طوفاناً .

" صفحة رقم 243 "
) وَالَّذِى خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالاٌّ نْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (
الزخرف : ( 12 - 14 ) والذي خلق الأزواج . . . . .
و ) الاْزْواجَ ( الأصناف ) مَا تَرْكَبُونَ ( أي تركبونه . فإن قلت : يقال : ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك . وقد ذكر الجنسين فكيف قال ما تركبونه ؟ قلت : غلب المتعدّي بغير واسطة ، لقوّته على المتعدّي بواسطة ، فقيل : تركبونه ) عَلَى ظُهُورِهِ ( على ظهور ما تركبونه وهو الفلك والأنعام . ومعنى ذكر النعمة الله عليهم : أن يذكروها في قلوبهم معترفين بها مستعظمين لها ، ثم يحمدوا عليها بألسنتهم ، وهو ما يروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1002 ) أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : ( بسم الله ) فإذا استوى على

" صفحة رقم 244 "
الدابة قال : ( الحمد لله على كل حال ، سبحان الذي سخر لنا هذا . . . إلى قوله لمنقلبون ) وكبر ثلاثاً وهلل ثلاثاً . وقالوا : إذا ركب في السفينة قال : ) بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ( هود : 41 ) وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً يركب دابة فقال : سبحان الذي سخر لنا هذا . فقال : أبهذا أمرتم ؟ فقال : وبم أمرنا ؟ قال : أن تذكروا نعمة ربكم ، كان قد أغفل التحميد فنبهه عليه . وهذا من حسن مراعاتهم لأداب الله ومحافظتهم على دقيقها وجليلها . جعلنا الله من المقتدين بهم ، والسائرين بسيرتهم ، فما أحسن بالعاقل النظر في لطائف الصناعات ، فكيف بالنظر في لطائف الديانات ؟ ) مُقْرِنِينَ ( مطيقين . يقال : أقرن الشيء ، إذا أطاقه . قال ابن هرمة : وَأَقْرَنْتُ مَا حَمَّلَتْنِي وَلَقَلَّمَا
يُطَاقُ احْتِمَالُ الصَّدِّ يَا دَعْدُ وَالْهَجْرُ
وحقيقة ( أقرنه ) : وجده قرينته وما يقرن به ؛ لأنّ الصعب لا يكون قرينة للضعيف . ألا ترى إلى قولهم في الضعيف : لا يقرن به الصعبة . وقرىء ( مقرنين ) والمعنى واحد . فإن قلت : كيف اتصل بذلك قوله : ) وَإِنَّا إِلَى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ ( ؟ قلت : كم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت أو طاح من ظهرها فهلك ، وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا ؛ فلما كان الركوب مباشرة أمر مخطر ، واتصالاً بسبب من أسباب التلف : كان من حق الراكب وقد اتصل بسبب من أسباب التلف أن لا ينسى عند اتصاله به يومه ، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله غير منفلت من قضائه ، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعداً للقاء الله بإصلاحه من نفسه ، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه ، ويستعيذ بالله من مقام من يقول لقرنائه : تعالوا نتنزه على الخيل أو في بعض الزوارق ؛ فيركبون حاملين مع أنفسهم أواني

" صفحة رقم 245 "
الخمر والمعازف ، فلا يزالون يسقون حتى تميل طلاهم وهم على ظهور الدواب ، أو في بطون السفن وهي تجري بهم ، لا يذكرون إلا الشيطان ، ولا يمتثلون إلا أوامره . وقد بلغني أنّ بعض السلاطين ركب وهو يشرب من بلد إلى بلد بينهما مسيرة شهر ، فلم يصح إلا بعدما اطمأنت به الدار ، فلم يشعره بمسيره ولا أحس به ، فكم بين فعل أولئك الراكبين وبين ما أمره الله به في هذه الآية . وقيل : يذكرون عند الركوب ركوب الجنازة .
) وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (
الزخرف : ( 15 ) وجعلوا له من . . . . .
) وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ( متصل بقوله : ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ ( ( الزخرف : 9 ) أي : ولئن سألتهم عن خالق السماوات والأرض ليعترفن به ، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءاً فوصفوه بصفات المخلوقين . ومعنى ) مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ( أن قالوا الملائكة بنات الله ، فجعلوهم جزءاً له وبعضاً منه ، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءاً له . ومن بدع التفاسير : تفسير الجزء بالإناث ، وادعاء أنّ الجزء في لغة العرب : اسم للإناث ، وما هو إلا كذب على العرب ، ووضع مستحدث منحول ، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه : أجزأت المرأة ، ثم صنعوا بيتاً وبيتاً : إنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْماً فَلاَ عَجَب
زُوِّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الأَوْسِ مُجْزِئَةً
وقرىء ( جزؤوا ) بضمتين ) لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ( لجحود للنعمة ظاهر جحوده ؛ لأنّ نسبة الولد إليه كفر ، والكفر أصل الكفران كله ) أَمِ اتَّخَذَ ( بل اتخذ ، والهمزة للإنكار : تجهيلاً لهم وتعجيباً من شأنهم ، حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءاً ، حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزأين : وهو الإناث دون الذكور ، على أنهم أنفر خلق الله عن

" صفحة رقم 246 "
الإناث وأمقتهم لهنّ ، ولقد بلغ بهم المقت إلى أن وأودهنّ ، كأنه قيل : هبوا أنّ إضافة

" صفحة رقم 247 "
اتخاذ الولد إليه جائزة فرضاً وتمثيلاً ، أما تستحيون من الشطط في القسمة ؟ ومن ادعائكم أنه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما وترك له شرهما وأدناهما ؟ وتنكير ) بَنَاتٍ ( وتعريف ) الْبَنِينَ ( وتقديمهنّ في الذكر عليهم لما ذكرت في قوله تعالى : ) يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ( ( الشورى : 49 ) ) بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ( بالجنس الذي جعله له مثلاً ، أي : شبهاً لأنه إذا جعل الملائكة جزءاً لله وبعضاً منه فقد جعله من جنسه ومماثلاً له ؛ لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد ، يعني : أنهم نسبوا إليه هذا الجنس . ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له : قد ولدت لك بنت اغتم واربدّ وجهه غيظاً وتأسفاً وهو مملوء من الكرب . وعن بعض العرب : أن امرأته وضعت أنثى ، فهجر البيت الذي فيه المرأة ، فقالت : مَا لأَبِي حَمْزَةَ لاَ يَأْتِينَا
يَظَلُّ فِي الْبَيْتِ الَّذِي يَلِينَا
غَضْبَانُ أَنْ لاَ نَلِدَ الْبَنِينَا
لَيْسَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا مَاشِينَا
وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَا أُعْطِينَا
والظلول بمعنى الصيرورة ، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة بمعناها . وقرىء ( مسودّ ومسوادّ ) على أن في ) ظَلَّ ( ضمير المبشر ، و ) وَجْهُهُ مُسْوَدّا ( جملة واقعة موقع الخبر ، ثم قال : أو يجعل للرحمان من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته . وهو أنه ) يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ ( أي يتربى في الزينة والنعمة ، وهو إذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ومجاراة الرجال ، كان غير مبين ، ليس عنده بيان ، ولا يأتي ببرهان يحتج به من يخاصمه وذلك لضعف عقول النساء ونقصانهنّ عن فطرة الرجال ، يقال : قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها . وفيه : أنه جعل النشء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام ، وأنه من صفة ربات الحجال ، فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويأنف منه ، ويربأ بنفسه عنه ، ويعيش كما قال عمر رضي الله عنه : اخشوشنوا واخشوشبوا وتمعددوا . وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى . وقرىء ( ينشأ ) ، وينشأ . ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء : المغالاة بمعنى الإغلاء .
) وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ

" صفحة رقم 248 "
وَيُسْألُونَ (
الزخرف : ( 19 ) وجعلوا الملائكة الذين . . . . .
قد جمعوا في كفرة ثلاث كفرات ، وذلك أنهم نسبوا إلى الله الولد ، ونسبوا إليه أحسن النوعين ؛ وجعلوه من الملائكة الذين هم أكرم عباد الله على الله ، فاستخفوا بهم واحتقروهم . وقرىء ( عباد الرحمن ) وعبيد الرحمن ، وعبد الرحمن ، وهو مثل لزلفاهم واختصاصهم . وإناثاً ، وأنثا : جمع الجمع . ومعنى جعلوا : سموا وقالوا إنهم إناث . وقرىء ( أشهدوا ) وأشهدوا ، بهمزتين مفتوحة ومضمومة . وآأشهدوا بألف بينهما ، وهذا تهكم بهم ، بمعنى أنهم يقولون ذلك من غير أن يستند قولهم إلى علم ، فإن الله لم يضطرهم إلى علم ذلك ، ولا تطرّقوا إليه باستدلال ، ولا أحاطوا به عن خبر يوجب العلم ، فلم يبق إلا أن يشاهدوا خلقهم ، فأخبروا عن هذه المشاهدة ) سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ( التي شهدوا بها على الملائكة من أنوثتهم ) وَيُسْئَلُونَ ( وهذا وعيد . وقرىء ( سيكتب ) وسنكتب : بالياء والنون . وشهادتهم ، وشهاداتهم . ويساءلون على ما يفاعلون .
) وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (
الزخرف : ( 20 ) وقالوا لو شاء . . . . .
) وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ( هما كفرتان أيضاً مضمومتان إلى الكفرات الثلاث ، وهما : عبادتهم الملائكة من دون الله ، وزعموهم أن عبادتهم بمشيئة الله ، كما يقول إخوانهم المجبرة ، فإن قلت : ما أنكرت على من يقول : قالوا ذلك على وجه الاستهزاء ، ولو قالوه جادين لكانوا مؤمنين ؟ قلت : لا دليل على أنهم قالوه مستهزئين ، وادعاء ما لا دليل عليه باطل ، على أن الله تعالى قد حكى عنه ذلك على سبيل الذم والشهادة بالكفر : أنهم جعلوا له من عباده جزءاً ، وأنه اتخذ بنات وأصفاهم بالبنين ، وأنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثاً . وأنهم عبدوهم وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، فلو كانوا ناطقين بها على طريق الهزء : لكان النطق بالمحكيات قبل هذا المحكى الذي هو إيمان عنده لو جدّوا في النطق به مدحاً لهم ، من قبل أنها كلمات كفر نطقوا بها على طريق الهزء ؛ فبقي أن يكونوا جادين ، وتشترك كلها في أنها كلمات كفر ، فإن قالوا : نجعل هذا الأخير وخده مقولاً على وجه الهزء دون ما قبله ، فما بهم إلا تعويج كتاب الله

" صفحة رقم 249 "
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لتسوية مذهبهم الباطل . ولو كانت هذه كلمة حق نطقوا بها هزءاً لم يكن لقوله تعالى : ) مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ( معنى ، لأنّ من قال لا إلاه إلا الله على طريق الهزء : كان الواجب أن ينكر عليه استهزاؤه ولا يكذب ، لأنه لا يجوز تكذيب الناطق بالحق جادّاً كان أو هازئاً . فإن قلت : ما قولك فيمن يفسر ما لهم بقولهم : إن الملائكة بنات الله من علم أن هم إلا يخرصون في ذلك القول لا في تعليق عبادتهم بمشيئة الله ؟ قلت : تمحل مبطل وتحريف مكابر . ونحوه قوله تعالى : ) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( ( الأنعام : 148 ) .
) أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (
الزخرف : ( 21 ) أم آتيناهم كتابا . . . . .
الضمير في ) مِن قَبْلِهِ ( للقرآن أو الرسول . والمعنى : أنهم ألصقوا عبادة غير الله بمشيئة الله : قولاً قالوه غير مستند إلى علم ، ثم قال : أم آتيناهم كتاباً قبل هذا الكتاب نسبنا فيه الكفر والقبائح إلينا ، فحصل لهم علم بذلك من جهة الوحي ، فاستمسكوا بذلك الكتاب واحتجوا به . بل لا حجة لهم يستمسكون بها إلا قولهم ) بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا ( على دين . وقرىء ( على إمة ) بالكسر ، وكلتاهما من الأمّ وهو القصد ، فالأمة : الطريقة التي تؤم ، أي : تقصد ، كالرحلة للمرحولة إليه . والأمة : الخالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد . وقيل : على نعمة وحالة حسنة ) عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا ( خبر إن . أو الظرف صلة لمهتدون .
) وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (
الزخرف : ( 23 ) وكذلك ما أرسلنا . . . . .
) مُتْرَفُوهَا ( الذين أترفتهم النعمة ، أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ، ويعافون مشاق الدين وتكاليفه .
) قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (
الزخرف : ( 24 ) قال أولو جئتكم . . . . .
قرىء ( قل ) وقال : وجئتكم ، وجئناكم ، يعني ، أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ؟ قالوا : إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه ، وإن جئتنا بما هو أهدى وأهدى .

" صفحة رقم 250 "
) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (
الزخرف : ( 26 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
قرىء ( براء ) بفتح الباء وضمها . وبرىء ، فبرىء وبراء ، نحو كريم وكرام ؛ وبراء : مصدر كظماء ، ولذلك استوى فيه الواحد والاثنان والجماعة ، والمذكر والمؤنث . يقال : نحن البراء منك ، والخلاء منك ) الَّذِى فَطَرَنِى ( فيه غير وجه : أن يكون منصوباً على أنه استثناء منقطع ، كأنه قال : لكن الذي فطرني فإنه سيهدين ، وأن يكون مجروراً بدلاً من المجرور بمن ؛ كأنه قال : إنني براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني . فإن قلت : كيف تجعله بدلاً وليس من جنس ما يعبدون من وجهين ، أحدهما : أن ذات الله مخالفة لجميع الذوات ، فكانت مخالفة لذوات ما يعبدون . والثاني ، أن الله تعالى غير معبود بينهم والأوثان معبودة ؟ قلت : قالوا : كانوا يعبدون الله مع أوثانهم ، وأن تكون ) إِلاَّ ( صفة بمعنى غير ، على أن ) مَا ( في ما تعبدون موصوفة . تقديره : إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني ، فهو نظير قوله تعالى : ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( ( الأنبياء : 22 ) . فإن قلت : ما معنى قوله : ) سَيَهْدِينِ ( على التسويف ؟ قلت : قال مرة : ) فَهُوَ يَهْدِينِ ( ( الشعراء : 78 ) ومرة ) فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ( فاجمع بينهما وقدّر ، كأنه قال . فهو يهدين وسيهدين ، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال ) وَجَعَلَهَا ( وجعل إبراهيم صلوات الله عليه كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله : ( إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني ) ) كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ ( في ذريته ، فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده ، لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم . ونحوه ) وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ ( ( البقرة : 132 ) وقيل : وجعلها الله . وقرىء ( كلمة ) على التخفيف وفي عقبه كذلك ، وفي عاقبه ، أي : فيمن عقبه ، أي : خلفه .
) بَلْ مَتَّعْتُ هَاؤُلاَءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (
الزخرف : ( 29 ) بل متعت هؤلاء . . . . .
) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء ( يعني : أهل مكة وهم من عقب إبراهيم بالمدّ في العمر والنعمة ، فاغتروا بالمهلة ، وشغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد ) حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ ( وهو القرآن ) وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ( الرسالة واضحها بما معه من الآيات البينة ، فكذبوا به وسموه ساحراً وما جاء به سحراً ولم يوجد منهم ما رجاه إبراهيم . وقرىء ( بل متعنا ) فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ ( متعت ) بفتح التاء ؟ قلت : كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله : ) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ( الزخرف : 28 ) فقال : بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق ، حتى

" صفحة رقم 251 "
شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد . وأراد بذلك الإطناب في تعبيرهم ؛ لأنه إذا متعهم بزيادة النعم وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سبباً في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان ، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً ، فمثاله أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ، ثم يقبل على نفسه فيقول : أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك ، وغرضه بها الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله .
) وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (
الزخرف : ( 30 ) ولما جاءهم الحق . . . . .
فإن قلت : قد جعل مجيء الحق والرسول غاية التمتيع ، ثم أردفه قوله : ) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ ( فما طريقه هذا النظم ومؤداه ؟ قلت : المراد بالتمتيع ما هو سبب له ، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته ، فقال : بل اشتغلوا عن التوحيد حتى جاءهم الحق ورسول مبين ، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه ، ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال : ولما جاءهم الحق جاؤوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها : وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ، ومكابرة الرسول ، ومعاداته ، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه ، والإصرار على أفعال الكفرة والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد من أهل زمانه بقولهم : ) لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم ، قرىء ( على رجل ) بسكون الجيم من القريتين : من إحدى القريتين ، كقوله تعالى : ) يَخْرُجُ مِنْهَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( ( الرحمن : 22 ) أي من أحدهما . والقريتان : مكة والطائف . وقيل : من رجلي القريتين ، وهما : الوليد بن المغيرة المخزومي وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي ، عن ابن عباس . وعن مجاهد : عتبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل . وعن قتادة : الوليد بن

" صفحة رقم 252 "
المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي ، وكان الوليد يقول : لو كان حقاً ما يقول محمد لنزل هذا القرآن عليّ أو على أبي مسعود الثقفي ، وأبو مسعود : كنية عروة بن مسعود ما زالوا ينكرون أن يبعث الله بشراً رسولاً ، فلما علموا بتكرير الله الحجج أن الرسل لم يكونوا إلا رجالاً من أهل القرى ، جاؤوا بالإنكار من وجه آخر ، وهو تحكمهم أن يكون أحد هذين ، وقولهم : هذا القرآن ذكر له على وجه الاستهانة به ، وأرادوا بعظم الرجل : رياسته وتقدّمه في الدنيا ، وعزب عن عقولهم أن العظيم من كان عند الله عظيماً .
) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (
الزخرف : ( 32 ) أهم يقسمون رحمة . . . . .
) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ ( هذه الهمزة للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من اعتراضهم وتحكمهم ، وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوّة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها ، والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته ، ثم ضرب لهم مثلاً فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم في دنياهم ، وأنّ الله عز وعلا هو الذي قسم بينهم معيشتهم وقدرها ودبر أحوالهم تدبير العالم بها ، فلم يسق بينهم ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش ، وغاير بين منازلهم فجعل منهم أقوياء وضعفاء وأغنياء ومحاويج وموالي وخدماً ، ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم ويستخدمون في مهنهم ويتسخرون في أشغالهم ، حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى منافعهم ويحصلوا على مرافقهم ؛ ولو وكلهم إلى أنفسهم وولاهم تدبير أمرهم ، لضاعوا وهلكوا . وإذا كانوا في تدبير المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة ، فما ظنك بهم في تدبير أمور الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى ؟ وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة وبالسلم إلى حلول دار السلام ؟ ثم قال : ) وَرَحْمَةُ رَبّكَ ( يريد : وهذه الرحمة وهي دين الله وما يتبعه من الفوز في المآب : خير ما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا . فإن قلت : معيشتهم ما يعيشون به من المنافع ، ومنهم من يعيش بالحلال ، ومنهم من يعيش بالحرام ؛ فإذن قد قسم الله تعالى الحرام كما قسم الحلال . قلت : الله تعالى قسم لكل عبد معيشته وهي مطاعمه ومشاربه وما يصلحه من المنافع وأذن له في تناولها ، ولكن شرط عليه وكلفه أن يسلك في تناولها الطريق التي

" صفحة رقم 253 "
شرعها ؛ فإذا سلكها فقد تناول قسمته من المعيشة حلالاً ، وسماها رزق الله ؛ وإذا لم يسلكها تناولها حراماً ، وليس له أن يسميها رزق الله ؛ فالله تعالى قاسم المعايش والمنافع ، ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوء تناولهم ، وهو عدولهم فيه عما شرعه الله إلى ما لم يشرعهم .
) وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (
الزخرف : ( 33 ) ولولا أن يكون . . . . .
) لِبُيُوتِهِمْ ( بدل اشتمال من قوله : ) لِمَن يَكْفُرُ ( ويجوز أن يكونا بمنزلة اللامين في قولك : وهبت له ثوباً لقميصه . وقرىء ( سقفاً ) بفتح السين وسكون القاف . وبضمها وسكون القاف وبضمها : جمع سقف ، كرهن ورهن ورهن . وعن الفراء : جمع سقيفة وسقفاً بفتحتين ، كأنه لغة في سقف وسقوفاً ، ومعارج ومعاريج . والمعارج : جمع معرج ، أو اسم جمع لمعراج : وهي المصاعد إلى العلالي ) عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( أي على المعارج ، يظهرون السطوح يعلونها ، فما استطاعوا أن يظهروه . وسرراً ، بفتح الراء لاستثقال الضمتين مع حرفي التضعيف ) لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَواةِ ( اللام هي الفارقة بين إن المحففة والنافية . وقرىء بكسر اللام ، أي : للذي هو متاع الحياة ، كقوله تعالى : ) مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً ( ( البقرة : 26 ) ولما بالتشديد بمعنى إلا ، وإن نافية . وقرىء ( إلا ) وقرىء : وما كل ذلك إلا . لما قال : ) خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ ( ( الزخرف : 32 ) فقلل أمر الدنيا وصغرها : أردفه ما يقرّر قلة الدنيا عنده من قوله : ) وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ( أي : ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه ، لجعلنا لحقارة زهرة الحياة الدنيا عندنا للكفار سقوفاً ومصاعد

" صفحة رقم 254 "
وأبواباً وسرراً كلها من فضة وزخرف ، وجعلنا لهم زخرفاً ، أي : زينة من كل شيء . والزخرف : الزينة والذهب . ويجوز أن يكون الأصل : سقفاً من فضة وزخرف ، يعني : بعضها من فضة وبعضها من ذهب ، فنصب عطفاً على محل ) مِن فِضَّةٍ ( وفي معناه قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1003 ) ( لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ) فإن قلت : فحين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدّي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها ، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام ؟ قلت : التوسعة عليهم مفسدة أيضاً لما تؤدى إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا ، والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين ، فكانت الحكمة فيما دبر : حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء ، وغلب الفقر على الغنى .
) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (
الزخرف : ( 36 ) ومن يعش عن . . . . .
قرىء ( ومن يعش ) بضم الشين وفتحها . والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل : عشي . وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل عشا . ونظيره : عرج ، لمن به

" صفحة رقم 255 "
الآفة . وعرج ، لمن مشى مشية العرجان من غير عرج . قال الحطيئة : مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ
أي : تنظر إليها نظر العشيّ لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء . وهو بَيِّنٌ في قول حاتم :
أَعْشُو إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَت حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخُدْرُ
وقرىء ( يعشوا ) على أنّ من موصولة غير مضمنة معنى الشرط . وحق هذا القارىء أن يرفع نقيض . ومعنى القراءة بالفتح : ومن يعم ) عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ ( وهو القرآن ، كقوله تعالى : ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ ( ( البقرة : 18 ) وأما القراءة بالضم فمعناها : ومن يتعام عن ذكره ، أي : يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتغابى ، كقوله تعالى : ) وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ( ( النمل : 14 ) ) نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً ( نخذله ونخل بينه وبين الشياطين ، كقوله تعالى : ) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء ( ( فصلت : 25 ) ، ) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى

" صفحة رقم 256 "
الْكَافِرِينَ ( ( مريم : 83 ) وقرىء ( يقيض ) أي : يقيض له الرحمن ويقيض له الشيطان . فإن قلت : لم جمع ضمير من وضمير الشيطان في قوله : ) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ ( ؟ قلت : لأنّ ( من ) مبهم في جنس العاشي ، وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه ، فلما جاز أن يتناولا لإبهامهما غير واحدين : جاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعاً ) حَتَّى إِذَا جَاءنَا ( العاشي . وقرىء ( جاآنا ) على أنّ الفعل له ولشيطانه . ) قَالَ ( لشيطانه ) قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ ( يريد المشرق والمغرب ، فغلب كما قيل : العمران والقمران . فإن قلت : فما بعد المشرقين ؟ قلت : تباعدهما ، والأصل : بعد المشرق من المغرب ، والمغرب من المشرق . فلما غلب وجمع المفترقين بالتثنية : أضاف البعد إليهما ) أَنَّكُمْ ( في محل الرفع على الفاعلية ، يعني : ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه ، لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لشدّته وعنائه ، وذلك أنّ كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته ، ولك أن تجعل الفعل للتمني في قوله : ( يا ليت بيني وبينك ) على معنى : ولن ينفعكم اليوم ما أنتم فيه من تمنى مباعدة القرين . وقوله : ) أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( تعليل ، أي : لن ينفعكم تمنيكم ؛ لأنّ حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركون في سببه وهو الكفر . وتقوّيه قراءة من قرأ ( إنكم بالكسر ) وقيل : إذا رأى الممنو بشدّة من منى بمثلها : روّحه ذلك ونفس بعض كربه ، وهو التأسي الذي ذكرته الخنساء : أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي ;
فهؤلاء لا يؤسيهم اشتراكهم ولا يروّحهم ؛ لعظم ما هم فيه . فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : ) إِذ ظَّلَمْتُمْ ( ؟ قلت : معناه : إذ صح ظلمكم وتبين ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين ، وذلك يوم القيامة . وإذ : بدل من اليوم . ونظيره :
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَة ;
أي : تبين أني ولد كريمة .

" صفحة رقم 257 "
) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ (
الزخرف : ( 40 ) أفأنت تسمع الصم . . . . .
كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يجد ويجتهد ويكدّ روحه في دعاء قومه ، وهم لا يزيدون على دعائه إلا تصميماً على الكفر وتمادياً في الغيّ ، فأنكر عليه بقوله : ) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ( إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم ، وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا هو وحده على سبيل الإلجاء والقسر ، كقوله تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ ( ( فاطر : 22 ) .
) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (
الزخرف : ( 41 ) فإما نذهبن بك . . . . .
(ما ) في قوله : ) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ( بمنزلة لام القسم : في أنها إذا دخلت دخلت معها النون المؤكدة ، والمعنى : فإن قبضناك قبل أن ننصرك عليهم ونشفي صدور المؤمنين منهم ) فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ( أشد الانتقام في الآخرة ، كقوله تعالى : ) أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( ( غافر : 77 ) وإن أردنا أن ننجز في حياتك ما وعدناهم من العذاب النازل بهم وهو يوم بدر ، فهم تحت ملكتنا وقدرتنا لا يفوتوننا : وصفهم بشدة الشكيمة في الكفر والضلال ثم أتبعه شدة الوعيد بعذاب الدنيا والآخرة . وقرىء ( نرينك ) بالنون الخفيفة . وقرىء ( بالذي أوحي إليك ) على البناء للفاعل ، وهو الله عز وجل والمعنى : وسواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرنا إلى اليوم الآخر . فكن مستمسكاً بما أوحينا إليك وبالعمل به فإنه الصراط المستقيم الذي لا يحيد عنه إلا ضال شقي ، وزد كل يوم صلابة في المحاماة على دين الله ، ولا يخرجك الضجر بأمرهم إلى شيء من اللين والرخاوة في أمرك ، ولكن كما يفعل الثابت الذي لا ينشطه تعجيل ظفر ، ولا يثبطه تأخيره .
) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْألُونَ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ (
الزخرف : ( 44 ) وإنه لذكر لك . . . . .
) وَأَنَّهُ ( وإنّ الذي أوحى إليك ) لِذِكْرِ ( لشرف ) لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ ( لسوف ) تُسْأَلُونَ ( عنه يوم القيامة ، وعن قيامكم بحقه ، وعن تعظيمكم له ، وشكركم على أن رزقتموه وخصصتم به من بين العالمين ، ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لإحالته ، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم ، هل جاءت عبادة الأوثان قط

" صفحة رقم 258 "
في ملة من ملل الأنبياء ؟ وكفاه نظراً وفحصاً : نظره في كتاب الله المعجز المصدّق لما بين يديه ، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً . وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها ، والسؤال الواقع مجازاً عن النظر ، حيث لا يصح السؤال على الحقيقة : كثير منه مساءلة الشعراء الديار والرسوم والأطلال . وقول من قال : سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجني ثمارك ؟ فإنها لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً . وقيل : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جمع له الأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمّهم . وقيل له : سلهم ، فلم يشكك ولم يسأل . وقيل : معناه سل أمم من أرسلنا وهم أهل الكتابين : التوراة والإنجيل . وعن الفراء : هم إنما يخبرونه عن كتب الرسل ، فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء .
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاًّيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَآءَهُم بِأايَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (
الزخرف : ( 46 ) ولقد أرسلنا موسى . . . . .
ما أجابوه به عند قوله : ) إِنّى رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( محذوف ، دل عليه قوله : ) فَلَمَّا جَآءَهُم بِأايَاتِنَآ ( وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية ) إِذَا هُم مِنْهَا يَضْحَكُونَ ( أي يسخرون منها ويهزءون بها ويسمونها سحراً . وإذا للمفاجأة . فإن قلت : كيف جاز أن يجاب لما بإذا المفاجأة ؟ قلت : لأنّ فعل المفاجأة معها مقدّر ، وهو عامل النصب في محلها ، كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقت ضحكهم .
) وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (
الزخرف : ( 48 ) وما نريهم من . . . . .
فإن قلت : إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات ؟ قلت : أختها التي هي آية مثلها . وهذه صفة كل واحدة منها فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات على سبيل التفصيل والاستقراء واحدة بعد واحدة ، كما تقول : هو أفضل رجل رأيته . تريد : تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا

" صفحة رقم 259 "
قروتهم رجلاً رجلاً ، فإن قلت : هو كلام متناقض ، لأنّ معناه : ما من آية من التسع إلا هي أكبر من كل واحدة منها ، فتكون واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة . قلت : الغرض بهذا الكلام أنهنّ موصوفات بالكبر ، لا يكدن يتفاوتن فيه ، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير التي تختلف آراء الناس في تفضيلها ، فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك ، فعلى ذلك بني الناس كلامهم فقالوا : رأيت رجالاً بعضهم أفضل من بعض ، وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها ، فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك . ومنه بيت الحماسة : مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاَقَيْتُ سَيِّدَهُم
مِثْلُ النُّجُومِ الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي
وقد فاضلت الأنمارية بين الكملة من بنيها ، ثم قالت : لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت . ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل ، وهم كالحلقة المفرّغة لا يدري أين طرفاها ) لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( إرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان . فإن قلت : لو أراد رجوعهم لكان ، قلت : إرادته فعل غيره ليس إلا أن يأمره به ويطلب منه إيجاده ، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد ، وإلا دار بين أن يوجد وبين أن لا يوجد على حسب اختيار المكلف ، وإنما لم يكن الرجوع لأنّ الإرادة لم تكن قسراً ولم يختاروه . والمراد بالعذاب : السنون ، والطوفان ، والجراد ، وغير ذلك .
) وَقَالُواْ ياأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (
الزخرف : ( 49 ) وقالوا يا أيها . . . . .
وقرىء ( يا أيه الساحر ) بضم الهاء ، وقد سبق وجهه . فإن قلت : كيف سموه

" صفحة رقم 260 "
بالساحر مع قولهم ) إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( ؟ قلت : قولهم ) إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( : وعد منوى إخلافه ، وعهد معزوم على نكثه ، معلق بشرط أن يدعو لهم وينكشف عنهم العذاب . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( فما كانت تسميتهم إياه بالساحر بمنافية لقولهم : ( إننا لمهتدون ) وقيل : كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم علم السحر : ) بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ( بعهده عندك : من أن دعوتك مستجابة . أو بعهده عندك وهو النبوّة . أو بما عهد عندك فوفيت به وهو الإيمان والطاعة . أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى .
) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ ياقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الاٌّ نْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (
الزخرف : ( 51 ) ونادى فرعون في . . . . .
) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ ( جعلهم محلاً لندائه وموقعاً له . والمعنى : أنه أمر بالنداء في مجامعهم وأماكنهم من نادى فيها بذلك ، فأسند النداء إليه ، كقولك : قطع الأمير اللص ، إذا أمر بقطعه . ويجوز أن يكون عنده عظماء القبط ، فيرفع صوته بذلك فيما بينهم ، ثم ينشر عنه في جموع القبط ، فكأنه نودي به بينهم فقال : ) أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الاْنْهَارُ ( يعني أنهار النيل ومعظمهما أربعة : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس : قيل : كانت تجري تحت قصره . وقيل : تحت سريره لارتفاعه . وقيل : بين يدي في جناني وبساتيني . ويجوز أن تكون الواو عاطفة للأنهار على ملك مصر . وتجري : نصب على الحال منها ، وأن تكون الواو للحال ، واسم الإشارة مبتدأ ، والأنهار صفة لاسم الإشارة ، وتجري خبر للمبتدأ وليت شعري كيف ارتقت إلى دعوة الربوبية همة من تعظم بملك مصر ، وعجب الناس من مدى عظمته ، وأمر فنودي بها في أسواق مصر وأزقتها ؛ لئلا تخفي تلك الأَبَّهَة والجلالة على صغير ولا كبير وحتى يتربع في صدور الدهماء مقدار عزته وملكوته . وعن الرشيد : أنه لما قرأها قال : لأولينها أخس عبيدي ، فولاها الخصيب ، وكان على وضوئه . وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها ، فخرج إليها فلما شارفها ووقع عليها بصره قال : أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال : أليس لي ملك مصر ، والله لهي أقل عندي من أن أدخلها ، فثنى عنانه ) أَمْ أَنَا خَيْرٌ ( أم هذه متصلة ، لأنّ المعنى : أفلا تبصرون أم تبصرون ، إلا أنه وضع قوله : ) أَنَا خَيْرٌ ( موضع : تبصرون ؛ لأنهم إذا قالوا له : أنت خير ، فهم عنده بصراء ، وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب . ويجوز أن تكون منقطعة على : بل أأنا خير ، والهمزة للتقرير ،

" صفحة رقم 261 "
وذلك أنه قدم تعديد أسباب الفضل والتقدّم عليهم من ملك مصر وجرى الأنهار تحته ، ونادى بذلك وملأ به مسامعهم ، ثم قال : أنا خير كأنه يقول : أثبت عندكم واستقر أني أنا خير وهذه حالي ) مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ ( أي ضعيف حقير . وقرىء ( أما أنا خير ) ) وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ( الكلام لما به من الرُّتة يريد : أنه ليس معه من العدد وآلات الملك والسياسة ما يعتضد به ، وهو في نفسه مخل بما ينعت به الرجال من اللسن والفصاحة ، وكانت الأنبياء كلهم أبيناء بلغاء . وأراد بإلقاء الأسورة عليه : إلقاء مقاليد الملك إليه ، لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل سوّروه بسوار وطوّقوه بطوق من ذهب ) مُقْتَرِنِينَ ( إما مقترنين به من قولك : قرنته فاقترن به ، وإما من : اقترنوا ، بمعنى تقارنوا : لما وصف نفسه بالملك والعزة ووازن بينه وبين موسى صلوات الله عليه ، فوصفه بالضعف وقلة الأعضاد اعترض فقال : هلا إن كان صادقاً ملكه ربه وسوّده وسوّره ، وجعل الملائكة أعضاده وأنصاره . وقرىء ( أساور جمع أسورة ) وأساوير جمع أسوار وهو السوار ، وأساورة على تعويض التاء من ياء أساوير . وقرىء ( ألقي عليه أسورة ) وأساور ، على البناء للفاعل ، وهو الله عز وجل .
) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ (
الزخرف : ( 54 ) فاستخف قومه فأطاعوه . . . . .
) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ ( فاستفزهم . وحقيقته : حملهم على أن يخفوا له ولما أراد منهم ، وكذلك : استفز ، من قولهم للخفيف : فز .
) فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلاٌّ خِرِينَ (
الزخرف : ( 55 ) فلما آسفونا انتقمنا . . . . .
) ءاسَفُونَا ( منقول من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه . ومنه الحديث في موت الفجأة :
( 1004 ) ( رحمة للؤمن وأخذة أسف للكافر ) . ومعناه : أنهم أفرطوا في المعاصي وعدوا طورهم ، فاستوجبوا أن نعجل لهم عذابنا وانتقامنا ، وأن لا نحلم عنهم . وقرىء ( سلفا ) جمع سالف ، كخادم وخدم . وسلفا بضمتين جمع سليف ، أي : فريق قد

" صفحة رقم 262 "
سلف . وسلفا : جمع سلفة ، أي : ثلة قد سلفت . ومعناه : فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار ، يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم ، لإتيانهم بمثل أفعالهم ، وحديثاً عجيب الشأن سائراً مسير المثل ، يحدثون به ويقال لهم : مثلكم مثل قوم فرعون .
) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُواْ ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ (
الزخرف : ( 57 ) ولما ضرب ابن . . . . .
( 1005 ) لما قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على قريش ) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( ( الأنبياء : 98 ) امتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً ، فقال عبد الله بن الزبعري : يا محمد ، أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم ؟ فقال عليه السلام : هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم ، فقال : خصمتك ورب الكعبة ، ألست تزعم أنّ عيسى ابن مريم نبيّ وتثنى عليه خيراً وعلى أمه ، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما . وعزير يعبد . والملائكة يعبدون ، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرحوا وضحكوا ، وسكت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأنزل الله تعالى : ( إنّ الذين سبقت لهم منا الحسنى ) ونزلت هذه الآية . والمعنى : ولما ضرب عبد الله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً ، وجادل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعبادة النصارى إياه ) إِذَا قَوْمُكَ ( قريش من هذا المثل ) يَصِدُّونَ ( ترتفع لهم جلبة وضجيج فرحاً وجزلاً وضحكاً بما سمعوا منه من إسكات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بجدله ، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعيوا بحجة ثم فتحت عليهم . وأمّا من قرأ ( يصدّون ) بالضم فمن الصدود ، أي : من أجل هذا المثل يصدّون عن الحق ويعرضون عنه . وقيل : من الصديد وهو الجلبة ، وأنهما لغتان نحو : يعكف ويعكف ونظائر لهما ) وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ( يعنون أنّ آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، وإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هيناً ) مَا ضَرَبُوهُ ( أي ما ضربوا هذا المثل ) لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ ( إلا لأجل الجدل والغلبة في القول ، لا لطلب الميز بين الحق والباطل ) بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( لدّ شداد الخصومة دأبهم اللجاج ، كقوله تعالى : ) قَوْماً لُّدّاً ( ( مريم : 97 ) وذلك أنّ قوله تعالى : ) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( ( الأنبياء : 98 ) ما

" صفحة رقم 263 "
أريد به إلا الأصنام ، وكذلك قوله عليه السلام : ( هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم ) إنما قصد به الأصنام ، ومحال أن يقصد به الأنبياء والملائكة ، إلا أن ابن الزبعري بخبه وخداعه وخُبْثِ دُخْلَتِه لما رأى كلام الله ورسوله محتملاً لفظه وجه العموم ، مع علمه بأنّ المراد به أصنامهم لا غير ، وجد للحيلة مساغاً ، فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله ، على طريقة المحك والجدال وجب المغالبة والمكابرة ، وتوقح في ذلك فتوقر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أجاب عنه ربه : ) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى ( ( الأنبياء : 101 ) فدل به على أنّ الآية خاصة من الأصنام ، على أنّ الظاهر قوله : ( وما تعبدون ) لغير العقلاء . وقيل : لما سمعوا قوله تعالى : ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( ( آل عمران : 59 ) قالوا : نحن أهدى من النصارى ؛ لأنهم عبدوا آدامياً ونحن نعبد الملائكة ، فنزلت . وقوله : ) خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ( على هذا القول : تفضيل لآلهتهم على عيسى ؛ لأنّ المراد بهم الملائكة وما ضربوه لك إلا جدلاً . معناه : وما قالوا هذا القول ، يعني : ءآلهتنا خير أم هو . إلا للجدال ، وقرىء : ( أآلهتنا خير ) بإثبات همزة الاستفهام وبإسقاطها ، لدلالة أم العديلة عليها . وفي حرف ابن مسعود : خير أم هذا . ويجوز أن يكون جدلاً حالاً ، أي : جدلين . وقيل : لما نزلت ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ ( ( آل عمران : 59 ) قالوا : ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده وأنه يستأهل أن يعبد وإن كان بشراً ، كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر . ومعنى ) يَصِدُّونَ ( يضجون ويضجرون . والضمير في ) أَمْ هُوَ ( لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم : السخرية به والاستهزاء . ويجوز أن يقولوا لما أنكر عليهم قولهم : الملائكة بنات الله وعبدوهم ما قلنا بدعا من القول ، ولما فعلنا نكراً من الفعل ؛ فإنّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله وعبدوه ، ونحن أشف منهم قولاً وفعلاً ، فإنا نسبنا إليه الملائكة وهم نسبوا إليه الأناسي ، فقيل لهم : مذهب النصارى شرك بالله ، ومذهبكم شرك مثله ، وما تنصلكم مما أنتم عليه بما أوردتموه إلا قياس باطل بباطل ، وما عيسى ) إِلاَّ عَبْدٌ ( كسائر العبيد ) أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ( حيث جعلناه آية : بأن خلقناه من غير سبب ، كما خلقنا آدم وشرفنا بالنبوّة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبني إسرائيل .
) وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَائِكَةً فِى الاٌّ رْضِ يَخْلُفُونَ ( 7 )
الزخرف : ( 60 ) ولو نشاء لجعلنا . . . . .

" صفحة رقم 264 "
64
) وَلَوْ نَشَاء ( لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر ) لَجَعَلْنَا مِنكُمْ ( لولدنا منكم يا رجال ) مَلَئِكَةٌ ( يخلفونكم في الأرض كما يلخفكم أولادكم ، كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل ، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام ، وذات القديم متعالية عن ذلك .
) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (
الزخرف : ( 61 ) وإنه لعلم للساعة . . . . .
) وَأَنَّهُ ( وإن عيسى عليه السلام ) لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ ( أي شرط من أشراطها تعلم به ، فسمى الشرط علماً لحصول العلم به . وقرأ ابن عباس : لعلم ، وهو العلامة . وقرىء ( للعلم ) وقرأ : أبيّ : لذكر ، على تسمية ما يذكر به ذكراً ، كما سمي ما يعلم به علماً . وفي الحديث :
( 1006 ) أن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل على ثنية بالأرض المقدّسة : يقال لها أفيق وعليه ممصرتان ، وشعر رأسه دهين ، وبيده حربة ، وبها يقتل الدجال ، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم ، فيتأخر الإمام فيقدِّمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ، ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ، ويخرب البيع والكنائس ، ويقتل النصارى إلا من آمن به . وعن الحسن : أن الضمير للقرآن ، وأن القرآن به تعلم الساعة ، لأن فيه الإعلان بها ) فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا ( من المرية وهي الشك ) وَاتَّبِعُونِ ( واتبعوا هداي وشرعي . أو رسولي . وقيل : هذا أمر لرسول الله أن يقوله : ) هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( أي هذا الذي أدعوكم إليه . أو هذا القرآن إن جعل الضمير في ) وَإِنَّهُ ( للقرآن .
) وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (
الزخرف : ( 62 ) ولا يصدنكم الشيطان . . . . .
) عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( قد بابنت عداوته لكم : إذ أخرج أباكم من الجنة ونزع عنه لباس النور .
) وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ

" صفحة رقم 265 "
فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الاٌّ حْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (
الزخرف : ( 63 - 65 ) ولما جاء عيسى . . . . .
) بِالْبَيِّنَاتِ ( المعجزات . أو بآيات الإنجيل والشرائع البينات الواضحات ) بِالْحِكْمَةِ ( يعني الإنجيل والشرائع . فإن قلت : هلا بين لهم كل الذي يختلفون فيه ولكن بعضه ؟ قلت : كانوا يختلفون في الديانات وما يتعلق بالتكليف وفيما سوى ذلك مما لم يتعبدوا بمعرفته والسؤال عنه ، وإنما بعث ليبين لهم ما اختلفوا فيه مما يعنيهم من أمر دينهم ) الاْحَزَابِ ( الفرق المتحزبة بعد عيسى . وقيل : اليهود والنصارى ) فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ ( وعيد للأحزاب . فإن قلت : ) مِن بَيْنِهِمْ ( إلى من يرجع الضمير فيه ؟ قلت : إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله : ) قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ ( وهم قومه المبعوث إليهم .
) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ الاٌّ خِلاَءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاٌّ نْفُسُ وَتَلَذُّ الاٌّ عْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ (
الزخرف : ( 66 ) هل ينظرون إلا . . . . .
) أَن تَأْتِيهُمُ ( بدل من الساعة . والمعنى : هل ينظرون إلا إتيان الساعة . فإن قلت : أما أدى قوله : ) بَغْتَةً ( مؤدّي قوله : ) وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( فيستغني عنه ؟ قلت : لا ، لأنّ معنى قوله تعالى : ) وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( : وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم ، كقولهم تعالى : ) تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ ( ( يس : 49 ) ويجوز أن تأتيهم بغتة وهم فطنون ) يَوْمَئِذٍ ( منصوب بعدوّ ، أي : تنقطع في ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين في غير ذات الله ، وتنقلب عداوة ومقتا ، إلا خلة المتصادقين في الله ، فإنها الخلة الباقية المزدادة قوّة إذا رأوا ثواب التحاب في الله تعالى والتباغض في الله . وقيل : ) إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( إلا المجتنبين أخلاء السوء . وقيل : نزلت في أبيّ بن خلف ، وعقبه ابن أبي معيط ) فِى عِبَادِى ( حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذٍ ، و ) الَّذِينَ كَفَرُواْ ( منصوب المحل صفة لعبادي ، لأنه منادى مضاف ، أي : الذين صدّقوا ) الَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَاتِنَا ( مخلصين وجوههم لنا ، جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا . وقيل : إذا بعث الله الناس فزع كل أحد ، فينادي مناد ، يا عبادي فيرجوها الناس كلهم ، ثم يتبعها الذين آمنوا فييأس الناس منها غير المسلمين . وقرىء ( يا عباد ) ) تُحْبَرُونَ ( تسرون سروراً يظهر حباره أي : أثره على وجوهكم ، كقوله تعالى : ) تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ

" صفحة رقم 266 "
( ( المطففين : 24 ) وقال الزجاج : تكرمون إكراماً يبالغ فيه . والحبرة : المبالغة فيما وصف بجميل . والكوب : الكوز لا عروة له ) وَفِيهَا ( الضمير للجنة . وقرىء ( تشتهي ) وتشتهيه . وهذا حصر لأنواع النعم ، لأنها إما مشتهاة في القلوب ، وإما مستلذة في العيون . ) وَتِلْكَ ( إشارة إلى الجنة المذكورة . وهي مبتدأة ، و ) الْجَنَّةُ ( خبر . و ) الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا ( صفة الجنة . أو الجنة صفة للمبتدأ الذي هو اسم الإشارة . والتي أورثتموها : خبر المبتدأ . أو التي أورثتموها : صفة ، و ) بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( الخبر ، والباء تتعلق بمحذوف كما في الظروف التي تقع أخبار . وفي الوجه الأول تتعلق بأورثتموها . وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة . وقرىء ( ورّثتموها ) ) مّنْهَا تَأْكُلُونَ ( من للتبعيض ، أي : لا تأكلون إلا بعضها ، وأعقابها باقية في شجرها ، فهي مزينة بالثمار أبداً موقرة بها ، لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1007 ) ( لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها ) .
) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (
الزخرف : ( 74 ) إن المجرمين في . . . . .
) لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ( لا يخفف ولا ينقص ، من قولهم : فترت عنه الحمى إذا سكنت عنه قليلاً ونقص حرّها . والمبلس : اليائس الساكت سكوت يأس من فرج . وعن الضحاك : يجعل المجرم في تابوت في نار ثم يردم عليه فيبقى فيه خالداً : لا يرى ولا يرى ) هُمُ ( فصل عند البصريين ، عماد عند الكوفيين . وقرىء ( وهم فيها ) أي : في النار وقرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما : ( با مال ) بحذف الكاف للترخيم ، كقول القائل : وَالْحَقُّ يَا مَالِ غَيْرَ مَا تَصِفُ ;
وقيل لابن عباس : إن ابن مسعود قرأ ( ونادوا يا مال ) فقال : ما أشغل أهل النار عن الترخيم وعن بعضهم : حسن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما

" صفحة رقم 267 "
هم فيه . وقرأ أبو السّرار الغنوي ( يا مال ) بالرفع كما يقال : يا حار ) لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( من قضى عليه إذا أماته ) فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ( ( القصص : 15 ) والمعنى : سل ربك أن يقضي علينا . فإن قلت : كيف قال : ) وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ ( بعد ما وصفهم بالإبلاس ؟ قلت : تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة ، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ، وعلمهم أنه لا فرج لهم ، ويغوّثون أوقاتاً لشدّة ما بهم ) مَّاكِثُونَ ( لابثون . وفيه استهزاء . والمراد : خالدون . عن ابن عباس رضي الله عنهما : إنما يجيبهم بعد ألف سنة . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
( 1008 ) ( يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيقولون : ادعوا مالكاً ، فيدعون يا مالك ليقض علينا ربك ) . ) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقّ ( كلام الله عز وجل : بدليل قراءة من قرأ : ( لقد جئتكم ) ويجب أن يكون في قال ضمير الله عز وجل . لما سألوا مالكاً أن يسأل الله تعالى القضاء عليهم : أجابهم الله بذلك ) كَارِهُونَ ( لا تقبلونه وتنفرون منه وتشمئزون منه ؛ لأنّ مع الباطل الدعة ، ومع الحق التعب .
) أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (
الزخرف : ( 79 ) أم أبرموا أمرا . . . . .
) أَمْ ( أبرم مشركو مكة ) أَمْراً ( من كيدهم ومكرهم برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ( كيدنا كما أبرموا كيدهم ؛ كقوله تعالى : ) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ ( ( الطور : 42 ) ؟ وكانوا يتنادون فيتناجون في أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . فإن قلت : ما المراد بالسر والنجوى ؟ قلت : السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال .

" صفحة رقم 268 "
والنجوى : ما تكلموا به فيما بينهم ) بَلَى ( نسمعهما ونطلع عليهما ) وَرُسُلُنَا ( يريد الحفظة عندهم ) يَكْتُبُونَ ( ذلك . وعن يحيى بن معاذ الرازي : من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السماوات فقد جعله أهون الناظرين إليه ، وهو من علامات النفاق .
) قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (
الزخرف : ( 81 - 82 ) قل إن كان . . . . .
) قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ ( وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها ) فَأَنَاْ أَوَّلُ ( من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه ، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه ، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالاً مثلها ، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها . ونظيره أن يقول العدلى للمجير ، إن كان الله تعالى خالقاً للكفر في القلوب ومعذباً عليه عذاباً سرمداً ، فأنا أول من يقول : هو شيطان وليس بإلاه ؛ فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفي أن يكونا الله تعالى خالقاً للكفر ، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ، ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا ، مع الدلالة على سماجة المذهب وضلالة الذاهب إليه ، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه ، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه .

" صفحة رقم 269 "
ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج حين قال له : أما والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلاهاً غيرك . وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : إن كان للرحمان ولد في زعمكم ، فأنا أول العابدين الموحدين لله ، المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه . وقيل : إن كان للرحمان ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد : إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد . وقرأ بعضهم : ( العبدين ) وقيل : هي إن النافية ، أي : ما كان للرحمان ولد ، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد . وروي : أنّ النضر بن عبد الدار بن قصي قال : إن الملائكة بنات الله فنزلت ، فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدقني . فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدقك ولكن قال : ما كان للرحمان ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة : أن لا ولد له . وقرىء ( ولد ) بضم الواو . ثم نزه ذاته موصوفة بربوبيته السماوات والأرض والعرش عن اتخاذ الولد ، ليدل على أنه من صفة الأجسام . ولو كان جسماً لم يقدر على خلق هذا العالم وتدبير أمره .
) فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ (
الزخرف : ( 83 ) فذرهم يخوضوا ويلعبوا . . . . .
) فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ ( في باطلهم ) وَيَلْعَبُواْ ( في دنياهم ) حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ ( وهذا دليل على أنّ ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب ، وإعلام لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم من المطبوع على قلوبهم الذين لا يرجعون البتة ، وإن ركب في دعوتهم كل صعب وذلول ، وخذلان لهم وتخلية بينهم وبين الشيطان ، كقوله تبارك وتعالى : ) اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( ( فصلت : 40 ) وإبعاد بالشقاء في العاقبة .
) وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمآءِ إِلَاهٌ وَفِى الاٌّ رْضِ إِلَاهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (
الزخرف : ( 84 ) وهو الذي في . . . . .
ضمن اسمه تعالى معنى وصف ، فلذلك علق به الظرف في قوله : ( في السماء )

" صفحة رقم 270 "
( وفي الأرض ) كما تقول ، هو حاتم في طيّ حاتم في تغلب ، على تضمين معنى الجواد الذي شهر به ، كأنك قلت : هو جواد في طي جواد في تغلب . وقرىء ( وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله ) ومثله قوله تعالى : ) وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ ( ( الأنعام : 3 ) كأنه ضمن معنى المعبود أو المالك أو نحو ذلك والراجع إلى الموصول محذوف لطول الكلام ، كقولهم : ما أنا بالذي قائل لك شيئاً ، وزاده طولاً أنّ المعطوف داخل في حين الصلة . ويحتمل أن يكون ) فِى السَّمَاء ( صلة الذي وإلاه خبر مبتدأ محذوف ، على أنّ الجملة بيان للصلة . وأنّ كونه في السماء على سبيل الإلاهية والربوبية ، لا على معنى الاستقرار . وفيه نفي الآلهة التي كانت تعبد في الأرض ( ترجعون ) قرىء بضم التاء وفتحها . و ( يرجعون ) بياء مضمومة . وقرىء ( تحشرون ) بالتاء .
) وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (
الزخرف : ( 86 ) ولا يملك الذين . . . . .
ولا يملك آلهتهم الذين يدعون من دون الله الشفاعة ، كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله ، ولكن من ) شَهِدَ بِالْحَقّ ( وهو توحيد الله ، وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإيقان وإخلاص : هو الذي يملك الشفاعة ، وهو استثناء منقطع . ويجوز أن يكون متصلاً ؛ لأنّ في جملة الذين يدعون من دون الله : الملائكة ، وقرىء ( تدعون بالتاء ) وتدّعون بالتاء وتشديد الدال .
) وَقِيلِهِ يارَبِّ إِنَّ هَاؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (
الزخرف : ( 88 ) وقيله يا رب . . . . .
) وَقِيلِهِ ( قرىء بالحركات الثلاث ، وذكر في النصب عن الأخفش أنه حمله على : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله : وعنه : وقال قيله . وعطف الزجاج على محل الساعة ، كما تقول : عجبت من ضرب زيد وعمراً ، وحمل الجرّ على لفظ الساعة ، والرفع على الابتداء ، والخبر ما بعده : وجوّز عطفه على علم الساعة على تقدير حذف المضاف . معناه : عنده علم الساعة وعلم قيله . والذي قالوه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضاً ، ومع تنافر النظم . وأقوى من ذلك وأوجه : أن يكون الجرّ والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه ، والرفع على قولهم : أيمن الله ، وأمانة الله ، ويمين الله ، ولعمرك : ويكون قوله : ) إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ ( جواب القسم ، كأنه قيل : وأقسم بقيله يا رب . أو وقيله يا رب قسمي إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون ) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ( فأعرض عن دعوتهم يائساً عن إيمانهم ، وودعهم وتاركهم ، ) وَقُلْ ( لهم ) سَلَامٌ ( أي تسلم منكم ومتاركة ) فَسَوْفَ

" صفحة رقم 271 "
يَعْلَمُونَ ( وعيد من الله لهم وتسلية لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) . والضمير في ) وَقِيلِهِ ( لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإقسام الله بقيله رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه .
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1109 ) ( من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ، ادخلوا الجنة بغير حساب ) .

" صفحة رقم 272 "
( سورة الدخان )
مكية ، إلا قوله : ) إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً ( الآية
وهي سبع وخمسون آية ، وقيل تسع وخمسون ( نزلت بعد سورة الزخرف )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاٌّ وَّلِينَ (
الدخان : ( 1 - 8 ) حم
الواو في ) وَالْكِتَابِ ( واو القسم ، إن جعلت حم تعديداً للحروف أو اسماً للسورة ، مرفوعاً على خبر الابتداء المحذوف وواو العطف إن كانت حم مقسماً بها . وقوله : ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ( جواب القسم ، والكتاب المبين للقرآن . والليلة المباركة : ليلة القدر . وقيل : ليلة النصف من شعبان ، ولها أربعة أسماء : الليلة المباركة ، وليلة البراءة ، وليلة الصكّ ، وليلة الرحمة وقيل : بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة . وقيل في تسميتها : ليلة البراءة والصكّ : أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة ، كذلك الله عز وجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة . وقيل : هي مختصة بخمس خصال : تفريق كل أمر حكيم وفضيلة العبادة فيها ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1010 ) ( من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك : ثلاثون

" صفحة رقم 273 "
يبشرونه بالجنة ، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار ، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا . وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان ) . ونزول الرحمة قال عليه الصلاة والسلام :
( 1011 ) ( إنّ الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب ) وحصول المغفرة : قال عليه الصلاة والسلام :
( 1012 ) ( إنّ الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو ساحر أو مشاحن أو مدمن خمر أو عاق للوالدين ، أو مصرّ على الزنا ) وما أعطى فيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من تمام الشفاعة ، وذلك
( 1013 ) أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمّته . فأعطى الثلث منها ، ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطي الثلثين ، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطي الجميع ، إلا من شرد عن الله شراد البعير . ومن عادة الله في هذه الليلة : أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة

" صفحة رقم 274 "
ظاهرة . والقول الأكثر أنّ المراد بالليلة المباركة : ليلة القدر ، لقوله تعالى : ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( ( القدر : 1 ) ولمطابقة قوله : ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( لقوله : ) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( وقول تعالى : ) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( ( البقرة : 185 ) وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان . فإن قلت : ما معنى إنزال القرآن في هذه الليلة ؟ قلت : قالوا أنزل جملة واحدة من السماء السابعة إلى السماء الدنيا ، وأمر السفرة الكرام بانتساخه في ليلة القدر ، وكان جبريل عليه السلام ينزله على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نجوماً نجوماً . فإن قلت : ) إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( ( الدخان : 3 4 ) ما موقع هاتين الجملتين ؟ قلت : هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان . فسر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى : ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ( ( الدخان : 3 ) كأنه قيل : أنزلنا ؛ لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب ، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً ؛ لأنّ إنزال القرآن من الأمور الحكيمة ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم . والمباركة : الكثير الخير لما يتيح الله فيها من الأمور التي يتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم ، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة ، ومعنى ) يُفْرَقُ ( يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم ، وجميع أمورهم منها إلى الأخرى القابلة . وقيل : يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ، ويقع الفراغ في ليلة القدر ، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى جبريل ، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت . وعن بعضهم : يعطى كل عامل بركات أعماله ، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه ، وعلى قلوبهم هيبته . وقرىء ( يفرق ) بالتشديد و ) يُفْرَقُ ( كل على بنائه للفاعل ونصب كل ، والفارق : الله عزّ وجلّ ، وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه ( نفرق ) بالنون ، كل أمر حكيم : كل شأن ذي حكمة ، أي : مفعول على ما تقتضيه الحكمة ، وهو من الإسناد المجازى ؛ لأنّ الحكيم صفة صاحب الأمر على

" صفحة رقم 275 "
الحقيقة ، ووصف الأمر به مجاز ) أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا ( نصب على الاختصاص . جعل كل أمر جزلاً فخماً بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا ، كائناً من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا . ويجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهي ، ثم إما أن يوضع موضع فرقانا الذي هو مصدر يفرق ، لأنّ معنى الأمر والفرقان واحد ، من حيث إنه إذا حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به وأوجبه . أو يكون حالاً من أحد الضميرين في أنزلناه : إما من ضمير الفاعل ، أي : أنزلناه آمرين أمراً . أو من ضمير المفعول أي أنزلناه في حال كونه أمراً من عندنا بما يجب أن يفعل فإن قلت : ) إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ ( بم يتعلق ؟ قلت : يجوز أن يكون بدلاً من قوله : ) إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ( و ) رَحْمَةً مّن رَّبّكَ ( مفعولاً له ، على معنى : إنا أنزلنا القرآن ؛ لأنّ من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم ، وأن يكون تعليلاً ليفرق . أو لقوله : ) أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا ( ورحمة : مفعولاً به ، وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله تعالى : ) وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ( أي يفصل في هذه الليلة كل أمر . أو تصدر الأوامر من عندنا ؛ لأنّ من عادتنا أن نرسل رحمتنا . وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة ؛ وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عز وعلا ؛ لأنّ الغرض في تكليف العباد تعريضهم للمنافع . والأصل : إنا كنا مرسليم رحمة منا ، فوضع الظاهر موضع الضمير إيذاناً بأنّ الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين وفي قراءة زيد بن علي ( أمر من عندنا ) على : هو أمر وهي تنصر انتصابه على الاختصاص . وقرأ الحسن : ( رحمة من ربك ) ، على : تلك رحمة ، وهي تنصر انتصابها بأنها مفعول له ) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( وما بعده تحقيق لربوبيته ، وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه . وقرىء ( رب السماوات . . . ربكم ورب آبائكم ) بالجر بدلاً من ربك . فإن قلت : ما معنى الشرط الذي هو قوله : ) إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ( ؟ قلت : كانوا يقرون بأن للسماوات والأرض رباً وخالقاً ، فقيل لهم : إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب ، ثم قيل : إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم وإيقان ، كما تقول : إنّ هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه واشتهر وإسخاؤه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته .
) بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ (
الدخان : ( 9 ) بل هم في . . . . .

" صفحة رقم 276 "
ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله : ) بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ ( وأن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن ، ولا عن جدّ وحقيقة : بل قول مخلوط بهزء ولعب ) يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاء ( مفعول به مرتقب . يقال : رقبته وارتقبته . نحو : نظرته وانتظرته . واختلف في الدخان ؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبه أخذ الحسن : أنه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة ، حتى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام ، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص ، وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
( 1014 ) ( أوّل الآيات : الدخان ، ونزول عيسى ابن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر ) قال حذيفة : يا رسول الله ، وما الدخان ؟ فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الآية ، وقال : ( يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة ، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه : خمس قد مضت : الروم ، والدخان ، والقمر ، والبطشة ، واللزام . ويروى أنه قيل لابن مسعود :
( 1015 ) إن قاصاً عند أبواب كندة يقول : إنه دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأنفاس

" صفحة رقم 277 "
الخلق ، فقال : من علم علماً فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من علم الرجل أن يقول لشيء لا يعلمه : الله أعلم ، ثم قال : ألا وسأحدّثكم أنّ قريشاً لما استعصت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دعا عليهم فقال : ( اللَّهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز ، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان ، وكان يحدّث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان ، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا ، فلما كشف عنهم رجعوا إلى شركهم ) بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ( ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان ) يَغْشَى النَّاسَ ( يشملهم ويلبسهم ، وهو في محل الجر صفة لدخان . و ) هَاذَا عَذَابٌ ( إلى قوله : ) مُؤْمِنُونَ ( منصوب المحل بفعل مضمر ، وهو : يقولون ، ويقولون : منصوب على الحال ، أي : قائلين ذلك . ) إِنَّا مْؤْمِنُونَ ( موعدة بالإيمان إن كشف عنهم العذاب .
) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (
الدخان : ( 13 - 16 ) أنى لهم الذكرى . . . . .
) أَنَّى لَهُمُ الذّكْرَى ( كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب ) وَقَدْ جَاءهُمْ ( ما هو أعظم وأدخل في وجوب الادّكار من كشف الدخان ، وهو ما ظهر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الآيات البينات من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات ، فلكم يذكروا وتولوا عنه ، وبهتوه بأن عداساً غلاماً أعجمياً لبعض ثقيف هو الذي علمه ، ونسبوه إلى الجنون ، ثم قال : ) إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ( أي ريثما نكشف عنكم العذاب تعودون إلى شرككم لا تلبثون غب الكشف على ما أنتم عليه من التضرع والابتهال . فإن قلت : كيف يستقيم على قول من جعل الدخان قبل يوم القيامة قوله : ) إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً ( قلت : إذا أتت السماء بالدخان تضور المعذبين به من الكفار والمنافقين وقالوا ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون منيبون ، فيكشفه الله عنهم بعد أربعين يوماً ، فريثما يكشفه عنهم يرتدون لا يتمهلون ، ثم قال : ) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ( يريد يوم القيامة ، كقوله تعالى : ) فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ( ( النازعات : 34 ) . ) إِنَّا مُنتَقِمُونَ ( أي ننتقم منهم في ذلك اليوم . فإن قلت : بم انتصب يوم نبطش ؟

" صفحة رقم 278 "
قلت : بما دل عليه ) إِنَّا مُنتَقِمُونَ ( وهو ننتقم . ولا يصح أن ينتصب بمنتقمون ، لأن ( إن ) تحجب عن ذلك . وقرىء ( نبطش ) بضم الطاء . وقرأ الحسن ( نبطش ) بضم النون ، كأنه يحمل الملائكة على أن يبطشوا بهم البطشة الكبرى . أو يجعل البطشة الكبرى باطشة بهم . وقيل : ) الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ( : يوم بدر .
) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ إِنِّىءَاتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فَاعْتَزِلُونِ (
الدخان : ( 17 ) ولقد فتنا قبلهم . . . . .
وقرىء ( ولقد فتنا ) بالتشديد للتأكيد . أو لوقوعه على القوم . ومعنى الفتنة : أنه أمهلهم ووسع عليهم في الرزق ؛ فكان ذلك سبباً في ارتكابهم المعاصي وافتراقهم الأثام . أو ابتلاهم بإرسال موسى إليهم ليؤمنوا ، فاختاروا الكفر على الإيمان ، أو سلبهم ملكهم وأغرقهم ) كَرِيمٌ ( على الله وعلى عباده المؤمنين . أو كريم في نفسه ، لأنّ الله لم يبعث نبياً إلا من سراة قومه وكرامهم ) أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ ( هي أن المفسرة ، لأن مجيء الرسول من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله . أو المخففة من الثقيلة ومعناه : وجاءهم بأن الشأن والحديث أدّوا إليّ ) وَعِبَادُ اللَّهِ ( مفعول به وهم بنو إسرائيل ، يقول : أدوهم إليّ وأرسلوهم معي ، كقوله تعالى : ) أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ ( ( طه : 47 ) ويجوز أن يكون نداء لهم على : أدوا إليّ يا عباد الله ما هو واجب لي عليكم من الإيمان لي وقبول دعوتي واتباع سبيلي ، وعلل ذلك بأنه ) رَسُولٌ أَمِينٌ ( غير ظنين قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته ) وَأَن لاَّ تَعْلُواْ ( أن هذه مثل الأولى في وجهيها ، أي : لا تستكبروا ) عَلَى اللَّهِ ( بالاستهانة برسوله ووحيه . أو لا تستكبروا على نبيّ الله ) بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( بحجة واضحة ) أَن تَرْجُمُونِ ( أن تقتلون . وقرىء ( عت ) بالإدغام . ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم ، فهو غير مبال بما كانوا يتوعدونه به من الرجم والقتل ) فَاعْتَزِلُونِ ( يريد : إن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمنوا ، فتنحوا عني واقطعوا أسباب الوصلة عني ، أي : فخلوني كفافاً لا لي ولا عليّ ، ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم ؛ فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم ذلك .
) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَاؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (
الدخان : ( 22 ) فدعا ربه أن . . . . .
) إِنَّ هَؤُلآء ( بأن هؤلاء ، أي : دعا ربه بذلك . قيل : كان دعاؤه : اللَّهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم : وقيل هو قوله : ) رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ( يونس :

" صفحة رقم 279 "
85 ) وإنما ذكر الله تعالى السبب الذي استوجبوا به الهلاك ، وهو كونهم مجرمين . وقرىء ( إنّ هؤلاء ) بالكسر على إضمار القول ، أي : فدعا ربه فقال : إن هؤلاء ) فَأَسْرِ ( قرىء بقطع الهمزة من أسرى ، ووصلها من سرى . وفيه وجهان : إضمار القول بعد الفاء ، فقال : أسر بعبادي . وأن يكون جواب شرط محذوف ، كأنه قيل : قال إن كان الأمر كما تقول فأسر ) بِعِبَادِى ( يعني : فأسر ببني إسرائيل ، فقد دبر الله أن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده ، فينجي المتقدمين ويغرق التابعين . الرهو فيه وجهان ، أحدهما : أنه الساكن . قال الأعشى : يَمْشِينَ رَهْواً فَلاَ الأَعْجَازُ خَاذِلَة
وَلاَ الصُّدُورُ عَلَى الأَعْجَازِ تَتَّكِلُ
أي مشياً ساكناً على هينة . أراد موسى لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق ، كما ضربه فانفلق ، فأمر بأن يتركه ساكناً على هيئته ، قارّاً على حاله : من انتصاب الماء ، وكون الطريق يبساً لا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئاً ليدخله القبط ، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم . والثاني : أن الرهو الفجوة الواسعة . وعن بعض العرب : أنه رأى جملاً فالجاً فقال : سبحان الله ، رهوٌ بين سنامين ، أي : اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً ) إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ( وقرىء بالفتح ، بمعنى : لأنهم .
) كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ (
الدخان : ( 25 ) كم تركوا من . . . . .
والمقام الكريم : ما كان لهم من المجالس والمنازل الحسنة . وقيل : المنابر . والنعمة بالفتح من التنعم ، وبالكسر من الإنعام . وقرىء : ( فاكهين ) وفكهين .
) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالاٌّ رْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ (
الدخان : ( 28 ) كذلك وأورثناها قوما . . . . .
) كَذَلِكَ ( الكاف منصوبة على معنى : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها ) وَأَوْرَثْنَاهَا ( أو في موضع الرفع على الأمر كذلك ) قَوْماً ءاخَرِينَ ( ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء ، وهم بنو إسرائيل : كانوا متسخرين مستعبدين في أيديهم ، فأهلكهم الله على أيديهم ، وأورثهم ملكهم وديارهم . إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكة : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس . وفي حديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )

" صفحة رقم 280 "
:
( 1016 ) ( ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض ) . وقال جرير : تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا
وقالت الخارجية :
أَيَا شَجَرَ الْخَابُورِ مَالَكَ مُورِقا كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه ، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : من بكاء مصلي المؤمن ، وآثاره في الأرض ، ومصاعد عمله ، ومهابط رزقه في السماء تمثيل ، ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى : ) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالاْرْضُ ( فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده : فيقال فيه : بكت عليه السماء والأرض . وعن الحسن : فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون ، بل كانوا بهلاكهم مسرورين ، يعني : فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض ) وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ ( لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر ، ولم يمهلوا إلى الآخرة ، بل عجل لهم في الدنيا .
) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (
الدخان : ( 30 ) ولقد نجينا بني . . . . .
) مِن فِرْعَوْنَ ( بدل من العذاب المهين ، كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً ، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم . ويجوز أن يكون المعنى : من العذاب المهين واقعاً من جهة فرعون . وقرىء : ( من عذاب المهين ) ووجهه أن يكون تقدير قوله : ) مِن فِرْعَوْنَ ( : من عذاب فرعون ، حتى يكون المهين هو فرعون . وفي قراءة ابن عباس : من فرعون ، لما وصف عذاب فرعون بالشدة والفظاعة قال : من فرعون ، على معنى : هل تعرفونه من هو في عتوّه وشيطنته ، ثم عرف حاله في ذلك بقوله : ) إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ ( أي كبيراً رفيع الطبقة ، ومن بينهم فائقاً لهم ، بليغاً في إسرافه . أو عالياً متكبراً ، كقوله تعالى : ) إِنّ

" صفحة رقم 281 "
َ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ ( ( القصص : 4 ) . و ) مِّنَ الْمُسْرِفِينَ ( خبر ثان ، كأنه قيل : إنه كان متكبراً مسرفاً .
) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وَءَاتَيْنَاهُم مِّنَ الاٌّ يَاتِ مَا فِيهِ بَلَؤٌ اْ مُّبِينٌ إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ (
الدخان : ( 32 - 34 ) ولقد اخترناهم على . . . . .
الضمير في ) اخْتَرْنَاهُمْ ( لبني إسرائيل . و ) عَلَى عِلْمٍ ( في موضع الحال ، أي : عالمين بمكان الخيرة ، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا . ويجوز أن يكون المعنى : مع علم منا بأنهم يزيغون ويفرط منهم الفرطات في بعض الأحوال ) عَلَى الْعَالَمِينَ ( على عالمي زمانهم . وقيل : على الناس جميعاً لكثرة الأنبياء منهم ) مِنَ الاْيَاتِ ( من نحو فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى ، وغير ذلك من الآيات العظام التي لم يظهر الله في غيرهم مثلها ) وَءاتَيْنَاهُم مِنَ ( نعمة ظاهرة ؛ لأنّ الله تعالى يبلو بالنعمة كما يبلو بالمصيبة . أو اختبار ظاهر لننظر كيف تعملون ، كقوله تعالى : ) وَفِى ذالِكُمْ بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ ( ( البقرة : 49 ) .
) إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاٍّ وْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فَأْتُواْ بِأابَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (
الدخان : ( 35 - 36 ) إن هي إلا . . . . .
) هَاؤُلاَءِ ( إشارة إلى كفار قريش ، فإن قلت : كان الكلام واقعاً في الحياة الثانية لا في الموت ، فهلا قيل : إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين ؟ كما قيل : إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ؟ وما معنى قوله : ) إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاْوْلَى ( ؟ وما معنى ذكر الأولى ؟ كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها

" صفحة رقم 282 "
وأثبتوا الأولى ؟ قلت : معناه والله الموفق للصواب : أنه قيل لهم : إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة ، كما تقدّمتكم موتة قد تعقبتها حياة ، وذلك قوله عزّ وجل : ) وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( ( البقرة : 28 ) فقالوا : ( إن هي إلا موتتنا الأولى ) يريدون : ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية ، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة ، فلا فرق إذاً بين هذا وبين قوله : ) إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( في المعنى . يقال : أنشر الله الموتى ونشرهم : إذا بعثهم ) فَأْتُواْ بِأابَآئِنَا ( خطاب للذين كانوا يعدونهم النشور : من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين ، أي : إن صدقتم فيما تقولون فعجلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ذلك حتى يكون دليلاً على أنّ ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حق ، وقيل كانوا يطلبون إليهم أن يدعوا الله وينشرهم لهم قصيّ بن كلاب ليشاوروه ، فإنه كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل ومعاظم الشؤون .
) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (
الدخان : ( 37 ) أهم خير أم . . . . .
هو تبع الحميري : كان مؤمناً وقومه كافرين ؛ ولذلك ذمّ الله قومه ولم يذمه ، وهو الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبني سمرقند . وقيل : هدمها وكان إذا كتب قال : بسم الله الذي ملك برّاً وبحراً . وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1017 ) ( لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم ) وعنه عليه الصلاة والسلام :

" صفحة رقم 283 "
( 1018 ) ( ما أدري أكان تبع نبياً أو غير نبي ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان نبياً . وقيل : نظر إلى قبرين بناحية حمير قال : هذا قبر رضوي وقبر حبى بنت تبع لا تشركان بالله شيئاً . وقيل : هو الذي كسا البيت . وقيل لملوك اليمن : التبابعة ، لأنهم يتبعون ، كما قيل : الأقيال ، لأنهم يُتَقيلون وسمي الظل ( تبعاً ) لأنه يتبع الشمس . فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : ) أَهُمْ خَيْرٌ ( ولا خير في الفريقين ؟ قلت : معناه أهم خير في القوّة والمنعة ، كقوله تعالى : ) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ ( ( القمر : 43 ) بعد ذكر آل فرعون . وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما : أهم أشدّ أم قوم تبع .
) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (
الدخان : ( 38 ) وما خلقنا السماوات . . . . .
) وَمَا بَيْنَهُمَا ( وما بين الجنسين . وقرأ عبيد بن عمير : وما بينهن . وقرأ ( ميقاتهم ) بالنصب على أنه اسم إن ، ويوم الفصل ؛ خبرها ، أي : إنّ ميعاد حسابهم وجزائهم في يوم الفصل ) لاَ يُغْنِى مَوْلًى ( أيّ مولى كان من قرابة أو غيرها ) عَن مَّوْلًى ( عن أي مولى كان ) شَيْئاً ( من إغناء . أي : قليلاً منه ) وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( الضمير للموالي ؛ لأنهم في المعنى كثير ، لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى ) إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ ( في محل الرفع على البدل من الواو في ) يُنصَرُونَ ( أي : لا يمنع من العذاب إلا من رحمة الله . ويجوز أن ينتصب على الاستثناء ) إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ ( لا ينصر منه من عصاه ) الرَّحِيمِ ( لمن أطاعه .
) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاٌّ ثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْىِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ

" صفحة رقم 284 "
ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَاذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (
الدخان : ( 43 ) إن شجرة الزقوم
قرىء : ( إنّ شجرت الزقوم ) بكسر الشين ، وفيها ثلاث لغات : شجرة ، بفتح الشين وكسرها وشيرة ، بالياء . وروى أنه لما نزل ) أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ( ( الصافات : 62 ) قال ابن الزبعري : إنّ أهل اليمن يدعون أكل الزبد والتمر : التزقم ، فدعا أبو جهل بتمر وزبد فقال : تزقموا فإنّ هذا هو الذي يخوّفكم به محمد ، فنزل ) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاٌّ ثِيمِ ( وهو الفاجر الكثير الآثام . وعن أبي الدرداء أنه كان يقرىء رجلاً فكان يقول طعام اليثيم ، فقال : قل طعام الفاجر يا هذا . وبهذا يستدل على أنّ إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها . ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على شريطة ، وهي : أن يؤدي القارىء المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها شيئاً . قالوا : وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة ؛ لأنّ في كلام العرب خصوصاً في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بأذائه لسان من فارسية وغيرها ، وما كان أبو حنيفة رحمه الله يحسن الفارسية ، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر ، وروى علي بن الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية ) كَالْمُهْلِ ( قرىء : بضم الميم وفتحها ، وهو دردي الزيت . ويدل عليه قوله تعالى : ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ( ( المعارج : 8 ) مع قوله : ) فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدّهَانِ ( ( الرحمن : 37 ) وقيل : هو ذائب الفضة والنحاس ، والكاف رفع خبر بعد خبر ، وكذلك ) يَغْلِى ( وقرىء : بالتاء للشجرة ، وبالياء للطعام . و ) الْحَمِيمُ ( الماء الحار الذي انتهى غليانه : يقال للزبانية ) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ ( فقودوه بعنف وغلظة ، وهو أن يؤخذ بتلبيب الرجل فيجر إلى حبس أو قتل . ومنه ( العتلّ ) وهو الغليظ الجافي . وقرىء : بكسر التاء وضمها ) إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ ( إلى وسطها ومعظمها . فإن قلت : هلا قيل : صبوا فوق رأسه من الحميم ، كقوله تعالى : ) يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ الْحَمِيمُ ( ( الحج : 19 ) لأنّ الحميم هو المصبوب لا عذابه ؟ قلت : إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدّته ، إلا أنّ

" صفحة رقم 285 "
صب العذاب طريقة الاستعار ، كقوله : صُبَّتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ الدَّهْرِ مِنْ صَبَبِ ;
وكقوله تعالى : ) أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ( ( البقرة : 250 ) فذكر العذاب معلقاً به الصب ، مستعاراً له ، ليكون أهول وأهيب يقال : ) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( على سبيل الهزؤ والتهكم بمن كان يتعزز ويتكرم على قومه . وروي أنّ أبا جهل قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني ، فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً . وقرىء : ( إنك ) بمعنى : لأنك . وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قرأ به على المنبر ) إِنَّ هَاذَا ( العذاب . أو إن هذا الأمر هو ) مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ( أي تشكون . أو تتمارون وتتلاجون .
) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ ءَامِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاٍّ ولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (
الدخان : ( 51 ) إن المتقين في . . . . .
قرىء : ( في مقام ) بالفتح : وهو موضع القيام ، والمراد المكان ، وهو من الخاص الذي وقع مستعملاً في معنى العموم . وبالضم : وهو موضع الإقامة . و ) الاْمِينُ ( من قولك : أمن الرجل أمانة فهو أمين . وهو ضد الخائن ، فوصف به المكان استعارة ؛ لأنّ المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره . قيل : السندس : ما رق من الديباج . والإستبرق : ما غلظ منه وهو تعريب استبر . فإن قلت : كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمي ؟ قلت : إذا عرب خرج من أن يكون عجمياً ؛ لأن معنى التعريب أن يجعل عربياً بالتصرف فيه ، وتغييره عن منهاجه ، وإجرائه على أوجه الإعراب ) كَذَلِكَ ( الكاف مرفوع على الأمر كذلك . أو منصوب على : مثل ذلك أثبناهم ) وَزَوَّجْنَاهُم ( وقرأ عكرمة ( بحور عين ) على الإضافة : والمعنى : بالحور من العين ؛ لأن العين إما أن تكون حوراً أو غير حور ، فهؤلاء من الحور العين لا من شهلهن مثلاً . وفي قراءة عبد الله : ( بعيس عين ) والعيساء : البيضاء تعلوها حمرة وقرأ

" صفحة رقم 286 "
عبيد بن عمير ( لا يذاقون فيها الموت ) وقرأ عبد الله ( لا يذوقون فيها طعم الموت ) ، فإن قلت : كيف استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقه فيها ؟ قلت : أريد أن يقال : لا يذوقون فيها الموت البتة ، فوضع قوله : ) إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاْولَى ( موضع ذلك ؛ لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل ، فهو من باب التعليق بالمحال ، كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها . وقرىء : ( ووقاهم ) بالتشديد ) فَضْلاً مّن رَّبّكَ ( عطاء من ربك وثواباً ، يعني : كل ما أعطى المتقين من نعيم الجنة والنجاة من النار . وقرىء : ( فضل ) أي : ذلك فضل .
) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ (
الدخان : ( 58 - 59 ) فإنما يسرناه بلسانك . . . . .
) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ ( فذلكة للسورة . ومعناها : ذكرهم بالكتاب المبين ( فإنما يسرناه ) أي : سهلناه ، حيث أنزلناه عربياً بلسانك بلغتك إرادة أن يفهمه قومك فيتذكروا ) فَارْتَقِبْ ( فانتظر ما يحل بهم ) إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ( ما يحل بك متربصون الدوائر .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1019 ) ( من قرأ سورة حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك ) وعنه عليه السلام :

" صفحة رقم 287 "
( 1020 ) ( من قرأ سورة حم التي ذكر فيها الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفوراً له ) .

" صفحة رقم 288 "
( سورة الجاثية )
مكية ( إلا آية 14 فمدنية )
وآياتها 37 وقيل 36 آية ( نزلت بعد الدخان )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ لاّيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الاٌّ رْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ءّايَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ( .
الجاثية : ( 1 ) حم
) حم ( إن جعلتها اسماً مبتدأ مخبراً عنه ب ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( لم يكن بدّمن حذف مضاف ، تقديره : تنزيل حم تنزيل الكتاب . و ) مِنَ اللَّهِ ( صلة للتنزيل ، وإن جعلتها تعديداً للحروف كان ( تنزيل الكتاب ) مبتدأ ، والظرف خبراً ) أَنَّ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ ( يجوزأن يكون على ظاهره ، وأن يكون المعنى ؛ إنّ في خلق السماوات لقوله : ) وَفِى خَلْقِكُمْ ( فإن قلت : علام عطف ) وَمَا يَبُثُّ ( أعلى الخلق المضاف ؟ أم على الضمير المضاف إليه ؟ قلت : بل على المضاف ، لأنّ المضاف إليه ضمير متصل مجرور يقبح العطف عليه : استقبحوا أن يقال : مررت بك وزيد ، وهذا أبوك وعمرو ، وكذلك إن أكدوه كرهوا أن يقولوا : مررت بك أنت وزيد . قرىء ( آيات لقوم يوقنون ) بالنصب والرفع ، على قولك : إنّ زيداً في الدار وعمراً في السوق . أو عمرو في السوق . وأمّا قوله : ( آيات لقوم يعقلون ) فمن العطف على عاملين ، سواء نصبت أو رفعت ، فالعاملان إذا نصبت هما : إن ، وفي : أقيمت الواو مقامهما ، فعملت الجر في ( اختلاف الليل والنهار ) ، والنصب في ) ءايَاتُ ( . وإذا رفعت فالعاملان : الابتداء وفي : عملت الرفع في ) ءايَاتُ ( ، والجر في ) وَاخْتِلَافُ ( وقرأ ابن مسعود ( وفي اختلاف الليل والنهار ) فإن قلت : العطف على عاملين على مذهب الأخفش سديد لا مقال فيه . وقد أباه سيبويه ، فما وجه تخريج الآية عنده ؟ قلت : فيه وجهان عنده . أحدهما : أن يكون على إضمار في . والذي حسنه تقدّم

" صفحة رقم 289 "
ذكره في الآيتين قبلها . ويعضده قراءة ابن مسعود . والثاني : أن ينتصب آيات على الاختصاص بعد انقضاء المجرور معطوفاً على ما قبله أو على التكرير ، ورفعها بإضمار هي : وقرىء : ( واختلاف الليل والنهار ) بالرفع . وقرىء ( آية ) وكذلك وما يبث من دابة آية . وقرىء ( وتصريف الريح ) والمعنى : إنّ المنصفين من العباد إذا نظروا في السماوات والأرض النظر الصحيح ، علموا أنها مصنوعة ، وأنه لا بدّ لها من صانع ، فآمنوا بالله وأقرّوا ، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى هيئة ، وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان : ازدادوا إيماناً ، وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس ؛ فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدّد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بها بعد موتها . ) وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ ( جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً : عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم ، وسمى المطر رزقاً ؛ لأنه سبب الرزق ) تَلْكَ ( إشارة إلى الآيات المتقدّمة ، أي : تلك الآيات آيات الله . و ) نَتْلُوهَا ( في محل الحال ، أي : متلوة ) عَلَيْكَ بِالْحَقّ ( والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة . ونحوه : ( هذا بعلي شيخاً ) وقرىء ( يتلوها ) بالياء ) بَعْدَ اللَّهِ وَءايَاتِهِ ( أي بعد آيات الله كقولهم : أعجبني زيد وكرمه ، يريدون : أعجبني كرم زيد . ويجوز أن يراد : بعد حديث الله ، وهو كتابه وقرآنه ، كقوله تعالى ؛ ) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( ( الزمر : 23 ) . وقرىء ) يُؤْمِنُونَ ( بالتاء والياء .
) وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (
الجاثية : ( 7 ) ويل لكل أفاك . . . . .
الأفاك : الكذاب ، والأثيم : المتبالغ في اقتراف الآثام ) يُصِرُّ ( يقبل على كفره ويقيم عليه . وأصله من إصرار الحمار على العانة وهو أن ينحى عليها صارّ أذنيه ) مُسْتَكْبِراً ( عن الإيمان بالآيات والإذعان لما ينطق به من الحق ، مزدرياً لها معجباً بما عنده . قيل : نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ، ويغشل الناس بها عن استماع القرآن . والآية عامّة في كل ما كان مضارّاً لدين الله . فإن قلت : ما معنى ثم في قوله : ) ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً ( ؟ قلت : كمعناه في قول القائل : يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُها

" صفحة رقم 290 "
وذلك أنّ غمرات الموت حقيقة ، بأن ينجو رائيها بنفسه ويطلب الفرار عنها . وأمّا زيارتها والإقدام على مزاولتها . فأمر مستبعد ، فمعنى ثم : الإيذان بأن فعل المقدّم عليها بعدما رآها وعاينها ؛ شيء يستعبد في العادات والطباع ، وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق ، من تليت عليه وسمعها : كان مستبعداً في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها ) - - ه 4 س 45 ش 8 ن 9 / ن 9 - - كَأَن ( مخففة ، والأصل كأنه لم يسمعها : والضمير ضمير الشأن ، كما في قوله :
كَأَنْ ظَبْيَةً تعطو إِلَى نَاضِرِ السَّلَمْ
ومحل الجملة النصب على الحال . أي : يصير مثل غير السامع ) - - ه 4 س 45 ش 9 ن 1 / ن 1 - - وَإِذَا ( بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها ) اتَّخَذَهَا ( أي اتخذ الآيات ) هُزُواً ( ولم يقل : اتخذه ، للإشعار بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله تعالى على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : خاض في الاستهزاء بجميع الآيات . ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه ، ويحتمل : وإذا علم من آياتنا شيئاً يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملاً يتسلق به على الطعن والغميزة : افترصه واتخذ آيات الله هزواً ، وذلك نحو افتراص ابن الزبعري قوله عز وجل : ) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( ( الأنبياء : 98 ) ومغالطته رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقوله : خصتمك . ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء ؛ لأنه في معنى الآية كقول أبي العتاهية : نَفْسِي بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا مُعَلَّقَة
أللَّهُ وَالْقَائِمُ الْمَهْدِيُّ يَكْفِيَهَا
حيث أراد عتبة . وقرىء : ( علم أولئك ) إشارة إلى كل أفاك أثيم ، لشموله الأفاكين . والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام . قال : أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي
أَدِبُّ مَعَ الْوِلْدَانِ أَزْحَفُ كَالنَّسْرِ
ومنه قوله عز وجل : ) مّن وَرَائِهِمْ ( أي من قدّامهم ) مَّا كَسَبُواْ ( من الأموال في رحلهم ومتاجرهم ) وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ( من الأوثان .

" صفحة رقم 291 "
) هَاذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (
الجاثية : ( 11 ) هذا هدى والذين . . . . .
) هَاذَا ( إشارة إلى القرآن ، يدل عليه قوله تعالى : ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ ( لأنّ آيات ربهم هي القرآن ، أي هذا القرآن كامل في الهداية ، كما تقول : زيد رجل ، تريد كامل في الرجولية . وأيما رجل . والرجز : أشد العذاب . وقرىء بجر ( أليم ) ورفعه .
) اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاٌّ رْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (
الجاثية : ( 12 ) الله الذي سخر . . . . .
) وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( بالتجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان واستخراج اللحم الطري وغير ذلك من منافع البحر . فإن قلت : ما معنى ) مِّنْهُ ( في قوله : ) جَمِيعاً مّنْهُ ( وما موقعها من الإعراب ، قلت : هي واقعة موقع الحال ، والمعنى : أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده ، يعني : أنه مكوّنها وموجدها بقدرته وحكمته ، ثم مسخرها لخلقه . ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هي جميعاً منه ، وأن يكون ) وَسَخَّرَ لَكُمُ ( تأكيداً لقوله تعالى : ) سَخَّرَ لَكُمُ ( ثم ابتدىء قوله : ) مَّا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ ( وأن يكون ) مَّا فِى الاْرْضِ ( مبتدأ ، و ) مِّنْهُ ( خبره . وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما ( منة ) وقرأ سلمة بن محارب : منه ، على أن يكون منه فاعل سخر على الإسناد المجازي . أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : ذلك . أو هو منه .
) قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (
الجاثية : ( 14 ) قل للذين آمنوا . . . . .
حذف المقول لأنّ الجواب دال عليه . والمعنى : قل لهم اغفروا يغفروا ) لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( لا يتوقعون وقائع الله بأعدائه ، من قولهم لوقائع العرب : أيام العرب . وقيل : لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها . قيل : نزلت قبل آية القتال ، ثم نسخ حكمها . وقيل : نزولها في عمر رضي الله عنه وقد شتمه رجل من غفار فهمّ أن يبطش به وعن سعيد بن المسيب : كنا بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأ قارىء هذه الآية ، فقال عمر : ليجزى عمر بما صنع ) لِيَجْزِىَ ( تعليل للأمر بالمغفرة ، أي : إنما أمروا بأن يغفروا لما أراده الله من توفيقهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة .

" صفحة رقم 292 "
فإن قلت : قوله : ) قَوْماً ( ما وجه تنكيره وإنما أراد الذين آمنوا وهم معارف ؟ قلت : هو مدح لهم وثناء عليهم ، كأنه قيل : ليجزي أيما قوم وقوماً مخصوصين ، لصبرهم وإغضائهم على أذى أعدائهم من الكفار ، وعلى ما كانوا يجرعونهم من الغصص ) بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ومعنى قول عمر : ليجزى عمر بما صنع : ليجزى بصبره واحتماله . وقوله لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند نزول الآية :
( 1021 ) والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب في وجهي . وقرىء ( ليجزى قوماً ) أي : الله عز وجل . وليجزي قوم . وليجزى قوماً ، على معنى : وليجزي الجزاء قوماً .
) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ وَءاتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الاٌّ مْرِ فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (
الجاثية : ( 16 - 17 ) ولقد آتينا بني . . . . .
) الْكِتَابِ ( التوراة ) وَالْحُكْمَ ( الحكمة والفقه . أو فصل الخصومات بين الناس ؛ لأنّ الملك كان فيهم والنبوّة ) مّنَ الطَّيّبَاتِ ( مما أحل الله لهم وأطاب من الأرزاق ) وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ ( حيث لم نؤت غيرهم مثل ما آتيناهم ) بَيّنَاتٍ ( آيات ومعجزات ) مِنَ الاْمْرِ ( من أمر الدين ، فما وقع بينهم الخلاف في الدين ) إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ( ما هو موجب لزوال الخلاف وهو العلم . وإنما اختلفوا لبغى حدث بينهم ، أو لعداوة وحسد .
) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الاٌّ مْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ (
الجاثية : ( 18 ) ثم جعلناك على . . . . .
) عَلَى شَرِيعَةٍ ( على طريقة ومنهاج ) مِنَ الاْمْرِ ( من أمر الدين ، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والحجج ، ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال ، ودينهم المبنى على هوى وبدعة ، وهم رؤساء قريش حين قالوا : ارجع إلى دين أبائك . ولا توالهم ، إنما يوالي الظالمين من هو ظالم مثلهم ، وأما المتقون : فوليهم الله وهم موالوه . وما أبين الفصل بين الولايتين .
) هَاذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 7 )
الجاثية : ( 20 ) هذا بصائر للناس . . . . .

" صفحة رقم 293 "
) هَاذَا ( القرآن ) بَصَائِرَ لِلنَّاسِ ( جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب . كما جعل روحاً وحياة وهو هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن . وقرىء ( هذه بصائر ) أي : هذه الآيات .
) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ (
الجاثية : ( 21 ) أم حسب الذين . . . . .
) أَمْ ( منقطعة . ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان . والاجتراح : الاكتساب . ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله ، أي : كاسبهم ) أَن نَّجْعَلَهُمْ ( أي نصيرهم . وهو من جعل المتعدي إلى مفعولين فأوّلهما الضمير ، والثاني : الكاف ، والجملة التي هي ) سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ( بدل من الكاف ؛ لأنَّ الجملة تقع مفعولاً ثانياً ، فكانت في حكم المفرد . ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم : كان سديداً ، كما تقول : ظننت زبداً أبوه منطلق . ومن قرأ ( سواء ) بالنصب : أجرى سواء مجرى مستوياً ، وارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية ، وكان مفرداً غير جملة . ومن قرأ : ( ومماتهم ) بالنصب ، جعل محياهم ومماتهم : ظرفين ، كمقدم الحاج وخفوق النجم . أي سواء : سواء في محياهم وفي مماتهم . والمعنى : إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا ، وأن يستووا مماتاً ؛ لافتراق أحوالهم أحياء . حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات ، وأولئك على ركوب المعاصي . ومماتاً ، حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه ، وأولئك على اليأس من رحمة الله والوصول إلى هول ما أعدَّ لهم . وقيل : معناه إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة ، لأنّ المسيئين والمحسنين مستو محياهم في الرزق والصحة ، وإنما يفترقون في الممات ، وقيل : سواء محياهم ومماتهم : كلام مستأنف على معنى : أن محيا المسيئين ومماتهم سواء ، وكذلك محيا المحسنين ومماتهم : كل يموت على حسب ما عاش عليه . وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكي ويردّد إلى الصباح : ساء ما يحكمون . وعن الفضيل : أنه بلغها فجعل يردّدها ويبكي ويقول : يا فضيل ، ليت شعري من أي الفرقين أنت .
) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (
الجاثية : ( 22 ) وخلق الله السماوات . . . . .
) وَلِتُجْزَى ( معطوف على بالحق ، لأنّ فيه معنى التعليل . أو على معلل محذوف تقديره : خلق الله السماوات والأرض ، ليدل به على قدرته ولتجزي كل نفس .

" صفحة رقم 294 "
) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (
الجاثية : ( 23 ) أفرأيت من اتخذ . . . . .
أي : هو مطواع لهوى النفس يتبع ما تدعوه إليه ، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلاهه . وقرىء : ( آلهة هواه ) ، لأنه كان يستحسن الحجر فيعبده ، فإذا رأى ما هو أحسن رفضه إليه ، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى : يعبد كل وقت واحداً منها ) وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ( وتركه عن الهداية واللطف وخذله على علم ، عالماً بأنّ ذلك لا يجدى عليه ، وأنه ممن لا لطف له . أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقرّبة ) فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ( إضلال ) اللَّهُ ( وقرىء ( غشاوة ) بالحركات الثلاث . وغشوة ، بالكسر والفتح . وقرىء ( تتذكرون ) .
) وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (
الجاثية : ( 24 ) وقالوا ما هي . . . . .
) نَمُوتُ وَنَحْيَا ( نموت نحن ويحيا وأولادنا . أو يموت بعض ويحيا بعض . أو نكون مواتاً نطفاً في الأصلاب ، ونحيا بعد ذلك . أو يصيبنا الأمران : الموت والحياة ، يريدون : الحياة في الدنيا والموت بعدها ، وليس وراء ذلك حياة . وقرىء : ( نحيا ) بضم النون . وقرىء ( إلا دهر يمرّ ) ما يقولون ذلك عن علم ، ولكن عن ظنّ وتخمين : كانوا يزعمون أنّ مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس ، وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله ، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان ، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان . ومنه قوله عليه السلام :
( 1022 ) ( لا تسبوا الدهر ، فإنّ الله هو الدهر ) أي : فإنّ الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر .
) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِأابَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (
الجاثية : ( 25 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
وقرىء ( حجتهم ) بالنصب والرفع ، على تقديم خبر كان وتأخيره . فإن قلت : لم

" صفحة رقم 295 "
سمى قولهم حجة وليس بحجة ؟ قلت : لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته وساقوه مساقها ، فسميت حجة على سبيل التهكم . أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة . أو لأنه في أسلوب قوله : تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ;
كأنه قيل : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة . والمراد : نفي أن تكون لهم حجة البتة . فإن قلت : كيف وقع قوله : ) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ( جواباً لقولهم : ) ائْتُواْ بِأابَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ؟ قلت : لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل ، وحسبوا أنّ ما قالوه قول مبكت . ألزموا ما هم مقرّون به : من أنّ الله عز وجل هو الذي يحييهم ثم يميتهم ، وضم إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وأصغوا إلى داعي الحق ، وهو جمعهم إلى يوم القيامة ، ومن كان قادراً على ذلك كان قادراً على الإيتان بآبائهم ، وكان أهون شيء عليهم .
) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (
الجاثية : ( 27 - 31 ) ولله ملك السماوات . . . . .
عامل النصب في ) يَوْمٍ تَقُومُ ( يخسر ، و ) يَوْمَئِذٍ ( بدل من ( يوم تقول ) ) جَاثِيَةً ( باركة مستوفزة على الركب . وقرىء ( جاذية ) والجذّو : أشد استيفازاً من الجثوّ : لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه : وعن ابن عباس رضي الله عنهما : جاثية مجتمعة . وعن قتادة جماعات من الجثوة ، وهي الجماعة ، وجمعها : جثى . وفي الحديث :
( 1023 ) ( من جثى جهنم ) وقرىء : ) كُلُّ أُمَّةٍ ( على الابتداء : وكل أمة : على

" صفحة رقم 296 "
الإبدال من كل أمة ) إِلَى كِتَابِهَا ( إلى صحائف أعمالها ، فاكتفى باسم الجنس ، كقوله تعالى : ) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ( ( الكهف : 49 ) . ) الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ( محمول على القول . فإن قلت : كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله عزَّ وجل ؟ قلت : الإضافة تكون للملابسة ، وقد لابسهم ولابسه ، أما ملابسته إياهم ، فلأن أعمالهم مثبتة فيه . وأما ملابسته إياه ؛ فلأنه مالكه ، والآمر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده ) يَنطِقُ عَلَيْكُم ( يشهد عليكم بما عملتم ) بِالْحَقّ ( من غير زيادة ولا نقصان ) إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ ( الملائكة ) مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( أي نستكتبهم أعمالكم ) فِى رَحْمَتِهِ ( في جنته . وجواب أما محذوف تقديره : وأما الذين كفروا فيقال لهم ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ( والمعنى ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه .
) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (
الجاثية : ( 32 ) وإذا قيل إن . . . . .
وقرىء : ( والساعة ) بالنصب عطفاً على الوعد ، وبالرفع عطفاً على محل إن واسمها ) مَا السَّاعَةُ ( أيّ شيء الساعة ؟ فإن قلت : ما معنى ( إن نظن إلا ظناً ) ؟ قلت : أصله نظن ظناً . ومعناه : إثبات الظن فحسب ، فأدخل حرفا النفي والاستثناء ، ليفاد إثبات الظن مع نفي ما سواه وزيد نفي ما سوى الظن توكيداً بقوله : ) وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ ( أي قبائح أعمالهم . أو عقوبات أعمالهم السيئات ، كقوله تعالى : ) وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ( ( الشورى : 45 ) .
) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ (
الجاثية : ( 34 ) وقيل اليوم ننساكم . . . . .
) نَنسَاكُمْ ( نترككم في العذاب كما تركتم عدة ) لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا ( وهي الطاعة ، أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالي به ، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم ولم تخطروه ببال ، كالشيء الذي يطرح نسياً منسياً . فإن قلت : فما معنى إضافة اللقاء إلى اليوم ؟ قلت : كمعنى إضافة المكر في قوله تعالى : ) بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( ( سبأ : 33 ) أي نسيتم لقاء اليوم في يومكم هذا ولقاء جزائه . وقرىء ( لا يخرجون ) بفتح الياء ) وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه .
) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الاٌّ رْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ ( 7 )
الجاثية : ( 36 - 37 ) فلله الحمد رب . . . . .

" صفحة رقم 297 "
) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ( فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء من السماوات والأرض والعالمين ، فإن مثل هذه الربوبية العامة يوجب الحمد والثناء على كل مربوب . وكبروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته ) فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( وحق مثله أن يكبر ويعظم .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1024 ) ( من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب ) .

" صفحة رقم 298 "
( سورة الأحقاف )
مكية ( إلا الآيات 10 و 15 و 35 فمدنية )
وآياتها 34 وقيل 35 آية ( نزلت بعد الجاثية )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ (
الأحقاف : ( 1 - 3 ) حم
) إِلاَّ بِالْحَقّ ( إلا خلقاً ملتبساً بالحكمة والغرض الصحيح ( و ) بتقدير ) أَجَلٍ مُّسَمًّى ( ينتهي إليه وهو يوم القيامة ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ ( من هول ذلك اليوم الذي لا بد لكل خلق من انتهائه إليه ) مُّعْرِضُونَ ( لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له . ويجوز أن تكون ما مصدرية ، أي : عن إنذارهم ذلك اليوم .
) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاٌّ رْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَاذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (
الأحقاف : ( 4 ) قل أرأيتم ما . . . . .
) بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَاذَا ( أي من قبل هذا الكتاب وهو القرآن ، يعني : أنّ هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك . وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك ، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله ) أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ ( أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأوّلين ، من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من شحم ، أي : على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب . وقرىء ( أثرة ) أي : من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم . وقرىء ( أثرة ) الحركات الثلاث في الهمزة مع سكون الثاء ، فالإثرة بالكسر بمعنى الأثرة . وأما الأثرة فالمرّة من مصدر : أثر الحديث إذا رواه . وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر ، كالخطبة : اسم ما يخطب به .

" صفحة رقم 299 "
) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ (
الأحقاف : ( 5 ) ومن أضل ممن . . . . .
) وَمَنْ أَضَلُّ ( معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالاً من عبدة الأصنام ، حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر عل تحصيل كلّ بغية ومرام ، ويدعون من دونه جماداً لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس : كانوا لهم أعداء ، وكانوا عليهم ضداً ، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرّة ، لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة ؛ وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم . وإنما قيل : ) مَن ( و ( هم ) لأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولى العلم من الاستجابة والغفلة ، ولأنهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلاً وغباوة . ويجوز أن يريد : كل معبود من دون الله من الجن والإنس والأوثان ، فغلب غير الأوثان عليها . قرى : ( ما لا يستجيب ) وقرىء : ( يدعو غير الله من لا يستجيب ) ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها . ونحوه قوله تعالى : ) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ( ( فاطر : 14 ) .
) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (
الأحقاف : ( 6 - 7 ) وإذا حشر الناس . . . . .
) بَيّنَاتٍ ( جمع بينة : وهي الحجة والشاهد . أو واضحات مبينات . واللام في

" صفحة رقم 300 "
) لِلْحَقّ ( مثلها في قوله : ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً ( ( الأحقاف : 11 ) أي لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا . والمراد بالحق : الآيات ، وبالذين كفروا : المتلو عليهم ، فوضع الظاهران موضع الضميرين ؛ للتسجيل عليهم بالكفر ، وللمتلوّ بالحق ) لَمَّا جَاءهُمْ ( أي : بادهوه بالجحود ساعة أتاهم ، وأوّل ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر . ومن عنادهم وظلمهم : أنهم سموه سحراً مبيناً ظاهراً أمره في البطلان لا شبهة فيه .
) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (
الأحقاف : ( 8 ) أم يقولون افتراه . . . . .
) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحراً إلى ذكر قولهم : إن محمداً افتراه . ومعنى الهمزة أم : الإنكار والتعجيب ، كأنه قيل : دع هذا واسمع قولهم المستنكر المفضى منه العجب ، وذلك أن محمداً كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله ، ولو قدر عليه دون أمّة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة ، وإذا كانت معجزة كانت تصديقاً من الله له ، والحكيم لا يصدّق الكاذب فلا يكون مفترياً . والضمير للحق ؛ والمراد به الآيات ) قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ ( على سبيل الفرض عاجلني الله تعالى لا محالة بعقوبة الافتراء عليه . فلا تقدرون على كفه عن معاجلتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه عني ، فكيف أفتريه وأتعرّض لعقابه . يقال : فلان لا يملك إذا غضب ، ولا يملك عنانه إذا صمم ، ومثله : ) فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ( ( المائدة : 17 ) ، ) وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ( ( المائدة : 41 ) ومنه قوله عليه السلام :
( 1025 ) ( لا أملك لكم من الله شيئاً ) ، ثم قال : ) هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ( أي تندفعون فيه من القدح في وحي الله تعالى ، والطعن في آياته ، وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى ) كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( يشهد لي بالصدق والبلاغ ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود . ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم ) وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( موعدة بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا ، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما

" صفحة رقم 301 "
ارتكبوا . فإن قلت : فما معنى إسناد الفعل إليهم في قوله تعالى : فلا تملكون لي ؟ قلت : كان فيما أتاهم به النصيحة لهم والأشفاق عليهم من سوء العاقبة وإرادة الخير بهم ، فكأنه قال لهم : إن افتريته وأنا أريد بذلك التنصح لكم وصدكم عن عبادة الآلهة إلى عبادة الله ، فما تغنون عني أيها المنصوحون إن أخذني الله بعقوبة الافتراء عليه .
) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (
الأحقاف : ( 9 ) قل ما كنت . . . . .
البدع ، بمعنى : البديع ، كالخف بمعنى الخفيف . وقرىء ( بدعا ) بفتح الدال ، أي : ذا بدع ويجوز أن يكون صفة على فعل ، كقولهم : دين قيم ، ولحم زيم : كانوا يقترحون عليه الآيات ويسألونه عما لم يوح به إليه من الغيوب . فقيل له : ) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ ( فآتيكم بكل ما تقترحونه ، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات ؛ فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلا بما آتاهم من آياته ، ولا يخبرون إلا بما أوحى إليهم . ولقد أجاب موسى صلوات الله عليه عن قول فرعون : ( فما بال القرون الأولى ) ؟ بقوله : ( علمها عند ربي ) ) وَمَا أَدْرِى ( لأنه لا علم لي بالغيب ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان من أفعاله ، ويقدّر لي ولكم من قضاياه ) إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ ( وعن الحسن : وما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا ، ومن الغالب منا والمغلوب . وعن الكلبي : قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى نكون على هذا ؟ فقال : ( ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) أأترك بمكة أم أومر بالخروج

" صفحة رقم 302 "
إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخيل وشجر ؟ وعن ابن عباس : ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، وقال : هي منسوخة بقوله : ) لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ( ( الفتح : 2 ) ويجوز أن يكون نفياً للدراية المفصلة . وقرىء ( ما يفعل ) بفتح الياء ، أي : يفعل الله عز وجل . فإن قلت : إنّ ( يفعل ) مثبت غير منفي ، فكان وجه الكلام : ما يفعل بي وبكم . قلت : أجل ، ولكن النفي في ) مَا أَدْرِى ( لما كان مشتملاً عليه لتناوله ) مَا ( وما في حيزه : صح ذلك وحسن . ألا ترى إلى قوله : ) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ ( ( الأحقاف : 33 ) كيف دخلت الياء في حيز أنّ وذلك لتناول النفي إياها مع ما في حيزها . و ( ما ) في ( ما يفعل ) يجوز أن تكون موصولة منصوبة ، وأن تكون استفهامية مرفوعة . وقرىء : ( يوحي ) أي الله عز وجل .
) قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَأامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (
الأحقاف : ( 10 ) قل أرأيتم إن . . . . .
جواب الشرط محذوف تقديره : إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين . ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى : ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( والشاهد من بني إسرائيل : عبد الله بن سلام ، لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة نظر إلى وجهه ، فعلم أنه ليس بوجه كذاب . وتأمّله فتحقق أنه هو النبي المنتظر وقال له :
( 1026 ) إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ : ما أوّل أشراط الساعة ؟ وما أوّل طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه ؟ فقال عليه الصلاة

" صفحة رقم 303 "
والسلام : ( أما أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب . وأما أوّل طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه ، وإن سبق ماء المرأة نزعته ) . فقال : أشهد أنك رسول الله حقاً ، ثم قال : يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت وإن علموا أن تسألهم عني بهتوني عندك . فجاءت اليهود فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أي رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا . قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إلاه إلا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا انتقصوه . قال : هذا ما كنت أخاف عليه يا رسول الله وأحذر . قال سعد بن أبي وقاص :
( 1027 ) ما سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لأحد يمشي على وجه الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ، وفيه نزل : ) وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى مِثْلِهِ ( الضمير للقرآن ، أي : على مثله في المعنى ، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعانى القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك . ويدل عليه قوله تعالى : ) وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ ( ( الشعراء : 196 ) ، ) إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى ( ( الأعلى : 18 ) ، ) كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ( ( الشورى : 3 ) ويجوز أن يكون المعنى : إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك ، يعني كونه من عند الله . فإن قلت : أخبرني عن نظم هذا الكلام لأقف على معناه من جهة النظم . قلت : الواو الأولى عاطفة لكفرتم على فعل الشرط ، كما عطفته ( ثم ) في قوله تعالى : ) قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن

" صفحة رقم 304 "
كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ( ( فصلت : 52 ) وكذلك الواو الآخرة عاطفة لاستكبرتم على شهد شاهد ، وأما الواو في ( وشهد شاهد ) فقد عطفت جملة قوله . شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم : على جملة قوله : ( كان من عند الله وكفرتم به ) ونظيره قولك : إن أحسنت إليك وأسأت ، وأقبلت عليك وأعرضت عني ، لم نتفق في أنك أخذت ضميمتين فعطفتهما على مثليهما ، والمعنى : قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به ، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به ، مع استكباركم عنه وعن الإيمان به ، ألستم أضل الناس وأظلمهم ؟ وقد جعل الإيمان في قوله : ) فَأامَنَ ( مسبباً عن الشهادة على مثله : لأنه لما علم أنّ مثله أنزل على موسى صلوات الله عليه ، وأنه من جنس الوحي وليس من كلام البشر ، وأنصف من نفسه فشهد عليه واعترف كان الإيمان نتيجة ذلك .
) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَاذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (
الأحقاف : ( 11 ) وقال الذين كفروا . . . . .
) لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ( لأجلهم وهو كلام كفار مكة ، قالوا : عامّة من يتبع محمداً السقاط ، يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود ، فلو كان ما جاء به خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء . وقيل : لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار : قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع : لو كان خيراً ما سبقنا إليه رعاء البهم . وقيل : إن أمة لعمر أسلمت ، فكان عمر يضربها حتى يفتر ثم يقول لولا أني فترت لزدتك ضرباً ، وكان كفار قريش يقولون : لو كان ما يدعو إليه محد حقاً ما سبقتنا إليه فلانة . وقيل : كان اليهود يقولونه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه . فإن قلت : لا بدّ من عامل في الظرف في قوله : ) وَإِذْ لَمْ

" صفحة رقم 305 "
يَهْتَدُواْ بِهِ ( ومن متعلق لقوله : ) فَسَيَقُولُونَ ( وغير مستقيم أن يكون ) فَسَيَقُولُونَ ( هو العامل في الظرف ، لتدافع دلالتي المضي والاستقبال ، فما وجه هذا الكلام ؟ قلت : العامل في إذ محذوف ، لدلالة الكلام عليه ، كما حذف في قوله : ( فلما ذهبوا به ) وقولهم : حينئذٍ الآن ، وتقديره : وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم ، فسيقولون هذا إفك قديم ، فهذا المضمر صحّ به الكلام ، حيث انتصب به الظرف وكان قوله : ) فَسَيَقُولُونَ ( مسبباً عنه كما صحَّ بإضمار أنّ قوله : ) حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ( ( البقرة : 214 ) لمصادفة ( حتى ) مجرورها ، والمضارع ناصبه . وقولهم : ) إِفْكٌ قَدِيمٌ ( كقولهم : أساطير الأوّلين ) كِتَابُ مُوسَى ( مبتدأ ومن قبله ظرف واقع خبراً مقدماً عليه ، وهو ناصب ) إِمَاماً ( على الحال ، كقولك : في الدار زيد قائماً . وقرىء : ومن قبله كتاب موسى ، على : وآتينا الذين قبله التوراة . ومعنى ) إِمَاماً ( : قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه ، كما يؤتم بالإمام ) وَرَحْمَةً ( لمن آمن به وعمل بما فيه ) وَهَاذَا ( القرآن ) كِتَابٌ مُّصَدّقٌ ( لكتاب موسى . أو لما بين يديه وتقدّمه من جميع الكتب . وقرىء ( مصدق لما بين يديه ) ) لّسَاناً عَرَبِيّاً ( حال من ضمير الكتاب في مصدق ، والعامل فيه ( مصدق ) ويجوز أن ينتصب حالاً عن كتاب لتخصصه بالصفاة ، ويعمل فيه معنى الإشارة . وجوّز أن يكون مفعولاً لمصدق ، أي : يصدق ذات لسان عربي وهو الرسول . وقرىء : ( لينذر ) بالياء والتاء ، ولينذر : من نذر ينذر إذا حذر ) وَبُشْرَى ( في محل النصب معطوف على محل لينذر ، لأنه مفعول له .
) وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ فِى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ (
الأحقاف : ( 15 ) ووصينا الإنسان بوالديه . . . . .
قرىء : ( حسناً ) بضم الحاء وسكون السين . وبضمهما ، وبفتحهما . وإحساناً ، وكرهاً ، بالفتح والضم ، وهما لغتان في معنى المشقة ، كالفقر والفقر . وانتصابه على

" صفحة رقم 306 "
الحال : أي : ذات كره . أو على أنه صفة للمصدر ، أي : حملاً ذا كُرهٍ ) وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ( ومدّة حمله وفصاله ) ثَلاَثُونَ شَهْراً ( وهذا دليل على أن أقل الحمل ستة أشهر ؛ لأن مدّة الرضاع إذا كانت حولين لقوله عز وجل : ) حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ( ( البقرة : 233 ) بقيت للحمل ستة أشهر . وقرىء : ( وفصله ) والفصل والفصال : كالفطم والفطام . بناء ومعنى . فإن قلت : المراد بيان مدّة الرضاع لا الفطام ، فكيف عبر عنه بالفصال ؟ قلت : لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه لأنه ينتهي به ويتم : سمى فصالاً ، كما سمي المدّة بالأمد من قال : كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْ
رِ وَمُودٍ إِذَا انْتَهَى أَمَدُهْ
وفيه فائدة وهي الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته . وقرىء : ( حتى إذا استوى وبلغ أشدّه ) وبلوغ الأشد : أن يكتهل ويستوفي السنّ التي تستحكم فيها قوّته وعقله وتمييزه ، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين . وعن قتادة : ثلاث وثلاثون سنة ، ووجهه أن يكون ذلك أوّل الأشد ، وغايته الأربعين . وقيل : لم يبعث نبيّ قط إلا بعد أربعين سنة . والمراد بالنعمة التي استوزع الشكر عليها : نعمة التوحيد والإسلام ، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه ؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه . وقيل في العمل المرضي : هو الصلوات الخمس . فإن قلت : ما معنى ( في ) في قوله : ) وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى ( ؟ قلت : معناه : أن يجعل ذريّته موقعاً للصلاح ومظنة له كأنه قال : هب لي الصلاح في ذرّيتي وأوقعه فيهم ونحوه :
يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي
) مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( من المخلصين . وقرىء : ( يتقبل ) ويتجاوز ، بفتح الياء ، والضمير فيهما لله عز وجل . وقرئا بالنون . فإن قلت : ما معنى قوله : ) فِى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ( ؟ قلت : هو نحو قولك : أكرمني الأمير في ناس من أصحابه ، تريد : أكرمني في جملة من أكرم منهم ، ونظمني في عدادهم ، ومحله النصب على الحال ، على معنى : كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم ) وَعْدَ الصّدْقِ ( مصدر مؤكد ؛ لأن قوله : يتقبل ، ويتجاوز : وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز . وقيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وفي أبيه أبي قحافة

" صفحة رقم 307 "
وأمّه أم الخير وفي أولاده ، واستجابة دعائه فيهم . وقيل : لم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو وولداه وبنوه وبناته غير أبي بكر .
) وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ (
الأحقاف : ( 17 - 18 ) والذي قال لوالديه . . . . .
) وَالَّذِى قَالَ لِوالِدَيْهِ ( مبتدأ خبره : أولئك الذين حق عليهم القول . والمراد بالذي قال : الجنس القائل ذلك القول ، ولذلك وقع الخبر مجموعاً . وعن الحسن : هو في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث . وعن قتادة : هو نعت عبد سوء عاق لوالديه فاجر لربه . وقيل : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه وقد دعاه أبوه أبو بكر وأمّه أمّ رومان إلى الإسلام ، فأفف بهما وقال : ابعثوا لي جدعان بن عمرو وعثمان بن عمرو ، وهما من أجداده حتى أسألهما عما يقول محمد ، ويشهدوا لبطلانه أن المراد بالذي قال : جنس القائلين ذلك ، وأنّ قوله الذين حق عليهم القول : هم أصحاب النار ، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم . وعن عائشة رضي الله عنها إنكار نزولها فيه ، وحين كتب معاوية إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن :
( 1028 ) لقد جئتم بها هرقلية ، تبايعون لأبنائكم ، فقال مروان : يا أيها الناس ،

" صفحة رقم 308 "
هو الذي قال الله فيه : ) وَالَّذِى قَالَ لِوالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا ( فسمعت عائشة فغضبت وقالت : والله ما هو به ، ولو شئت أن أسميه لسميته وكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة الله . وقرىء : ( أف ) بالكسر والفتح بغير تنوين ، وبالحركات الثلاث مع التنوين ، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر ، كما إذا قال : حس ، علم منه أنه متوجع ، واللام للبيان ، معناه : هذا التأفيف لكما خاصة ، ولأجلكما دون غيركما . وقرىء ( أتعدانني ) بنونين . وأتعداني : بأحدهما . وأتعداني : بالإدغام . وقد قرأ بعضهم : أتعدانني بفتح النون ، كأنه استنقل اجتماع النونين والكسرتين والياء ، ففتح الأولى تحرياً للتخفيف ، كما تحراه من أدغم ومن أطرح أحدهما ) أَنْ أَخْرِجْ ( أن ابعث وأخرج من الأرض . وقرىء : ( أخرج ) ) وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى ( يعني : ولم يبعث منهم أحد ) يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ ( يقولان : الغياث بالله منك ومن قولك ، وهو استعظام لقوله : ) وَيْلَكَ ( دعاء عليه بالثبور : والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك ) فِى أُمَمٍ ( نحو قوله : ) فِى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ( ( الأحقاف : 16 ) وقرىء : ( أن ) بالفتح ، على معنى : آمن بأن وعد الله حق .
) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (
الأحقاف : ( 19 ) ولكل درجات مما . . . . .
) وَلِكُلٍّ ( من الجنسين المذكورين ) دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ ( أي منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، ومن أجل ما عملوا منهما . فإن قلت : كيف قيل : درجات ، وقد جاء : الجنة درجات والنار دركات ؟ قلت : يجوز أن يقال ذلك على وجه التغليب ، لاشتمال كل على الفريقين ) وَلِيُوَفّيَهُمْ ( وقرىء : بالنون تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه ، كأنه قيل : وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم : قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات .

" صفحة رقم 309 "
) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الاٌّ رْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (
الأحقاف : ( 20 ) ويوم يعرض الذين . . . . .
ناصب الظرف هو القول المضمر قبل ) أَذْهَبْتُمْ ( وعرضهم على النار : تعذيبهم بها ، من قولهم : عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به ومنه قوله تعالى : ) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ( ( غافر : 46 ) ويجوز أن يراد : عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون : عرض الحوض عليها فقلبوا . ويدل عليه تفسير ابن عباس رضي الله عنه : يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها ) أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ ( أي : ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم ، وقد ذهبتم به وأخذتموه ، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها . وعن عمر رضي الله عنه : لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسمنة ، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم طيباتهم فقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا . وعنه : لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي : وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1029 ) أنه دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً ، فقال : ( أأنتم اليوم خير أو يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ، ويغدي عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ، ويستر بيته كما تستر الكعبة . قالوا : نحن يومئذٍ خير . قال : بل أنتم اليوم خير ) وقرىء : ( أذهبتم ) بهمزة الاستفهام . و ( آأذهبتم ) بألف بين همزتين : ( الهون ) و ( الهوان ) وقرىء ( عذاب الهوان ) ، وقرىء : ( يفسقون ) بضم السين وكسرها .
) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاٌّ حْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 7 )
الأحقاف : ( 21 ) واذكر أخا عاد . . . . .

" صفحة رقم 310 "
الأحقاف : جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء ، من احقوقف الشيء إذا اعوج ، وكانت عاد أصحاب عمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر من بلاد اليمن . وقيل : بين عمان ومهرة . و ) النُّذُرُ ( جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار ) مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ( من قبله ) مِنْ خَلْفِهِ ( ومن بعده . وقرىء : ( من بين يديه ومن بعده ) والمعنى : أنّ هوداً عليه السلام قد أنذرهم فقال لهم : لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم العذاب ؛ وأعلمهم أنّ الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره وعن ابن عباس رضي الله عنه : يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه . ومعنى ) وَمِنْ خَلْفِهِ ( على هذا التفسير ومن بعد إنذاره ، هذا إذا علقت ، وقد خلت النذر بقوله : أنذر قومه ، ولك أن تجعل قوله تعالى : ) وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ( اعتراضاً بين أنذر قومه وبين ) أَلاَّ تَعْبُدُواْ ( ويكون المعنى : واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم ؛ وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك ، فاذكرهم .
) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (
الأحقاف : ( 22 ) قالوا أجئتنا لتأفكنا . . . . .
الإفك : الصرف . يقال أفكه عن رأيه ) عَنْ ءَالِهَتِنَا ( عن عبادتها ) بِمَا تَعِدُنَا ( من معاجلة العذاب على الشرك ) إِن كُنتَ ( صادقاً في وعدك .
) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَاكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (
الأحقاف : ( 23 ) قال إنما العلم . . . . .
فإن قلت : من أين طابق قوله تعالى : ) إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ ( جواباً لقولهم : ) فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( ؟ قلت : من حيث إنّ قولهم هذا استعجال منهم بالعذاب . ألا ترى إلى قوله تعالى : ) بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ( ( الأحقاف : 24 ) فقال لهم : لا علم عندي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم حكمة وصواباً ، إنما علم ذلك عند الله ، فكيف ادعوه بأن يأتيكم بعذابه في وقت عاجل تقترحونه أنتم ؟ ومعنى : ( وأبلغكم ) ) مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ ( وقرىء بالتخفيف : أن الذي هو شأني وشرطي : أن أبلغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف والصرف عما يعرّضكم لسخط الله بجهدي ، ولكنكم جاهلون لا تعلمون أنّ الرسل لم يبعثوا إلا منذرين لا مقترحين ، ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه .
) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 7 )
الأحقاف : ( 24 ) فلما رأوه عارضا . . . . .

" صفحة رقم 311 "
) فَلَمَّا رَأَوْهُ ( في الضمير وجهان : أن يرجع إلى ما تعدنا ، وأن يكون مبهماً قد وضح أمره بقوله : ) عارضنا ( إما تمييزاً وإما حالاً . وهذا الوجه أعرب وأفصح . والعارض : السحاب الذي يعرض في أفق السماء . ومثله : الحبي والعنان ، من حبا وعنّ : إذا عرض . وإضافة مستقبل وممطر مجازية غير معروفة ؛ بدليل وقوعهما وهما مضافان إلى معرفتين وصفاً للنكرة ) الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ ( قول قبله مضمر ، والقائل : هود عليه السلام ، والدليل عليه قراءة من قرأ : ( قال هود ، بل هو ) وقرىء : ( قل بل ما استعجلتم به هي ريح ) ، أي قال الله تعالى : قل ) تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء ( تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير ، فعبر عن الكثرة بالكلية . وقرىء يدمر كل شيء من دمر دماراً إذا هلك ) لاَّ تَرَى ( الخطاب للرائي من كان . وقرىء : ( لا يرى ) ، على البناء للمفعول بالياء والتاء ، وتأويل القراءة بالتاء وهي عن الحسن رضي الله عنه : لا ترى بقايا ولا أشياء منهم إلا مساكنم . ومنه بيت ذي الرمّة : وَمَا بَقِيَتْ إِلاَّ الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ ;
وليست بالقوية . وقرىء : ( لا ترى إلا مسكنهم ) ، و ( لا يرى إلا مسكنهم ) . وروى أنّ الريح كانت كانت تحمل الفسطاط والظعينة فترفعها في الجوّ حتى ترى كأنها جرادة . وقيل : أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت : رأيت ريحاً فيها كشهب النار . وروي : أوّل ما عرفوا به أنه عذاب : أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم ؛ فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم ، وأما الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ، ثم كشفت الريح عنه ، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر . وروى أنّ هوداً لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : اعتزل هود ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس . وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء وتدمغهم بالحجارة وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال :
( 1030 ) اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر

" صفحة رقم 312 "
ما أرسلت به وإذا رأى مخيلة : قام وقعد ، وجاء وذهب ، وتغير لونه ، فيقال له : يا رسول الله ما تخاف ؟ فيقول : إني أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا : هذا عارض ممطرنا . فإن قلت : ما فائدة إضافة الرب إلى الريح ؟ قلت : الدلالة على أن الريح وتصريف أعنتها مما يشهد لعظم قدرته ، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده . وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وجل : يعضد ذلك ويقوّيه .
) وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَىْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (
الأحقاف : ( 26 ) ولقد مكناهم فيما . . . . .
) إِن ( نافية ، أي : فيما ما مكناكم فيه ، إلا أنّ ) إِن ( أحسن في اللفظ ؛ لما فيه مجامعة ( ما ) مثلها من التكرير المستبشع . ومثله مجتنب ، ألا ترى أن الأصل في ( مهما ) : ( ماما ) فلبشاعة التكرير : قلبوا الألف هاء . ولقد أغث أبو الطيب في قوله : لَعَمْرُكَ مامَا بَانَ مِنْكَ لِضَارِبِ
وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال : لعمرك ما إن بان منك لضارب

" صفحة رقم 313 "
وقد جعلت إن صلة ، مثلها فيما أنشده الأخفش : يُرَجّى الْمَرْءُ مَا إنْ لاَ يَرَاه
وَتَعْرِضُ دُونَ أَدْنَاهُ الْخُطُوبُ
وتؤوّل بإنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه : والوجه هو الأوّل ، ولقد جاء عليه غير آية في القرآن ) هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ( ، ( مريم : 74 ) ) قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً ( ( غافر : 82 ) وهو أبلغ في التوبيخ ، وأدخل في الحث على الاعتبار ) مِن شَىْء ( أي من شيء من الإغناء ، وهو القليل منه . فإن قلت بم انتصب ) إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ ( ؟ قلت : بقوله تعالى : ) فَمَا أَغْنَى ( . فإن قلت : لم جرى مجرى التعليل ؟ قلت : لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك : ضريته لإساءته وضربته إذا أساء ؛ لأنك إذا ضربته في وقت إساءته ؛ فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه ؛ إلا أن ( إذ ) ، وحيث ، غلبتا دون سائر الظروف في ذلك ) .
) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الاٌّ يَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (
الأحقاف : ( 27 ) ولقد أهلكنا ما . . . . .
) مَا حَوْلَكُمْ ( يا أهل مكة ) مّنَ الْقُرَى ( من نحو حجر ثمود وقرية سدوم وغيرهما . والمراد : أهل القرى . ولذلك قال : ) لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( .
) فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ءَالِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (
الأحقاف : ( 28 ) فلولا نصرهم الذين . . . . .
القربان : ما تقرب به إلى الله تعالى ، أي : اتخذوهم شفعاء متقرباً بهم إلى الله ، حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وأحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين المحذوف ، والثاني : آلهة . وقرباناً : حال ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً وآلهة بدلاً منه لفساد المعنى . وقرىء ( قربنا ) بضم الراء . والمعنى : فهلا منعهم من الهلاك آلهتهم ) بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ ( أي غابوا عن نصرتهم ) وَذَلِكَ ( إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم ، أي : وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ، وثمرة شركهم

" صفحة رقم 314 "
وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء . وقرىء ( إفكهم ) ، والأفك والإفك : كالحذر والحذر . وقرىء : ( وذلك إفكهم ) أي : وذلك الاتخاذ الذي هذا أثره وثمرته صرفهم عن الحق . وقرىء : ( أفكهم ) على التشديد للمبالغة . وآفكهم : جعلهم آفكين . وآفكهم ، أي : قولهم الآفك ذو الإفك ، كما تقول قول كاذب ، وذلك إفك مما كانوا يفترون ، أي : بعض ما كانوا يفترون من الإفك .
) وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ ياقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ياقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِىَ اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الاٌّ رْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ (
الأحقاف : ( 29 - 32 ) وإذ صرفنا إليك . . . . .
) صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً ( أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك . وقرىء : ( صرفنا ) بالتشديد ؛ لأنهم جماعة . والنفر : دون العشرة . ويجمع أنفاراً . وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه :
( 1031 ) لو كان ههنا أحد من أنفارنا ) فَلَمَّا حَضَرُوهُ ( الضمير للقرآن . أي : فلما كان بمسمع منهم . أو لرسول الله ت . وتعضده قراءة من قرأ ( فلما قضى ) أي أتمّ قراءته وفرع منها ) قَالُواْ ( قال بعضهم لبعض ) أَنصِتُواْ ( اسكتوا مستمعين . يقال : أنصت لكذا واسنتصت له . روى :
( 1032 ) أن الجنّ كانت تسترق السمع ، فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا : ما هذا إلا لنبإ حدث ، فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جنّ نصيبين أو نينوى : منهم زوبعة ، فضربوا حتى بلغوا تهامة ، ثم اندفعوا إلى وادي نخلة ، فوافقوا

" صفحة رقم 315 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قائم في جوف الليل يصلي أو في صلاة الفجر ، فاستمعوا لقراءته ، وذلك عند منصرفه من الطائف حين خرج إليهم يستنصرهم فلم يجيبوه إلى طلبته وأغروا به سفهاء ثقيف . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه :
( 1033 ) ما قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الجن ولا رآهم ، وإنما كان يتلو في صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر ، فأنبأه الله باستماعهم . وقيل : بل أمر الله رسوله أن ينذر الجنّ ويقرأ عليهم فصرف إليه نفراً منهم جمعهم له فقال :
( 1034 ) إني أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة فمن يتبعني : قالها ثلاثاً ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : لم يحضره ليلة الجنّ أحد غيري ، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون فخط لي خطا وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك ، ثم افتتح القرآن وسمعت لغطا شديداً حتى خفت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ثم انقطعوا كقطع السحاب فقال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : هل رأيت شيئا ؟ قلت نعم رجال سود مستثفري ثياب بيض . فقال :

" صفحة رقم 316 "
اولئك جن نصيبين وكانوا اثنى عشر ألفاً ، والسورة التي قرأها عليهم : ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ( ( العلق : 1 ) . فإن قلت : كيف قالوا : ) مِن بَعْدِ مُوسَى ( ؟ قلت : عن عطاء رضي الله عنه : أنهم كانوا على اليهودية . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إنّ الجنّ لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام ، فلذلك قالت ) مِن بَعْدِ مُوسَى ( . فإن قلت : لم بعَّض في قوله : ) مّن ذُنُوبِكُمْ ( ؟ قلت : لأن من الذنوب مالا يغفر بالإيمان كذنوب المظالم ونحوها . ونحوه قوله عزّ وجل : ) أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( ( نوح : 3 4 ) . فإن قلت : هل للجن ثواب كما للإنس ؟ قلت : اختلف فيه فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ، لقوله تعالى : ) وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( وإليه كان يذهب أبو حنيفة رحمه الله . والصحيح أنهم في حكم بني آدم ، لأنهم مكلفون مثلهم ) فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الاْرْضَ ( أي : لا ينجي منه مهرب ، ولا يسبق قضاءه سابق . ونحوه قوله تعالى : ) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ( ( الجن : 12 ) .
) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْىِ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ (
الأحقاف : ( 33 ) أو لم يروا . . . . .
) بِقَادِرٍ ( محله الرفع ؛ لأنه خبر أن ، يدل عليه قراءة عبد الله ( قادر ) وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أوّل الآية على أن وما في حيزها . وقال الزجاج : لو قلت : ما ظننت أنّ زيداً يغائم : جاز ، كأنه قيل : أليس الله بقادر . ألا ترى إلى وقوع بلى مقرّره للقدرة على كل شيء من البعث وغيره ، لا لرؤيتهم . وقرىء : ( يقدر ) ، ويقال : عييت بالأمر ، إذا لم تعرف وجهه . ومنه : ) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( ( ق : 15 ) .
) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (
الأحقاف : ( 34 ) ويوم يعرض الذين . . . . .
) أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ ( محكى بعد قول مضمر ، وهذا المضمر هو ناصب الظرف . وهذا إشارة إلى العذاب ، بدليل قوله تعالى : ) فَذُوقُواْ الْعَذَابَ ( والمعنى : التهكم بهم ،

" صفحة رقم 317 "
والتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده ، وقولهم : ) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( ( الشعراء : 138 ) .
) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (
الأحقاف : ( 35 ) فاصبر كما صبر . . . . .
) أُوْلُو الْعَزْمِ ( أولوا الجد والثبات والصبر . و ) مِنْ ( يجوز أن تكون للتبعيض ، ويراد بأولى العزم : بعض الأنبياء . قيل : هم نوح ، صبر على أذى قومه : كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح ولده ، وإسحاق على ا لذبح ، ويعقوب على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضرّ ، وموسى قال له قومه : إنا لمدركون ، قال : كلا إنّ معي ربي سيهدين ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها . وقال الله تعالى في آدم : ) وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( ( طه : 115 ) وفي يونس : ) وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( ( القلم : 48 ) ويجوز أن تكون للبيان ، فيكون أولو العز صفة الرسل كلهم ) وَلاَ تَسْتَعْجِل ( لكفار قريش بالعذاب ، أي : لا تدع لهم بتعجيله ؛ فإنه نازل بهم لا محالة ، وإن تأخر ، وأنهم مستقصرون حينئذٍ مدّة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها ) سَاعَةً مّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ ( أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة . أو هذا تبليغ من الرسول عليه السلام ) فَهَلْ يُهْلَكُ ( إلا الخارجون عن الاتعاظ به ، والعمل بموجبه . ويدل على معنى التبليغ قراءة من قرأ : بلغ فهل يهلك : وقرىء ( بلاغاً ) ، أي بلغوا بلاغاً : وقرىء ( يهلك ) بفتح الياء وكسر اللام وفتحها ، من هلك وهلك . ونهلك بالنون ) إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1035 ) ( من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا ) .

" صفحة رقم 318 "
( سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
مدنية عدن مجاهد . وقال الضحاك وسعيد بن جبير : مكية . وهي سورة القتال
وهي تسع وثلاثون آية . وقيل ثمان وثلاثون ( نزلت بعد الحديد )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (
محمد : ( 1 - 2 ) الذين كفروا وصدوا . . . . .
) وَصُدُّواْ ( وأعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام : أو صدّوا غيرهم عنه . قال ابن عباس رضي الله عنه : هم المطعمون يوم بدر . وعن مقاتل : كانوا اثني عشر رجلاً من أهل الشرك يصدّون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر . وقيل : هم أهل الكتاب الذين كفروا وصدّوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام . وقيل : هو عامّ في كل من كفر وصدّ ) أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( أبطلها وأحبطها . وحقيقته : جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها ، كالضالة من الإبل التي هي بمضيعة لا ربَّ لها يحفظها ويعتني بأمرها . أو جعلها ضالة في كفرهم معاصيهم ومغلوبة بها ، كما يضل الماء في اللبن . وأعمالهم : ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم : من صلة الأرحام وفك الأساري وقرى الأضياف وحفظ الجوار . وقيل : أبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والصدّ عن سبيل الله : بأن نصره عليهم وأظهر دينه على الدين كله .

" صفحة رقم 319 "
) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( قال مقاتل : هم ناس من قريش . وقيل : من الأنصار . وقيل : هم مؤمنوا أهل الكتاب . وقيل : هو عام . وقوله : ) وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءامَنُواْ ( اختصاص للإيمان بالمنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من بين ما يجب به الإيمان تعظيماً لشأنه وتعليماً ، لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به . وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله : ) وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ ( وقيل : معناها إنّ دين محمد هو الحق ، إذ لا يرد عليه النسخ ، وهو ناسخ لغيره . وقرىء : ( نزل وأنزل ) ، على البناء للمفعول . ونزّل على البناء للفاعل ، ونزل بالتخفيف ) كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ ( ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها وتوبتهم ) وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ( أي حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين ، وبالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة والتأييد .
) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (
محمد : ( 3 ) ذلك بأن الذين . . . . .
) ذَلِكَ ( مبتدأ وما بعده خبره ، أي : ذلك الأمر وهو إضلال أعمال أحد الفريقين وتكفير سيئات الثاني : كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق . ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي . الأمر كما ذكر بهذا السبب ، فيكون محل الجار والمجرور منصوباً على هذا ، ومرفوعاً على الأوّل و ) الْبَاطِلُ ( ما لا ينتفع به . وعن مجاهد : الباطل الشيطان ، وهذا الكلام يسميه علماء البيان التفسير ) ذَلِكَ ( مثل ذلك الضرب ) يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ( والضمير راجع إلى الناس ، أو إلى المذكورين من الفريقين ، على معنى : أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم . فإن قلت : أين ضرب الأمثال ؟ قلت : في أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين . أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار ، وتكفير السسيئات مثلاً لفوز المؤمنين .
) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَالِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَاكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (
محمد : ( 4 ) فإذا لقيتم الذين . . . . .
) لَقِيتُمُ ( من اللقاء وهو الحرب ) فَضَرْبَ الرّقَابِ ( أصله : فاضربوا الرقاب ضرباً ، فحذف الفعل وقدْم المصدر فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول . وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد ؛ لأنك تذكر المصدر وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه . وضرب الرقاب عبارة عن القتل ، لأنّ الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء ، وذلك أنهم كانوا يقولون : ضرب الأمير رقبة فلان ، وضرب عنقه وعلاوته ، وضرب ما فيه عيناه إذا قتله ، وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب

" صفحة رقم 320 "
رقبته ، فوقع عبارة عن القتل ، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل كما ذكرنا في قوله : ) بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم ( ( الشورى : 30 ) على أن في هذه العبارة من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه . ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله تعالى : ) فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ( ( الأنفال : 12 ) . ) أَثْخَنتُمُوهُمْ ( أكثرتم قتلهم وأغلظتموه ، من الشيء الثخين : وهو الغليظ . أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض ) فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ ( فأسروهم . والوثاق بالفتح والكسر : اسم ما يوثق به ( منا ) و ( فداه ) منصوبان بفعلهما مضمرين ، أي : فإمّا تمنون منا ، وإما تفدون فداء . والمعنى : التخيير بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم فيطلقوهم ، وبين أن يفادوهم . فإن قلت : كيف حكم أساري المشركين ؟ قلت : أمّا عند أبي حنيفة وأصحابه فأحد أمرين : إمّا قتلهم وإمّا استرقاقهم : أيهما رأى الإمام ، ويقولون في المنّ والفداء المذكورين في الآية : نزل ذلك في يوم بدر ثم نسخ . وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء ، وإنما هو الإسلام أو ضرب العنق . ويجوز أن يراد بالمنّ : أن يمنّ عليهم بترك القتل ويسترقوا . أو يمنّ عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية ، وكونهم من أهل الذمّة . وبالفداء أن يفادي بأساراهم أساري المشركين ، فقد رواه الطحاوي مذهباً عن أبي حنيفة ، والمشهور أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره ، خيفة أن يعودوا حرباً للمسلمين ، وأما الشافعي فيقول : للإمام أن يختار أحد أربعة على حسب ما اقتضاه نظره للمسلمين ، وهو : القتل ، والاسترقاق ، والفداء بأساري المسلمين ، والمن . ويحتج بأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منّ على أبي عروة الحجبي ، وعلى ثمامة بن أثال الحنفي ، وفادى رجلاً برجلين من المشركين . وهذا كله منسوخ عند أصحاب الرأي . وقرىء : ( فدى ) بالقصر مع فتح الفاء . أو زار الحرب : آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع . قال الأعشى . وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراً ;
وسميت أوزارها لأنه لما لم يكن لها بد من جرّها فكأنها تحملها وتستقل بها ، فإذا انقضت فكأنها وضعتها . وقيل : أوزارها آثامها ، يعني : حتى يترك أهخل الحرب . هم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا . فإن قلت : ( حتى ) بم تعلقت ؟ قلت : لا تخلو

" صفحة رقم 321 "
إما أن تتعلق بالضرب والشد : أو بالمن والفداء ؛ فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رضي الله عنه : أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن لا يكون حرب مع المشركين . وذلك إذا لم يبق لهم شوكة . وقيل : إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام . وعند أبي حنيفة رحمه الله : إذا علق بالضرب والشد ؛ فالمعنى : أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك حين لا تبقى شوكة للمشركين . وإذا علق بالمن والفداء ، فالمعنى : أنه يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها إلا أن يتأول المن والفداء بما ذكرنا من التأويل ) ذَالِكَ ( أي الأمر ذلك ، أو افعلوا ذلك ) لاَ تُنصَرُونَ مِنْهُمْ ( لا نتقم منهم ببعض أسباب الهلك : من خسف ، أو رجفة ، أو حاصب ، أو غرق . أو موت جارف ، ) وَلَاكِن ( أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين : أن يجاهدوا ويصبروا حتى يستوجبوا الثواب العظيم ، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب . وقرىء : ( قتلوا ) بالتخفيف والتشديد : وقتلوا . وقاتلوا . وقرىء : ( فلن يضل أعمالهم ) ، وتضل أعمالهم : على البناء للمفعول . ويضل أعمالهم من ضل . وعن قتادة : أنها نزلت في يوم أحد ) عَرَّفَهَا لَهُمْ ( أعلمها لهم وبينها بما يعلم به كل أحد منزلته ودرجته من الجنة . قال مجاهد : يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطئون ، كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها . وعن مقاتل : إن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله ، أو طيبها لهم ، من العرف : وهو طيب الرائحة . وفي كلام بعضهم : عزف كنوح القماري وعرف كفوح القماري . أو حددها لهم ؛ فجنة كل أحد محدودة مفرزة عن غيرها ، من : عرف الدار وارفها . والعرف والارف ، والحدود .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (
محمد : ( 7 ) يا أيها الذين . . . . .
) إِن تَنصُرُواْ ( دين ) اللَّهَ ( ورسوله ) يَنصُرْكُمُ ( على عدوكم ويفتح لكم ) وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ( في مواطن الحرب أو على محجة الإسلام .
) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (
محمد : ( 8 - 9 ) والذين كفروا فتعسا . . . . .
) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ ( يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بما يفسره ) فَتَعْساً لَّهُمْ ( كأنه قال : أتعس الذين كفروا . فإن قلت : علام عطف قوله : ) وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( ؟ قلت : على

" صفحة رقم 322 "
الفعل الذي نصب تعساً ؛ ولأنّ المعنى فقال : تعسا لهم ، أو فقضى تعسا لهم . وتعسا له : نقيض ( لعاله ) قال الأعشى : فَالتَّعْسُ أَوْلَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا ;
يريد : فالعثور والانحطاط أقرب لها من الانتعاش والثبوت . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد في الدنيا القتل ، وفي الآخرة التردي في النار ) كَرِهُواْ ( القرآن وما أنزل الله فيه من التكاليف والأحكام ، لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذ فشق عليهم ذلك وتعاظمهم .
) أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاٌّ رْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (
محمد : ( 10 ) أفلم يسيروا في . . . . .
دمره : أهلكه ، ودمر عليه : أهلك عليه ما يختص به . والمعنى : دمر الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما كان لهم ) وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ( الضمير للعاقبة المذكورة أو للهلكة ؛ لأن التدمير يدل عليها . أو للسنة ، لقوله عزّ وعلا ) سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ ( ( الأحزاب : 38 / 62 ) .
) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ (
محمد : ( 11 ) ذلك بأن الله . . . . .
) مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ ( وليهم وناصرهم . وفي قراءة ابن مسعود ( ولي الذين آمنوا ) ويروى :
( 1036 ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان في الشعب يوم أحد وقد فشت فيهم الجراحات ، وفيه نزلت ، فنادى المشركون : اعل هبل : فنادى المسلمون : الله أعلى وأجل ، فنادى المشركون : يوم بيوم والحرب سجال ، إن لنا عزى ولا عزى لكم ؛ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ، إن القتلى مختلفة أما قتلانا فأحياء يرزقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون . فإن قلت : قوله تعالى : ) وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( ( يونس : 30 ) مناقض لهذه الآية . قلت : لا تناقض بينهما ، لأن الله مولى عباده جميعاً

" صفحة رقم 323 "
على معنى أنه ربهم ومالك أمرهم ؛ وأما على معنى الناصر فهو مول المؤمنين خاصة .
) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الاٌّ نْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (
محمد : ( 12 ) إن الله يدخل . . . . .
) يَتَمَتَّعُونَ ( ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أياماً قلائل ) وَيَأْكُلُونَ ( غافلين غير مفكرين في العاقبة ) كَمَا تَأْكُلُ الاْنْعَامُ ( في مسارحها ومعالفها ، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح ) مَثْوًى لَّهُمْ ( منزل ومقام .
) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ (
محمد : ( 13 ) وكأين من قرية . . . . .
وقرىء : ( وكائن ) بوزن كاعن . وأراد بالقرية أهلها ، ولذلك قال : ) أَهْلَكْنَاهُمْ ( كأنه قال : وكم من قوم هم أشد قوّة من قومك الذين أخرجوك أهلكناهم . ومعنى أخرجوك : كانوا سبب خروجك . فإن قلت : كيف قال : ) فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ ( ؟ وإنما هو أمر قد قضى . قلت : مجراه مجرى الحال المحكية ، كأنه قال : أهلكناهم فهم لا ينصرون .
) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُمْ (
محمد : ( 14 ) أفمن كان على . . . . .
من زين له : هم أهل مكة الذين زين لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله ، ومن كان على بينة من ربه أي على حجة من عنده وبرهان : وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وقرىء : ( أمن كان على بينة من ربه ) وقال تعالى : ) سُوء عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ ( الحمل على لفظ ) مِّن ( ومعناه .
) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ (
محمد : ( 15 ) مثل الجنة التي . . . . .
فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : ) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ ( كمن هو خالد في النار ؟ قلت : هو كلام في صورة الإثبات ومعنى النفي والإنكار ، لانطوائه

" صفحة رقم 324 "
تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ، ودخوله في حيزه ، وانخراطه في سلكه ، وهو قوله تعالى : ) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ ( ( محمد : 14 ) فكأنه قيل : أمثل الجنة كمن هو خالد في النار ، أي كمثل جزاء من هو خالد في النار . فإن قلت : فلم عرّى في حرف الإنكار ؟ وما فائدة التعرية ؟ قلت : تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوّى بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار ، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم . ونظيره قول القائل : أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الْكِرَامَ وَأَن
أُورَثَ ذُوداً شَصَائِصاً نَبَلاً
هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود ، مع تعريه عن حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم قول من قال : أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله ، والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصوّر قبح ما أزن به فكأنه قال له : نعم مثلى يفرح بمرزأة الكرام وبأن يستبدل منهم ذوداً يقل طائلة وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار ، ومثل الجنة : صفة الجنة العجيبة الشأن ، وهو مبتدأ ، وخبره : كمن هو خالد . وقوله : فيها أنهار ، داخل في حكم الصلة كالتكرير لها . ألا ترى إلى صحة قولك : التي فيها أنهار . ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف هي فيها أنهار ، وكأن قائلاً قال : وما مثلها ؟ فقيل : فيها أنهار ، وأن يكون في موضع الحال ، أي : مستقرّة فيها أنهار ، وفي قراءة علي رضي الله عنه ( أمثال الجنة ) أي : ما صفاتها كصفات النار . وقرىء : ( أسن ) يقال : أسن الماء وأجن : إذا تغير طعمه وريحه . وأنشد ليزيد بن معاوية : لَقَدْ سَقَتْنِي رُضَاباً غَيْرَ ذِي أَسن
كَالمِسْكِ فُتَّ عَلَى مَاءِ الْعَنَاقِيدِ

" صفحة رقم 325 "
) مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ( كما تتغير ألبان الدنيا ، فلا يعود قارصاً ولا حاذر . ولا ما يكره من الطعوم ( لذة ) تأنيث لذّ ، وهو اللذيذ ، أو وصف بمصدر . وقرىء بالحركات الثلاث ، فالجر على صفة الخمر ، والرفع على صفة الأنهار ، والنصب على العلة ، أي : لأجل لذة الشاربين . والمعنى : ما هو إلا التلذذ الخالص ، ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع ، ولا آفة من آفات الخمر ) مُّصَفًّى ( لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره ) مَاء حَمِيماً ( قيل إذا دنا منهم شوى وجوههم ، وانمازت فروة رؤوسهم ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم .
) وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ (
محمد : ( 16 ) ومنهم من يستمع . . . . .
هم المنافقون : كانوا يحضرون مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون له بالاً تهاوناً منهم ، فإذا خرجوا قالوا لأولى العلم من الصحابة ، ماذا قال الساعة ؟ على جهة الاستهزاء . وقيل : كان يخطب فإذا عاب المنافقين خرجوا فقالوا ذلك للعلماء . وقيل : قالوه لعبد الله بن مسعود . وعن ابن عباس : أنا منهم ، وقد سميت فيمن سئل ) ءانِفاً ( وقرىء : ( أنفاً ) على فعل ، نصب على الظرف قال الزجاج : هو من استأنفت الشيء : إذا ابتدأته . والمعنى : ماذا قال في أوّل وقت يقرب منا .
) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ (
محمد : ( 17 ) والذين اهتدوا زادهم . . . . .
) زَادَهُمْ ( الله ) هُدًى ( بالتوفيق ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ ( أعانهم عليها . أو أتاهم جزاء تقواهم . وعن السدي : بين لهم ما يتقون . وقرىء : ( وأعطاهم ) وقيل : الضمير في زادهم ، لقول الرسول أو لاستهزاء المنافقين .
) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (
محمد : ( 18 ) فهل ينظرون إلا . . . . .
) أَن تَأْتِيهُمُ ( بدل اشتمال من الساعة ، نحو : ) ءانٍ ( من قوله : ) وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ ( ( الفتح : 25 ) ، وقرىء : ( أن تأتهم ) بالوقف على الساعة واستئناف الشرط ، وهي في مصاحف أهل مكة كذلك : فإن قلت : فما جزاء الشرط ؟ قلت : قوله فأني لهم . ومعناه : إن تأتهم الساعة فكيف لهم ذكراهم ، أي تذكرهم واتعاظهم إذا جاءتهم الساعة ، يعني لا تنفعهم الذكرى حينئذٍ ، كقوله تعالى : ) يَوْمَئِذٍ

" صفحة رقم 326 "
يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى ( ( الفجر : 23 ) . فإن قلت : بم يتصل قوله : ) فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا ( على القراءتين ؟ قلت : بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول ، كقولك : إن أكرمني زيد فأنا حقيق بالإكرام أكرمه . والأشراط : العلامات . قال أبو الأسود : فَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ بِالصَّرْمِ بَيْنَنَا
فَقَدْ جَعَلَتْ أَشْرَاط أَوَّلِهِ تَبْدُو
وقيل : مبعث محمد خاتم الأنبياء ( صلى الله عليه وسلم ) وعليهم منها ، وانشقاق القمر ، والدخان . وعن الكلبي : كثرة المال والتجارة ، وشهادة الزور ، وقطع الأرحام ، وقلة الكرام ، وكثرة اللئام . وقرىء : ( بَغْتَة ) بوزن جَرِبَةَ ، وهي غريبة لم ترد في المصادر أختها ، وهي مروية عن أبي عمرو ، وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي على أبي عمرو ، وأن يكون الصواب : بغتة ، بفتح العين من غير تشديد ، كقراءة الحسن فيما تقدم .
) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلأ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (
محمد : ( 19 ) فاعلم أنه لا . . . . .
لما ذكر حال المؤمنين وحال الكافرين قال : إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء ، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله ، وعلى التواضع وهضم النفس : باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك . والله يعلم أحوالكم ومتصرفاتكم ومتقلبكم في معايشكم ومتاجركم ، ويعلم حيث تستقرون في منازلكم أو متقلبكم في حياتكم ومثواكم في القبور . أو متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار . ومثله حقيق بأن يخشى ويتقي ، وأن يستغفر ويسترحم . وعن سفيان بن عيينة : أنه سئل عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله حين بدأ به فقال : ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلائَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( فأمر بالعمل بعد العلم وقال : ) اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ( ( الحديد : 20 ) إلى قوله : ) سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ ( ( الحديد : 21 ) وقال : ) وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ( ( الأنفال : 28 ) ثم قال بعد : ) فَاحْذَرُوهُمْ ( ( التغابن : 14 ) وقال : ) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ( ( الأنفال : 41 ) ثم أمر بالعمل بعد .
) وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ

" صفحة رقم 327 "
مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الاٌّ مْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ (
محمد : ( 20 ) ويقول الذين آمنوا . . . . .
كانوا يدعون الحرص على الجهاد ويتمنونه بألسنتهم ويقولون : ) لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ ( في معنى الجهاد ) فَإِذَا أُنزِلَتْ ( وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا وشق عليهم ، وسقطوا في أيديهم ، كقوله تعالى : ) فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ ( ( النساء : 77 ) . ) مُّحْكَمَةٌ ( مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجهاً إلا وجوب القتال . وعن قتادة : كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة ، وهي أشدّ القرآن على المنافقين . وقيل لها ( محكمة ) لأنّ النسخ لا يرد عليها من قبل أنّ القتال قد نسخ ما كان من الصفح والمهادنة ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة . وقيل : هي المحدثة ؛ لأنها حين يحدث نزولها لا يتناولها النسخ ، ثم تنسخ بعد ذلك أو تبقى غير منسوخة . وفي قراءة عبد الله ( سورة محدثة ) وقرىء : ( فإذا نزلت سورة ذَكَرَ فيها القتالُ ) على البناء للفاعل ونصب القتال ) الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( هم الذين كانوا على حرف غير ثابتي الأقدام ) نَظَرَ الْمَغْشِىّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ( أي تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً وغيظاً ، كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت ) فَأَوْلَى لَهُمْ ( وعيد بمعنى : فويل لهم . وهو أفعل : من الولي وهو القرب . ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ( كلام مستأنف ، أي : طاعة وقول معروف خير لهم . وقيل : هي حكاية قولهم ، أي قالوا وقول معروف ، بمعنى : أمرنا طاعة وقول معروف . وتشهد له قراءة أبيّ : يقولون طاعة وقول معروف ) فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ ( أي جدّ . والعز والجد لأصحاب الأمر . وإنما يسندان إلى الأمر إسناداً مجازياً . ومنه قوله تعالى : ) إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ( ( الشورى : 43 ) . ) فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ ( فيما زعموا من الحرص على الجهاد . أو : فلو صدقوا في إيمانهم وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم .
) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاٌّ رْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (
محمد : ( 22 ) فهل عسيتم إن . . . . .
عسيت وعسيتم : لغة أهل الحجاز . وأما بنو تميم فيقولون : عسى أن تفعل ، وعسى أن تفعلوا ، ولا يلحقون الضمائر : وقرأ نافع بكسر السين وهو غريب ، وقد نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات ؛ ليكون أبلغ في التوكيد . فإن قلت : ما معنى : ) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( ؟ قلت : معناه : هل يتوقع منكم

" صفحة رقم 328 "
الإفساد ؟ فإن قلت : فكيف يصح هذا في كلام الله عز وعلا وهو عالم بما كان وبما يكون ؟ قلت : معناه إنكم لما عهد منكم أحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف تمريضكم ورخاوة عقدكم في الإيمان : يا هؤلاء ، ما ترون ؟ هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم لما تبين منكم من الشواهد ولاح من المخايل ) أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ ( تناحرا على الملك وتهالكا على الدنيا ؟ وقيل : إن أعرضتم وتوليتم عن دين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسنته أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض : بالتغاور والتناهب ، وقطع الأرحام : بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً ووأد البنات ؟ وقرىء : ( وليتم ) . وفي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( تُوِلِّتُم ) أي : إن تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم ؟ وقرىء : ( وتَقْطَعُوا ) ( وتقطعوا ) من التقطيع والتقطع ) أَوْلَائِكَ ( إشارة إلى المذكورين ) لَّعَنَهُمُ اللَّهُ ( لإفسادهم وقطعهم الأرحام ، فمنعهم ألطافه وخذلهم ، حتى صموا عن استماع الموعظة ، وعموا عن إبصار طريق الهدى . ويجوز أن يريد بالذين آمنوا : المؤمنين الخلص الثابتين ، وأنهم يتسوفون إلى الوحي إذا أبطأ عليهم ، فإذا أنزلت سورة في معنى الجهاد : رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها .
) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ (
محمد : ( 24 ) أفلا يتدبرون القرآن . . . . .
) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ ( ويتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة ، حتى لا يجسروا على المعاصي ، ثم قال : ) أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( وأم بمعنى بل وهمزة التقرير ، للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكر . وعن قتادة : إذاً والله يجدوا في القرآن زاجراً عن معصية الله لو تدبروه ، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا . فإن قلت : لم نكرت القلوب وأضيفت الأقفال إليها ؟ قلت : أما التنكير ففيه وجهان : أن يراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك . أو يراد على بعض القلوب : وهي قلوب المنافقين . وأما إضافة الأقفال ؛ فلأنه يريد الأقفال المختصة بها ، وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح . وقرىء : ( إقفالها ) على المصدر .
) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاٌّ مْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ

" صفحة رقم 329 "
إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (
محمد : ( 25 - 28 ) إن الذين ارتدوا . . . . .
) الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ ( جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبراً لأنّ ، كقولك : إنّ زيداً عمرو مرّ به . سوّل لهم : سهل لهم ركوب العظائم ، من السول وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً ) وَأَمْلَى لَهُمْ ( ومدّ لهم في الآمال والأماني . وقرىء : ( وأملى لهم ) يعني : إنّ الشيطان يغويهم وأنا أنظرهم ، كقوله تعالى : ) أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ ( ( آل عمران : 178 ) وقرىء : ( وأملى لهم ) على البناء للمفعول ، أي : أمهلوا ومدّ في عمرهم . وقرىء : ( سوّل لهم ) ، ومعناه : كيد الشيطان زين لهم على تقدير حذف المضاف . فإن قلت : من هؤلاء ؟ قلت : اليهود كفروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) من بعد ما تبين لهم الهدى ، وهو نعته في التوراة . وقيل : هم المنافقون . الذين قالوا اليهود ، والذين كرهوا ما نزل الله : المنافقون . وقيل عكسه ، وأنه قول المنافقين لقريظة والنضير : لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم . وقيل : ) بَعْضِ الاْمْرِ ( : التكذيب برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو بلا إلاه إلا الله ، أو ترك القتال معه . وقيل : هو قول أحد الفريقين للمشركين : سنطيعكم في التظافر على عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والقعود عن الجهاد معه . ومعنى : ) فِى بَعْضِ الاْمْرِ ( في بعض ما تأمرون به . أو في بعض الأمر الذي يهمكم ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( وقرىء : ( إسرارهم ) على المصدر ، قالوا ذلك سراً فيما بينهم ، فأفشاه الله عليهم . فكيف يعملون وما حيلتهم حينئذٍ ؟ وقرىء : ( توفاهم ) ويحتمل أن يكون ماضياً ، ومضارعاً قد حذفت إحدى تاءيه ، كقوله تعالى : ) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ( ( النساء : 97 ) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يتوفى أحد على معصية الله إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره ) ذَلِكَ ( إشارة إلى التوفي الموصوف ) مَا أَسْخَطَ اللَّهَ ( من كتمان نعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . و ) رِضْوَانَهُ ( : الإيمان برسول الله .
) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (
محمد : ( 29 - 30 ) أم حسب الذين . . . . .
) أَضْغَانَهُمْ ( أحقادهم وإخراجها : إبرازها لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين . وإظهارهم على نفاقهم وعداوتهم لهم ، وكانت صدورهم تغلى حنقاً عليهم ) لارَيْنَاكَهُمْ ( لعرفناكهم

" صفحة رقم 330 "
ودللناك عليهم . حتى تعرفهم بأعيانهم لا يخفون عليك ) بِسِيمَاهُمْ ( بعلامتهم : وهو أن يسمعهم الله تعالى بعلامة يعلمون بها . وعن أنس رضي الله عنه :
( 1037 ) ما خفي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذه الآية شيء من المنافقين : كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس ، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب : هذا منافق . فإن قلت : أي فرق بين اللامين في ) فَلَعَرَفْتَهُم ( و ) لتعرفنهم ( ؟ قلت : الأولى هي الداخلة في جواب ( لو ) كالتي في ) نَشَاء لارَيْنَاكَهُمْ ( كررت في المعطوف ، وأما اللام في ) وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ ( فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف ) فِى لَحْنِ الْقَوْلِ ( في نحوه وأسلوبه . وعن ابن عباس : هو قولهم : ما لنا إن أطعنا من الثواب ؟ ولا يقولون : ما علينا إن عصينا من العقاب . وقيل : اللحن : أن تلحن بكلامك ، أي : تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية . قال : وَلَقَدْ لَحَنْتُ لَكُم لِكَيْمَا تَفْقَهُوا
وَاللَّحْنُ يَعْرِفُهُ ذَوُو الأَلْبَاب
وقيل للمخطىء : لاحن ؛ لأنه يعدل بالكلام عن الصواب .
) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (
محمد : ( 31 ) ولنبلونكم حتى نعلم . . . . .
) أَخْبَارَكُمْ ( ما يحكى عنكم وما يخبر به عن أعمالكم ، ليعلم حسنها من قبيحها ؛ لأن الخبر على حسب المخبر عنه : إن حسناً فحسن ، وإن قبيحاً فقبيح ، وقرأ يعقوب : ونبلو ، بسكون الواو على معنى : ونحن نبلو أخباركم . وقرىء : ( وليبلونكم ويعلم ) ويبلو بالياء . وعن الفضيل : أنه كان إذا قرأها بكى وقال : اللَّهم لا تبلنا ، فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (
محمد : ( 32 ) إن الذين كفروا . . . . .
) وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ( التي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب ؛ لأنها مع كفرهم برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) باطلة ، وهم قريظة والنضير . أو سيحبط أعمالهم التي عملوها ، والمكايد التي نصبوها في مشاقة الرسول ، أي : سيبطلها فلا يصلون منها إلى أغراضهم ، بل

" صفحة رقم 331 "
يستنصرون بها ولا يثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم . وقيل : هم رؤساء قريش ، والمطعمون يوم بدر .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ (
محمد : ( 33 ) يا أيها الذين . . . . .
) وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ ( أي لا تحبطوا الطاعات بالكبائر ، كقوله تعالى : ) لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىّ ( ( الحجرات : 2 ) إلى أن قال : ) أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ( ( الحجرات : 20 ) وعن أبي العالية : كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرون أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، حتى نزلت ) وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ ( فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم . وعن حذيفة : فخافوا أن تحبط الكبائر أعمالهم . وعن ابن عمر : كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولاً ، حتى نزل ) وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ ( فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش ، حتى نزل ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( ( النساء : 116 ) فكففنا عن القول في ذلك ، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها . وعن قتادة رحمه الله : رحم الله عبداً لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء . وقيل : لا تبطلوها بمعصيتهما . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تبطلوها بالرياء والسمعة ، وعنه : بالشك والنفاق ، وقيل : بالعجب ؛ فإنّ العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب . وقيل : ولا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى .

" صفحة رقم 332 "
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (
محمد : ( 34 ) إن الذين كفروا . . . . .
) ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ ( قيل : هم أصحاب القليب ، والظاهر العموم .
) فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الاٌّ عْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (
محمد : ( 35 ) فلا تهنوا وتدعوا . . . . .
) فَلاَ تَهِنُواْ ( ولا تضعفوا ولا تذلوا للعدوّ ( و ) لا ) تَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ ( وقرىء : ( السلم ) وهم المسالمة ) وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ ( أي الأغلبون الأقهرون ) وَاللَّهُ مَعَكُمْ ( أي ناصركم . وعن قتادة : لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها بالموادعة . وقرىء : ( لا تدّعوا من ادّعى القوم وتداعوا : إذا دعوا . نحو قولك : ارتموا الصيد وترموه . وتدعوا : مجزوم لدخوله في حكم النهى . أو منصوب لإضمار إن . ونحو قوله تعالى : ) وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ ( : قوله تعالى : ) إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى ( ( طه : 68 ) . ) وَلَن يَتِرَكُمْ ( من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو حميم ، أو حربته ، وحقيقته : أفردته من قريبه أو ماله ، من الوتر وهو الفرد ؛ فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر ، وهو من فصيح الكلام . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1038 ) ( ممن فاتته صلاة العصر ، فكأنما وتر أهله وماله ) أي أفرد عنهما قتلاً ونهباً .
) إِنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْألْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ؤإِن يَسْألْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ هَآ أَنتُمْ هَاؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم (
محمد : ( 36 ) إنما الحياة الدنيا . . . . .
) يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ( ثواب إيمانكم وتقواكم ) وَلاَ يَسْئَلْكُمْ ( أي ولا يسألكم جميعها ، إنما يقتصر منكم على ربع العشر ، ثم قال : ) ؤإِن يَسْألْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ ( أي يجهدكم ويطلبه كله ، والإحفاء : المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء ، يقال : أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح . وأحفى شاربه : إذا استأصله ) تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ( أي تضطغنون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وتضيق صدوركم لذلك ، وأظهرتم

" صفحة رقم 333 "
كراهتكم ومقتكم لدين يذهب بأموالكم ، والضمير في ) يَخْرُجُ ( لله عز وجل ، أي يضغنكم بطلب أموالكم . أو للبخل ؛ لأنه سبب الاضطغان ، وقرىء ( تخرج ) بالنون . ويخرج ، بالياء والتاء مع فتحهما ورفع أضغانكم ) هَؤُلاء ( موصول بمعنى الذين صلته ) تَدْعُونَ ( أي أنتم الذين تدعون . أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون ، ثم استأنف وصفهم ، كأنهم قالوا : وما وصفنا ؟ فقيل : تدعون ) لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( قيل : هي النفقة في الغزو . وقيل : الزكاة ، كأنه قيل : الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء واضطغنتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر ، فمنكم ناس يبخلون به ، ثم قال : ) وَمَن يَبْخَلْ ( بالصدقة وأداء الفريضة . فلا يتعداه ضرر بخله ، وإنما ) يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ( يقال بخلت عليه وعنه ، وكذلك ضننت عليه وعنه . ثم أخبر أنه لا يأمر بذلك ولا يدعو إليه لحاجته إليه ، فهو الغني الذي تستحيل عليه الحاجات ، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب ) وَإِن تَتَوَلَّوْاْ ( معطوف على : وإن تؤمنوا وتتقوا ) يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ( يخلق قوماً سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى ، غير متولين عنهما ، كقوله تعالى : ) وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( ( إبراهيم : 19 ) وقيل : هم الملائكة . وقيل : الأنصار . وعن ابن عباس : كندة والنخع . وعن الحسن : العجم . وعن عكرمة : فارس والروم .
( 1039 ) وسئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن القوم وكان سلمان إلى جنبه ، فضرب على فخذه وقال : ( هذا وقومه ، والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس ) .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( 1040 ) ( من قرأ سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان حقاً على الله أن يسقيه من أنهار الجنة ) .

" صفحة رقم 334 "
( سورة الفتح )
مدنية ( نزلت في الطريق عند الانصراف من الحديبية )
وآياتها 29 ( نزلت بعد الجمعة )
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
) إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (
الفتح : ( 1 ) إنا فتحنا لك . . . . .
هو فتح مكة ، وقد نزلت مرجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن مكة عام الحديبية عدة له بالفتح ، وجيء به على لفظ الماضي على عادة رب العزة سبحانه في أخباره ؛ لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة ، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخْبِر ما لا يخفى . فإن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة ؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة : وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة ، ونصرناك على عدوّك ، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل . ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدوّ سبباً للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحاً بحرب أو بغير حرب ، لأنه منغلق ما لم يظفر به ، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح . وقيل : هو فتح الحديبية ، ولم يكن فيه قتال شديد ، ولكن ترام بين القوم بسهام وحجارة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم . وعن الكلبي : ظهروا عليهم حتى سألوا الصلح . فإن قلت : كيف يكون فتحاً وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية ؟ قلت : كان ذلك قبل الهدنة ، فلما طلبوها وتمت كان فتحاً مبيناً . وعن

" صفحة رقم 335 "
موسى بن عقبة :
( 1041 ) أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الحديبية راجعاً ، فقال رجل من أصحابه : ما هذا بفتح ، لقد صدّونا عن البيت وصد هدينا ، فبلغ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتوح ، وقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ، ويسألوكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، وقد رأوا منكم ما كرهوا ) ، وعن الشعبي :
( 1042 ) نزلت بالحديبية وأصاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة أصاب : أن بويع بيعة الرضوان ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وظهرت الروم على فارس ؛ وبلغ الهدى محله ، وأطعموا نخل خيبر ، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة . وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم مجه فيها ، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه . وقيل : فجاش الماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد وقيل : هو فتح خيبر ، وقيل : فتح الروم . وقيل : فتح الله له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كلها ، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه . وقيل : معناه قضينا لك قضاء بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل ؛ لتطوفوا بالبيت : من الفتاحة وهي الحكومة ، وكذا عن قتادة ) مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ( يريد : جميع ما فرط منك . وعن مقاتل : ما تقدم في الجاهلية وما بعدها . وقيل : ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد ) نَصْراً عَزِيزاً ( فيه عز ومنعة أو وصف بصفة المنصور إسناداً مجازياً أو عزيزاً صاحبه .
) هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ

" صفحة رقم 336 "
وَالاٌّ رْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (
الفتح : ( 4 - 7 ) هو الذي أنزل . . . . .
) السَّكِينَةَ ( السكون كالبهتية للبهتان ، أي : أنزل الله في قلوبهم السكون ، والطمأنينة بسبب الصلح والأمن ، ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف ، والهدنة غب القتال ، فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم ، وأنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد عليه السلام من الشرائع ) لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً ( بالشرائع مقروناً إلى إيمانهم وهو التوحيد . عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن أوّل ما أتاهم به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التوحيد ، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة والزكاة ، ثم الحج ، ثم الجهاد ، فازدادوا إيماناً إلى إيمانهم . أو أنزل فيها الوقار والعظمة لله عزّ وجل ولرسوله ، ليزدادوا باعتقاد ذلك إيماناً إلى إيمانهم . وقيل : أنزل فيها الرحمة ليتراحموا فيزداد إيمانهم ) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( يسلط بعضها على بعض كما يقتضيه علمه وحكمته ، ومن قضيته أن سكن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم أن يفتح لهم ، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكروها فيستحقوا الثواب ، فيثيبهم ويعذب الكافرين والمنافقين لما غاظهم من ذلك وكرهوه . وقع السوء : عبارة عن رداءة الشيء وفساده ؛ والصدق عن جودته وصلاحه ، فقيل في المرضى الصالح من الأفعال : فعل صدق ، وفي المسخوط الفاسد منها : فعل سوء . ومعنى ) ظَنَّ السَّوْء ( ظنهم أن الله تعالى لا ينصر الرسول والمؤمنين ، ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهراً ) عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْء ( أي : ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم والسوء : الهلاك والدمار . وقرىء : ( دائرة السوء ) بالفتح ، أي : الدائرة التي يذمونها ويسخطونها ، فهي عندهم دائر سوء ، وعند المؤمنين دائرة صدق . فإن قلت : هل من فرق بين السُّوء والسَّوء ؟ قلت : هما كالكُره والكَره والضُّعْف والضَّعْف ، من ساء ، إلا أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء . وأما السُّوء بالضم فجار مجرى الشر الذي هو نقيض الخير . يقال : أراد به السوء وأراد به الخير ؛ ولذلك أضيف الظن إلى المفتوح لكونه مذموماً ؛ وكانت الدائرة محمودة فكان حقها أن لا تضاف إليه إلا على التأويل الذي ذكرنا وأما دائرة السوء بالضم ، فلأن الذي أصابهم مكروه

" صفحة رقم 337 "
وشدة ، فصح أن يقع عليه اسم السوء ، كقوله عزّ وعلا : ) إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ( ( الأحزاب : 17 ) .
) إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (
الفتح : ( 8 - 9 ) إنا أرسلناك شاهدا . . . . .
) شَاهِداً ( تشهد على أمّتك ، كقوله تعالى : ) وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( ( البقرة : 143 ) . ) لّتُؤْمِنُواْ ( الضمير للناس ) وَتُعَزّرُوهُ ( ويقووه بالنصرة ) وَتُوَقّرُوهُ ( ويعظموه ) وَتُسَبّحُوهُ ( من التسبيح . أو من السبحة ، والضمائر لله عز وجلّ والمراد بتعزيز الله : تعزيز دينه ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) . ومن فرق الضمائر فقد أبعد . وقرىء : ( لتؤمنوا ) ( وتعزروه ) ( وتوقروه ) ( وتسبحوه ) بالتاء . والخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولأمّته . وقرىء : ( وتعزروه ) بضم الزاي وكسرها . وتعزروه بضم التاء والتخفيف ، وتعززوه بالزايين . وتوقروه من أوقره بمعنى وقره . وتسبحوا الله ) بُكْرَةً وَأَصِيلاً ( عن ابن عباس رضي الله عنهما : صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر .
) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (
الفتح : ( 10 ) إن الذين يبايعونك . . . . .
لما قال ) إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( أكده تأكيداً على طريق التخييل فقال : ) يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدي المبايعين : هي يد الله ، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام ، وإنما المعنى : تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما ، كقوله تعالى : ) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( ( النساء : 80 ) والمراد : بيعة الرضوان ) فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ( فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه . قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه :
( 1043 ) بايعنا رسول الله تحت الشجرة على الموت ، وعلى أن لا نفرّ ، فما نكث

" صفحة رقم 338 "
أحد منا البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقاً ، اختبأ تحت إبط بعيره ولم يسر مع القوم . وقرىء : ( إنما يبايعون لله ) أي : لأجل الله ولوجهه ، وقرىء : ( ينكث ) بضم الكاف وكسرها ، وبما عاهد وعهد ) فسنؤتيه ( بالنون والياء ، يقال : وفيت بالعهد وأوفيت به ، وهي لغة تهامة . ومنها قوله تعالى : ) ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( ( المائدة : 1 ) ) وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ( ( البقرة : 177 ) .
) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الاٌّ عْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (
الفتح : ( 11 ) سيقول لك المخلفون . . . . .
هم الذين خلفوا عن الحديبية ، وهم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والديل . وذلك
( 1044 ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، وأحرم هو ( صلى الله عليه وسلم ) وساق معه الهدى ، ليعلم أنه لا يريد حرباً ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا : يذهب إلى قوم قد غزوه في عُقْرِ داره بالمدينة وقتلوا أصحابه ، فيقاتلهم ، وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة واعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم وأنه ليس لهم من يقوم بأشغالهم . وقرىء : ( شغلتنا ) بالتشديد ) يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( تكذيب لهم في اعتذارهم . وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون ، وإنما هو الشك في الله والنفاق ؛ وطلبهم للاستغفار أيضاً ليس بصادر عن حقيقة ) فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ ( فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه ) إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ( ما يضركم من قتل أو هزيمة

" صفحة رقم 339 "
) أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً ( من ظفر وغنيمة وقرىء : ( ضراً ) بالفتح والضم . الأهلون : جمع أهل . ويقال : أهلات ، على تقدير تاء التأنيث . كأرض وأرضات ، وقد جاء أهلة . وأمّا أهال ، فاسم جمع ، كليال .
) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً (
الفتح : ( 12 ) بل ظننتم أن . . . . .
وقرىء : ( إلى أهلهم ) ( وَزَيَّنَ ) ، على البناء للفاعل وهو الشيطان ، أو الله عز وجل ، وكلاهما جاء في القرآن ) وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ( ( النمل : 24 ) ، ) وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ( ( النمل : 4 ) والبور : من بار ، كالهلك : من هلك ، بناء ومعنى ؛ ولذلك وصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث . ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ . والمعنى : وكنتم قوماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم . أو هالكين عند الله مستوجبين لسخطه وعقابه .
) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً (
الفتح : ( 13 ) ومن لم يؤمن . . . . .
) لِلْكَافِرِينَ ( مقام مقام لهم ، للإيذان بأنّ من لم يجمع بين الإيمانين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر ، ونكر ) سَعِيراً ( لأنها نار مخصوصة ، كما نكر ) نَاراً تَلَظَّى ( ( الليل : 14 ) .
) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّ رْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (
الفتح : ( 14 ) ولله ملك السماوات . . . . .
) وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ ( يدبره تدبير قادر حكيم ، فيغفر ويعذب بمشيئته ، ومشيئته تابعة لحكمته ، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر ) وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( رحمته سابقة لغضبه ، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر ، ويغفر الكبائر بالتوبة .
) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن

" صفحة رقم 340 "
يُبَدِّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (
الفتح : ( 15 ) سيقول المخلفون إذا . . . . .
) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ ( الذين تخلفوا عن الحديبية ) إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ ( إلى غنائم خيبر ) أَن يُبَدّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ ( وقرىء : ( كلم الله ) أن يغيروا موعد الله لأهل الحديبية ، وذلك أنه وعدهم أن يعوّضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منهم شيئاً . وقيل : هو قوله تعالى : ) لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا ( ( التوبة : 83 ) ( تحسدوننا ) أن نصيب معكم من الغنائم . قرىء : بضم السين وكسرها ) لاَّ يَفْقَهُونَ ( لا يفهمون إلا فهماً ) قَلِيلاً ( وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين ، كقوله تعالى : ) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ( ( الروم : 7 ) فإن قلت : ما الفرق بين حرفي الإضراب ؟ قلت : الأوّل إضراب معناه : ردّ أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد . والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين ، إلى وصفهم بما هو أطم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه .
) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاٌّ عْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (
الفتح : ( 16 ) قل للمخلفين من . . . . .
) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ ( هم الذين تخلفوا عن الحديبية ) إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ ( يعني بني حنيفة قوم مسيلمة ، وأهل الردّة الذين حاربهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ؛ لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف عند أبي حنيفة ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب . والمجوس تقبل منهم الجزية ، وعن الشافعي لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس دون مشركي العجم والعرب . وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولكم بعد وفاته . وكيف يدعوهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مع قوله تعالى : ) فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِىَ عَدُوّا ( ( التوبة : 83 ) وقيل : هم فارس والروم .

" صفحة رقم 341 "
ومعنى ) يُسْلِمُونَ ( ينقادون ، لأنّ الروم نصارى ، وفارس مجوس يقبل منهم إعطاء الجزية . فإن قلت : عن قتادة أنهم ثقيف وهوازن ، وكان ذلك في أيام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قلت : إن صح ذلك فالمعنى : لن تخرجوا معي أبداً ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين . أو على قول مجاهد : كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم ) كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ ( يريد في غزوة الحديبية . أو يسلمون . معطوف على تقاتلونهم ، أي : يكون أحد الأمرين : إما المقاتلة ، أو الإسلام ، لا ثالث لهما . وفي قراءة أبيّ : ( أو يسلموا ) بمعنى : إلى أن يسلموا .
) لَّيْسَ عَلَى الاٌّ عْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاٌّ عْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً (
الفتح : ( 17 ) ليس على الأعمى . . . . .
نفى الحرج عن هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو . وقرىء : ( ندخله ) ( ونعذبه ) بالنون .
) لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (
الفتح : ( 18 ) لقد رضي الله . . . . .
هي بيعة الرضوان ، سميت بهذه الآية ، وقصتها :
( 1045 ) أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين نزل الحديبية بعث خِراش بن أمّية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة ، فهموا به فمنعه الأحابيش ، فلما رجع دعا بعمر رضي الله عنه ليبعثه فقال : إني أخافهم على نفسي ، لما عرف من عداوتي إياهم وما بمكة عدويّ يمنعني ، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني وأحب إليهم : عثمان بن عفان فبعثه فخبرهم أنه لم يأت بحرب ، وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته ، فوقروه وقالوا : إن شئت أن تطوف==

 

الشرط الأوحد للشفاعة كلها هو لمن مات يوم مات علي التوبةٍ ولو ندما وعزما علي ان يعمل الصالحات سواءا أدركوا العمل ام لم يدركونه

الشرط الأوحد للشفاعة كلها هو لمن مات يوم مات علي التوبةٍ ولو ندما وعزما علي ان يعمل الصالحات سواءا أدركوا العمل ام لم يدركونه أسْعَد...